تاريخي بقلمي
تاريخي بقلمي
تأليف
نبوية موسى
مقدمة
أنشأت مجلتي «الفتاة» في أكتوبر سنة 1937، وأخذت أكتب فيها بعض ذكرياتي فأقبل الناس عليها، وطلب مني كثيرون أن أدونها في كتاب، وتلبية لهذا الطلب قمت بسرد ذكرياتي حسب تاريخ حدوثها في حياتي؛ فأصبحت بذلك تاريخا مفصلا لما تكبدته من مشاق، وما شعرت به أحيانا من اغتباط، إن كان في ذلك التاريخ معنى للاغتباط.
وهو تحليل نفسي لفتاة قضت عمرها في جهاد مستمر، وهي نفسها لا تعرف إلى الآن أكان سبب هذا الجهاد والنضال المستمر خطأ صدر منها أم هو خطأ المقادير، لهذا أروي تاريخي بالتفصيل، وأترك للقارئ الكريم بعد هذا الحكم لي أو علي، وسأتحرى الصدق فيما أكتبه؛ ليبني القارئ رأيه على حقيقة واضحة لديه.
طفولتي
كان والدي ضابطا في الجيش المصري برتبة «يوزباشي»، وكان الضابط المصري لا يصل إلى تلك الرتبة إلا بعد جهد عظيم؛ لأن رتب الجيش الكبيرة كانت كلها في يد الأتراك والشركس قبل الثورة العرابية، وكان ضباط الجيش يحالون إلى الاستيداع نصف مدة العمل أو أكثر، فكان والدي إذا أحيل إلى الاستيداع ذهب إلى بلدتنا في الريف، وهي بلدة صغيرة في مديرية القليوبية، وكان له بها منزل ريفي كبير جدا، كما كان له بضعة فدادين؛ فكان يكلف خدمه زرعها، حتى إذا طلب للعمل أجر الأطيان، وعاد إلى مقر عمله؛ فكان لهذا أكثر الضباط خدما.
وسافر والدي إلى السودان قبل أن أولد، ولم يعد، وقد ولدت بعد سفره بشهرين، وهكذا نشأت يتيمة، فلم أر والدي إلا في المنام، ورتب لنا مبلغ من معاشه يقوم بحاجتنا أنا ووالدتي والمرحوم شقيقي، وقد سكنت والدتي القاهرة لوجود أخي بالمدارس، ولكنها كانت تذهب أثناء الصيف عندما ينتهي شقيقي من دراسته إلى بلدتنا، فنقضي إجازة الصيف في ذلك المنزل الريفي، وكنت أسر بتلك الإجازة، وأعمل فيها أعمالا كثيرة؛ إذ كان يلتف حولي كثير من أطفال جيراننا في تلك القرية، وكنت أكلفهم العمل معي، فأضرب طوبا صغيرا، وأبني به أفرانا صغيرة، كنا نسوي فيها بعد ذلك ما نصنعه من الطوب، ثم نبني به منازل صغيرة كانت على ما أعتقد غاية في الإتقان، وكان في منزلنا الريفي بئر نأخذ منها الماء اللازم لبناء تلك المنازل، ونحيطها بالحدائق، ولعلها لم تكن غناء لأننا كنا نزرع فيها بعض النباتات فقط كالفول والذرة.
Halaman tidak diketahui