مقدمة
طفولتي
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف القراءة والكتابة؟!
كيف تعلمت القراءة؟
خرافات وأوهام
كيف دخلت المدرسة السنية؟
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات علي؟
الشيخة رمانة
شاب ريفي
طرائف
نهضة تعليم البنات في مصر
نزق الشباب
عزة النفس تنقلب جبنا
الغش في الامتحانات
دروس التربية العملية
حبي الشديد للحرية
نهاية الدراسة بالمدرسة السنية
سفوري
دخولي البكالوريا
أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في الزواج
إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي الضعيف
صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها علي سابقا
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
عزة النفس تقضي علي دائما
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
الحرية وهل لها مسمى؟
حنبليتي في البعد عن الرجال
قوة الشباب وغروره
كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
حياتي العملية
المعلمة الإنجليزية
نقل المدير
ابتداء المتاعب
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
في المنصورة
مناهج التعليم ومناورات وزارة المعارف للإشراف على مجالس المديريات في الماضي
غضب يمحو غضبا
إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيا ومخاوفي التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
ذكريات حديثة
مكائد
سعيد ذو الفقار باشا
مكيدة
نكبة
رضاء بعد الغضب
انتقام
سوء حظ وعناد
إنشاء وتعمير
القوة فوق الحق
وظيفة وكيلة
الدعاية الوطنية
تهمة كاذبة
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
سوء حظ
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
ضابطة فرنسية
مناوآت
استمرار المناورات
تحريض مستمر
مناورات
إضراب إجباري
إرهاق واستفزاز
زيارة ملكية
نتائج الزيارة الملكية
كيف كانت خطتي في التدريس؟
عملي بالوزارة
إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
أول متاعبي في المدارس الحرة
إخراج السكان من المنزل
مناورات
خديعة
مقدمة
طفولتي
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف القراءة والكتابة؟!
كيف تعلمت القراءة؟
خرافات وأوهام
كيف دخلت المدرسة السنية؟
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات علي؟
الشيخة رمانة
شاب ريفي
طرائف
نهضة تعليم البنات في مصر
نزق الشباب
عزة النفس تنقلب جبنا
الغش في الامتحانات
دروس التربية العملية
حبي الشديد للحرية
نهاية الدراسة بالمدرسة السنية
سفوري
دخولي البكالوريا
أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في الزواج
إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي الضعيف
صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها علي سابقا
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
عزة النفس تقضي علي دائما
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
الحرية وهل لها مسمى؟
حنبليتي في البعد عن الرجال
قوة الشباب وغروره
كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
حياتي العملية
المعلمة الإنجليزية
نقل المدير
ابتداء المتاعب
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
في المنصورة
مناهج التعليم ومناورات وزارة المعارف للإشراف على مجالس المديريات في الماضي
غضب يمحو غضبا
إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيا ومخاوفي التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
ذكريات حديثة
مكائد
سعيد ذو الفقار باشا
مكيدة
نكبة
رضاء بعد الغضب
انتقام
سوء حظ وعناد
إنشاء وتعمير
القوة فوق الحق
وظيفة وكيلة
الدعاية الوطنية
تهمة كاذبة
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
سوء حظ
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
ضابطة فرنسية
مناوآت
استمرار المناورات
تحريض مستمر
مناورات
إضراب إجباري
إرهاق واستفزاز
زيارة ملكية
نتائج الزيارة الملكية
كيف كانت خطتي في التدريس؟
عملي بالوزارة
إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
أول متاعبي في المدارس الحرة
إخراج السكان من المنزل
مناورات
خديعة
تاريخي بقلمي
تاريخي بقلمي
تأليف
نبوية موسى
مقدمة
أنشأت مجلتي «الفتاة» في أكتوبر سنة 1937، وأخذت أكتب فيها بعض ذكرياتي فأقبل الناس عليها، وطلب مني كثيرون أن أدونها في كتاب، وتلبية لهذا الطلب قمت بسرد ذكرياتي حسب تاريخ حدوثها في حياتي؛ فأصبحت بذلك تاريخا مفصلا لما تكبدته من مشاق، وما شعرت به أحيانا من اغتباط، إن كان في ذلك التاريخ معنى للاغتباط.
وهو تحليل نفسي لفتاة قضت عمرها في جهاد مستمر، وهي نفسها لا تعرف إلى الآن أكان سبب هذا الجهاد والنضال المستمر خطأ صدر منها أم هو خطأ المقادير، لهذا أروي تاريخي بالتفصيل، وأترك للقارئ الكريم بعد هذا الحكم لي أو علي، وسأتحرى الصدق فيما أكتبه؛ ليبني القارئ رأيه على حقيقة واضحة لديه.
طفولتي
كان والدي ضابطا في الجيش المصري برتبة «يوزباشي»، وكان الضابط المصري لا يصل إلى تلك الرتبة إلا بعد جهد عظيم؛ لأن رتب الجيش الكبيرة كانت كلها في يد الأتراك والشركس قبل الثورة العرابية، وكان ضباط الجيش يحالون إلى الاستيداع نصف مدة العمل أو أكثر، فكان والدي إذا أحيل إلى الاستيداع ذهب إلى بلدتنا في الريف، وهي بلدة صغيرة في مديرية القليوبية، وكان له بها منزل ريفي كبير جدا، كما كان له بضعة فدادين؛ فكان يكلف خدمه زرعها، حتى إذا طلب للعمل أجر الأطيان، وعاد إلى مقر عمله؛ فكان لهذا أكثر الضباط خدما.
وسافر والدي إلى السودان قبل أن أولد، ولم يعد، وقد ولدت بعد سفره بشهرين، وهكذا نشأت يتيمة، فلم أر والدي إلا في المنام، ورتب لنا مبلغ من معاشه يقوم بحاجتنا أنا ووالدتي والمرحوم شقيقي، وقد سكنت والدتي القاهرة لوجود أخي بالمدارس، ولكنها كانت تذهب أثناء الصيف عندما ينتهي شقيقي من دراسته إلى بلدتنا، فنقضي إجازة الصيف في ذلك المنزل الريفي، وكنت أسر بتلك الإجازة، وأعمل فيها أعمالا كثيرة؛ إذ كان يلتف حولي كثير من أطفال جيراننا في تلك القرية، وكنت أكلفهم العمل معي، فأضرب طوبا صغيرا، وأبني به أفرانا صغيرة، كنا نسوي فيها بعد ذلك ما نصنعه من الطوب، ثم نبني به منازل صغيرة كانت على ما أعتقد غاية في الإتقان، وكان في منزلنا الريفي بئر نأخذ منها الماء اللازم لبناء تلك المنازل، ونحيطها بالحدائق، ولعلها لم تكن غناء لأننا كنا نزرع فيها بعض النباتات فقط كالفول والذرة.
وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف لا أعرف للراحة طعما، وكلما انتهيت من منزل بدأت في بناء غيره، وعمل ماشية له كالجاموس والبقر والحمير والخيول والجمال، وكنت أعنى بتمثيلها تمثيلا يقرب من الحقيقة على قدر طاقتي، وكان يعجب بها كثيرون ممن يرونها لقربها من الحقيقة؛ حتى إن الأفران التي كنا نبنيها كانت تحمى، ويظهر في جوفها اللهب كالأفران الحقيقية تماما، وكنت أخبز فيها الخبز الصغير الذي كنت أصنعه أحيانا، ولم أكن مع صغر سني أبرح ذلك المنزل لاشتغالي بتلك الأعمال، ومراقبة مرءوسي من أطفال القرية، ومن المدهش العجيب أني كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون، وأنهاهم فيستمعون، وكنا نقضي اليوم في عمل متواصل كأننا نقوم باكتساب قوتنا، وكأني رئيستهم الفعلية.
كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون.
وكنت إذا انتهيت من ذلك، وتعب الأطفال الذين يعملون معي ابتدأت أخيط ملابس عروستي، وأعمل للجمال والخيول سروجا من القماش المزين البديع، وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف، حتى إذا انتهت تركت ما عنيت بعمله من المنازل والتماثيل، وانتقلت بعروستي وقطتي الصغيرة إلى القاهرة، وكنت مشهورة بحب القطط والعناية بها؛ حتى إني كنت أكسوها ملابس مزخرفة بشتى الزخرف، وكنت أقوم أنا بخياطتها وزخرفتها، وكانت تلك القطط والعروسة هي عملي الوحيد في القاهرة، ولم يكن معي من الأطفال من يساعدني على ما أقوم به من الأعمال إلا خادمة صغيرة في مثل سني، كنت أختلسها اختلاسا من والدتي، وكنت أميل إلى مجالسة شقيقي عند حضوره من المدرسة، وكان يكبرني بنحو 10 سنوات؛ فكنت أستمع لما يقرؤه من القصص، وأجتهد في فهمها، وكثيرا ما كنت أحفظ ما يحفظه هو من المحفوظات، أما أثناء النهار فكنت أقضيه كما قدمت في خياطة ملابس القطط والعروسة، ثم تدرجت من ذلك إلى خياطة ملابسي على آلة الخياطة.
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف
القراءة والكتابة؟!
كنت في سن السادسة لما كان شقيقي في سن السادسة عشرة، وكان طالبا في المدارس الثانوية، وقد ألف مجالستي، فكان يقرأ لي في كتب الأدب القديمة كالأغاني وغيره، وكنت أصغي إليه باهتمام حتى تعودت فهمها، وكان إذا حاول حفظ قصيدة كلفته المدرسة حفظها، حفظتها معه، ولا يخفى أن موهبة الحفظ قوية عند صغار الأطفال؛ فهم لا يجدون فيها صعوبة؛ ولهذا كنت كثيرا ما أحفظ القصيدة بمجرد استماعي له وهو يقرؤها قبل أن يحفظها هو، وكان يسره ذلك فيسمعها لي، ويطلب مني أن أسمعها له، وهكذا تمت بيننا الصداقة والألفة، واستطعت أنا أن أتذوق الأدب العربي قبل أن أعرف الألف من الباء.
وكنت أصغي إليه باهتمام.
كيف تعلمت القراءة؟
انتهى شقيقي من دراسته الثانوية، ودخل المدرسة الحربية الداخلية، فبعد عني، وعز علي الأمر، وشعرت بالوحدة بعده، وتشوقت للقراءة حتى إذا عاد يوم الخميس من مدرسته توسلت إليه أن يعلمني مبادئ القراءة ففعل، ولم أكد أتعلم الحروف الهجائية وحركاتها حتى بدأت أعالج القراءة بنفسي، وكنت قد حفظت مع شقيقي بعض قصائد من كتاب «مجاني الأدب»، فلما عاد أخي أحد أيام الخميس رجوته أن يدلني على مكان إحدى تلك القصائد من كتاب «مجاني الأدب»، ثم أخذت أقرؤها في بحر ذلك الأسبوع، حتى إذا عاد في الأسبوع التالي أطلعته على مبلغ قراءتي لتلك القصيدة، ولما كنت قد حفظتها عن ظهر قلب قبل أن أقرأها فقد كنت أتعلم منها القراءة، وهكذا قضيت تلك السنة الدراسية في قراءة القصائد التي سبق أن حفظتها، وكنت أعتقد أني لا أستطيع أن أقرأ غيرها.
وحدث في ذات يوم أني ذهبت لزيارة إحدى قريباتي فوجدت في منزلها كتابا صغيرا كتب عليه «قصة حسن الصائغ البصري»، وكم كان سروري عظيما عندما استطعت قراءة ذلك العنوان، وقد اكتشفت في تلك اللحظة أني أستطيع أن أقرأ الكلمات التي لم تشكل والتي لم أحفظها من قبل، فسررت بذلك وطلبت من قريبتي أن تعيرني ذلك الكتاب فلم تمانع، وكانت قراءة ذلك الكتاب عملي مدة الأسبوع، حتى إذا عاد أخي من مدرسته أطلعته على ما استطعت قراءته، وأخذت من ذلك اليوم أقرأ كثيرا من الكتب والروايات؛ فقرأت كتاب ألف ليلة وليلة جميعه، وقصة عنترة بن شداد بأكملها، كما قرأت كثيرا من الروايات الأخرى، لا أطلب من ذلك سوى التسلية، ومع هذا كنت أصل الليل بالنهار في قراءتها، ثم ملت بعد هذا إلى الكتابة محاكية ما قرأته.
لقد قرأت أشعار عمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، ومجنون ليلى، وغيرهم، وكلهم يتغزلون ويتشببون بالنساء، وأخيرا قرأت ديوان المرحومة عائشة هانم التيمورية، وكان فيه كثير من الغزل، واعتقدت لسذاجتي إذ ذاك أن الغزل سهل، وأن الإنسان يستطيع أن يقول في الغزل ما لا يستطيع أن يقوله في أي موضوع آخر؛ إذن يجب أن أقول الشعر في الغزل، وما دمت لا أشعر بالحب فكيف أتغزل أو أتشبب؟ وأخيرا اهتديت إلى حل، وهو أن أكتب قصصا لأقول فيها الشعر الغزلي على لسان غيري، وكتبت أول قصة في كراسة صغيرة، وكان فيها الأبيات الآتية:
أحالت عن العهد الذي كنت أعهده
وموعدنا بالأمس خابت مقاصده
حبيبة قلبي لا تميل لعاذل
فإن عذولي قد دهتني مكايده
وزوري فتى في هواك متيما
عليلا ليشكو ما يلاقي لعائده
ولا أدري لم نصبت متيما وعليلا، وأنا في ذلك الوقت لا أعرف شيئا من أصول النحو؟ كما يرى القارئ الكريم من ذلك البيت الأخير أني لم أكن أعرف حروف الجر؛ ولهذا رفعت عائدا تبعا لقافية الأبيات مع أنه مجرور.
وحدث أن دخل علي شقيقي ومعه مصطفى أفندي عبد الرازق ابن عم والدتي، وفي يدي تلك الكراسة فأخذها، وقرأ الأبيات، ثم ألقى بها إلى الأرض مرسلا ضحكة حلوة عالية، وهو يقول في دعابة وسخرية: «ما لك والكتابة؟! إن هذه اللام لا تجر عربة فقط، بل تجر حمارا أيضا.» ودهشت لما يقوله أخي لأني لم أفهمه، وخجلت من تهكمه على كتابتي، وتناول الكراسة مصطفى أفندي عبد الرازق، وقرأ ما فيها، وقال لي في شيء كثير من التشجيع: «لا يهمك كلامه، واعلمي أنك إن تعلمت فلن يستطيع أحد منا أن يجاريك في الكتابة.» فقلت في خجل وأسف: وما هي اللام التي يذكرها أخي؟ قال: سأرسل لك الجزء الأول من النحو لتتعلمي منه تلك القواعد. وفي اليوم التالي جاءني ذلك الجزء فأخذت أقرؤه وأطبقه على ما أطالع من الروايات والأقاصيص، وقد اتجه فكري في ذلك الوقت إلى تحقيق ما قاله ذلك القريب والالتفات إلى التعليم، وترك قراءة كتب القصص والروايات.
وفي تلك السنة ذهبنا في إجازة الصيف إلى بلدتنا فأخذت معي مصحفا، وجعلت أحفظ بعض سوره، وكنت أختار سور القصص كسورة يوسف ومريم، وكنت أفهمها فهما جيدا، ولكن أحد جيراننا - وكان طالبا في الأزهر - قال لي: إنه من الكفر أن أقرأ القرآن وحدي، فقلت: لم يكون كفرا وأنا لا ألحن فيه؟ وقرأت أمامه بعض الآيات فوافق على أني أقرؤها صحيحة، ولكنه قال: إنه يجب أن أحذر كل الحذر من أن أحاول فهم معناها وإلا عد ذلك كفرا؛ لأنه هو نفسه لا يحاول فهم سورة إلا إذا تلقى تفسيرها على أستاذه في الأزهر، فقلت له: ولكني أفهمها جيدا حسب ما أعتقد. قال: إن ما تعتقدينه شيء والحقيقة شيء آخر. وأردت أن أعرف المعنى الذي تعلمه هو في الأزهر، وأقسمت له إن أفادني أن أمدحه بقصيدة، وإن لم يفعل فلا بد من ذمه بقصيدة أخرى، وسألته عن معنى الآية:
يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ، وقد كنت أفهم معنى تلك الآية على حقيقتها، فقال لي هو: إن أخاهم اسمه نكتل. وهنا سخرت منه، وقلت له: إن الكفر هو ما تعلمته أنت عن أستاذك. وكتبت له قصيدة الذم كما أوعدته، وكان اسمه محمدا أبا نصرة، ولست أتذكر شيئا من تلك القصيدة إلا البيتين الآتيين:
أمحمد سموك خابت ظنونهم
لو أنصفوك لكنت تدعى باقل
لقبت بالنصرة وفعلك ضدها
فلتعلم الأقوام أنك متخاذل
خرافات وأوهام
تأثير السرور في الصحة
مرضت بعد هذا، وكان المرض غريبا حقا؛ لأني كنت أستيقظ من النوم صارخة دون أن أشعر بذلك الصراخ، حتى إذا شعرت بحالتي أحسست كأن إبرا تغرس في كفي، وكان هذا - ولا شك - هو سبب الصراخ، وكنت لا أبقي طعاما في جوفي، وحاول الأطباء علاجي في غير جدوى.
وعز على والدتي الأمر، وهالها بالطبع مرضي؛ لأني أولا ابنتها الوحيدة، وثانيا ستفقد بفقدي المعاش المقرر لي؛ لهذا هلعت كل الهلع، وأشار عليها بعض صديقاتها بأن تعمل لي حفلة زار، فصممت على ذلك، وكانت قد باعت منزلا صغيرا لنا بمبلغ مائتي جنيه، وأرادت أن تشتري بها منزلا آخر، فلما مرضت لم تبخل علي بالمبلغ، واستعدت لعمل حفلة الزار، وأحضرت كثيرا من «مصاغ» الزار المعروف؛ كخلخال من الفضة، وأحجبة، وغير ذلك، إلا أني لم أسر لذلك المصاغ الغريب، ولم أعره أي التفات، وزارتنا في ذلك الوقت إحدى الدلالات، ومعها قرط ثمين من الماس تبلغ قيمته مائة جنيه، ولكنها كانت تعرضه بخمسين جنيها، فتشبثت بشراء ذلك القرط، ولم تر والدتي بدا من إرضائي فاشترته لي، وكان ذلك في اليوم الذي تمت فيه معدات الزار. وقد سررت بالقرط سرورا عظيما، أعاد إلي صحتي، وقامت شيخة الزار بإعداد الكرسي، ووضعت عليه صينية ملئت برءوس السكر والمكسرات، وزبادي اللبن، وغير ذلك من المأكولات. سررت بكل هذا، وكان أخي ومصطفى أفندي عبد الرازق يحذران من أن أعمل ما تعمله السيدات من ذلك الرقص المستهجن، فلم أفعل، ولكني بعد تلك الحفلة شفيت تماما، ولعل مرضي كان عصبيا فشفاه السرور والابتهاج.
وسرت والدتي بشفائي بعد اليأس، ورأت أن ما بقي معها من ثمن المنزل لا يكفي لشراء أي عقار، فاشترت لي به حليا مختلفة من الذهب كأساور وقلادات وغيرها.
دفعني السرور بذلك الحلي الجديد أن ألبسه وأذهب لأزور إحدى قريباتي، وقد كنت في ذلك الوقت لا أتجاوز الثامنة من العمر، وكان منظري لا شك مضحكا؛ لأني ألبس من المصاغ ما تلبسه الآنسات الرشيدات، وأنا لا أزال طفلة، وقابلتني في الطريق امرأتان من الرعاع فأقبلتا علي، وقالت لي إحداهما: ألست ابنة السيدة فلانة؟ فقلت: نعم أنا هي. قالت: لقد كلفتني أمك أن أصنع لك عروسة كبيرة بحجمك، فتعالي معي لأعطيها لك. ورابني كلامها فقلت لها: وكيف أستطيع حمل عروسة في حجمي أنا؟
فدهشت المرأة وقالت: تعالي معي لأحضرها لك، وأحملها أنا، وأذهب بها إلى والدتك. قلت: لا داعي إلى ذهابي معك، وما دامت والدتي هي التي كلفتك صنع تلك العروسة فعليك أن تذهبي إليها بها، وستحتفظ بها والدتي لي. ودهشت المرأتان لهذا الجواب العجيب من طفلة، ومالت إحداهما على الأخرى هامسة في أذنها: «تكونش دي ست وانسخطت؟!»
أتممت زيارتي، ثم عدت إلى والدتي فأخبرتها الخبر، وقلت لها على مقدار شكي في المرأتين، فقالت: لقد صدق ظنك لأني لم أكلف أحدا عمل عروسة، ولعلهما أرادتا أن تسلباك حليك.
كان هذا الحلي موضع غرابة في الأسرة بأكملها، فقال عم والدتي إن والدتي لا تعرف التربية، وإن ابنها هذا الوحيد سيتلف من تلك التربية، وينشأ ممن يجمعون أعقاب السجاير، أما البنت فلن تفلح بعد ذلك الحلي «والدلع»، وستنشأ على أسوأ سلوك، قال ذلك عم والدتي، وأنا في الثامنة من عمري، وقد أثبتت الأيام خطأه؛ فقد كد أخي وعمل مع هذا الترف الذي كان يعيش فيه وملاينة والدتي له ولي، كد ودأب حتى كان من الأوائل في امتحان شهادة الحقوق؛ لأنه ترك المدرسة الحربية والتحق بالحقوق لأسباب صحية، وعين مساعدا للنيابة في شهر نجاحه؛ إذ كانت الحكومة تعين الأوائل بالترتيب، أما أنا فلم أكد أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى ازدريت لبس الحلي فوضعته في علبة، ولم ألبسه حتى الآن، إذ دخلت في تلك السن المدرسة السنية، ولم أر من اللياقة أن ألبس شيئا من هذا، والظاهر أنني اكتفيت بما تمتعت به من اللبس والدلع من نشأتي إلى سن الثالثة عشرة، ولم أعد بعد ذلك أشتاق لشيء منه.
ولعل حريتنا في صغرنا هي التي قوت من إرادتنا، وجعلتنا؛ أي أنا وأخي نبتعد عن اللهو، ونكد ونعمل فيما نريد، وهذه على ما أعتقد هي التربية الاستقلالية التي نص عليها علماء التربية، ولم تقم بها والدتي لعلم بما ستجنيه منها، ولكن دفعها الجهل والخوف علينا إلى معاملتنا تلك المعاملة اللينة.
وبهذا نشأنا على الصدق، وقوة الإرادة، ولكن هذه التربية لا تصلح في البلاد المستعمرة التي اعتاد أهلها الاستعباد، فأصبح الرئيس يحتقر مرءوسه، ويهينه لسبب وبلا سبب؛ فإذا رفض هذه الإهانة كان عليه أن يحتمل الذل والفقر والطرد، وهذا هو نفس ما صادفني في حياتي؛ فقد فشلت فشلا تاما، وسبب ذلك الفشل هو تلك التربية التي اعتدت منها أن لا أحتمل الضيم مهما كان ضئيلا.
وكانت والدتي بعد هذا إذا مرضت ألحت علي في أن أعمل الزار؛ لأنه تأكد لديها أن لي صاحبا من الجن، وأنني عندما أرضيته، وعملت الزار شفيت ، وهي تجهل أنني شفيت من تأثير السرور بما اشترت لي من الحلي، وأني بعد أن كبرت أصبحت لا أسر بتلك السخافات، بل إن أسباب مرضي كانت في الغالب لكدري من أشياء أهمها قلة المال، ولو أني أطعتها، وعملت حفلة زار لخسرت من النقود ما يضاعف مرضي، وهكذا استمرت هي على اعتقادها، وظللت أنا على نكراني وجحودي لجميل ذلك الزار.
كيف دخلت المدرسة السنية؟
اتجهت إلى التعليم كما قدمت، ولم أكتف بمطالعة القرآن وحفظه، بل أردت أن أتعلم تعليما صحيحا في المدرسة السنية، وعلمت من أخي أني إذا أردت دخول السنة الثالثة، وجب علي أن أعرف مقرر الحساب للسنة الثانية، وهو جمع وطرح وضرب وقسمة الأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية، وكان سني في ذلك الوقت 13 عاما، فطلبت من والدتي أن تعين لي معلما، واستشارت عمها فقال لها جملتهم المأثورة: «علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط.» وهكذا رفضت والدتي أن تعين لي معلما، ورفضت أيضا أن تعلمني الغزل؛ إذ إني أجهله حتى الآن.
ساءني ذلك والتجأت إلى أخي، ولكنه في ذلك الوقت كان مشغولا عني بمدرسته، فأحضر لي كتاب الحساب المقرر على السنة الثانية، وكان فيه لحسن الحظ شرح تلك القواعد، فتعلمت منه الأربع قواعد الأصلية للأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية أيضا، ولا أنكر أني وجدت شيئا من الصعوبة في فهم عمليات الكسور الاعتيادية من الكتاب، ولكني تغلبت عليها، وحاولت في الوقت ذاته أن أتعلم ألف باء اللغة الإنجليزية مستعينة بالوقت القليل الذي كنت أختلسه من أخي متحملة تمنعه وسخريته مني، وأخيرا عولت أن ألتحق بالمدرسة السنية، ولما كاشفت والدتي برغبتي، قامت لذلك وقعدت، واعتبرته خروجا على قواعد الأدب والحياء، ومروقا من التربية والدين، وأخذت تقص الحكاية على أقاربها كأنها أحدوثة، وكان يساعدها على ذلك كل من سمع بتلك الرغبة الجامحة، صممت هي على الرفض، وصممت على تنفيذ رغبتي مهما بلغ الأمر، ولكني رأيت أن أخفي عنها تلك الرغبة مؤقتا، وأن أحاول الالتحاق بالمدرسة السنية دون أن أخبرها بذلك، فإذا نجحت وقبلتني المدرسة كان لي ولها شأن، تكتمت الأمر وعولت على تنفيذه سرا، فسرقت ختم والدتي، وذهبت إلى المدرسة السنية، وكتبت استمارة التحاقي بها، وختمتها بختم والدتي، ولا أنكر أن خطي في تلك الاستمارة كان مضطربا رديئا؛ لأني لم أعتد الكتابة، ولم أحسن إمساك القلم، وعجب سكرتير المدرسة السنية والمعلمون من جرأة تلك الفتاة التي جاءت لتقدم لنفسها، ولكي أحملهم على قبول طلبي جعلته بمصروفات، وكان أغلب طالبات السنية في ذلك الوقت يتعلمن بالمجاني؛ لعدم إقبال الأهالي إذ ذاك على تعليم البنات؛ ولهذا ظننت أن طلبا تقوم صاحبته بدفع المصروفات جدير بأن لا يرد.
دخلت الامتحان، وما كان أشده وأقساه على فتاة في سن 13 عاما لم تر نظام المدارس، ولم تحسن إمساك القلم؛ فكان القلم يلعب بي بدلا من أن ألعب أنا به؛ فكم لوثت ورقة، وكسرت قلما في ذلك الامتحان، فكانت ورقتي في اللغة العربية كلاما عربيا صحيحا، وخطا لا يختلف كثيرا عن خطوط الأطفال، وقد تعجب المعلمون من رداءة الخط وجودة الإنشاء؛ إنشاء لا تستطيعه طالبة في المدارس الثانوية، وخط لا تكتبه تلميذة في السنة الأولى الابتدائية.
دخلت امتحان الحساب، وكان واضعه الشيخ أحمد التوني، وكان يشمل ثلاث مسائل عقلية لا تحتاج إلى العمل، ومسألة واحدة عملية فيها عملية ضرب طويلة.
أراد الأستاذ بذلك أن يعجز تلك الطالبة المستجدة بهذه المسائل العقلية، ثم أعطاها مسألة واحدة هي التي ظن أنها تستطيع حلها، وكان الأمر على عكس ما ظنه الأستاذ، فقد كنت قوية في حل المسائل العقلية، وكنت مع ذلك ضعيفة في العمليات، لم أحفظ جدول الضرب بعد، ولما كانت المسائل العقلية لا تحتاج إلا إلى عمل بسيط لا يتجاوز الرقم الواحد؛ فقد ابتدأت بالثلاث مسائل العقلية فحللتها، ثم أخذت بعد ذلك أغالب عملية الضرب لأتغلب عليها فتفوز علي وتقهرني.
وجاء الأستاذ، وكنت وحدي في الغرفة لأنه لم يتقدم إلى امتحان السنة الثالثة سواي، جاء الأستاذ وألقى نظرة على الورقة فدهش إذ كان حلي للمسائل الثلاث صحيحا، فقال باسما: «لقد كان الامتحان سهلا؟» قلت : نعم، ولكني أطلب المساعدة في عملية الضرب هذه. فدهش الأستاذ وقال: «الخبر إيه؟ هل أنت من الفلاسفة؟» قلت: كلا، ولكنني لم أحفظ جدول الضرب. فضحك الأستاذ، وقال: «يكفيك حل ثلاث مسائل.»
أما امتحان اللغة الإنجليزية، فقد كان إملاء سهلا جدا، ومع ذلك فقد أخطأت في نصف كلماته، وخشيت أن لا أقبل بالمدرسة فاتصلت بالمعلمين، ورجوتهم أن يقبلوني مؤكدة لهم أني سأدفع المصروفات؛ لاعتقادي أني سأنجح في النهاية، فإن فشلت فأنا التي سأخسر لا المدرسة، وضحك المعلمون من التماسي هذا، وصمموا على قبولي بالرغم من ضعفي في اللغة الإنجليزية ورداءة خطي.
سررت سرورا عظيما عندما علمت بقبولي في المدرسة السنية، وكنت أحتفظ بالقسط الأول من المصروفات في جيبي فدفعتها، وهي 250 قرشا؛ لأن التلميذة الخارجية كانت تدفع 750 قرشا سنويا، وتتناول الغداء بالمدرسة، والداخلية 15 جنيها.
ولعل القارئ يسأل من أين جئت بالنقود، والواقع أني بعت سوارا من الذهب بخمسة جنيهات؛ إذ أصبحت في ذلك الوقت أحتقر الحلي.
ذهبت إلى المنزل، وأنا أكاد أطير من الفرح، فأخبرت والدتي بالتحاقي بالمدرسة السنية، قالت: إذا فعلت فلا علاقة لي بك. قلت: لقد فعلت، ولا شك في ذلك، وأنا ذاهبة لا محالة، فإن تشبثت بالرفض وعدم القبول؛ فسأدخل المدرسة الداخلية، وفي معاشي ما يقوم بذلك. قالت: أحق ما تقولين؟ قلت: نعم، حق لا ريب فيه، وسأذهب إليها يوم السبت. قالت: إذن، فلا تدخليها داخلية، وكوني خارجية. قلت: حسنا. وفي يوم الجمعة زارني شقيقي فقال لي: تأكدي إن دخلت السنية فلن أعرفك. فابتسمت قائلة: لقد نقص إذن من أقربائي واحد، ولا ضير في ذلك. فغضب أخي وانصرف، وفي يوم السبت ذهبت إلى السنية فكان خجل وكان حياء، وكان اضطراب لحالة لم آلفها؛ فقد كنت قبل ذلك في المنزل، فلم أر من الرجال إلا أخي، أما اليوم فقد رأيت كثيرا من المعلمين والخدم؛ ولهذا كنت أنتقد أية حركة تبدو من أي معلم، بل وأية كلمة تنبو عن موضعها، وكنت أقيس حركاتي وسكناتي بالمللي؛ حتى لا تخرج عن معنى الأدب والكمال الذي تعودته في منزلي تحت إشراف والدتي وملاحظات أخي الكثيرة القاسية.
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات
علي؟
كنت غريبة في المدرسة السنية كما قدمت، ولم أمكث فيها أكثر من ثلاثة أيام حتى زارنا الشيخ حمزة فتح الله، ومع أني كنت قد دخلت في السنة الرابعة عشرة من عمري، فإني لم أكن أكبر سنا عن تلميذات السنة الثالثة إذ ذاك، بل كنت مثل كثير منهن وأصغر من بعضهن، ولما كنت قصيرة القامة فقد جلست في الصف الأول من الفصل، ودخل الشيخ حمزة فتح الله، وكان لسوء الحظ أن كانت وقفته إلى جانبي، فطلب مني أن أقرأ فقرأت، وسر الأستاذ سرورا عظيما؛ لأني كما قدمت كنت أقرأ قراءة صحيحة مع أنني كنت أكتب خطا رديئا لا كرداءة الخطوط العادية، بل خط فتاة لم تعتد الكتابة؛ أي خط طفلة لا تعرف كيف تكتب.
سر الأستاذ من قراءتي، وأعجب بها أيما إعجاب، ثم طلب من غيري أن تقرأ، وهاله ما بيني وبينها من الفرق العظيم فغضب، وأمرها بالجلوس، وقال إنها متأخرة جدا بالنسبة للتلميذة الأولى، ثم سأل غيرها فكان غضبه أشد، وهكذا ثار الأستاذ، وسأل المعلم عن سبب ضعف التلميذات إلى هذا الحد، وهنا مال عليه المعلم، وقال همسا: هؤلاء هن طالبات السنة الثالثة، وهن لا يستطعن أن يقرأن أحسن من هذا، أما تلك التلميذة التي قرأت في الأول، فهي جديدة لم تدخل المدرسة إلا هذا العام، وهي على ما يظهر أقوى منهن بكثير، وهنا نظر الشيخ حمزة فتح الله، وقال: أرجو يا ابنتي أن تساعدي زميلاتك على حسن القراءة والصرف، وكل البنات يرغين ويزبدن لهذا الحادث العظيم في نظرهن؛ إذ كيف يطلب المفتش من تلميذة مثلهن أن تعلمهن، وهي فضلا عن هذا غريبة عن المدرسة، وليست من تلميذاتها، وهذا ما اعتبرته التلميذات عارا لا يمحى.
وما كادت الحصة تنتهي حتى خرجن إلى الفناء، وشكون أمرهن إلى باقي تلميذات المدرسة، وكان في المدرسة طالبة عرفت بالصراحة كما عرفت بالشجاعة والإقدام؛ فكانت بطلة المدرسة أو بلطجيتها، وكانت إذا مرت بتلميذتين تتشاجران قضت بينهما بالعدل، وضربت الظالمة، أو أنبتها مع أنها كانت لا تزال في السنة الثانية، فذهبت التلميذات إليها، وشكون لها ما فعله المفتش، فجاءت ووقفت أمامي، وكنت جالسة فارتعدت فرائصي خوفا، وأيقنت أني مضروبة لا محالة، وقالت لي بلهجة الغضب والتأنيب: كيف تسمحين لنفسك أن تعلمي زميلاتك وهن أقدم منك في المدرسة؟ فنظرت إليها في هدوء، وقلت لها: وهل قمت بتعليمهن، أو طلبت إليهن ذلك؟ وما ذنبي أنا إذا سمح الشيخ حمزة فتح الله لنفسه أن يقول ذلك السخف الذي لا يعنيني أمره؟ فنظرت إلي في شيء من التردد، ثم قالت: صدقت! ليس هذا بخطئك. وانصرفت من عندي، ويظهر أنها وبخت تلميذات السنة الثالثة على ثورتهن ضدي فهدأن، ولكنهن أطلقن علي لقب زوجة الشيخ حمزة فتح الله.
وكنت لا أعرف كلمة في اللغة الإنجليزية، وكنت أجلس في الفصل هادئة لا أكاد أتحرك، وكانت بعض المعلمات الإنجليزيات يعتقدن أن التلميذة الهادئة جدا خاملة العقل لا تفهم شيئا، ولو أن معلمتنا في ذلك الوقت اعتقدت هذا لقضي علي بعدم النجاح، ولكن هذه المعلمة كانت على عكس زميلاتها في هذا التفكير، فتخيلت أني أذكى فتاة في المدرسة، وأخذت تساعدني بكل ما تستطيع، فكانت تأمر التلميذات أن يترجمن لي كل ما تقوله رغما عنهن، ورأيت أنهن يقمن بمناورات ضدي في حصة اللغة الإنجليزية، فأردت أن أردهن إلى الصواب فأخذت أضايقهن في حصة اللغة العربية، فكنت أهزأ بمن تخطئ، وأصحح لها خطأها، فتتألم وتغضب، فيغضب عليها المعلم ويعاقبها، وهكذا ضايقتهن مضايقة عظيمة، فجئن إلي وطلبن أن تضع الحرب بيننا أوزارها، قلت حسنا إذا كنتن على استعداد لمساعدتي في حصص اللغة الإنجليزية، فقبلن مني ذلك الشرط، واتفقنا من ذلك اليوم على أن أساعدهن في اللغة العربية ولو بسكوتي، ويساعدنني هن في اللغة الإنجليزية بترجمة ما لا أفهم، وهكذا انتظمت حالي بذلك الصلح قليلا، ولكنه كلفني كثيرا إذ كان أغلبهن يطلبن مني أن أملي عليهن موضوع الإنشاء الذي يكلفهن المعلم كتابته، وعلى هذا كنت أكتب موضوع الإنشاء أربع أو خمس مرات حسب الطلب، فكنت أملي على كل من طلبت مني ذلك موضوعا يغاير في ألفاظه وأفكاره موضوع الأخرى حتى لا يظن المعلم أن إحداهن نقلت من الأخرى.
وفي نظير ذلك كن يترجمن لي كل ما تقوله المعلمة الإنجليزية، وكنا لسوء الحظ نتلقى علوم الجغرافية والتدبير المنزلي والأحياء باللغة الإنجليزية التي لم أكن أعرف منها شيئا؛ فكنت أجد صعوبة عظيمة في فهم تلك العلوم، ولكن المعلمة كانت تشجعني كل التشجيع؛ ولهذا استطعت أن أتغلب على تلك الصعوبات.
وحدث في يوم أن كانت تشرح لنا المدرسة جغرافية مصر الطبيعية على الخريطة، وكانت الأطالس أمامنا، والظاهر أن الخريطة كانت ضيقة لا تمثل مكان واحة سيوة، وقالت المعلمة للتلميذات أن ينظرن جيدا إلى الأطلس، وكانت الواحة موجودة عليه، وأن يشرن إلى مكانها على الخريطة، وقامت التلميذات الواحدة بعد الأخرى تشير إلى الموضع الذي كانت تظنه موضع واحة سيوة، ولما كانت التلميذات متجهات إلى وضع واحة سيوة على الخريطة مع أن محلها نفسه لم يكن موجودا على تلك الخريطة، فقد أخطأن جميعهن، وطلبت المعلمة منهن ترجمة السؤال لي، فذهبت لأشير إلى مكان الواحة، فوضعت الإشارة على الحائط لا على الخريطة، وظنت التلميذات ذلك غباء مني، فضحكن ضحكات عالية ملؤها الشماتة، ونظرت إليهن المعلمة في دهشة حتى إذا انتهين من الضحك أخبرتهن ببرود الإنجليز المعروف أنهن قد أخطأن، ولم يعرف مكان واحة سيوة بالضبط إلا تلك التلميذة التي سخرن منها، وكانت دهشتهن عظيمة لذلك، وابتدأن من ذلك اليوم يملن لي ويحترمنني.
كنت غريبة عن المدرسة السنية، بعيدة عن كل نظمها، وكنت أنتقد ما يلقى علينا وأحتقره إذا كان لا فائدة منه؛ لهذا لم تعجبني قواعد الصرف؛ فكنت أسخر منها، ولا أرى أية فائدة في أن أعرف أن سار أصلها «سير»، وأن كان أصلها «كون»، وغير ذلك من العلل الصرفية؛ لأني كنت أرى أني أعرف أن أفهم وأقرأ، وأن أكتب ما يفهم قبل أن أتعلم تلك القواعد التي لا معنى لها، وأعطانا المعلم يوما امتحانا في الصرف، وبدلا من أن أجيب عليه كتبت له في الكراسة الأبيات التالية:
دهتني صروف الصرف لا در دره
ولا خير في فعل إذا رمت صرفه
كما أنه يخشى الزمان وصرفه
أرى الفعل موهوبا لدي وصرفه
فإن تكسروا للفعل عينا فإنني
كسرت ذراع الفعل عمدا وأنفه
وإن كان معتلا فلست طبيبة
دعوه دعوه عله يلقى حتفه
وبالطبع قد منحني ذلك الأستاذ في ذلك الامتحان صفرا بأكمله دون أن يبخل علي بشيء منه.
وأمرنا الأستاذ يوما أن نحفظ حروف المعاني المكتوبة في كتاب النحو بترتيبها عن ظهر قلب، فلم يعجبني أن أتعب نفسي في هذا السخف الذي لا معنى له، وعندما طلب مني المعلم في اليوم التالي أن أسمع ما حفظت قلت له: إني نظمتها شعرا. قال: هاتي. فقلت الأبيات الآتية:
أشكو إليك حروفا في تعلمها
حلت بقلبي من تكرارها العلل «إذن وإذما» فما كررتها أبدا
إلا بدت أدمعي كالسيل تنهمل
ولا ذكرت «بلى والكاف ثم جلل»
إلا وخاب لدى تذكارها الأمل «جير وحتى وحاشا» بت أقرؤها
حتى ثنى همتي عن حفظها الملل
علي بذلك لا ألقى العقاب ولا
عن ساحة الكرم المأمول أنتقل
فقال المعلم، ومكافأة لك على هذا الاجتهاد سأعطيك صفرا؛ فقد مللت أن أكتب لك في كل شيء عشرة، وهذه فرصة أغير فيها العشرة إلى صفر تشجيعا لك على قول الشعر، وهكذا كنت لا آخذ في اللغة العربية درجة إلا الدرجة النهائية أو صفرا.
الشيخة رمانة
كانت السنة الثالثة أصعب سني دراستي؛ لأني كنت غريبة عن نظم المدارس وترتيباتها، ومع هذا فقد نجحت، وكنت الأولى في امتحان النقل إلى السنة الرابعة، وكان عدد طالبات السنة الرابعة على ما أتذكر 6 طالبات، وامتحنا امتحان الشهادة الابتدائية في مدرسة عباس؛ لأن المدرسة السنية كانت في بناء قديم غير بنائها الحالي، وكان على مقربة من بنائها المعروف الآن؛ فقد كان في حارة صغيرة في شارع المبتديان.
وتشاء القدرة الإلهية أن يكون امتحان الحساب في ذلك العام، وهو عام 1903 أصعب امتحانات الحساب التي رأيتها حتى الآن؛ ولهذا رسب في الحساب فقط 60٪ من عدد المتقدمين لذلك الامتحان، خرجنا من امتحان الحساب، وكل الطالبات يبكين، وكان من بين طالبات المدرسة السنية طالبة عرفت بالطيش وعدم تقدير الأمور، فخرجت تضحك، وتتظاهر بالنجاح؛ فكانت جميع الطالبات باكيات، وهذه الطالبة ضاحكة ساخرة، أما أنا فكنت على الحياد لا بكاء ولا سرور، فدنت مني ضابطة مدرسة عباس، وقالت: أراك لست كزميلاتك في البكاء، ولا تشاطرين تلك الزميلة الأخرى سرورها واغتباطها، فما شأنك؟ قلت: أظن أني ناجحة فلا معنى للبكاء، أما السرور والابتهاج فليس من المروءة أن أضحك، وزميلاتي باكيات. قالت: وهل أنت واثقة من نجاحك؟ قلت: نعم. قالت: لا تغتري فقد رسبت أولى طالباتنا في العام الماضي. قلت: لا بد يا سيدتي أنها كانت ضعيفة في الحساب. قالت: نعم! هي كذلك. قلت: الحساب لا صاحب له؛ فقد تكون التلميذة مجتهدة في كل شيء؛ تذاكر مذاكرة جيدة، فتتقدم على زميلاتها، ولكنها ينقصها الذكاء فلا تستطيع النجاح في الحساب، أما أنا فمحال أن أرسب وأنا أولى الفصل في أغلب المواد وفي الحساب أيضا. قالت: إذن سنرى.
انتهى الامتحان، وخرجت التلميذات، وأغلبهن واثقات من عدم النجاح، ولا أدري كيف تأثرت بآرائهن، فساورتني الشكوك في نجاحي بعد أن كنت متأكدة منه، وكانت والدتي شديدة الثقة في منجمة تدعى الشيخة رمانة، وكانت تقول إن كلامها لا ينزل الأرض حسب تعبيرها هي، وكان أخي - رحمه الله - على عكس رأيها، وهو الذي كنت أسير مع آرائه، فأردت أن أشرح لوالدتي بطريقة عملية أن هذه المنجمة لا تستطيع معرفة الماضي لا المستقبل، فطلبت أن أذهب معها إلى تلك المنجمة لأعرف منها الغيب في مستقبلي القريب، وهو النجاح في امتحان الشهادة الابتدائية، فغيرت ملابسي ولبست ملاءة وبرقعا أسود، وذهبت إليها مع والدتي فوجدت حولها عددا كبيرا من النساء يغلب على ظني أنهن يساعدنها على كشف مستقبل الزبائن، وإن كن يتظاهرن بأنهن جميعهن زائرات جئن للكشف عن مستقبلهن.
جلست على مقربة من الشيخة، وتقدم منها امرأتان، وأعطت الشيخة إحداهما منديلها لتكشف عن مستقبلها، فقالت لها في لهجة الطفلة العابثة المترددة: «مش واوه؟» وهي جملة ترسلها بين التأكيد والاستفهام. فقالت الزائرة: لا يا سيدتي مش واوه. فقالت الشيخة: «أنا قلت مش واوه» قالت ذلك بلهجة التأكيد، ثم قالت بلهجتها الأولى: «مش حاجة ضايعة؟» فقالت الزائرة: نعم يا سيدتي شيء مسروق. قالت الشيخة: «أنا أقول حاجة ضايعة.» ثم عادت إلى ترددها تقول: «مش ذهب؟» قالت الزائرة: يا ليتها كانت ذهبا. ومعلوم أن الماس أغلى من الذهب؛ ولهذا قالت الشيخة بلهجة التأكيد: «أنا أقول ألماظة.» فنظرت المرأة إلى زميلتها، وقالت في سذاجة: لقد عرفت الشيء المسروق. وتشجعت المنجمة، وقالت: سرقها شخص يأكل معك. وبالطبع لا يخلو الحال من أن يكون مع كل سيدة بعض أشخاص يأكلون معها، إما من الخدم، أو من الأقارب، ولكن المرأة لسذاجتها تأكدت أن الشيخة قد عرفت ذلك بعلمها، فقالت لزميلتها بصوت مسموع: لا يأكل معي إلا نفيسة. وزادت جرأة الشيخة، فقالت: إن نفيسة هي السارقة. وهنا قالت المرأة في دهشة: لقد عرفت المنجمة حتى اسم السارقة. فتركت المكان، وهي تعتقد أن المنجمة قد عرفت كل شيء حتى اسم السارقة، ونسيت أنها هي التي ذكرت اسم نفيسة بصوت سمعته المنجمة كما سمعته أنا، وقد كنت أكثر بعدا منها عن المنجمة، وهنا علمت كيف تعمل السذاجة والجهل لصالح هؤلاء المنجمات.
المرحوم موسى محمد بك قاضي محكمة دسوق سابقا «وهو شقيقي».
تقدمت إلى الشيخة بعد هذه الزائرة، فقالت لي جملتها المعروفة: «مش واوه؟ مش حاجة ضايعة؟» وأنا أجيبها بالنفي، ثم قالت لي بعد هذا: «مش زواج؟» وخشيت إن أنا وافقتها على هذا لأظهر لوالدتي جهلها أن تظن والدتي أني قد أضمرت في نفسي أن أسأل الشيخة عن الزواج، وقد كنت أود أن تعلم والدتي بجلاء كذب تلك المنجمة، فالتفت إلى والدتي، وقلت لها في شيء من الدهشة: زواج؟ طيب ما أنا متزوجة! وانتهزت المنجمة تلك الفرصة وأسرعت قائلة: أنا أعرف أنك متزوجة، وسأرد لك زوجك. فنظرت إلى والدتي قائلة: هيا بنا إلى المنزل ننتظر الزوج عند قدومه إلينا. قلت ذلك وانتصبت واقفة، وقامت والدتي معي، فتعالت أصوات النساء اللائي يحطن بالمنجمة قائلات: حذار أيتها الفتاة من أن تسخري بالشيخة وإلا أصابك ضرر بليغ. قلت: وماذا فعلت؟ إني سأذهب مسرعة إلى المنزل لأنتظر زوجي ما دامت الشيخة سترده إلي كما وعدت. وخرجت أنا ووالدتي بعد أن تغير اعتقادها في الشيخة؛ لأنها رأت كيف ظنتني متزوجة، وأنا لا أزال فتاة.
ظهرت نتيجة الامتحان، ولم ينجح من المدرسة السنية إلا أنا وطالبة أخرى اسمها عائشة صبحي تنتمي إلى أسرة مجيدة، وهي الآن حرم حضرة صاحب السعادة إسماعيل باشا رمزي، وكنت أنا الأولى بالنسبة للبنات، وكانت هي بعدي وبيني وبينها عدد من البنين، ولست أتذكر ترتيبنا بالضبط.
ومن مدهشات الأحلام أني حلمت قبل ظهور هذه النتيجة بأني أسير في طريق بلدتنا الريفية بسرعة، وأني دخلت منزلنا في الريف، ونظرت ورائي فرأيت زميلتي صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي آتية من بعيد فقلت لها: لقد تأخرت يا عائشة. قالت: لا بأس، فلم يمر أحد من التلميذات سوانا. وهكذا ظهرت النتيجة، فلم يمر أحد سوانا.
وعلى ذكر زميلتي صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي أقول إنها من فضليات المصريات، ومن أولياتهن علما وأخلاقا وذكاء، وإن كان اسمها لم يظهر كثيرا في المجتمعات، ولعل ذلك ناشئ من تمسكها بالعادات الشرقية، فقد خرجت من أسرة كريمة، ودخلت أسرة مثلها في الكرم من أسر المصريين؛ لهذا ظلت بعيدة عن المجتمعات، لم يذكر اسمها في السياسة إلا مرة واحدة إذ خطبت أمام حضرة صاحب الرفعة النحاس باشا بعد خروجه من الوزارة في عيد 13 نوفمبر 1938، وهكذا تخفي منازل الأسر العريقة دررا لو ظهرت في المجتمع لأضاءته بذكائها الحاد المتوقد، وأكسبته بهاء وروعة.
شاب ريفي
نجحت في الشهادة الابتدائية في يونيه سنة 1903 كما قدمت، ولم ينجح في البلاد المصرية كلها غيري في ذلك العام إلا ثلاث فتيات، وأنا رابعتهن؛ تلميذتان من المدرسة السنية، واثنتان من مدرسة عباس، ولا غرابة بعد هذا أن يقوم شبان قريتنا وأن يقعدوا ابتهاجا بهذا النبأ، وتقديرا لتلك العبقرية في نظرهم إذ ذاك؛ أي العبقرية التي استطاعت بها فتاة من قريتهم أن تنجح في الشهادة الابتدائية، مع أن الناس الآن لا يعلقون أهمية ما لمن ينجحن في الشهادات العالية، فسبحان مغير الأحول، كنت في القرية حسب عادتي عندما ظهرت نتيجة الابتدائية، فتوافد الناس على دارنا أفواجا للتهنئة، وإظهار إعجابهم بذلك النبوغ النادر كما كانوا يسمونه، وعلى أثر ذلك أرسل إلي أحد مشايخ القرية كريمته، وهي في نفس سني لتتعلم من معاشرتي المدنية، وظلت عندي مدة شهر كنا نخيط معا بعض الملابس، وفي أحد الأيام جاءتني «ناعسة»، وهو اسم تلك الفتاة، وعلى وجهها شيء من علامات القلق، وما كادت تخلو بي حتى قدمت إلي خطابا من أخيها، يقول لي فيه إنه أحبني دون أن يراني، كما يحب الناس الجنة دون أن يروها.
ساءتني جرأة هذه الفتاة، وهالني استهتار أخيها بالآداب في تلك القرية الصغيرة التي رأس مال أهلها الدين والكمال، وخشيت إن أنا أطلعت شقيقي على الخطاب أن يغضب لهذا، وأن يضرب ذلك الشاب، ويصبح ذكري أحدوثة بين أهل القرية جميعا، فكظمت غيظي من الفتاة وأخيها، ومزقت الخطاب إربا إربا حتى لا يستطيع أحد قراءته، ووضعته في الظرف، ولم يكن الظرف معنونا، وأعطيته لها، وقلت لها: لقد ساءني جدا أن يرسل أخوك هذا الخطاب، وأن تكوني أيتها الصديقة الرسول؛ ولهذا أرجوك أن تذهبي الآن وأن تخبريه بأني لا أعرف شيئا عن الحب، وأني أحتقر كل من يعرفه، كما أرجو أن لا تعودي إلى دارنا مرة أخرى.
خرجت الفتاة تتعثر في أذيال الخجل والأسف، وهي لا تكاد تقوى على جر قدميها، ومضت أيام ولم تعد «ناعسة» إلى دارنا، فسأل أخي ووالدتي عن السبب، فقلت لهما: لقد تم تمدينها، ولم تعد في حاجة إلي. وفي ذات يوم جاءني أخي، وقال لي في شيء من الحدة: كيف عرفك فلان؟ وذكر اسم ذلك الشاب، وخشيت في تلك اللحظة أن يكون ذلك الشاب قد أغضبه رفضي لصداقته فاختلق علي من الأكاذيب ما يغضب أخي، ولكني تمهلت، وقلت لأخي: ومن أين عرفت أنه يعرفني؟ قال: لقد كنت أمس في فرح فلان، وكان هذا الشاب يجلس أمامي، ولكنه لم يشعر بوجودي، وسمعته يتحدث مع بعض شبان القرية، فقال أحدهم إن فتيات المدن فاسدات الأخلاق ماجنات، وهنا انبرى له ذلك الشاب يكذبه ويقول: إن كريمة موسى أفندي محمد، وهي من فتيات المدن، ومن أولى الناجحات في الابتدائية هذا العام على جانب عظيم من الأخلاق والكمال. فقال له ذلك الشاب المنتقد: وما يدريك فقد تكون كباقي فتيات المدن ماجنة فاسدة، ولكنا لا نعرف من أمرها شيئا؟ فقال أخو ناعسة: لقد خبرتها بنفسي، وأعلم أنها أكثر النساء عصمة واستقامة. وهنا تبسمت، وقلت لأخي: وهل كلامه هذا يدل على أنه يعرفني؟ قال: لقد قال إنه خبر ذلك بنفسه. قلت: هذا تعبير يدل على تأكده مما يقول، وهل نسيت أن ناعسة أخته بقيت معي مدة تخالطني وأخالطها، وعرفت من أخلاقي ما لا يعرفه غيرها؟ وأظن أن هذا ما أراده أخوها بقوله إنه خبر ذلك بنفسه، ولم يشأ أن يذكر اسم أخته. فزالت آثار الغضب عن ملامح أخي، وقال: «صدقت، لقد نسيت مسألة ناعسة.»
وهكذا كان ذلك الشاب الريفي مثال الشمم والصدق، مع أن غيره من رجال المدن الفاسدين ينتقمون أشد الانتقام ممن تتمسك بأهداب الفضيلة، وتخيب مطامعهم الفاسدة فيما أرادوه منها، نعم يتفننون في الانتقام من الفتاة لا لسبب سوى أنها امتنعت عن إجابة مطالبهم فيدبرون لها كل وسائل الكيد، ويدفعهم الغيظ إلى تسويء سمعتها ووصفها بما هي بريئة منه، لا لسبب سوى حقدهم عليها لتمسكها بالفضيلة والعصمة.
أما القرويون فيمجدون الفضيلة، ولا يسمحون لأحد أن يفخر بالرذيلة والفساد من سكر وعربدة وغيرها كما يفعل المدنيون، ومن يفعل ذلك منهم فإنما يعرض نفسه لسخط أهل القرية عامة، واحتقارهم له وبعدهم عنه، فلا تسمع من القرويين عادة من يروي لك في شيء من الفخر والزهو رواية سكره وعربدته، وهو لو فعل ذلك لما أصغى أحد إليه، ولما كان جوابه على ما يقوله إلا الضرب، وهكذا لا تجد الفضيلة أنصارا إلا في وسط الريف الساذج البريء.
طرائف
قبل أن أترك مرحلة تعليمي الابتدائي أذكر بعض المفارقات الكثيرة التي كانت تحصل في تلك المرحلة.
فقد دخلت كما قدمت المدرسة السنية في السنة الثالثة الابتدائية، وكان ذلك في سنة 1901، وكانت المرحومة ملك حفني ناصف في السنة الثانية من معلمات السنية؛ أي كان بيني وبينها فرق دراسة ثلاث سنوات، وكانت المرحومة مشهورة بجودة الإنشاء في اللغة العربية، وهي موهبة ورثتها عن المرحوم والدها حفني بك ناصف؛ فلما دخلت أنا اتجهت أفكار المعلمين إلى الموازنة بيني وبينها، وأخيرا قر رأيهم على أن يعطي معلم السنة الثالثة الابتدائية نفس موضوع الإنشاء الذي يعطيه معلم السنة الثانية من قسم المعلمات، وتم هذا، وعرض الموضوعان على مدرسي اللغة العربية في القسمين الابتدائي والثانوي، فمال أغلبهم إلى تفضيل موضوعي، وقالت الأقلية إن الموضوعين متساويان في الجودة، وأغضب ذلك المرحومة ملك، وكانت طيبة القلب، وقد نمت بيني وبينها صداقة؛ فكانت تميل إلى مجالستي، فجاءتني بعد هذه الموازنة تشكو إلي سوء تقدير المعلمين في وقع موازنة كهذه بين تلميذة في السنة الثالثة الابتدائية، وطالبة في السنة الثانية من قسم المعلمات، وقالت إنها تظن أن اهتمامهم بي؛ لأني في السنة الثالثة الابتدائية يجعلهم يقدرون إنشائي فوق ما يستحق، وأنها تريد أن تعرض الأمر على والدها، وطلبت مني أن أكتب قصيدة في مدح الخديوي، وأن تكتب هي أخرى، وأن تعرض القصيدتين على والدها ففعلت وفعلت، ثم جاءتني بعد ذلك على وجهها علامة عدم الرضا، وقالت: لقد انضم والدي إلى رأيهم، ويظهر أنك محظوظة. فقلت لها مازحة: ولكني عرضت القصيدتين على أخي، ففضل قصيدتك، وبهذا أصبحنا خالصتين، واحدة بواحدة. وفي السنة الرابعة قالت هي قصيدة مدح في الخديوي، وقلت أنا أخرى، ولكنها لم تعرض قصيدتها علي، بل فوجئت بها على صفحات المؤيد، وأعجبني بيت فيها أيما إعجاب، وكنت خارجية، وكانت المرحومة داخلية، فلما رأيتها في الصباح قرأت لها البيت فقالت: لمن هذا؟ قلت: عجبا، ألا تعرفين؟ قالت: لا. قلت: إنه من قصيدتك المنشورة اليوم في المؤيد. قالت: لعل والدي وضعه. ومن هذا علمت أن المرحوم حفني بك كان يساعدها فيما تكتب أثناء دراستها.
المرحومة ملك حفني ناصف.
وحدث مرة أن السيدة فيكتوريا عوض - الآن مدام هنري بك بدير مدير مخازن وزارة الصحة، وكان زميلة المرحومة ملك - شكت إلي من أن المعلمين أخذوا فكرة ثابتة عن تفوق المرحومة عليها في الإنشاء، فمهما اجتهدت ومهما كتبت فهم يضعون لها درجة أقل من درجة المرحومة ملك حفني، وأنها لهذا تريد أن أكتب لها أنا موضوعا لترى هل يقدره المعلم، ويرفع درجته عن درجة موضوع زميلتها، فأجبتها إلى ما طلبت، فلما قرأ المعلم الموضوع سألها بعض أسئلة تتعلق ببعض المراجع التي قرأت فيها عندما أرادت أن تكتب ذلك الموضوع، فلم تعرف؛ لأنها لم تكن كتبت ولا قرأت، وهنا اتضح أنه كتب لها، فجاءتني ضاحكة، وقالت لقد ضبطت السرقة، ولم نفلح فيما أردنا.
السيدة فيكتوريا عوض.
وأخذت طالبات قسم المعلمات يطلبن مني أن أكتب لهن مواضيع الإنشاء، وضايقني هذا فأقسمت أن لا أصرف وقتا من أوقات فراغي في إملاء إنشاء لطالبة مهما كانت، وأنهن إذا أردن مني ذلك، فعلى التي تريد أن أملي عليها الإنشاء أن تقف على باب المرحاض عندما أكون أنا داخله، وهناك أستطيع أن أملي عليها دون أن يضيع من وقت فراغي شيئا، وهكذا تم الاتفاق؛ فقل بالطبع عدد طالبات المواضيع؛ إذ لم أكن أستطيع أن أملي أكثر من موضوع في اليوم، وعلى طالبته أن تقف تلك الوقفة التي لا يرغبها أحد.
ومن طريف ما حدث أن طالبة كانت متأخرة جدا في اللغة العربية، فأمليتها موضوع إنشاء كلفها به المعلم، فلما صحح الإنشاء معلم الفصل دهش لتقدمها في الإنشاء، ومدحها على هذا التقدم السريع، وهنا تعالت الضحكات من جوانب الفصل، وسدت كل طالبة أنفها، بينما كان المعلم يقرأ موضوع هذه الطالبة؛ لأنهن اعتقدن أنني أنا صاحبة الموضوع لا هي، وعندما سألهن المعلم عن سبب سد الأنوف، قالوا: إننا واثقات أن هذا الموضوع إنما خرج من مرحاض! وحاول المعلم أن يفهم ما أردن، فاستعصى عليه الأمر، وأصرت الطالبات على أن رائحة الموضوع كريهة بالرغم من أنه هو لا يشم شيئا.
وكان لي في ذلك العهد شهرة في حل المسائل الحسابية العقلية بسرعة مدهشة، وكانت مدرسة الحساب في قسم المعلمات معلمة إنجليزية، وكان فصلا السنة الثالثة الابتدائية والثانية معلمات متقابلين في فناء صغير، وفي ذات يوم خرجت من فصلي عندما انتهت الدراسة، فنادتني المرحومة ملك حفني من فصلها، فلما ذهبت إليها عرضت علي مسألة فحللتها على السبورة، وكتبت الجواب فدهشت الطالبات، وأسرعت إحداهن وراء معلمة الحساب التي كانت قد خرجت من الفصل، وردتها إليه ثانيا، وأظهرت المعلمة دهشتها، وكل ذلك وأنا لا أكاد أعرف سبب هذه الدهشة، وأخيرا قالت لي المرحومة ملك: إن معلمة الحساب صرفت الحصة بأكملها في حل المسألة، ولم تستطع أن تأتي بالجواب المدون في كتاب الحساب، وأخيرا أكدت لهن أن الجواب المكتوب في كتاب الحساب خطأ. فلما أتيت أنا الجواب المذكور في كتاب الحساب دهشت الطالبات، ونادين المعلمة ليظهرن لها الخطأ الذي ذهبت إليه، وهكذا حللن المسألة بالطريقة التي كتبتها لهن على السبورة، ومن ذلك اليوم زادت مشاغلي، إذ كنت أحل لقسم المعلمات كل مسألة تستعصي عليهن.
نهضة تعليم البنات في مصر
في يونيه سنة 1901 نجح في الشهادة الابتدائية لأول مرة ثلاث تلميذات هن السيدات: المرحومة ملك حفني ناصف، وفيكتوريا عوض - الآن مدام هنري بك بدير مدير مخازن وزارة الصحة - وألجرابلنتر، وفي أكتوبر سنة 1901 فتح قسم المعلمات في السنية، ودخل فيه هؤلاء الثلاث في السنة الأولى، وفي يونيه سنة 1903 نجح في امتحان دبلوم معلمات السنية لأول مرة أيضا طالبتان؛ هما المرحومة السيدة ملك حفني ناصف، والسيدة الفاضلة فيكتوريا عوض، أما الثالثة فرسبت في الامتحان، وفي أكتوبر سنة 1903 عين كل من المرحومة السيدة ملك حفني ناصف والسيدة فيكتوريا عوض معلمة بالمدرسة السنية.
المرحومة الآنسة نور الهدى عبد الله.
وفي نفس هذا التاريخ دخلت أنا السنة الأولى من قسم معلمات السنية أي في أكتوبر سنة 1903، وكان قسم المعلمات يشمل ثلاث سنوات الأولى والثانية والثالثة، ومجموع تلميذات هذه السنوات الثلاث كان بالتحديد 14 طالبة، بالسنة الثالثة أربع طالبات هن السيدات: ألجرابلنتر التي رسبت في أول امتحان لدبلوم معلمات السنية، وآسيا عبد الفتاح - الآن حرم محمد بك حمدي مرتضى وكيل مديرية المنوفية - وتوحيدة صبحي - الآن حرم حضرة صاحب العزة محمد بك شفيع - وعائشة الشيمي. وبالسنة الثانية خمس طالبات هن المرحومتان السيدة فاطمة عمر شقيقة عبد العزيز باشا فهمي، وحرم عبد المجيد باشا عمر، والمرحومة السيدة نور الهدى عبد الله، والسيدات زينب بهجت، وزينب فؤاد، وهانم صالح. أما السنة الأولى فكان بها خمس طالبات أيضا؛ هن السيدات: عائشة صبحي - الآن حرم إسماعيل باشا رمزي - وبهية حسونة، ونور حسن، وأديل دياب، ونبوية موسى، على أنه لم ينجح في دبلوم معلمات السنية من هؤلاء الطالبات الأربع عشرة إلا ثمان فقط؛ اثنتان نجحتا في سنة 1904، وهما السيدتان آسيا عبد الفتاح، وتوحيدة صبحي، على أن الأخيرة منهما لم تعمل في التعليم، واثنتان في سنة 1905 هما السيدتان نور الهدى عبد الله، وزينب بهجت، والأخيرة منهما لم تعمل في التعليم أيضا، وفي سنة 1906 نجح جميع طالبات السنة الأولى اللائي ذكرتهن الآن ما عدا السيدة عائشة صبحي مع أنها كانت من المتقدمات؛ إذ كانت الثانية دائما، ولكنها تركت المدرسة في نهاية السنة الثانية، وقد كانت أمهر طالبات السنية في اللغة الإنجليزية، حتى إنها كانت تكتب في الإنشاء الإنجليزي ما يزيد عن أربع صفحات فلا تخطئ فيها مرة واحدة.
ومن العجيب أن هذا الفصل الذي كنت أنا إحدى طالباته نجح كله في دبلوم معلمات السنية، واشتغل كله أيضا بالتعليم ما عدا السيدة عائشة صبحي كما قدمت، وفي الصفحة التالية صورة تاريخية لجميع طالبات قسم المعلمات بالمدرسة السنية، ومعهن ثلاث معلمات إنجليزيات إحداهن مس كارتر، وهي الآن كبيرة مفتشات اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف، وقد خدمت تعليم البنات في مصر 38 سنة، خدمته بإخلاص ونشاط قلما يوجدان في غيرها، فتقدم طريقة التعليم باللغة الإنجليزية يعود إلى جهودها الجبارة وإخلاصها النادر، ومس كارتر تكاد تتوقد ذكاء وعبقرية، وهي كتلة نشاط إلى الآن لم تكل قواها، ولم تتضعضع عزيمتها، بل هي الآن بنفسها مس كارتر الشابة التي كانت تدهش طالباتها باجتهادها ونشاطها النادرين.
هذا هو مجمل بسيط لنهضة تعليم البنات في مصر، ولست أتغالى إذا قلت إن قسم المعلمات في المدرسة السنية في ذلك الحين كان أقوى بكثير في اللغة الإنجليزية على الخصوص من الحاصلين على شهادة كلية الآداب، أو المعلمين العليا الآن، وكان ذلك يرجع لنشاط مس كارتر ودقتها في العمل.
لقد خرجت المرحومة فاطمة عمر من المدرسة السنية في سنة 1904 دون أن تتم دراستها لأسباب ربما شرحتها فيما بعد، وقد تركت التعليم وتزوجت ورزقت أطفالا انشغلت بحبهم انشغالا عجيبا مدهشا، وكان المظنون بعد هذا كله أن تنسى كل شيء عن التعليم، ولكنها كانت مع هذا تتكلم باللغة الإنجليزية كإحدى بناتها، وتكتب باللغة العربية بأسلوب أدق وأرقى من أسلوب النابهين من طلبة التخصص في اللغة العربية بالأزهر الشريف أو طلبة دار العلوم العليا، وكذلك السيدة عائشة صبحي، أو حضرة صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي؛ فهي تجيد اللغتين الإنجليزية والعربية إجادة يدهش لها من سمعها تتكلم اللغة الإنجليزية، أو قرأ ما تكتبه باللغة العربية هذا مع عنايتها التامة بأبنائها ومنزلها.
صورة طالبات قسم «معلمات السنية في أكتوبر سنة 1903». الجالسات من اليمين إلى اليسار: مس كارتر، والسيدات: توحيدة صبحي، نبوية موسى، ألجرابلنتر، بهية حسونة، زينب بهجت. الصف الثاني من اليمين إلى اليسار: مس هاني برن، السيدات: المرحومة نور الهدى عبد الله، عائشة الشيمي، زينب فؤاد، فاطمة عمر، نور حسن، مس ليتش. الصف الثالث من اليمين إلى اليسار: السيدات: عائشة صبحي، آسيا عبد الفتاح، هانم صالح، أديل دياب.
ومن لطائف ما أتذكره أن المعلمات الإنجليزيات كن يخالطننا مخالطة الند للند، ويلعبن معنا، وكنا مع احترامنا وحبنا لهن نترجم أسماءهن على سبيل الفكاهة والتسلية، وكان لأغلبهن أسماء لها معناها؛ فكنا نقول عن مس كارتر مثلا الست عربجي، وعن مس هاني برن مدموزيل عسل محروق، ومس ليتش الآنسة دودة، ومس بورد السيدة لوح، وكان سرورنا بمخالطة المعلمات الإنجليزيات عظيما خصوصا عندما كنا نمزح معهن فلا يغضبهن ذلك المزاح، فكنا ننادي مس بورد عن بعد يا سيدة لوح، وكانت تعرف أن هذا اسمها فتضحك ونضحك، ومن هذه المخالطة اكتسبنا قوة في اللغة الإنجليزية يندر أن توجد في طلبة العصر الحالي، وكانت الوزارة هي التي تقوم بامتحانات النقل في المدرسة السنية؛ ولهذا كانت كل معلمة تجتهد في تقوية تلميذاتها في المادة التي تدرسها خشية أن يظهر ضعفها في التدريس أمام الوزارة في آخر العام.
وكانت الوزارة تعنى بامتحاننا عناية تامة فتمتحننا تحريريا وشفويا، ويقوم بذلك الامتحان أكبر رجال الوزارة مقاما وسنا.
وكان من مفتشي وزارة المعارف المستر بويد كاربنتر، فجاء ليمتحننا في اللغة الإنجليزية شفويا، وكنت قد سمعت باسمه فأخذ يناقشني في أفكار المصريين، فقال إنهم يهتمون بالتعليم، ويهملون الصناعة، وأردت أن أنتصر لبلدي فقلت: إنهم على حق يا سيدي، فإنه لا صناعة بلا تعليم، والعلم هو الذي يرقى بالصناعات، أما صناعة الجهلاء فلا قيمة لها. قال: ولكن المصريين يحتقرون الصناعة وأربابها. قلت: إنهم على حق ما دام أرباب الصناعة الآن جهلاء، ألست ترى يا سيدي أنه من العار أن تكون الفتاة ابنة نجار مثلا؟ قلت ذلك، وضغطت على كلمة نجار، ومعناها بالإنجليزية كاربنتر، وهو اسم المفتش، ضغطت على الكلمة في شيء من الدعابة، وفهم المفتش أني أريد التلميح باسمه فضحك، وقال: أشكرك، ثم أعطاني الدرجة النهائية.
وكان الشيخ شريف، وهو من أكبر مفتشي اللغة العربية في ذلك الوقت يمتحننا في اللغة العربية شفويا، وكان رجلا شديدا في امتحانه، لا يكف عن الأسئلة إلا إذا عجزت الطالبة عن الإجابة، ولما كان أول اسمي نونا فقد كان يوضع في آخر كشف الامتحانات، وأخذ الأستاذ يناقش زميلاتي الواحدة بعد الأخرى، ولا ينتهي من امتحان إحداهن إلا عجزت، وأجابته بجملة «لا أعرف»، وجاء دوري فأخذ يناقشني وأجيبه، ويظهر أنه ضايقه هذا، وأراد أن يحملني على الاعتراف بعدم المعرفة، وكان في يده صحيفة المؤيد لصاحبها السيد علي يوسف باشا، وبها أربعة أبيات للمرحوم إسماعيل باشا صبري، ولم أكن قرأت تلك الصحيفة، وكانت الأبيات حديثة لم تدون في كتب الأدب، ومع هذا فقد قرأها لي الأستاذ، ثم سألني عن قائلها، وكانت أسئلته ببطء وبنغمة مخصوصة، فقال ما نصه: «أنت. تعرفي. مين. اللي. قال. هذه الأبيات؟» وعرفت غرضه، فتحاملت عليه وأجبته بنفس نغمته وترتيبه، فقلت: «أنا. مش. ضروري. أعرف مين. اللي. قال. هذه الأبيات.»
وما كاد الأستاذ يسمع هذا التهكم حتى رفع رأسه، وشعر بخطئه في السؤال فنظر إلي وقال: متشكر، ثم وضع لي الدرجة النهائية.
المرحومة السيدة فاطمة عمر شقيقة عبد العزيز باشا فهمي.
وعلى ذكر هذه الامتحان أقول إننا كنا في الشهادة الابتدائية نحسن التخاطب باللغة الإنجليزية أكثر من طلبة البكالوريا الآن، وأذكر أنه في امتحان الابتدائية كان يمتحنني في اللغة الإنجليزية رجل وسيدة، فقال لي الرجل: ما اسم السيدة التي تخيط ملابسك؟ ولم أتذكر كلمة خياطة في ذلك الوقت، وأردت أن أشغله بإجابة أخرى حتى أتذكر الكلمة، فقلت له: إني أنا التي أخيط ملابسي. قال: وماذا نسميك إذن؟ قلت: وهل تستطيع أن تسميني إلا تلميذة سواء في ذلك أأخطت ملابسي أم لم أخطها؟ قال: افرضي أنك ترسلين ملابسك لسيدة لخياطتها فما اسمها؟ قلت: إن هذا الفرض يحتاج إلى المال الذي ليس معي شيء منه؛ ولهذا لا أستطيع أن أفرضه. واغتاظت السيدة من تلاعبي هذا، وقالت لي بحدة: إنها هي ترسل ملابسها إلى سيدة لخياطتها، فما اسم هذه السيدة؟ وهنا تذكرت الكلمة فضحكت ضحكة الظافر، وقلتها لها، على أن كلام السيدة كان فيه ما ذكرني بالكلمة المطلوبة، وأراد الرجل أن يداعبني، أو يضايقني بعض الشيء فقال: أتحسنين الغناء؟ قلت: كلا. قال: هل تعرفين الرقص؟ قلت: لا. قال: فهل تلعبين على البيانو؟ وساءني أن تكون إجابتي كلها بالنفي، وهي كلمة لا تدل على مقدرة الطالبة في اللغة الإنجليزية فقلت له: لا تسألني هذه الأسئلة، فإني لم أخلق لمثل هذه الحياة. قال: فبماذا تتسلين إذن؟ قلت: أحل بعض المسائل الحسابية. فضحك الرجل، وقال: مخلوق عجيب!
وفي اليوم التالي كان امتحان الحساب، وكان فيه مسألة عقلية صعبة لم تحلها تلميذة واحدة في اللجنة، فجاءني المفتش، وكان مراقبا في الحساب، وطلب مني أن أريه نتيجة تلك المسألة، فلما رآها قال: صدقت فيما قلته أمس من حبك للحساب.
نزق الشباب
كان بقسم المعلمات كما قدمت 14 طالبة، ولم يكن في مصر قاطبة من نال الشهادة الابتدائية إلا هؤلاء الطالبات الأربع عشرة، وكانت الضابطات اللائي يقمن بمباشرة نظام المدرسة لم ينلن شهادات، فكانت الطالبات يتكبرن عليهن؛ لأنهن يعتقدن أنهن أعلم من ضابطاتهن، وأن بأيديهن برهانا قاطعا على صدق هذا الرأي ألا وهو الشهادة الابتدائية التي لم ينلها أحد غيرهن.
وحدث أن عاقبت إحدى الضابطات طالبة من هؤلاء الفطاحل، فقام قسم المعلمات لذلك وقعد وأرغى وأزبد، وشمخ بأنفه واستكبر، وقر رأي الطالبات جميعهن على الاحتجاج على ذلك العمل الذي لا يليق بكرامة فتاة نالت الشهادة الابتدائية، وكانت السيدة آسيا عبد الفتاح، أو صاحبة العصمة حرم محمد بك حمدي مرتضى أولى السنة الثالثة؛ أي أولى قسم المعلمات فكتبت احتجاجا، وطلبت من جميع الطالبات إمضاءه والذهاب معها إلى الناظرة لتقديم ذلك الاحتجاج، وكنت أنا في السنة الأولى من قسم المعلمات، ولكني سخرت من ذلك العمل، ورفضت أن أنضم إليهن في مثل هذا الاحتجاج السخيف، وقلت إنه لا بد للمدرسة من ضابطات يحافظن على النظام، وما دام ليس في مصر من يحمل الابتدائية فلا بد من وجود ضابطات لا يحملنها، ولا بد من وجوب احترامهن ليستطعن القيام بعملهن، وعارضتني الطالبات في آرائي هذه، وقلن إنهن لا يحتجن إلى من يشرف على نظامهن؛ لأنهن حاصلات على الشهادة، ولأن المشرفات جاهلات، وصممت على رأيي، وأخيرا ذهبت الطالبات إلى السيدة ملك حفني، وشكون إليها عصياني، وعدم تضامني معهن في احتجاجهن فطلبت مني أن لا أخالف الإجماع، وأن أنزل على رأي الأكثرية من زميلاتي، فقلت لها: إني أقبل ذلك على شرط أن يتعهد هؤلاء الزميلات بالوقوف في وجه الناظرة إن هي غضبت من ذلك الاحتجاج، وعاقبتنا جميعا. فقبلت هذا الشرط، وتعهدت الطالبات بأنهن يتركن المدرسة إن أوقعت الناظرة بهن عقابا لهذا الاحتجاج.
وهكذا ذهبنا جميعا نقدم الاحتجاج إلى حضرة الناظرة، وكان اسمها مس جون ستون، أو «حنا حجر» كما كنا نترجمه، وما كاد يقع نظرها علينا حتى غضبت، وأمرتنا بالانصراف فانصرفنا، واستدعت الأولى، وهي السيدة آسيا عبد الفتاح، وأخبرتها أننا جميعا معاقبات، وأنه يجب علينا أن نلزم حجرة النوم من الساعة الرابعة بعد الظهر، وأن تكتب كل منا الجملة الآتية، وتعلقها على سريرها، وهي «يجب على الطالبات إطاعة الضابطات»، وجاءتنا السيدة آسيا بالورق والدواة تطلب منا الكتابة، وتبلغنا العقاب، وثارت ثائرتي، ورفضت أن أكتب، وطلبت من السيدة ملك حفني أن تبر بوعدها لي، فأرغمت الطالبات على مخالفة ذلك الأمر والذهاب إلى الناظرة للاحتجاج عليه، وارتدت كل منا ملابسها، وذهبنا إلى الناظرة لنخبرها بأننا لا نستطيع تنفيذ هذا العقاب، وأننا مصممات على ترك المدرسة إذا هي صممت على عقابها هذا.
دخلنا مكتب الناظرة فاستقبلتنا بشدتها، وسألتنا ماذا نريد؟ فلم يستطع أحد أن يجيبها، وكررت السؤال مرارا، وقابلنا ذلك السؤال بالصمت مرارا أيضا، وخشيت أنا أن تأمرنا بالخروج، وتضاعف لنا العقاب فقلت لها: لقد جئنا نخبرك أننا لا نستحق هذا العقاب؛ لأننا لم نفعل شيئا، وإن كنا قد احتججنا على عقاب زميلة لنا، فما كان يستوجب ذلك عقابنا، بل كان عليك أن تشرحي لنا أننا مخطئات، وأن للضابطات حق عقاب تلك الزميلة، ولو أنك فعلت هذا لخرجنا من عندك راضيات، أما الآن فنحن لا نقبل البقاء في مدرسة نعاقب فيها بلا ذنب، ولا جريرة. وساء الناظرة أن أتكلم أنا مع أني من السنة الأولى، وما كان لمثلي أن يتكلم، ومعه طالبات السنة الثالثة اللائي هن أحق مني بالكلام؛ ولهذا ظنت أني أنا التي دفعت الطالبات إلى هذا الاحتجاج، وأرادت أن تنهي المسألة فقالت: وإذا عفوت عنكن، فهل تعدنني أنكن لا تعدن إلى مثل هذا الطيش؟ قلت: لك ذلك. قالت: لا بأس! فاذهبن إلى شأنكن.
تحملت الناظرة مني منذ ذلك اليوم، وأرادت أن تنتقم مني منفردة، وبعد ذلك الحادث بأسبوع مرضت معلمة الجغرافية، فحلت محلها الناظرة في إعطائنا حصة الجغرافية فدخلت الفصل، وأمرتنا بإخراج الأطالس وكتب الجغرافية، وكنت أنا آخر من أخرجت كتابها، فقالت لي بلهجة التأنيب: أبشرك بأنك سترسبين في آخر العام. فقلت: وأنا أؤكد لك أن هذه البشرى غير صحيحة، ومحال أن أرسب، وأنا أولى هذه الفرقة. قالت: أتعارضينني فيما أقول؟ قلت: ولم لا؟ وهل من المنطق أن أرسب أنا! لا لسبب سوى أني تأخرت ثانية أو ثانيتين في إخراج كتابي؟ قالت: أرجوك أن تتركي الفصل الآن، وتذهبي إلى عنبر نومك، وأن لا تعودي إلى الفصل إلا إذا اعتذرت إلي. فتركت الفصل غاضبة وذهبت إلى عنبر النوم وبقيت به يومين دون أن أعتذر إليها، وكنت أقضي كل وقتي في المطالعة، ويئست هي من اعتذاري، وجاءتني في عنبر النوم متظاهرة أنها نسيت وجودي فيه، وأظهرت دهشتها عند رؤيتي، ثم سلمت علي فقمت لها، وسلمت عليها، وجلست على السرير، وأمرتني بالجلوس إلى جانبها، وقالت: لم لم تعتذري إلي الآن؟ قلت: لم أفعل ما يوجب الاعتذار، فإني على يقين أني لن أرسب، وهذا ما قلته لك فهل في ذلك من بأس؟ وهل تمنع الفتاة من أن تقول ما تعتقد ما دام ليس فيه ما يضر بغيرها؟ قالت: لقد صدقت، وإني أعتبر ذلك منك اعتذارا، فهيا إلى فصلك. وسرت معها، وهي ممسكة بيدي إلى أن وصلنا إلى باب الفصل فدخلته.
وقد ترك هذا الحادث وسابقه في نفسها أثرا عظيما، وأرادت أن تنتقم مني، فكتبت إلى الوزارة تقريرا تقول فيه إن نبوية موسى متأخرة جدا خصوصا في اللغتين العربية والإنجليزية والحساب، أما اللغة الإنجليزية فقد كنت متأخرة فيها، ولكني لا أدري لم اختارت هاتين المادتين اللتين اشتهرت أنا بالتفوق فيهما، ولعلها أرادت بذلك أن تترك في نفس المفتشين أني ضعيفة في اللغتين، فإذا خجلت، أو تلعثمت في إحداهما وقت الامتحان الشفوي كان ذلك باعثا لهم إلى عدم إنجاحي في الامتحان الشفوي.
وكان مكتب الناظرة في الفناء، وشاء الحظ أن أعثر على ورقة تطير في الفناء بقرب باب الناظرة، وإذا بها مسودة ذلك التقرير، وقد دهشت عند قراءتها، وكاد اليأس يقضي علي لولا أني اعتزمت المثابرة والجد، وضاعفت جهودي في اللغة الإنجليزية لأكذب ما ادعته في تقريرها؛ فاجتهدت في ذلك العام اجتهادا لم أقم به من قبل، وأجرت هي امتحان ثلاثة الشهور الأولى فكنت الأولى، وساءها ذلك فجاءت تؤنب الفصل جميعه، وتقول إن هذا الفصل أبلد فصل في المدرسة مع العلم أن فصل السنة الأولى كما قدمت كان هو الفصل الوحيد الذي لم يرسب منه أحد؛ إذ نجح في امتحان الدبلوم من السنة الثالثة طالبتان من أربع، ومن السنة الثانية طالبتان من خمس، أما من فصل السنة الأولى فقد تخرج منه أربع معلمات من خمس طالبات، أو بعبارة أخرى من أربع طالبات؛ لأن الطالبة الخامسة، وهي من المتقدمات لم ترسب، ولكنها تركت المدرسة، ومع هذا فقد زعمت الناظرة أن فصل السنة الأولى هو أبلد الفصول الثلاثة بدليل أن الأولى فيه لم تتغير مع أن الأولى في باقي الفصول تتغير من امتحان لآخر، وكانت تريد بذلك الكلام دفع زميلاتي إلى العمل حتى لا أكون أنا الأولى في امتحان ثلاثة الشهور الثانية.
وفي امتحان ثلاثة الشهور الثانية أرادت أن تزحزحني عن مكاني، وعلمت أنها لا تستطيع شيئا في تغيير الدرجات التحريرية، فعمدت إلى الامتحان العملي للتربية؛ أي فن التعليم فحضرته بنفسها، ووضعت هي الدرجات فأعطتني 40 درجة من 100، وأعطت لكل من زميلاتي فوق التسعين، وبهذا اعتقدت أن هذا الفرق العظيم في درجات التربية العملية سينزل بي عن مكانتي، ودفعني اضطهادها هذا إلى مضاعفة جهودي في الامتحان التحريري، وظهرت النتيجة، وجاءت لتقرأها علينا، وقبل أن تبتدئ في القراءة قالت: إني آسفة أشد الأسف. فكملت لها جملتها بسرعة قائلة: لأن نبوية موسى لا تزال الأولى. فنظرت إلي، وقالت: نعم هو ذلك ما آسف له، وما أوبخ زميلاتك عليه؛ لأنهن لو اجتهدن لما استطعت أنت المحافظة على مكانتك في كل امتحان.
دخلنا امتحان النقل بعد هذا، وقد قام به المفتشون، وكنت أولى فرقتي، وأرسلت الوزارة تقريرا إلى المدرسة تقول فيه: لقد برهنت الطالبة نبوية موسى على أنها أولى قسم المعلمات جميعه في أغلب المواد خصوصا في اللغتين العربية والإنجليزية والحساب، وكان هذا ردا خالصا على تقرير الناظرة.
عزة النفس تنقلب جبنا
ذكرت في ذكرياتي السابقة كيف كانت مظاهرة الطالبات ضد الضابطة التي عاقبت إحداهن سببا في خلق عداء بيني وبين الناظرة لم يكن لي ذنب فيه، وكأن هذا الدرس لم يفدني كثيرا، فلم ألبث أن وقعت في خطأ غيره.
اعتاد معلم اللغة العربية أن يتركنا واقفات عند بدء حصته، فلا يأمرنا بالجلوس إلا بعد خمس دقائق أو ست، وفي أثناء ذلك يكون هو مشغولا بالكتابة في كراسة تحضيره، ويظهر لي أن الرجل لم يكن يعد درسه في كراسة التحضير قبل دخوله الفصل، فهو يتركنا واقفات إلى أن ينتهي من إعداد درسه حتى إذا دخلت الناظرة عليه لا تلاحظ أننا جالسات، بينما يكتب هو مذكرة الدرس أمامنا.
ساء ذلك زميلاتي؛ لأنهن اعتبرنه إهانة لا مبرر لها خصوصا لطالبات حصلن على الشهادة الابتدائية في الوقت الذي كانت فيه تلك الشهادة في نظر الناس أعلى من الدبلومات.
ساءهن ذلك، وشكون إلي أمرهن، وطلبن مني أن أكلم المعلم في ذلك؛ لأنهن لا يستطعن أن يعاتبنه خشية أن يثور عليهن، أما أنا فلي عنده مكانة خاصة أستطيع معها عتابه، هذا ما قالته زميلاتي، وإن كنت أنا شخصيا لم أقرهن عليه، كما أني لم أكن متألمة من وقوفي 5 دقائق، ولكنهن ألححن علي في الطلب، فقبلت منهن ذلك، وقلت لهن سآمركن بالجلوس عند دخوله فأطعنني، وإذا أمركن بالوقوف، فإياكن أن تفعلن ذلك.
دخلنا الفصل على هذا الاتفاق، ودخل المعلم فقمنا له، ثم جلس ليكتب في كراسة تحضيره حسب عادته، فأمرت أنا زميلاتي بالجلوس بصوت مسموع وجلست معهن، وتنبه هو لذلك فغضب، وأمرنا في حدة بالوقوف، فوقفت الطالبات وبقيت أنا جالسة، فأمرهن بالجلوس وأمرني بالوقوف فلم أقف، وقلت: إني لم أفعل ما يستحق العقاب، وإن الطالبات لم يكن معاقبات، وليس للمعلم أن يعاقب الطالبات بلا ذنب ولا جريرة؛ ولهذا اعتبرت أن مجرد انشغاله بالكتابة هو الذي منعه من أن يأمرهن بالجلوس، وبما أني أولى هذه الفرقة فقد رأيت من واجبي أن آمر التلميذات بالجلوس بالنيابة عنه، فلا داعي إذن للغضب مما فعلت؛ ولهذا لا أرى معنى لعقابي بالوقوف.
غضب المعلم لذلك، ولكنه كظم غيظه وسكت، وتجنبني بعد ذلك فلم يكلمني إطلاقا، ولم يسألني، ولم يكن ذلك مما يغضبني، بل كنت أسر من أن أستمع إلى المعلم، وهو يناقش الطالبات دون أن أدخل أنا في ذلك النقاش.
لهذا مضى علي بعض الوقت دون أن يكلمني، ودون أن أتألم من ذلك الحرمان، وكانت زميلتي عائشة صبحي تجلس إلى جانبي، وكانت مؤدبة خجولة على جانب عظيم من الآداب الشرقية شديدة الحياء مع ذكائها، وتوقد قريحتها، فكان إذا سألها نظر إليها، فتخجلها نظراته إلى حد يجعلها ترتبك فتردد الكلمة «يا أختي» في شيء من الحيرة والتردد، وزاد ذلك منها مرة إلى حد ضايقني، فقلت لها: ما هذا هل تريدين أن نحفظ منك هذه الكلمة؟! أرجوك إذا كنت تعرفين الجواب أن تدلي به وإلا فاجلسي.
وهنا قال المعلم لعائشة: أرأيت أنك لم تعجبي نبوية؟ وساءني ذلك منه فقلت له: كلا إني راضية عنها كل الرضاء، وأنت الذي لا تعجبني لا هي. وساءه ذلك، ولكنه لم يستطع أن يعمل شيئا، واشتد الجفاء بيني وبينه، وسأل زميلتي في يوم آخر عن وزن الفعل آثر، وارتبكت كعادتها، فهمست إليها قائلة إنه على وزن أفعل، وقالت هي الكلمة بعدي، فقال لها المعلم في شيء من الغضب: لقد كذبت أنت، ومن قالت لك هذا. فقلت له: وهل إذا كان ما قلته خطأ يعد ذلك كذبا أم مجرد خطأ؟ قال: إن الكذب أن يقول الإنسان ما ليس بصحيح، فهو كذب. قلت: كلا إن الكذب أن يقول الإنسان شيئا غير صحيح، وهو يعلم عدم صحته، أما إذا كان لا يعلم ذلك فهو مخطئ. وأصر المعلم على رأيه فقلت له: وهل إذا اتضح أن هذا الفعل ليس على وزن فاعل، كما تعتقد حضرتك يكون ذلك كذبا من جانبك؟ قال: نعم. قلت: إذن هو ليس على وزن فاعل بدليل أن مضارعه يؤثر، وقد جاء في القرآن
بل تؤثرون الحياة الدنيا ، ولو أن ذلك الفعل على وزن فاعل لكان مضارعه يؤاثر، فخجل المعلم، ولم يستطع جوابا.
وتصادف أن زارنا في تلك المدة الشيخ حمزة فتح الله، وقرأ موضوعا إنشائيا لإحدى زميلاتي فوجد فيه كلمة «كون» بدلا من كان، فأخذ يعنف الزميلة، ويسألها من أين أتت بذلك الفعل «كون»، وأخيرا تدخلت في الموضوع أنا وقلت له جاءت به من كلام معلمنا، فهو لا يزال طول الوقت يقول لنا إن «كان» أصلها «كون»، ولا بأس أن تذكر هي الأصل وتترك الفرع ما دام المعلم لم يعلمنا شيئا غير هذا، فضحك الشيخ حمزة فتح الله، وخجل المعلم، ورأى أن خصامه لي لا ينجم عنه إلا تلك المواقف الحرجة التي يقفها من وقت إلى آخر، فأراد أن يصالحني، وكان بالمدرسة معلم آخر هو الشيخ أحمد إبراهيم بك، وكيل مدرسة الحقوق الآن، وكنت أحترمه لفضله ووقاره، فطلب منه أن يصالحني ففعل، وانتهت تلك المشكلة التي أوقعني فيها غدر زميلاتي وخروجهن عن العهود التي اتفقن عليها معي، ومن بعد هذه الحادثة لم أتفق معهن على شيء مهما طلبن مني ذلك.
وعلى ذكر الشيخ أحمد إبراهيم بك أقول إني كنت أحترمه احتراما يدفعني إلى طاعته مهما كانت الظروف، وقد درس لنا اللغة العربية في السنتين الثانية والثالثة، فتصادف يوما أن أعطانا موضوعا إنشائيا على فوائد الصوم، وقال لنا: إن من فوائده تحسين الصحة. فعارضته أنا في ذلك، وقلت: إني أومن بكل فوائده الأدبية والدينية، أما أن نصوم لتصح أجسامنا، فهو ما لا أستطيع أن أومن به؛ لأن الغربيين - وهم قوم مسيحيون - لا يصومون رمضان، ومع ذلك فهم أصح أجساما منا، ولو أن الصيام كان للصحة لجاز لنا أن نمتنع عن الطعام في أوقات معقولة؛ أي نأكل في الصباح، ثم في المساء، أما أن نمتنع عن الأكل النهار كله مهما طال ولا نأكل إلا في الليل فأمر لا أظنه يفيد الصحة في شيء، وأصر الأستاذ على رأيه، وأصررت أنا على رأيي، وضايقه ذلك مني لأمرين؛ أولهما: أنه كان رجلا فاضلا يريد أن يغرس في نفوس طالباته أصول الدين وفضائله، وثانيهما: أن المدرسة كانت لا تسمح لنا بتلقي الدرس على أستاذ إلا بحضور مشرفة، وكانت تلك المشرفة أجنبية، وظن الأستاذ أنها تفهم اللغة العربية، فساءه أن تسمع مني أن المسيحيين أصح منا أجساما، وأن صيام رمضان قد يؤثر في صحتنا فغضب، وقال لي: ألكلمة يقولها أجنبي تزعزع عقيدتك في دينك؟ ورأيت أن الرجل على حق في شدة ميله إلى تهذيب طالباته، فلم يغضبني غضبه، بل اجتهدت في إرضائه، وإن كنت لم أغير رأيي فيما ذهبت إليه من عدم فائدة الصوم الصحية، وأخيرا اصطلحنا، وأظنه لا يزال يذكر تلك الحادثة إلى الآن، على أن الأمر الذي أغضبه، وهو تخيله أن تلك المشرفة كانت تفهم ما نقول كان غير صحيح؛ لأنها كانت سيدة يونانية لا تعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، وكان جلوسها معنا لا قيمة له من الوجهة الأدبية الصحيحة؛ إذ كان يستطيع المعلم أن يقول لنا ما يشاء، وأن نجيبه نحن بما نشاء دون أن تفهم تلك المشرفة شيئا مما نقول، فوجودها كان كالعدم خصوصا وأنها كانت تتسلى أثناء وجودها معنا بالتطريز؛ فكانت تنهمك فيه انهماكا يمنعها أن ترى شيئا مما نفعل، فكانت تلك المشرفة تجلس معنا كحجر أصم لا تسمع ولا ترى، وكان جلوسها لا فائدة منه إلا أنه كان يغضب ذلك الأستاذ الفاضل ويؤلمه أشد الإيلام؛ لأنه كان يعتبر ذلك عدم ثقة به، وقد كان - وهو الحريص على الأخلاق والآداب في كل حركاته وسكناته، وفي كل كلمة تخرج من فمه - مثال النزاهة والكمال في كل شيء، ولم يكن بالطبع يحتاج إلى إشراف أحد عليه.
الغش في الامتحانات
كنت أكره الغش في الامتحانات فلم أحاوله، ولم أساعد طالبة أخرى عليه مهما كانت الظروف، وكانت الامتحانات في المدرسة السنية تعمل في صالة متسعة جدا يجلس فيها طالبات قسم المعلمات وتلميذات القسم الابتدائي، فكانوا يرتبون تلميذة من قسم المعلمات، وعلى يمينها تلميذة من السنة الأولى الابتدائية، وعلى يسارها أخرى من السنة الثالثة الابتدائية، وأمامها إحدى تلميذات السنة الثانية الابتدائية مثلا، وخلفها تلميذة من السنة الرابعة الابتدائية، وهكذا، فكانت طالبات قسم المعلمات يساعدن تلميذات القسم الابتدائي إذا هن طلبن المساعدة، أما أنا فلم أكن أساعد واحدة منهن إطلاقا؛ فكانت التلميذة التي يقضي عليها سوء الحظ بأن تجلس إلى جانبي تخرج أول يوم ساخطة متذمرة تشكو حالها لكل من يصادفها قائلة: أمري إلى الله في هذا الامتحان، فقد جلست إلى جانب أبلة نبوية.
كنت كما قدمت أكره الغش، وكنا نتلقى الحساب على معلمة إنجليزية لم تكن تشرح لنا المسائل، بل كان يبدو لي أنها هي نفسها لا تفهمها، فكانت تكتب المسألة على السبورة، ثم تطلب منا حلها، فإذا عجزت الطالبات عن ذلك قامت هي بكتابة الحل على السبورة دون شرح أو مناقشة، فتنقله الطالبات حرفا بحرف دون أن يفهمن منه شيئا، ومن الغريب أنها لم تكن تختار إلا المسائل العقلية الصعبة جدا، وعلى ذلك لم تستفد الطالبات منها شيئا في ذلك العام.
واعتادت المعلمة أن تعطينا يوم السبت من كل أسبوع 10 مسائل في كراسة خاصة تحوي حوالي 96 صفحة لنحلها كواجب منزلي، ثم تأخذ منا هذه الكراسة يوم الخميس، وتردها إلينا مصححة يوم السبت، وهكذا.
ولما كانت الطالبات لا يفهمن في تلك المادة شيئا، وكنت أنا ميالة إلى ذلك النوع من المسائل؛ فقد كن ينتظرن حتى أنتهي أنا من حلها، ثم ينقلن ذلك الحل مني دون أن يعرفن عنه شيئا، وكنت في العادة أنتهي من حل تلك المسائل في مساء السبت نفسه لشدة ميلي إليها، فكان لديهن من الوقت ما يكفي لنقلها على مهل.
كانت زميلتي السيدة عائشة صبحي قد تركت المدرسة السنية في نهاية السنة الثانية، ونقلنا إلى السنة الثالثة، ولم تكن هي معي فضايقني ذلك؛ لأني كنت أتنافس معها لذكائها واجتهادها، فلما خرجت لم أعد أجد في بقية الزميلات من أهتم بمنافستها، فشعرت بشيء من الملل والسآمة، ونظرت إلى زميلاتي في شيء من السخرية، وأردت أن أنصحهن حتى يمتنعن عن نقل الحساب، فقلت لهن إني مستعدة أن أشرح لهن تلك المسائل حتى يستطعن حلها فيستفدن بدلا من أن ينقشنها دون فهم أو معرفة. ساء زميلاتي ذلك القول مني، وشعرن بسخريتي بهن فثرن علي، وقلن إنهن لا ينقلن مني، وإني مغرورة بنفسي، وهذا ما يدفعني إلى اتهامهن بذلك، قلت: حسنا! فسأحل هذه المسائل، وإني أحذركن أن تمسها إحداكن وإلا فعلت بكن ما لا تحمد عقباه. فقلن: ستعلمين أننا لا ننقل منك شيئا، وعليك إن ضبطت إحدانا متلبسة بجريمتها أن تفعلي بها ما تريدين.
أردت أن أوقعهن في شرك لا يستطعن التخلص منه، وأن أسجل عليهن الغش بطريقة عملية صحيحة، فحللت المسائل بشكل غريب مدهش لا يتصوره عقل؛ إذ كنت أنظر في المسألة دون أن أقرأها، ثم أضرب أي عدد وقع نظري عليه في عدد آخر أي أضع بينهما علامة الضرب، وأضع حاصل ضرب من خيالي، وقد يكون أصغر من أحد العددين، أو أقسم عددا على الآخر، فيكون خارج القسمة أكبر من المقسوم نفسه، وهكذا وضعت في تلك الحلول من التخريف والسخف ما لا يقره عقل، وبعد أن انتهيت من ذلك، وضعت الكراسة في قمطر كان معدا لذلك في نهاية الفصل، وحذرت زميلاتي من أن يمسسن الكراس، وتغافلت في الأيام التالية، وكنت أخرج من الفصل كثيرا وقت المذاكرة لأعطيهن فرصة الغش، وما جاء يوم الأربعاء إلا وقد نقل جميعهن تلك الحلول الجنونية السخيفة، وفي مساء الأربعاء أخذت الكراسة ، وانتزعت منها الأوراق التي كتبت فيها تلك الحلول، وحللت المسائل حلا صحيحا مقبولا، وحرصت أن لا أترك الكراسة في الفصل بعد هذا حتى أضطر من لم تكن نقلت في الماضي أن تنقل من كراسة زميلة أخرى سبقتها إلى ذلك النقل، وفي يوم الخميس سلمنا الكراسات إلى المعلمة.
دخلت المعلمة الفصل يوم السبت عابسة مضطربة؛ لأنها غضبت من تلك الحلول التي لا يبررها عقل، وعجبت كيف تتفق عليها جميع الطالبات مع بعدها عن المعقول، دخلت عابسة ونظرت إلينا في حدة وقد وقفنا لتحيتها، فلم تحينا بل أشارت إلي بالجلوس، وأمرت باقي الزميلات بالاستمرار في الوقوف، وأخذت تسألهن عن معنى هذا السخف الذي اتفقن عليه في كراساتهن، ودهشت الزميلات لجلوسي، وتعجبن كيف لا تلومني مثلهن، وقد نقلن ذلك السخف الذي تسميه المعلمة من كراستي، فكان المنظر مضحكا غريبا؛ إذ تسألهن المعلمة فلا يجبنها، بل ينظرن إلي ويقلن لي باللغة العربية ما معنى هذا، وقد نقلنا ذلك الحل من كراستك أنت؟ قلت: كيف ذلك وقد ادعيتن أنكن لا تنقلن مني؟ زاد غضب المعلمة، وعجبت كيف لا يجيبها أحد، وكيف ينصرفن عنها إلي؟ وكلما سألتهن كلمنني باللغة العربية، كانت هي في واد والطالبات في واد آخر، فلم ينظرن إليها ولم يعبأن بغضبها، بل كان كل اهتمامهن أن يطلبن مني شرح ذلك اللغز، وأخيرا سألتني المعلمة عن السبب في التفاتهن إلي وتكلمهن معي، فشرحت لها القصة، فعاقبت جميع الزميلات، ولعل القارئ يظن أن كلمة جميع هذه تدل حقيقة على جمع مع أنها لا تفيد إلا ثلاث طالبات؛ لأنه لم يكن بفصلنا إلا أربع طالبات فقط، وأنا رابعتهن - ليس ذلك من سورة الكهف.
كانت معلمة الحساب تعلمنا دروس التربية العلمية والعملية، كان علينا في ذلك اليوم أن نلقي دروسا في الحساب على طالبات القسم الابتدائي، وكانت هي تنتقدنا في إلقاء تلك الدروس كلما تمت دروسنا، وجئنا لنسمع الانتقاد، قالت: من الغريب أن أخلاق المعلمة تؤثر دائما على طالباتها، وقد مررت عليكن أثناء الدرس اليوم فوجدت أن كل التلميذات يغششن في الحساب إلا تلميذات نبوية، وهي الطالبة الوحيدة التي لم تغش، وهكذا تأثرت تلميذاتها بها.
دروس التربية العملية
كنا نتعلم التربية العلمية والعملية على معلمة إنجليزية؛ فكانت تشرف حتى على دروسنا باللغة العربية، وكنا نحضر تلك الدروس باللغة الإنجليزية نفسها؛ فكنا إذا أردنا أن نلقي درسا على «كان وأخواتها» مثلا كتبنا
Can & sisters
هكذا كنا نترجم الاصطلاحات اللغوية ترجمة حرفية مضحكة، وكانت المعلمة في الغالب لا تقدر الدرس إلا بما تراه من نشاط التلميذات وطاعتهن لأوامرنا؛ ولهذا كانت زميلاتي إذا أردن إلقاء درس في فصل من الفصول أطلعن تلميذات ذلك الفصل على الدرس المراد إلقاؤه، واتفقن معهن على كيفية الإجابة، ورجونهن أن يتظاهرن في مبدأ الدرس بعدم الفهم حتى إذا شرحته لهن المعلمة تظاهرن بفهمه.
أما أنا فقد كنت أعد ذلك الاتفاق غشا وتدليسا لا يجوز لطالبة تتدرب على طرق التعليم؛ أي تعد نفسها أن تكون معلمة أن تأتيه؛ ولهذا لم أكن أطلع تلميذات المدرسة الابتدائية على أي درس أريد إلقاءه عليهن.
وقد أغضبت تلك الخطة تلميذات المدرسة الابتدائية خصوصا السنة الرابعة، وقد كان الفرق بيننا وبينهن في العمر لا يتجاوز السنتين أو الثلاث على الأكثر؛ فكن يعتبرن خروجي عن المألوف مع زميلاتي تكبرا عليهن، فيقابلنه بكل عناد وعداء، ومع هذا فقد كنت أستطيع حفظ النظام في التدريس أكثر مما تستطيعه زميلاتي.
كان الضرب ممنوعا؛ ولهذا كنت إذا تغيظت من تلميذة في فصلي أضغط على ذراعها ضغطا يؤلمها، وبينما كنت واقفة في طابور الساعة العاشرة، وكان علي في ذلك الوقت أن ألقي درس حساب على السنة الثالثة الابتدائية ...
بينما كنت واقفة في ذلك الطابور، وإذا بي أسمع ضجة في طابور السنة الثالثة الابتدائية، وأراهن يطلبن دبابيس صغيرة من زميلاتهن في الفصول الأخرى، فكانت الواحدة منهن تقول لغيرها: أعطني دبوسا صغيرا أرده إليك بعد درس أبلتي نبوية موسى.
ولفتني هذا إلى أن هناك مؤامرة بين تلميذات السنة الثالثة تدبر لدرسي، فوجهت عنايتي لأقف على مدى تلك المؤامرة، وأخيرا عرفت أن التلميذات يضعن في أكمام ملابسهن فوق العضد تلك الدبابيس حتى إذا ضغطت على ذراع إحداهن بيدي في الدرس دخلت الدبابيس فيها، وتعجبت من ذلك السخف؛ لأن الدبابيس في تلك الحالة قد تدخل في العضد لا في يدي أنا، وعرفت التلميذات اللائي فعلن ذلك بالذات، وكن لا يتجاوزن الخمس، فلما دخلت الدرس ناديتهن وعرفتهن خطأ ما ذهبن إليه، وكيف أن تلك الدبابيس قد تفتك بعضلات عضدهن أكثر مما تفتك بعضلات كفي، وهددتهن بالعقاب إذا هن عدن إلى مثل هذا العمل الطائش، فخجلن ونزعن الدبابيس من ملابسهن.
وجاء امتحان آخر السنة، وكنت قد اخترت درسا في اللغة العربية للسنة الرابعة، وأرادت التلميذات أن ينتقمن مني فتوصلن إلى سرقة مذكرة درسي بمساعدة إحدى زميلاتي، وكنت قد أعددت الدرس إعدادا طيبا باللغة العربية، فأعددت بعض الأسئلة التي كنت أظن أن تجيب بها التلميذات، ولما دخلت الدرس أمام المفتش الممتحن - وكان المرحوم الشيخ شريف - كانت التلميذات تجيبني على أسئلتي بنفس الإجابات المكتوبة في مذكرة التحضير، وعلى حسب ترتيبها في تلك المذكرة.
وساءني ذلك لأنه يدل في ظاهره على أني أطلعت التلميذات على درسي قبل إلقائه فخجلت وتوقفت عن التدريس برهة، فقال لي الشيخ شريف: ما الذي يمنعك عن إلقاء الدرس، وأنت كما نعلم قوية في اللغة العربية؟ قلت: يلوح لي أن التلميذات يعرفن درسي من قبل. قال: لا غرابة في ذلك فنحن في آخر العام، وقد ذاكرت التلميذات جميع الدروس استعدادا للامتحان. قلت: ولكنهن يعرفن الأجوبة التي حضرتها في مذكرة درسي بالذات. قال: وهل يضيرك ذلك؟ قلت: نعم؛ لأنه يظهر لي أنهن اطلعن على تلك المذكرة بحيلة شيطانية. قال: لا بأس، فاستمري في درسك. وأتممت الدرس، وأنا في أشد ما يكون من الألم.
أردت السنة التالية أن أحتاط، فلا يعلم بدرسي أحد، فأخفيت مذكرة الدرس الذي كنت مكلفة إلقاءه في امتحان النقل، وكان درسا على الفرق بين الحجم والوزن في السنة الرابعة، وهو درس يحتاج إلى حسن إلقاء، وحسن استنتاج، وقد علمت أن التلميذات سيتعنتن معي ويتظاهرن بعدم الفهم مهما شرحت، أو يكابرن فيما أريد شرحه، وقد حصل ما توقعته، فكلما عرضت شيئا على الفصل لأستنتج منه أن الحجم يمكن معرفته بالنظر، أما الوزن فلا بد من حمل الشيء حتى يستطيع الإنسان معرفة وزنه، كن يكابرن ويقلن إنهن يعرفن وزن الشيء بالعين، فإذا عرضت عليهن قطعة من الخشب كبيرة الحجم، وأخرى من الحديد تصغر عنها كثيرا، وسألتهن عن أيهما أثقل من الأخرى أجبنني أن قطعة الحديد أثقل، وإذا أردت أن أستنتج منهن أنهن عرفن ذلك الثقل أو الوزن؛ لأنهن سبق أن حملن الحديد والخشب، وعرفن وزن كل منهما، أنكرن ذلك علي، وقلن إنهن يعرفن وزن الأشياء بمجرد النظر، وهذا ما كنت قد توقعته من قبل، وأخيرا أخرجت لهن بيضتين إحداهما تكبر عن الأخرى قليلا، ولكن العين تستطيع معرفة حجم الكبيرة منهما، وسألتهن أي البيضتين أثقل وزنا من الأخرى، وظنت التلميذات أني ظننت أنهن لا يفرقن بين حجم البيضتين، فأشرن إلى البيضة التي كانت في يميني، وقلن إنها أثقل من الأخرى، قلت لهن أنتم تعلمن ذلك؛ لأن حجم البيضة التي في يميني أكبر من حجم الأخرى التي في يساري، فأنكرن علي ذلك، وقلن إن عيونهن تعرف الوزن، وبعد أن أكدت عليهن في أن يقلن صراحة أي البيضتين أثقل، وأجمع رأيهن على أن البيضة التي في اليمين أثقل من البيضة التي في اليسار، وضعت البيضتين في كفتي ميزان، وهنا دهش الجميع حتى المفتش؛ لأن البيضة الكبيرة ارتفعت وهبطت البيضة الصغيرة مما يدل على أنها أثقل منها.
واضطرت التلميذات في تلك الحالة أن تعترفن أن النظر لا يمكن أن يعرف الوزن، وأمرت إحداهن بحمل البيضتين، وهنا عرفت الخفيفة من الثقيلة بمجرد اليد، واتضح للجميع أني قد أفرغت ما في قلب البيضة الكبيرة بثقب صغير لم يره أحد، وهكذا استطعت أن آخذ درجة حسنة في إلقاء ذلك الدرس بالرغم من عناد التلميذات ومكابرتهن، ومن ذلك اليوم استطعت أن أحفظ النظام، وأخضع تلميذات السنة الرابعة دون أن أتفق معهن على درسي من قبل إلقائه كما كانت تفعل ذلك زميلاتي.
حبي الشديد للحرية
كنت أحب الحرية والاستقلال في العمل إلى حد جعلني أكره أن أقوم بالرياضة البدنية؛ لأني كنت مضطرة فيها أن أخضع لما يلقى علي من الأوامر دون فكر أو مناقشة؛ ولهذا كنت أسخر من تلك الأوامر، ولا أنتظم في اللعب مع باقي زميلاتي؛ فكنت آتي من الأعمال والأقوال ما يضحك جميع الزميلات فيضطرب النظام، وتضطر معلمة الرياضة البدنية إلى إخراجي من اللعب، وهذا كل ما كنت أتطلبه، وبتلك الحيل استطعت أن أفلت من تلقي دروس الرياضة البدنية حتى إذا اضطرتني المعلمة يوما إلى اللعب أجبرتها على إخراجي بشتى الوسائل، فإذا قالت الذراع اليمين رفع، رفعت يساري، وأنا أقول ليس في المسألة تكليف، وما دام الغرض هو تحريك الأعضاء فلا فرق عندي بين اليمين واليسار، وإذا قالت مسير على أطراف الأصابع، قلت كلا لا بد من البرطشة، وهكذا من الأعمال والألفاظ التي كانت تضحك جميع الطالبات فتضطر المعلمة إلى إخراجي من بينهن.
وكانت المدرسة السنية تصرف لنا الملابس والأحذية، ولما كانت قدمي صغيرتين بحيث لا تزيد عن قدمي طفلة في العاشرة من عمرها، فلم أكن أجد من الأحذية ما يلائمها، فكنت آخذ حذاء واسعا لا أستطيع معه المشي على أطراف أصابعي في الرياضة البدنية، وهو ما كنت أريده، وقد علمت الناظرة بمناوراتي في دروس الرياضة وتهكمي عليها، فحضرت بنفسها درس الرياضة البدنية لترغمني على اتباع الأوامر، ولما رفضت السير على أطراف أصابعي طلبت مني أن أطيع الأوامر، فقلت لها: إن حذائي لا يمكنني من ذلك لكبر حجمه. قالت: لا بد من الطاعة. قلت: إذن أنا لست بمسئولة عن نتائج تلك الطاعة. ورفعت إحدى قدمي، وضربت فردة حذاء بالأخرى، فطارت فردة الحذاء من رجلي حتى سقطت على صدر الناظرة تقريبا، وكانت لا تزال مزررة، وغضبت الناظرة، ولكنها لما شاهدت فردة الحذاء مزررة، وإنها مع ذلك خرجت من قدمي علمت أني كنت على حق في عدم إمكاني السير على أطراف أصابعي لسعة ذلك الحذاء، واضطرت الناظرة عندئذ أن تبرح المكان دون أن تقول لي شيئا، ولكنها فكرت بعد ذلك في الانتقام مني، فطلبت أن أقوم أمامها بإعطاء درس الرياضة البدنية لزميلاتي، ولما كنت لا أحضر دروس الرياضة البدنية، فقد كان من المستحيل أن أقوم بإعطاء ذلك الدرس؛ ولهذا وقفت متحيرة، وما كاد يقع نظر زميلاتي علي وأنا أحتل محل معلمة الرياضة البدنية حتى أرسلن ضحكاتهن العالية من كل جهة، بينما وقفت أنا صامتة لا أبدي حراكا، فطلبت مني الناظرة أن أبدأ الدرس، وشددت في الطلب، وكانت كلما طلبت ذلك علت ضحكات زميلاتي، وأخيرا قلت لهن إنهن معاقبات لضحكهن، وهنا أمرتهن بالوقوف بدون حركة، وقد زاد ذلك في ضحكهن، ولكن الناظرة شددت علي مع ذلك أن ألقي عليهن الدرس، وأردت أن أسخر بها وبهن، فقلت بصوت ثابت رزين: اليدان والرجلان رفع. واحد اثنين. وهنا لم تتمالك الناظرة، ومعلمة الرياضة البدنية من الضحك، وتبعها الطالبات فتركتني وتركتهن، وذهبت وهي تكاد تموت من كثرة الضحك، ومن ذلك اليوم تركتني وشأني.
وكانت ناظرة المدرسة تمنع الطالبات من شراء الفاكهة، وكان يعز علي ذلك كثيرا؛ لأن غذائي كان أكثره من الفاكهة، فكنت أجد صعوبة عظيمة في حرماني منها؛ لهذا كنت أشتريها رغم الأوامر الصادرة لجميع الخدم بعدم شراء الفاكهة للطالبات، فكنت أرشي الخدم لأحملهم على مخالفة أوامر الناظرة، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير بعد الساعة الرابعة، وقد وضعت في حجري عددا عظيما من البرتقال، أريد أن أضعه في دولابي بعد أن أخذته من الخادمة التي اشترته لي، وكان اسمها نبوية إذ فاجأتني الناظرة، وصرخت في وجهي قائلة: ما هذا؟ أفزعني صوتها، فسقط البرتقال من حجري، وانتشر على الأرض، ووقفت وسطه مندهشة، ونظرت إلي الناظرة في غضب، وأعادت قولها: ما هذا؟
عدت إلى صوابي، واستجمعت قواي، وقلت في ثبات وحزم: إنه برتقال كما ترين. قالت: وكيف خالفت أوامر المدرسة واشتريت الفاكهة؟ فقلت: لأنها أوامر تخالف المعقول، بل تخالف الواجب، فإن المدرسة يجب أن تحافظ على صحة الطالبات ، ولقد سمعتك أمس تقولين إنك تأكلين كل يوم في الصباح برتقالة، وإنك تجدين في ذلك صحة، فهل يجوز لك بعد هذا أن تحرمي الطالبات مما تتمتعين به وتحافظين به على صحتك؟! قالت: ولكن هذا البرتقال كثير جدا! قلت: لو أنك سمحت لنا بشراء الفاكهة دون عقاب لاكتفيت بشراء برتقالة أو برتقالتين في اليوم، أما وأنت تمنعين الخدم من شراء الفاكهة لنا فإني مضطرة أن أرشيهم بالنقود لشراء ذلك البرتقال، وليس من المعقول أن أكلفهم مخالفة أمرك كل يوم، فأنا أطلب منهم شراء ما يكفيني شهرا، أو ما يقارب الشهر.
فكرت الناظرة قليلا ثم قالت: ومن الذي اشترى لك هذا البرتقال؟ قلت: إني لا أسمح لنفسي بذكر اسمه. قالت: ولكني آمرك. قلت: كلا، لك أن تعاقبيني إن شئت، أما غيري فلا سبيل لك عليه، ولست أبوح باسمه مهما كانت الظروف. ورأت أنه لا فائدة من الأخذ والرد معي فتركتني، وأحضرت ضابطة المدرسة، وكانت سيدة نمساوية، وطلبت منها أن تسأل الخدم، وتبحث عمن اشترى ذلك البرتقال لتفصله من المدرسة، وما زالت الضابطة تسأل، وتتجسس حتى عرفت الفراشة المسكينة التي اشترت ذلك البرتقال، وأرادت أن تقدمها للناظرة، وما كاد يصلني الخبر حتى جن جنوني، وأشفقت أن تفصل تلك المسكينة بسببي فأسرعت إلى الضابطة، وكانت تخشاني وتحبني في آن واحد، فقلت لها: أرجوك أن لا تخبري الناظرة باسم الفراشة المسكينة، وسأذهب أنا إلى حضرة الناظرة، وأطلب منها معافاتك من البحث عن شارية البرتقال من الآن. قالت: حسنا فسأقبل ذلك إن فعلت. وفي الحال دخلت على الناظرة، وأنا متأثرة لا أستطيع حبس دموعي، فقلت لها في شيء من الحدة والتأثر: إني لا أستطيع أن أمكث في المدرسة ولا ساعة واحدة إلا إذا منعت الضابطة عن البحث عن الخادمة أو الخادم الذي اشترى لي البرتقال؛ لأن الضابطة تضايق الخدم جميعا، وكلهم يدعون علي؛ لأنني أنا سبب تلك المضايقة، فإما أن تأمري بالكف عن ذلك البحث، وإما أن تسمحي لي الآن بترك المدرسة. ورأتني مصممة على ما أقول فسكتت قليلا، ثم قالت: أتعدينني أنك لا تكلفين الخدم مرة أخرى شراء الفاكهة؟ قلت: نعم أفعل ذلك. قالت: قد اتفقنا. قلت: ولكني لا أبرح تلك الغرفة حتى تأمري الضابطة أمامي بعدم البحث عن الخادم الذي اشترى البرتقال. فأحضرت الضابطة وأمرتها بما طلبت، وخرجت معي من غرفة الناظرة وهي تضحك وتربت على كتفي قائلة: لقد نفعت بجرأتك تلك المسكينة التي كادت تفصل بسببك.
نهاية الدراسة بالمدرسة السنية
كان احتجاج الطالبات على الضابطة التي عاقبت إحداهن سببا في أن تحقد علي ناظرة المدرسة ظنا منها أنني أنا التي أثرتهن ضد المدرسة، ثم زاد الموقف تحرجا بيني وبينها يوم أرادت عقابي، وطلبت مني الاعتذار فرفضت، وشاء سوء الحظ بعد هذا أن تحقد علي إحدى زميلاتي لتقدمي في اللغة العربية، فتدس لي، مع أنها لم تكن معي في فصل واحد.
نعم شاء سوء الحظ أن تتهمني تلك الزميلة بالوطنية، وأن تحقد علي ناظرة المدرسة الإنجليزية لهذا الاتهام الباطل؛ لأني في ذلك الوقت لم أكن أهتم إلا بالدراسة، وكنت أعتقد أن الإنسان ينفع وطنه بالتقدم في العلم لا بالمشاكسات.
وترتب على ذلك أن ناظرة المدرسة كانت تكرهني كراهة شديدة، ولولا حسن الحظ في أنها اصطدمت بالمرحومة السيدة فاطمة عمر، وكان ذلك الاصطدام سببا في خروج المرحومة، وكانت أولى الفرقة التي كانت قبلي بسنة واحدة، لولا ذلك لسعت الناظرة في الإخراج، ولكن عدد الطالبات في ذلك الوقت كان قليلا كما قدمت، وكانت هي سببا في إخراج أولى السنة الثانية، وقد لفتت نظرها الوزارة لهذا الأمر فخشيت إن هي فصلتني، أو اضطرتني إلى الخروج أن لا توافقها الوزارة على ذلك؛ ولذلك تحملتني سنتين على مضض وضغينة، فلما نقلت إلى السنة الثالثة بلغ الأمر بيننا أشده، فكانت تتعمد إيلامي في كل صغيرة أو كبيرة، وكان لا بد من إخراجي، أو تركي المدرسة لشدة تعنتها لولا أن زميلتي السيدة الفاضلة عائشة صبحي تركت المدرسة في نهاية السنة الثانية، وكانت ثانية الفصل، ولم يعد في فصلي بعد ذا إلا ثلاث أنا رابعتهن، وقد خشيت الناظرة إن هي طلبت إخراجي، أو اضطهدتني إلى حد يضطرني إلى الخروج أن لا توافقها الوزارة على ذلك العمل، فكانت تؤلمني حتى إذا صممت على ترك المدرسة عادت تلين وترجو.
وفي ذات يوم قالت لي كلمة جارحة آلمتني كل الإيلام، وكان ذلك عند خروجي من آخر حصة من حصص الصباح، تألمت إلى حد تدفقت معه دموعي سيولا، وتأثرت تأثرا جعل حرارتي ترتفع إلى 39 درجة، وبدلا من أن أذهب إلى الغذاء ذهبت إلى مستشفى المدرسة، وكان به في ذلك الوقت طبيب المدرسة المرحوم الدكتور علوي باشا، وقد أخفيت دموعي أمامه، وتظاهرت أن المسألة مرض فجائي؛ وذلك لأني كنت في شبابي أتعالى عن الشكوى، أما في كهولتي اليوم فقد أصبحت لا أجد في بث شكواي من الغضاضة ما كنت أجده قبل ذلك؛ لهذا كتمت شكواي من حضرة الناظرة، وكشف علي الطبيب كمريضة فصرح لي بإجازة خمسة عشر يوما، وما كاد خبر الإجازة يصل إلى حضرة الناظرة، وقد ارتديت ملابسي، وعولت أن أذهب إلى منزلي ولا أعود، ما كاد يصلها ذلك الأمر حتى هرعت إلى الطبيب، وهي ترغي وتزبد، وتقول: كيف تصرح لها بالإجازة وهي ليست بمريضة؟ وقد أدت كل حصص الصباح وهي في غاية الصحة، وكل الأمر أنها غضبت مني فتصنعت المرض. فقال لها الطبيب: إن حرارتها يا سيدتي 39 درجة بل تزيد على ذلك قليلا، وما علمت بمريض يتصنع المرض فترتفع حرارته. قالت: لعل هذا سبب غضبها؟ قال: وإذا كان غضبها منك قد رفع حرارتها إلى درجة 39، فهل يجوز لي أن أبقيها معك لترتفع حرارتها إلى درجة الموت إذا أنت أغضبتها مرة أخرى؟
صمم الطبيب على إعطائي الإجازة، وذهبت جهود الناظرة سدى، وخشيت إن أنا خرجت في حالة غضبي هذه أن لا أعود، فأتت إلي في غرفة الانتظار حيث كنت أنتظر الإجازة بالخروج، وقبلتني قبلة حارة تدل على شغفها بي إلى حد الغرام، وقالت إنها لا تمانع في أن أخرج، لكن لا بد من أن أخرج مسرورة لا غاضبة، وحتمت أن أستريح، وأن آكل قبل خروجي، وما كاد يتم هذا حتى هبطت حرارتي، الأمر الذي أدهشني كل الدهشة، وهنا تأكدت أن للغضب أو السرور أثرا عظيما في صحتي، ولقد سبق أني ذكرت أني لما سررت في طفولتي شفيت من مرضي.
أحضرت لي الناظرة في غرفة الانتظار قليلا من الطعام، وشيئا من الفاكهة، وجلست تواسيني، وتطلب مني أن لا أتغيب كل تلك المدة التي صرح لي بها، وكان ذلك يوم أربعاء فوعدتها بالطاعة، وخرجت بعد أن قبلتني ثانية وثالثة، وعدت يوم السبت، ومن ذلك اليوم جعلت تتحاشى إيلامي، لكنها كانت تتمنى لي من صميم قلبها أن لا أنجح، على أنها كانت تعلم حق العلم أن أملها في عدم نجاحي ضائع لا محالة.
كنت أكن للناظرة ما كانت تكنه لي، وفي يوم دخلت علينا في المذاكرة فحركت حقدي، وما كادت تخرج حتى ابتدأت أكتب في كناشة الأعمال الأبيات الآتية:
حلوا فراح الحزم وارتحل الحجا
وانهد جاه العلم والآراء
حملوا على جيش الفضيلة فانثنوا
متسربلين بحلة حمراء
هذا دم الإنصاف فوق ثيابهم
يبدي فظائعهم لعين الرائي
نيران حقدي أضمرتها قلوبهم
فتسربلوا من لونها برداء
ما دام أهل النار تحجب روضنا
عنا فأين معالم السراء
إن يدعوا الإنصاف أو ينسب لهم
فوفاء عرقوب وبخل الطائي
كتبت ذلك في كناشة الأعمال بالقلم الرصاص، وما كنت كما قدمت أهتم بالسياسة، ولا أود خروج الإنجليز من مصر، ولكن هو الغيظ من الناظرة جعلني أصب جام غضبي على أبناء جنسها، شاء التجسس أن تسرق هذه الكناشة بحيلة لا أعرفها إلى الآن، وأن تعطى للناظرة، وأن ترشد إلى مكان الأبيات، وجن جنونها، ووجدت دليلا على اشتغالي بالسياسة التي علم الله أني ما اشتغلت بها، فأرسلت الكناشة إلى وزارة المعارف تطلب عقابي، وجاءني مفتش يحقق معي فيما كتبت، فقلت: هل يعاقب الإنسان عما يجول بباله وخاطره؟ قال: كلا، ولكن ليس لأي إنسان أن يحرض على الثورة ضد الحكومة القائمة. قلت: وكيف حرضت عليها أنا؟ قال: بتلك الأبيات . قلت: إن تلك الأبيات كتبت في كراسة لا يقرؤها غيري، ولست متغالية، إني أنا شخصيا لم أقرأها منذ كتبتها، فكيف تعد ذلك تحريضا وهو لم يطلع عليه أحد؟ إني يا سيدي حرة في أن أكره أو أحب دون عقاب، فإذا حرضت بطرق علنية كان لكم أن تعملوا معي ما تشاءون، أما ما يخالج ضميري، وما يجول في خاطري فلا سبيل لكم إليه، على أن تلك الناظرة يجب أن تعاقب هي إذ كانت السبب في إظهار تلك الأبيات التي لولا عملها هي لما اطلع عيها أحد. وأتم المفتش التحقيق، وعرضه على المغفور له سعد باشا زغلول، فأعجب برأيي أيما عجب، وقال: حقيقة ليس لنا على قلوب الناس رقابة، وهي لم تكتب ولم تنشر، ولا تعد هذه الكراسة إلا خيالا يجول في خاطرها، وأمر بحفظ الأوراق، وتمت السنة النهائية بحالة يعلمها الله، على أني لم أهن فيها برغم ما كانت تكنه لي الناظرة من العداء المكين.
ولم يكن المستر دانلوب من رأي الناظرة، بل كان يعطف علي ويقر وزير المعارف على رأيه فيما فعل.
تمت السنة ونجحت، وكنت الأولى بتفوق عظيم طبعا، وشاكر نفسه يقرئني السلام، وأنا أتقبله بكل سرور.
وكان الواجب أن أعين في المدرسة السنية نفسها، ولكن حضرة الناظرة قالت إنها لا تسمح لمكان واحد يضمني ويضمها اللهم إلا القبر، ولما كانت وزارة المعارف لا تدير القبور، فقد عينتني بمدرسة عباس الأميرية.
سفوري
أردت السفور، فلم أكتب فيه مع أني قرأت كتب المرحوم قاسم بك أمين، وأعجبت بها، ولكن العادات لا تغير بالقول، وإذا حاول شخص تغيير قومه بأقوال منمقة قام عليه القوم، واتهموه بما ليس فيه، وهكذا قام المصريون على المرحوم قاسم بك أمين، واتهموه بكل شيء، وقالوا إنه إنما يريد السفور إشباعا لرغبته في المجون والعربدة.
ولو أني قمت فناديت بما نادى به لاتهمت بما اتهم، بل أمر منه؛ لهذا عولت على أن أدعو إلى السفور بالعمل لا بالقول، وقد كان ملبسي لا يجعل محلا للشك في استقامتي وتمسكي بالفضيلة الشرقية، فكشف وجهي وكفي كان مطابقا لما جاء في السنة والكتاب؛ ولهذا لم يستطع أحد أن يمس سمعتي بسوء.
ومن العجيب أنهم كانوا يسمونني حجابية متطرفة، ولا أدري لم كانت تلك التسمية وأنا سافرة الوجه، إنهم يظنون السفور مجونا وفجورا، ولم يكن ملبسي يساعدهم على أن ينسبوا إلي ذلك، بل كانوا يعتقدون أني أكثر الشرقيات محافظة على الآداب الإسلامية؛ ولهذا لم يقل أحد عني شيئا مع أني كنت المصرية الوحيدة التي أسفرت.
ألفت كتاب المرأة والعمل، وتكلمت فيه عن جميع عادات المصريات، ولكني لم أفرد فيه بابا للسفور والحجاب، بل قلت في مقدمته إني لا أتناول السفور والحجاب في كتابي؛ لأني لا أرى حجابا فأبحث فيه، فقرويات مصر سافرات، أما المدنيات فعلى وجههن نقاب أبيض شفاف لا يستر من وجوههن إلا الحياء، وهو يزيدهن جمالا وبهجة؛ إذ يزيد الوجه بياضا على بياضه الصناعي، أما الخدود فتظهر تحت النقاب ورديتين يجللهما الندى؛ لهذا لا معنى للكلام في شيء غير موجود، وسيهتدي الناس فيما بعد إلى حقيقة الأمر، قلت ذلك ليفهمه من يعقل فقط، ومن يعقل من الناس لا ينتقد السفور، أما أغبياء القوم فلم يفهموا من كلامي شيئا، وهذا ما انتظرته فقد ظلوا يقولون عني إني حجابية متطرفة.
ومن غريب ما حدث أني أقمت عندما فتحت مدرستي «ترقية الفتاة» بالإسكندرية حفلة مدرسية، كنت أستقبل فيها الزائرين سافرة الوجه، وأسلم عليهم وأحييهم، وأجلسهم في أماكنهم، وكان بالحفلة مندوب لجريدة وفدية يقدر ما لقاسم بك من فضل وعبقرية، وقد أعجبه أن يكون في تلك الحفلة ما يدل على أن غرس قاسم قد أثمر، وأن تلك الحفلة كانت أول ثماره؛ لهذا طلب الرجل أن يلقي كلمة، وسمحت له بها، فقام يمتدح قاسما، ويثني على همته، وذكائه وعبقريته، وفي الأسبوع التالي لتلك الحفلة قرأت في إحدى المجلات الأسبوعية انتقادا مرا على ما قاله ذلك الكاتب، فقد قالت إنه خرج عن حدود الأدب واللياقة في مدرسة بنات هي أولى بالأدب ونشر الفضيلة، ثم قالت المجلة: «إنها تعجب كل العجب كيف تصرح السيدة نبوية موسى الحجابية المتطرفة لهذا الكاتب المجوني بالكلام في حفلتها!»
قرأت ذلك ودهشت له، فقد كان مندوب تلك المجلة حاضرا في الحفلة، ورآني وأنا أستقبل الناس سافرة، ومع ذلك يسميني حجابية متطرفة؛ لأني في نظره لم أكن ماجنة ولا متبرجة، عجبت من هذا المنطق، فرأيت أنه من العبث أن أناقش عقليات كهذه، إذن لا بد أن أخاطب أمثال هؤلاء بما يستطيعون أن يفهموه، فكتبت إليه أقول:
إني لست مسئولة إلا عما تقوله إحدى تلميذاتي، أو ما أقوله أنا شخصيا، أما كلام غيري فيسأل عنه قائله، فإن الإنسان لا يسأل إلا عما يقوله هو أو يكتبه، أما أن يأتيه زائر فيطلب الكلمة فيصرح له بها وهو لا يعلمها، فلا شأن له هو بما قال ذلك الزائر.
ومع أن هذا القول لا يدل على أني أخالف الخطيب فيما قاله، فقد اتخذته تلك المجلة دليلا ساطعا على تمسكي الشديد بالحجاب.
فقالت في العدد التالي:
لقد صدقت السيدة نبوية موسى حسن ظننا فيها، وعابت على الخطيب ما قاله، ونحن نشكر لها تمسكها بالعادات الشرقية، ومن أهمها الحجاب.
وهكذا وفرت على نفسي ما كان سينالني من فحش القول إن أنا كتبت في الحجاب، ودعوت إلى السفور، ولكني مع ذلك أعطيت تلميذاتي مثالا صادقا للسفور الذي أريده، وهو ظهور المرأة سافرة، ولكن في منظر يدل على حشمتها ووقارها؛ فهي تخرج لعملها سافرة حتى لا يعوقها الحجاب عن حسن تأدية ذلك العمل، ولكنها تظهر في ملبسها بمظهر الجد؛ فلا زينة ولا تبرج، والوجه كما خلقه الله لا فتنة فيه، وإذا كان الله قد صنع فيه شيئا من الفتنة فلا شأن لنا فيما صنع، وكان على البشر أن يعودوا إلى الخالق، على أن القرآن لم يأمرنا بالحجاب، بل أمرنا بالابتعاد عن الزينة، فقال سبحانه وتعالى:
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن .
فأمر الله بستر الصدر لا بستر الوجه ، وهو موضع الحلي في الجاهلية.
وقد أمر الدين الإسلامي المرأة أمرا صريحا بكشف وجهها في ثلاثة أمور: الحج والخطبة والشهادة، ولم يأمرها صراحة بستره مطلقا، فلا معنى إذن لستر الوجه، وفيه مضايقة كبيرة لمن يردن هذا العمل.
قابلني في إدارة الأهرام يوما أحد الكتاب الذين كانوا يكثرون الكتابة في مسألة الحجاب والحض عليه، وجعل يناقشني في آرائه، وكان يعتقد كل الاعتقاد أني متفقة معه، ولكنه دهش لما قلت له: «إنك يا سيدي من القرى، وأمك وأختك وبنت عمك يخرجن بزيي هذا؛ أي بخمار لا يغطي إلا الرأس والصدر، فما هو الحجاب الذي تدعو المدنيات إليه؟ أتدعوهن إلى ذلك النقاب الشفاف الذي يزيد صبغة الوجوه ظهورا وبهاء؟» قال: كلا لا أريد ذلك. قلت: أنت إذن تدعو إلى حجاب مجهول لم يره أحد؟ قال: نعم أريد أن تضع المرأة فوق رأسها غطاء كثيفا يستر وجهها كله، وفيه ثقبان لتنظر منهما. قلت: يا سبحان الله! وماذا تفعل المسكينة إذا اضطرت للعمل؟ قال: يجب أن تضحي بكل شيء في سبيل منع الفتنة، فإن في وجهها فتنة. قلت: إنك يا سيدي تدعي أن الرجال أكثر عقلا وحكمة من النساء، وإذا كانت النساء لا يفتن بوجوهكم أنتم وفيكم الجميل ولا شك، فكيف تفتنون أنتم بوجوههن، وأنتم أكثر عقلا وإدراكا، لقد كان الواجب أن تتقنعوا أنتم، وأن تسفر النساء ما دام فيكم من العقل ما يمنعكم من الفتنة، أما هن فلا عقل لهن ولا إدراك.
آلمه هذا القول مني، وأراد أن يؤلمني، فقال: إذا كانت النساء في خلقتك فلا بأس من السفور. وظن بذلك أنه أغاظني، فقلت له ضاحكة: يا شيخ انطق، وهذا ما أريده، النساء في شكلي يسفرن، والرجال في جمالك يجب أن يتقنعوا؛ أي إنك من تضع من الغد على وجهك شوالا فيه ثقبان، وسأهنئك بتلك النتيجة.
وحدث أن قابلتني إحدى السيدات في الترام، فقالت لي في دهشة: أمسيحية أنت؟ قلت: كلا إني مسلمة. قالت: وكيف تكشفين عن وجهك؟ فنظرت إليها ضاحكة وقلت: وهل سترت أنت وجهك بذلك النقاب الشفاف؟ إني أرى ملامحك واضحة حتى إني أستطيع أن أعد أسنانك المذهبة، وليت الأمر اقتصر عند هذا الحد فكشفت عن وجهك فقط كما أكشف أنا، بل لقد تجاوزت يا سيدتي الحد وكشفت عن صدرك إلى آخره، فأنا أرى في صدرك ما لا يجوز لي أن أراه، كما أرى ذراعيك إلى نهايتهما، أما أنت فلا ترين إلا وجهي فما معنى انتقادك إذن؟!
عجبت المرأة من جوابي هذا، وقالت: لقد صدقت! فأنا أقرب إلى النصارى منك.
وهكذا أيدت السفور عمليا لا بالقول، وكنت أعلم أن في التعليم ما يفي بالغرض الذي أريده دون نقاش أو مجادلة، ولقد صدق ما كنت أتوهمه، وأسفرت نساء مصر الآن حتى أصبح الرجال يطعنون على عقلية المحجبات، نعم تم ما كنت أرجوه، ولكن على شكل لم أكن أريده، فقد صحب ذلك السفور تبرج معيب كنت أربأ بفاضلات المصريات عن أن يتدهورن إليه خصوصا المتعلمات منهن، ولكن ما يدرينا! فلعلها مرحلة انتقال، ننتقل منها إلى السفور الكامل المحتشم.
دخولي البكالوريا
تعينت كما قدمت معلمة بمدرسة عباس الأميرية بمرتب ستة جنيهات، بينما كان مرتب خريجي المعلمين العليا من الرجال اثني عشر جنيها شهريا، فساءني أن تعاملنا الحكومة ونحن نعمل معاملة الوراثة؛ أي نصف الرجل، لا أنكر أن الوراثة قد تكون على حق؛ لأنها ليست من مجهود أحد، أما أن تعمل الفتاة ما يعمله الرجل، ثم تتناول نصف مرتبه فهذا ما لا يعقل؛ لهذا ثارت ثائرتي.
لقد كنت أدرس كما يدرس الفتى، ولم يكن للحكومة مدارس ثانوية كثيرة، فكنا جميعا ندرس للمدارس الابتدائية، فلماذا تميزه الوزارة عني لا بجنيه ولا بجنيهين بل بضعف مرتبي؟! لقد كنت أعمل جاهدة في أن تساوى المرأة بالرجل في الوظائف، وفي كل شيء، وكان رأيي كما قدمت أن أصل إلى تقرير ما أريده بالعمل لا بالقول؛ فقد قررت السفور لا بمقالات منمقة وآراء شيقة، بل بخروجي سافرة، إذن لم لا أقرر المساواة بين الفتاة والفتى في التوظف لا بشيق المقالات ولكن بالعمل الذي لا يقبل الجدال؛ ولهذا طلبت من الوزارة أن تسوي بيننا وبين الرجال في المرتب، فأجابتني الوزارة بأني وزميلاتي لم ننل شهادة البكالوريا، وإن كنا قد تعلمنا من فنون التربية والتهذيب ما تعلمه طلبة مدارس المعلمين العليا حرفيا، ولكنا مع ذلك تنقصنا الثقافة العامة؛ ولهذا لا يمكن مساواتنا بهم، قلت لقد تعلمت من طرق التربية ما لم يتعلمه الرجال، وإذا كان ما ينقصني عنهم هو مرحلة الثقافة العامة؛ أي نيل شهادة البكالوريا فإني سأدخلها وسأنجح فيها حتى لا أترك لوزارة المعارف عذرا في عدم مساواتي بالرجال.
اطلعت من ذلك اليوم على منهج البكالوريا، وملأت استمارة دخول امتحان البكالوريا في الميعاد الذي حددته وزارة المعارف، وأرسلتها إلى الوزارة، فضج رجال الوزارة لهذا الحادث، وكان حديثهم في روحاتهم وغدواتهم، واستعظموا على فتاة لم تتعلم في مدرسة ثانوية أن تدخل الامتحان، وهي لم تستعد له، فجاءني المستر دانلوب في مدرسة عباس وبيده استمارة التحاقي بالامتحان، قدمها إلي وهو يضحك، وقال: يبدو لي أنك لم تقرئي منهج البكالوريا، ولو أنك قرأت ذلك المنهج لما أقدمت على إرسال طلبك هذا. قلت: كلا لقد قرأته، وكدت أنتهي من دراسته. قال: إنك واهمة فاستمعي لنصحي، واسحبي هذا الطلب، ولا ترسليه مرة أخرى، اللهم إلا إذا وعدتني بأنك ستنجحين. قلت: وهل وعدك أحد ممن تقدموا لهذا الامتحان بنجاحه فيه قبل دخوله؟ قال: ولكنك تلميذتي، ويهمني أمرك. قلت: إن الكل تلاميذك يا سيدي، ولا بد أن يهمك أمرهم بمقدار ما يهمك أمري. قال: إذن فاعلمي بأنك إذا رسبت فستنحط منزلتك في نظري. قلت: إني - والحمد لله - فوق الخادمات مباشرة، ولا تستطيع أنت ولا غيرك أن تعتبرني خادمة؛ أي إني أقف اليوم على الأرض، وليس في وسعك أن تحفر تحت أقدامي، فمكانتي في التوظف لا تحتمل النقصان. قال: إنك عنيدة، ولكني أكرر لك النصح في أن تسحبي طلبك هذا وأن لا ترسليه إلى الوزارة. ثم خرج دون أن يترك لي وقتا للإجابة على ما قال، وما كاد يصل إلى الوزارة حتى كان طلبي في إثره.
ضجت الوزارة كلها، واعتبروا ذلك حادث العام، ولم يعد في الطلبة المتقدمين إلى البكالوريا حديث إلا أن لهم زميلة من الجنس اللطيف، وقد كانوا يجهلون تلك الزميلة طبعا، فأخذوا ينقلون عنها ما يشاءون، فاعتبروها من أجمل ذلك الجنس وألطفه، وأنها ما تقدمت إلى ذلك الامتحان إلا لتظهر دلالها وجمالها، وجاء وقت الامتحان، وأعدت لي الوزارة لجنة خاصة في المدرسة السنية، أما باقي الطلبة فكانوا يمتحنون في لجان في بناء الوزارة بدرب الجماميز، وهو البناء الذي لا يزال إلى الآن مشغولا بمخازن الوزارة.
وكنت آخذ ترام السنية من مدرسة عباس فيمر بي على السنية، ومنها إلى درب الجماميز، فكان الطلبة القاطنون في السبتية وفيما يجاورها يركبون معي في نفس الترام، ولم يكن في الترام ديوان خاص بالسيدات، وكان المرحوم شقيقي يصحبني في ذهابي وإيابي، فكنا نجلس في آخر عربة حتى لا تتجه أنظار الطلبة إلي، وكانت أحاديثهم تنصب على أم رأسي، فمنهم من أقسم على ضربها عند فشلها وسقوطها في الامتحان، وكانوا يقولون إن سقوطها محتم لا شك فيه، وما دخلت الامتحان إلا لتبدي جمالها وتبرجها، كل ذلك وهم لم يعيروني أي التفات؛ لأني لم أكن الشخصية التي كانوا يتخيلونها؛ إذ كانوا يتخيلون فتاة لعوبا متبرجة، أما تلك التي كانت تجلس في آخر الترام فقد كانت فتاة محتشمة، لم يكن يشك أحد في أنها لا تعرف القراءة، وكان أخي إذا سمع حديثهم عني تبسم ونظر إلي، فكنت أحترس أن لا أجيب على ابتسامته بمثلها، وكنت أجتهد في أن أنزل من الترام قبل المدرسة السنية بمحطة، وأدخلها من بابها الخلفي؛ لأني كنت أعلم أن كثيرا من الطلبة يتجمهرون أمام بابها لرؤيتي، وهذا ما كنت أفعله عند الخروج.
أما اللجنة التي كانت تراقبني أثناء الامتحان؛ فقد كانت لجنة كاملة؛ أي مكونة من ثلاثة أشخاص فرنسي وإنجليزيتين؛ إحداهما ناظرة مدرسة السنية؛ أي صديقتي المعروفة! فكانت كلما دخلت الامتحان وخرجت منه تحييني بعبارات التأنيب أو السخرية، كقولها إنك مغرورة ، ولا شك أنك سترسبين، أو ما الذي حملك على التقديم، وتكليفنا إعداد لجنة خاصة لك؟ وقد كنت أجيبها على تحياتها هذه بابتسامات تشف عما في قلبي لحضرتها من الحب المكين، وكانت الغرفة التي أمتحن فيها واسعة جدا؛ إذ كانت معدة لامتحان طالبات السنية بأجمعهن، وكنت أجلس في وسطها، وكان هذا يبعدني عن صديقتي الناظرة بمسافة تجعلني لا أتمتع برؤية وجهها رؤية دقيقة، وكان المراقب الفرنسي رجل لطيف، فكان إذا مر بي أشار بيده إلى تعليمات كانت على رأس ورقة الامتحان، وهي: «لا تلتفت يمينا ولا شمالا، ولا تشر إلى أحد ممن بجانبك أية إشارة.» كان يشير إلى تلك التعليمات قائلا: يجب عليك تنفيذها. وهو بالطبع كان يعلم أنها منفذة بطبيعة الحال؛ لأنه لم يكن بجانبي أحد.
وكانت تعليمات الامتحان تقضي أن لا نحضر معنا من أدوات الكتابة شيئا، فكانت تعطى لي الريشة التي أكتب بها، وحدث في امتحان الهندسة أن كان سن الريشة مكسورا فلم أستطع الرسم بها، وصرت كلما رفعت يدي، حضرت إلي صديقتي ناظرة السنية، ورفضت رفضا باتا أن تعطيني ريشة غير الريشة التي أمامي، وضقت ذرعا بتصرفها هذا، فتظاهرت بالكتابة، وبالامتناع عن طلب ريشة جديدة، ثم قمت فجأة أسير بسرعة نحو المراقب الفرنسي، فما كادت تلحق بي إلا ونحن الاثنتان أمامه فعرضت عليه الريشة، وطلبت منه تغييرها فوافقني على هذا الطلب، ولكنها عارضته، وبقيت معه في جدال ونقاش نحو ربع الساعة، وأخيرا انتصر الرجل، وأتاني بريشة جديدة.
وآخر أيام الامتحان جاءني مستر دانلوب، فقال لي: أتظنين أنك ناجحة؟ قلت: نعم، أظن ذلك. قال: حسنا! صدق الله ظنك. وخرج، وهنا تناولتني الناظرة، وأخذت تعتب علي كيف أجيبه بالإيجاب، وماذا يكون موقفي إذا أنا رسبت، فقلت لها: إني لم أدع النبوة ولا الإخبار بما في الغيب، وكل ما قلت له إني أظن أني ناجحة، ولا عيب علي إذا كان ظني هذا غير صادق، فكثيرا ما يظن الإنسان غير ما يحدث، ولا حرج عليه فيما يظن.
ظهرت النتيجة، وكنت من بين الناجحين، وترتيبي على ما أعتقد 43 من مائتين، وكان لهذا النبأ وقع حسن بين موظفي وزارة المعارف، وبين زملائي الطلبة، وكان ذلك سنة 1907، ولم يكن لي بالطبع زميلات، ولم تنجح مصرية في امتحان البكالوريا إلا في سنة 1928؛ لهذا كان النبأ عظيما، فنشرته الصحف بعناوين ضخمة ببنط كبير مثل «أول ناجحة من المصريات في البكالوريا» أو «مصرية تفوز بنيل شهادة البكالوريا»، أو «تفوق المصريات»، ولو أني إذ ذاك فتحت فرنسا لما كان لاسمي رنة أشد مما كان له على إثر نيل تلك الشهادة العظيمة؛ أي شهادة البكالوريا.
اهتم المصححون بهذا النبأ، ويظهر أنهم خشوا أن يظن أحد أن نبوية هذا رجل، فأرادوا أن يضعوا على هذا الاسم عنوانا يمنع الشبهة، فكتبوا «الست نبوية»، وأرسلوا إلى مدرسة عباس تلغرافا يهنئون الناظرة بنجاح معلمتها، كما أرسلوا إلى صديقتي العتيدة ناظرة المدرسة السنية تلغرافا يهنئونها بنجاح إحدى طالباتها، وهنا نسيت مس جونسون الحقد القديم، ويظهر أنها عطفت علي، وكنا في ذلك الوقت لا ندخل الامتحان الشفوي إلا إذا نجحنا في التحريري.
ظهرت نتيجة التحريري، وجئت للامتحان الشفوي في المدرسة السنية أيضا، وما كاد يقع نظر الناظرة علي حتى ضمتني إلى صدرها، وقبلتني قبلات عديدة، وشكرتني لأني رفعت رأسها عاليا.
أما المفتشون الذين جاءوا لامتحاني الشفوي فقد أحضروا لي معهم هدية ثمينة من الكتب الفرنسية، وكنت واثقة بالطبع أني سأنجح في الامتحان الشفوي؛ إذ ليس من المعقول أن تتقدم طالبة واحدة في هذا الامتحان، وتنجح في التحريري، ثم يذهب الذوق بالممتحنين إلى إسقاطها في الشفوي؛ لهذا كنت واثقة كل الوثوق من نجاحي في الشفوي.
كنت قد تعلمت اللغة الفرنسية في المنزل ومن الكتب، وكنت أعرف كيف أقرأ، ولكني لم أكن متأكدة أني أفهم تلك اللغة إذا خوطبت بها؛ ولهذا دخلت باسمة، وقد أعددت هذا الابتسام لأجيب عليه بكلمات قد حفظتها، وكانت اللغة الفرنسية إضافية لا أساسية.
وتم ما أردته، وسألني الممتحن عن سبب ضحكي، فقلت له في شيء من الدعابة: إني أضحك؛ لأني أعلم أنك لا تعلم إلا الفرنسية التي لا أعرف أنا شيئا منها؛ ولهذا أضحك على كيفية تخاطبنا. قلت ذلك بالفرنسية طبعا، وقد سر الرجل بهذا، وحادثني محادثة استطعت فهمها، وأعطاني درجة لم أكن أحلم بالحصول عليها.
أما في اللغة العربية، فلم ينس المرحوم الشيخ حمزة فتح الله أن يتحفني بأسئلته الممتازة إذ ذاك كوزن «أكون»، وهو كما لا يخفى على سيدي القارئ «كن»، فنقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فتحرك بالضم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين أي النون والواو، ثم حذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها؛ إذ جيء بها للتوصل إلى الساكن في الأفعال الأخرى كاعلم وانصت، أما هنا فقد تحرك أول الفعل فلا حاجة إلى همزة الوصل.
وعذرا أيها القارئ إذا ألقينا عليك درسا من نماذج دروس العربي الماضية.
أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في
الزواج
قدمت فيما مضى كيف حصلت على البكالوريا مع البنين، وكيف كان لهذا النبأ دوي اخترق البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وقامت له الصحف وقعدت، فكنت إذا كتبت مقالة إلى صحيفة نشرتها لي في الصدر تحت عناوين كبيرة، وما كاد يمضي على ذلك شهر حتى وصلني خطاب من مأمور في السودان مرسل إلى نبوية موسى بالمدرسة السنية، مع أن نبوية موسى كانت معلمة في مدرسة عباس للبنات، ولكن هذا المأمور لا يعرف عن نبوية موسى شيئا سوى أنها نجحت في البكالوريا؛ ولهذا استنتج أن تكون تلميذة في المدرسة السنية.
وصلني الخطاب، وكان الرجل أديبا لبقا في كتابته، وقد قال في خطابه إنه رجل مؤدب، وإنه لم يخاطبني ليخرج عن حدود الآداب الشرقية، ولكنه يريد أن يتزوجني، وهو لا يعرف عنوان ولي أمري، ولا من هو؛ لهذا اضطر أن يكتب إلي؛ لأن كتاباتي قريبة جدا من نفسه، ورجاني أن أدله على ولي أمري ليخاطبه في أمر الزواج.
أعجبني أدب الرجل واستقامته، وراقني أسلوبه العالي في الكتابة، ولو أني كنت أميل إلى الزواج لما تأخرت في قبول ما طلب، ولكني وأنا أكره الزواج، وأعتبره قذارة، وقد صممت أن لا ألوث نفسي بتلك القذارة، فلا مندوحة لي عن رفض طلبه.
عرضت الخطاب على المرحوم شقيقي، وطلبت منه أن يكتب إليه بالرفض، وأن يتلطف فلا يؤلم الرجل، وقد اقترحت عليه أن يقول له: إنك لو رأيت أختي لما تقدمت إليها لأنها دميمة الخلقة، ولا أظنك تقبلها؛ ولهذا أرجوك أن تتقبل تحياتي، وأن تعدل عما انتويته، وسأكون صديقك إلى الأبد، ومع أن ذلك الكلام لم يكن من رأي أخي فقد كتبه مضطرا.
وبعد ثلاثة أيام أو أربعة على الأكثر وصل أخي خطاب من الخطيب يقول فيه إنه لا يعبأ بالشكل، وإنه يحب روحي لقربها من روحه، وسيحب صاحبة تلك المقالات التي قرأها مهما كان شكلها، بل سيحلو له أن يراها، قرأ أخي الخطاب، وقال: الآن لا عذر لك؛ فالرجل يقبلك على أي شكل أنت عليه، وأنا بصفتي ولي أمرك أريد أن تتزوجي ذلك الرجل. وطال بيننا الشجار والأخذ والرد إلى حد كاد أن يخاطبني معه بغير الكلام لولا أن تلك لم تكن عادته، وفي ذلك الوقت دخل قريب والدتي مصطفى أفندي عبد الرازق، وسأله عن خبر هذا النزاع، قال أخي: إنها ترفض الزواج من رجل سبق أن كتبت له أنا شبه وعد. قلت: ولكنك غير محق في وعدك هذا، والرجل الذي تقترح زواجي به يتناول 24 جنيها شهريا، وأنا كما تعلم لا أحب الزواج، فإذا قبلت قذاراته كان يجب أن يغريني المركز الجديد الذي سأكون فيه بعد ذلك الزواج، ومرتبي الآن 12 جنيها، فإذا شئت أن تبقى حالتي المالية كما هي، وجب أن يكون مرتب ذلك الزوج 48 جنيها؛ 12 جنيها لي، و12 جنيها له، و24 جنيها للأولاد، فكيف أقبل أنا الزواج على بغضي له، ثم أقبل معه انخفاض مستوى معيشتي، وهذا ما لا يعقل؟
انتصر لي مصطفى أفندي، وقال: لقد صدقت. قال أخي: ومعنى هذا أنها لن تتزوج، ومن ذا الذي يقبل زواجها، ومرتبه يبلغ ذلك المقدار الذي تطمع هي فيه؟ قلت: وهذا كل ما أريده أن تقف طلباتي هذه حجر عثرة في سبيل الزواج .
اضطر أخي أن ينزل على إرادتنا؛ أي إرادتي وإرادة مصطفى أفندي، ولكنه كان مكرها، قال: إذن سأكتب للرجل، ويجوز أن الله أراد له الخير بذلك الرفض. أمسك القلم وأخذ يقرأ ما يكتبه بصوت عال، قال: تحية وسلاما وعذرا أيها الصديق إذا أنا أخبرتك في خطابي السابق بدمامة خلقة شقيقتي فقط، ولكني نسيت أن أقول لك إنها فوق ذلك قليلة الأدب متكبرة متغطرسة، لا يطيق الإنسان أن يعاشرها يوما واحدا، وأنا كصديق أنصحك أن لا تعاودني في أمرها، ولا أخفي عليك أنها تتكبر على أمثالي وأمثالك، فلا تذكرها لي مرة أخرى.
أخذ يقرأ ذلك الخطاب بصوت عال ليغيظني، ولكني كنت أضحك مقهقهة، وأقول: إن هذا خير ما يكتب في مثل هذا الموقف، وكان الرجل قد أرسل مع الخطاب هدية فرددناها إليه.
وفي سنة 1914 كنت ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، فجاءني رجل بخطاب كتبه إلي ذلك المأمور يرجوني فيه أن أقبل ابنة ذلك الرجل بالمدرسة الابتدائية مجانا، وقال في خطابه إنه تزوج، وإنه رزق أولادا، وإنه مسرور جدا بأسرته الجديدة، وكأنه يريد أن يقول لي على رأي مثلنا العام «بركة يا جامع اللي جت منك.»
عرفت من هذا أن الرجل لا يزال متألما من الحادثة، وكنت أخجل أن أذكر مسألة خطبة أو زواج أمام رجل، فنظرت إلى قريبه الذي أتى بذلك الخطاب، وقلت له: هل تعلم من أين يعرفني قريبك هذا؟ قال: نعم إني أعرف القصة. قلت: أرجوك أن تخبره أني لم أرفضه احتقارا لشأنه، أو لأي عيب فيه، ولو أني كنت أنتوي الزواج لما تزوجت بأفضل منه، ولكني لاعتبارات شخصية أرفض هذا الزواج، ولكي أشرح لك موقفي أقول إني لو كنت قد قبلت ما عرضه علي لكنت الآن تحت أمره أطلب منه الرضا والعطف، أما الآن بعد رفضي فهو الذي يطلب مني أن أعطف عليه وعلى أقاربه، وأنا لأجل خاطره سأدخل ابنتك بالمجانية في مدرستي، ولو أني كنت أخاطب الرجال لكتبت إليه الرد على خطابه هذا، ولكني آليت أن لا أفعل، فأرجوك أن ترد عليه أنت، وأن تخبره بما قلته لك.
لقد بنيت رفضي على رأي اعتمدته منذ طفولتي، وهو ألا أتزوج؛ لأني على ما أتذكر لم أكن طفلة بالمعنى الصحيح، أجهل ما يحيط بي، ولكني كنت أعلم ما بين الرجل والمرأة مع أنه لم يكن في منزلنا رجل، ولكن يظهر لي أن الأمر غريزة طبيعية، أو أني كنت أعلم بالإشارة، أو بما أراه من الحيوانات، كنت أعلم ذلك تمام العلم، وأرى أنه قذارة خصوصا نصيب المرأة فيه، فكنت أنفر منه، وربما ترجع مسألة خروجي من المنزل في سن الثالثة عشرة، والتحاقي بالمدرسة إلى كرهي لهذا الأمر؛ لأني لو بقيت بلا عمل لما استطعت أن أبقى أيضا بلا زواج، وليس لي من الأملاك ما يقوم بسد حاجتي؛ لهذا انصرفت عن الزواج بتاتا، ثم شاء الله أن تزداد فكرتي رسوخا ووضوحا، فسمعت رجلا يتشاجر مع امرأة على قارعة الطريق، ويقول لها ما معناه: امرأة مثلك أقضي في جوفها حاجتي تتجرأ أن تكلمني بما تقولين؟ شرحت لي تلك الكلمة ما هناك، وكرهت أن يقف مني رجل ذلك الموقف القذر المريع؛ لهذا كنت أكره أن أسمع الزواج في شبابي، أما بعد أن كبرت فقد أصبح مجرد هذا الاقتراح سبة لا يشتمني أحد بأقبح منها.
وعلى ذكر تلك الخطوبة أقول: إني خطبت بعد ذلك مرتين، سأذكرهما هنا على سبيل ذكر أشياء وقعت لي في حياتي.
كانت تلك الخطوبة الأولى في سنة 1907 كما قدمت، وفي سنة 1913 كنت ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، وكنت ألقي محاضرات في الجامعة المصرية، كانت تكتب في جميع الصحف، فوصلني خطاب من أحد المهندسين يقول فيه: إنه معجب بمقالاتي، وإنه يطلب من الله أن يكثر من أمثالي في الأمة المصرية.
لم يكن الرجل في طبقة الخطيب الأول من الكتابة، فلم يقع كلامه من قلبي موقعا حسنا على أنه لم يقل شيئا صراحا، بل أكثر في مدحي، وقد أرسل لي في طي خطابه صورة فوتوغرافية له.
وقد فهمت من تلك الصورة ما كان يرمي إليه في طيات كلامه، وشاء الله أن يكون شقيقي ضيفا عندي في ذلك اليوم، ففضضت الخطاب، وبعد أن قرأته قذفت به شقيقي في ضحك، وقلت له: لو لم يكن هذا الرجل مؤدبا في الكلام لعاقبته بإرسال صورتي إليه، أما وهو مؤدب فلا معنى إذن لذلك العقاب. وقع الخطاب والصورة على أرض الغرفة، ولم أعرهما بعد ذلك أية التفاتة حتى إني نسيت اسم الرجل، أو قل إني لم أقرأ إمضاءه.
وبعد أيام من ذلك الحادث جاءني البواب يقول لي إن محمد أفندي حافظ يطلب مقابلتي، وكان لي خال بهذا الاسم فظننت أنه خالي أتى من القاهرة ليراني في المنصورة، فقلت للبواب أن يدخله بسرعة، وقمت له ضاحكة لأقابل ذلك الخال، وما كدت أراه حتى استولت علي الدهشة؛ لأني عرفت أنه صاحب الصورة التي أرسلت طي الخطاب السابق، وعلى كل حال فقد اضطررت أن أحييه، وأن أجلس معه.
عرفت بالطبع ما جاء به، وما يريد أن يطلبه، وأردت أن أمنعه من ذلك فقلت له: لقد وصلني خطابك، وليس لي أي انتقاد عليه؛ لأنك كنت فيه مؤدبا، وإني مستعدة أن أساعدك في كل ما تطلبه مني إذا كنت تريد إدخال بناتك بالمجانية في مدرستي هذه، وسأساعدك بكل ما أستطيع.
احتار الرجل في أمره، وقال متلعثما: ولكني لا أسرة لي، وقد جئت اليوم من أجل ذلك. فقاطعته قائلة: اسمع يا بني لقد صممت منذ كنت في سنك على أن لا أتزوج، فإذا كنت أنت اليوم لم تتزوج فأنصحك أن لا تفعل. فدهش الرجل من تلك المفاجأة، وقد كان أكبر مني سنا؛ أي كان في سن المرحوم أخي.
فلم تدخل عليه الحيلة، وقال: لست بابنك أولا، وثانيا اسمحي لي أن أسألك لم صممت على عدم الزواج؟ ضايقتني تلك الجرأة منه، وقلت له: إنك لم ترني إلا اليوم، ومع ذلك تسألني عن أمر هو من أخص خصائصي، وما كان لك ولا لغيرك أن يتدخل فيه، مع هذا فسأشبع حب الاستطلاع في غريزتك، وأقول لك إني قد صممت على عدم الزواج؛ لأني لا أحب الرجال، ولا أحب أن أنحط في معيشتي، بل لو أني تزوجت وأنا اليوم أتناول مرتبا قدره 24 جنيها كان يجب علي أن لا أقبل إلا رجلا مرتبه 96 جنيها؛ 24 جنيها لي، و24 جنيها له، و48 جنيها للأطفال، ومثل هذا الرجل ما أظنه يطلب الزواج مني. قال الرجل: وما المانع من أن تتزوجي وأنت في وظيفتك؟ قلت: عفوا يا سيدي، فقد قلت لك إني أكره الرجال، فما معنى أن أقبل القرب من رجل وأنا لا أزال أعمل، وما فائدة ذلك الرجل؟ وما قيمته في حياتي؟ قلت ذلك وانتصبت واقفة، واعتذرت إليه بأن لدي درسا سألقيه الآن، وأن في استطاعته أن يمكث مع معلمي مدرستي في غرفتهم إذا شاء.
فخرج الرجل من عندي لا أدري مودعا بماذا، ولكني استدعيت البواب في الحال، وقلت له: إذا جاءك هذا الرجل مرة أخرى قل له إني غير موجودة، وإياك أن تدخله عندي مرة ثانية، أو تطلب مني حتى السماح له. وبعد أيام جاءني خطاب منه يقول لي فيه: بالرغم من أنك تدعين أنك أكبر مني سنا، وأنك لا أمل للرجال فيك لدمامتك، فإني شخصيا أرى فيك غير ذلك. قرأت الخطاب ومزقته، وقلت: سبحان الله! من أخذ رأيه في هذه الأمور، وما الذي يهمني من رأيه في؟ إن رأيي فيه، وفي كل رجل أن لا أتزوج، ولا ثاني لهذا الرأي عندي.
هذه هي الخطوبة الثانية، أما الثالثة فقد دلت - والحمد لله - على أننا نحن السيدات كالعبيد، كلما كبرنا رخص ثمننا.
كنت ناظرة مدرسة المعلمات بالإسكندرية في سنة 1919 على ما أتذكر؛ أي بعد الحادثة الثانية بست سنوات، فوصلني خطاب قد كتب فيه كاتبه ما يربو على 7 صفحات. أخذت أقرأ «ويلت الرجل ويعجن كما يقولون»، ويصف لي حاله وعمره ومرتبه، وهو - والحمد لله - ستة جنيهات، وهو أيضا كمساري على ما أظن في السكة الحديد، حسبت وهو يشرح لي هذا أنه يشكو لي ضيق حاله، وأنه يطلب مني المعونة كما كان الكثيرون يفعلون ذلك، ولكن كم كانت دهشتي شديدة عندما قال في خطابه: «إني إذا حادثت رجلا دقيقة أو دقيقتين أتجرأ على الكلام معه، وأنا الآن قد كتبت لك ما يزيد على ست صفحات، وإذن أصارحك برأيي بكل شجاعة وجرأة، وهو أني أريد الزواج منك، ولا أريد أن أرجع لأهلك في هذا الموضوع؛ لأني أسير على تعاليم المدنية الحديثة.» عجبت حقيقة من تلك الجرأة، ومن ذلك المنطق المعتل الخاطئ، كيف يجرؤ علي بذلك الكلام لا لسبب سوى أنه كتب لي ست صفحات، هل كنت أنا حاضرة عند كتابة ذلك حتى يعد سكوتي على تلك الكتابة مبررا لجرأته علي؟ حقا إنه منطق عجيب، خصوصا وقد حدد لي 24 ساعة إبداء رأيي في الموضوع.
كنت في ذلك الوقت لا أرفض الزواج فحسب، بل أعد طلب الزواج ممن كانت في سني جريمة أو إهانة تلحق بي لا يغسلها إلا الدم، غضبت لهذا، وأردت أن أنتقم منه، وفكرت في حيلة لذلك الانتقام، وقلت أرسل إليه خطابا مع خادمي أقول فيه إني قبلت ما عرضه علي، وإذا قبل هذا أرسلته إلى منزل أحد أقاربي، فأعقد خطبته على امرأة غسالة كانت بالمدرسة، واسمها فاطمة، ولا بأس فنبوية تكتب في شهادة الميلاد فاطمة النبوية، حتى إذا تمت الحيلة، ودخل على صاحبته، عرفته مقدار مدنيته الحديثة من طلب الزواج من امرأة لم يرها، وهنأته بالزيجة الخيرة المباركة.
دققت الجرس للساعي فحضر، ووقف بعد أن كتبت جواب الرضا، وأردت أن أسلمه إليه، ولكن عز على نفسي أن يذهب الساعي إليه بذلك الجواب فيفهم منه أني قبلت الزواج منه، وهي سبة لست أرضى أن يظنها خادمي، ولو ربع ساعة، فترددت في الأمر، ثم نظرت إلى الساعي، وقلت له: اخرج.
وقد انتقمت لا منه، بل من خطابه فمزقته إربا، واكتفيت بهذا.
وهكذا أنا - والحمد لله - لا أنتقم من ضعيف.
إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي
الضعيف
كانت كل أمنيتي من دخول امتحان البكالوريا أن أكون كالرجال في درجات الوظائف، وقد كان، فقد أعطتني الوزارة مرتبا قدره 12 جنيها كخريجي مدرسة المعلمين العليا.
ولهذه المناسبة الطريفة أقول إن مرتب خريجي دار العلوم العليا في ذلك الوقت كان ستة جنيهات فقط، وكان مرتبي ضعف مرتب المعلم من دار العلوم، وقد شاء الله أن تنسى وزارة المعارف قراراتها القديمة، وأن تعتبرني الآن من معلمات السنية، ويظهر أن للكبر أثرا، وعلى هذا الاعتبار المعكوس الذي لا أفهم معناه كانت تعطيني الوزارة - بارك الله فيها - إعانة شهرية مقدارها أربعة جنيهات، وسبحان مغير الأحوال، والظاهر أن ما نقصه خريجو دار العلوم من المعلومات في عصرهم الحالي زادوا به مالا، ولله في خلقه شئون.
كانت الوزارة في ذلك الوقت تريد إحلال الآنسات محل الرجال في وظائف التعليم بمدارس البنات، ورفض المرحوم الشيخ حمزة فتح الله أن يسمح لفتاة بتدريس اللغة العربية التي كان هو زعيمها حتى إذا تخرجن سمح لي بذلك.
قام رجال دار العلوم وقعدوا لذلك النبأ الغريب في نظرهم، وساءهم جدا أن تدرس فتاة اللغة العربية للسنة الرابعة، وهم أصحاب امتياز تلك اللغة، وكانوا في ذلك الوقت لا يسمحون لأحد أن يسمح لنفسه بما احتكروه لأنفسهم من تدريس اللغة العربية مهما كانت الظروف، ومن هنا أخذ اسم نبوية موسى يظهر لا بالذكرى الحميدة - والحمد لله - ولكن بالذكرى السيئة، فسموني هادمة بيوت الرجال، وقاطعة أرزاقهم، وغير ذلك من الألقاب التي أسبغوها علي، وكانوا يتحينون الفرص للإيقاع بي، فكنت إذا درست أخذوا يسترقون السمع، ويدونون ما أقوله وما أعطيه لتلميذاتي فينتقدونه، ويذهبون إلى الناظرة فيبالغون في ذلك الانتقاد، ولكنها كانت تعرض عنهم في السنة الأولى من مباشرتي العمل.
كنت في ذلك الوقت أكتب في صحيفة يومية اسمها «مصر الفتاة» تحت اسم مستعار اتخذته لنفسي، وهو «ضمير حر في جسم رقيق»، وقد أردت بكلمة رقيق المعنيين؛ رقيق أي نحيف دقيق، وقد كان هذا من صفاتي، ورقيق أي مستعبد، وقد كان هذا - ولا شك - من صفة كل مصري يباشر التعليم.
ذهب معلمو اللغة العربية إلى الناظرة، وأحضروا لها عددا وافرا من نسخ «مصر الفتاة»، وأطلعوها على المقالات ، وادعوا أني إنما أنتقد فيها السياسة الإنجليزية، وبذا استطاعوا أن يصلوا إلى قلبها بعد أن كان مغلقا في وجوههم.
أصغت الناظرة إليهم أخيرا، فقلبت لي ظهر المجن، فأرادت في أول الأمر أن تنتقم مني بتوصيل انتقاداتهم إلى الوزارة، فدعتني إلى مكتبها، وكان إلى جانبها أحد معلمي اللغة العربية بالمدرسة؛ أي مدرسة عباس الأميرية، وقالت لي: إن الأستاذ غير راض عن طريقة تدريسك، فأرجو أن تستمعي إلى نصائحه، وأن تعملي بها. قالت لي ذلك باللغة الإنجليزية، وكأنه كان بينها وبين الأستاذ اتفاق من قبل، فاندفع هو يسمعني نصائحه الغالية، فقلت لها بالإنجليزية أيضا غير عابئة بما كان يقوله الأستاذ: إني لا أعمل برأي أحد هنا إلا برأيك أنت ناظرة المدرسة، وأنت لا تستطيعين أن تعطيني آراءك في تدريس اللغة العربية؛ لأنك - والحمد لله - تلميذتي في تلك اللغة، فأنا أدرسها لك، وقد كانت الحكومة انتدبتني لتدريس اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات؛ لأني أستطيع تفهيمهن اللغة العربية أكثر من الشيوخ؛ إذ أشرح لهن ما يصعب عليهن من العبارات باللغة الإنجليزية، أما الشيوخ فكانوا لجهلهم اللغة الإنجليزية يستعملون الأيدي والأرجل في تفسير العبارات الغامضة، وهم - والحمد لله - لا يحسنون الإشارة.
قلت لها ذلك والأستاذ لا يزال مندفعا في إرشاداته دون أن أستمع إليه، وأخيرا عز علي أن أتركه يكلم نفسه فالتفت إليه، وقلت له: لا تتعب نفسك لأنني أنا غير راضية عن طرق تعليمك للغة العربية بمقدار عدم رضائك عن طرقي، وقد أكون على حق، وقد تكون أنت على باطل، ولا بد أن يكون بيني وبينك حكم يفهم تلك اللغة، أما هذه الناظرة فلا يمكن أن تكون ذلك الحكم، وهي تجهلها تماما.
قلت ذلك، ثم ترجمته للناظرة فساءها ذلك، وقالت: إذن ماذا أصنع في إرشادك؟ قلت: لهؤلاء المعلمين أن يكتبوا تقريرا بالإرشادات التي يريدونها، وسأرد عليهم أنا، ويرفع تقريرهم وتقريري إلى الوزارة، فتتخذ الوزارة ما ترى بشأن التقريرين.
طلبت الناظرة من المعلمين ذلك فرفضوا كتابة التقرير؛ لأنهم في ذلك الوقت لا يحسنون فن الإنشاء، وكل معلوماتهم في اللغة العربية كانت تنحصر في نبوغهم في الإبدال والإعلال؛ فهم يعرفون أن سار أصلها «سير»، ولكنهم لا يعرفون الفرق بين سار، وصار، وثار؛ ولهذا لم يستطع أحد منهم أن يتقدم بكتابة ذلك التقرير، وأرادت الناظرة إحراجي، والحق مع القوة لا مع المعول، فطلبت مني أن أكتب أنا التقرير، فقلت: يا سيدتي إني لم أنتقد طرق هؤلاء الرجال، ولا يهمني ذلك الانتقاد، فكيف أكتب تقريرا في حالة لم أنتقدها، ولم أطلب تغييرها، وهي طريقة تدريسهم، وإن كانت في نظري عقيمة. قالت: دعك من تلك الفلسفة، وأمامك أمران لا ثالث لهما؛ فإما أن تكتبي التقرير، وإما أن تتبعي إرشادات المعلمين.
اضطررت أن أكتب التقرير، وأمري لله، وكان تقريرا موفقا؛ فقد شرحت فيه تلك الطريقة التي كان يستعملها أساتذة اللغة العربية، فلا يهتمون بالإنشاء ولا بفهم العبارات، بل يهتمون بأمور لا قيمة لها من أبواب الصرف التي لم أشعر إلى الآن أن لها فائدة فيما كتبته وما سأكتبه؛ أي إنها لا تفيد التلميذ أية فائدة في فن الإنشاء، بل هي علل خلو من كل شيء حتى من المنطق الصحيح؛ فقد كان التلميذ يجهل معاني الكلمات فلا يعرف معانيها، ولكن الأستاذ يعلمه أصولها؛ أي أجدادها القدماء؛ فيقول له إن كاد أصلها كيد، وهو نفسه لا يفهم الفرق بين كاد وقاد، ولا كيف تستعمل الكلمتان، وهو يعرف أصلهما قبل أن يعرفهما.
هذا فضلا عن أن المنطق الذي يذكر في تلك العلل منطق سخيف لا يستقيم له معنى؛ فيشرح الأستاذ أن «قاض» استثقلت فيها الضمة على الياء فحذفت الضمة، والتقى ساكنان التنوين والياء فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، على أن «نبي» لم تستثقل فيها الضمة على الياء وبقيت كما هي، وفي هذا الكلام خطأ منطقي؛ إذ يفهم منه أن كل ياء تستثقل عليها الضمة مع أن الضمة هنا لم تستثقل إلا لانتقال النطق من كسر إلى ضم، وقد لا يكون ذلك السبب؛ فكثيرا ما تجدنا قد انتقلنا في نطقنا من كسر إلى ضم ، ولا ضير في ذلك كيوجد، وغير ذلك.
فتلك العلل النحوية لم تكن تستقيم مع المنطق حتى يتعلم منها التلميذ حسن التعليل، ولم تكن تفيده كثيرا في الكتابة، وكان يكفي أن يشرح المعلم الأسماء الناقصة، ثم يقول للتلاميذ في بساطة إن ياءها تحذف في حالتي الرفع والجر، وتبقى في حالة النصب، ولا داعي إلى ذلك الخطأ المنطقي المرذول في تعليل ما ليس له تعليل.
ومن تلك العلل قولهم: نظرت إلى كتابي، كتاب مجرور بإلى وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. سلسلة من أخطاء منطقية لا يفهمها - والحمد لله - إلا أولئك الشيوخ؛ فحركة المناسبة التي يقولون إنها منعت ظهور الحركة الأصلية هي الكسرة، وهي ليست حركة مناسبة في الواقع؛ فكثيرا ما تسبق الياء بحرف مفتوح كهيئة؛ فلا معنى إذن لحركة المناسبة هذه؛ أي مناسبة الياء على أننا نقول كتابي محمد بفتح الباء، ونترك المناسبة، وأمرها لله.
هذا الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني فكيف بربك تنوب الكسرة عن الكسرة؛ لأن حركة هذا الاسم هي الكسرة إذ هو مجرور بإلى، وحركة المناسبة هي الكسرة، فهل يستطيع إنسان يعقل أن يقول إن الكسرة تمنع الكسرة عن الظهور لتظهر هي؟!
ومن هذا نعلم أن قولهم منع من ظهورها - أي الكسرة - اشتغال المحل بحركة المناسبة غير معقول بالمرة، وما قال أحد إن إنسانا يشتغل بالصلاة عن الصلاة، فكيف اشتغل ذلك المحل بالكسرة عن الكسرة؟!
إنهم لو أصابوا لقالوا إن ياء المتكلم المضافة إلى الأسماء تسبق دائما بالكسر، هكذا نطقت العرب تلك اللغة، ولا معنى لإيراد علل غير منطقية.
كذلك شرحت في ذلك التقرير قولهم نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن فقلبت ألفا كاستطال، وتعجبت في تقريري هذا كيف تكون الحركة الواحدة على الواو حركتين تتحرك بها الواو بحسب الأصل، كما يتحرك الساكن قبلها بحسب الآن، وهل إذا كان مع الإنسان ألف جنيه وسرقها لص يجوز له أن يشتري منزلا بحسب الأصل كما يشتري اللص بها منزلا بحسب الآن؟ أليس ذلك هو السخف كله؟!
هكذا انتقدت طرق مدرسي اللغة العربية، وطلبت أن يعنى المدرسون بالمعاني والأساليب، واستعمال الكلمات في مواضعها بدلا من صرف الوقت في شرح تلك العلل السخيفة، وكان ناظر المعارف في ذلك الوقت المغفور له سعد باشا زغلول، وما كاد يطلع على التقرير حتى سر به سرورا عظيما، وطبعه ووزعه على مدارس البنات، ومعه خطاب دوري يقول فيه:
جاء هذا التقرير من السيدة نبوية موسى - وقد كنا في ذلك الوقت لا نقول آنسة - فنرسله إليكم رجاء اتباعه في مدرستكم.
وزع هذا التقرير على جميع مدارس البنات، ومن ضمنها مدرسة عباس التي كنت موظفة بها، وقد دهشت الناظرة، وجن جنونها عند اطلاعها عليه، فأحضرتني وقالت: ما هذا؟! لقد كان هؤلاء يدرسون قبل أن تولدي أنت، فكيف تصححين لهم طرقهم؟ قلت: لا غرابة في ذلك يا سيدتي؛ فقد درست أنا بهذه المدرسة في العام الماضي، وكانت نتائجي في التدريس محمودة، وكنت أنت راضية عني، وها هو رضاؤك في هذا العام قد انقلب سخطا؛ أي إنني لما درست عاما جهلت ما كنت أدرسه في العام الأول، فلم أستطع إرضاءك بقدر ما أرضيتك في أول تدريسي، إذا قست ذلك علمت أنهم الآن لا يعرفون شيئا ما دام الإنسان في عام واحد ينقص كل هذا النقص؛ أي يرجع إلى الوراء، فما بالك بهم وقد درسوا ما يزيد عن عشرين عاما؟! قالت: هكذا أنت لا تصلحين إلا في الفلسفة.
اضطرت الناظرة أن تؤجل الحرب التي بيني وبينها مؤقتا، وتتظاهر بالرضاء عني، ولكنها كانت تسر لي ضد ما كانت تظهر.
صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها علي
سابقا
اضطرت ناظرة مدرسة عباس الأميرية أن تجعل بيني وبينها هدنة، وفي النفس ما فيها، ولكنها ما لبثت أن ثارت؛ إذ ذكر لها المعلمون أني لا أزال أكتب في «مصر الفتاة»، وأن كتابتي ضد الإنجليز، وعلم الله ما كان في كتابتي شيء من ذلك، وما كانت إلا نقدا بريئا على أساليب التعليم في المدارس، طلبت منهم إحضار نسخ عديدة من «مصر الفتاة» التي تحتوي على تلك المقالات، ولا أدري كيف استطاعوا أن يحضروا لها ما يربو على الثلاثين مقالا، وقد أشروا بالمداد الأحمر على كل مقال، واستدعتني حضرة الناظرة فدخلت عليها، وإذا أمامها تلك الأعداد من مجلة «مصر الفتاة»، وقد طويت طيا يظهر موضع مقالاتي، ثم قالت لي وقد أشارت إلى تلك الأعداد: هل تكتبين في هذه الصحيفة؟ قلت: لا حق لك يا سيدتي في سؤالي عن هذا، وكل ما لك هو أن تفتشي عن عملي المدرسي وأن تنتقديه، وقد علمت مما سبق أنك أنت شخصيا لا تستطيعين ذلك، وأن إخواننا المشايخ لا حق لهم فيه. قالت: ولكن الوزارة تحرم على الموظفين الكتابة في الصحف. قلت: الوزارة هي إذن التي تسألني عن ذلك، أما أنت فلا شأن لك فيه.
قالت: إذن سأذهب إلى الوزارة، وسأريك نتيجة أعمالك. قلت: لا بأس.
اختطفت نسخة من النسخ التي كانت أمامها، وذهبت بها إلى الوزارة، ثم عادت من الوزارة، وقد هدأت ثائرتها، وأصبحت صديقة من جديد، فاستدعتني وقالت لي في ابتسامة: ما الذي كتبته في تلك المقالة التي ذهبت بها أنا اليوم إلى الوزارة؟ قلت: وهل أعرف أنا شيئا مما تقولين؟ قالت: لقد أخذت نسخة من هذه النسخ - أي من نسخ الصحيفة التي كانت لا تزال مكدسة على مكتبها - وذهبت بها إلى سعد باشا زغلول، وما كاد يقرؤها حتى أشرقت أسارير وجهه، وسر بها سرورا عظيما، وقال إنه يتمنى لو أنك أرسلت إليه بتلك المقالات قبل إرسالها إلى الصحف ليصححها لك، قلت: إذا جننت في القريب العاجل، فسأفعل ذلك يا سيدتي. فقالت: ما وجه الجنون؟ قلت: وهل يكون جنون أكثر من أن معلمة في إحدى المدارس تنتظر من وزير المعارف أن يصحح لها ما تكتبه قبل إرساله إلى الصحف؟! قالت: لو كنت مكانك لفعلت ذلك. قلت: ولو كنت أنا مكانك لما طلبت من معلمتي هذا. قالت: إنك لا تتركين فلسفتك.
مضى على ذلك يومان، وفي اليوم الثالث حضر سكرتير المغفور له محمد باشا سعيد في عربة الباشا، ومعه خطاب من وزارة المعارف يصرح لي فيه بالتدريس لبنات محمد باشا سعيد، فعجبت من التصريح، وكيف عرفني محمد باشا سعيد؟ ومن أين؟ أردت أن أتوقف عن الذهاب في تلك العربة، ولكن الناظرة أصرت على أن أذهب؛ لأن الوزارة خاطبتها بالتليفون، وأمرتها بإرسالي، فخرجت وأنا مندهشة، فحياني سكرتير محمد باشا سعيد، وكان في ذلك الوقت رئيسا للوزراء، وطلب مني أن أركب إلى جانبه لنذهب إلى منزل الباشا للتدريس لبناته.
قلت: وما السبب في وقوع اختيار الباشا علي؟ قال وقد أشار إلى نسخة من صحيفة «مصر الفتاة» كانت في يده: إن الباشا اطلع على هذا المقال، وقال لسعد باشا إنه ما دام في مصر معلمات يجدن اللغة العربية إلى هذا الحد، فهو لا يرضى أن يعلم بناته رجال. وكان في ذلك - ولا شك - قطع رزق لرجال دار العلوم أيضا، فقلت له: ولكني لست أنا بكاتبة ذلك المقال، فإذا كان قد وقع الاختيار علي على زعم أني كاتبته فأرجوك أن تعيدني إلى المدرسة. قال: لسنا بصدد التحقيق معك يا سيدة، وقد جئت بأمر من وزير المعارف لتدرسي لبنات رئيس الوزراء. قلت: على شرط أني لست كاتبة هذا المقال. قال: لا بأس فقد قبلنا هذا الشرط.
ثم أخذ يسرد لي الأسباب التي كنت أجهلها فيما وقع بين الناظرة ووزير المعارف، وتصفحت المقال فرأيت لدهشتي أنه كان مدحا لسعد باشا زغلول، فقد اختارت الناظرة نسخة، وكان المقال بها لحسن الحظ مدحا لسعد باشا زغلول، قلت فيه: إنه مع نبوغ وزير المعارف وعلو كعبه في العلوم، وإنه خير مصري لذلك المركز، فهو مع ذلك لا يستطيع إصلاح المدارس؛ لأن المدارس لا تصلح إلا بمن فيها، وهكذا كان في المقال مدح مستطاب للوزير، ونقد مر على نظم التعليم خصوصا تعليم اللغة العربية.
أعجب المغفور له سعد باشا زغلول بالمقال طبعا؛ لأنه مدح فيه، وقال للناظرة بعد أن قرأه : هل أنت واثقة أن هذا من كتابتها؟ قالت: نعم، تمام الثقة. قال: بشرك الله بالخير إذا كان في مدارسنا الآن مثل هذه الكاتبة. قالت: ولكن الكتابة في الصحف محرمة على الموظفين. قال: نعم، ولكني لا آخذها بالشك، ولا أعاقبها على الكتابة في الصحف إلا إذا جاءني منها إمضاء صريح بأنها هي التي تكتب تلك المقالات. ولهذا جاءت الناظرة تطلب مني أن أكتب بإمضائي للوزير ليصححه، وكنت على حق إذ رفضت ذلك، وقد أعجب سعد باشا زغلول بالمقال فأخذه، وذهب به إلى سعيد باشا، وأخبره أن كاتبة ذلك المقال هي نبوية موسى إحدى خريجات المدرسة السنية، وسر سعيد باشا لهذا النبأ، وطلب أن تدرس تلك الكاتبة لبناته اللغة العربية.
ذهبت إلى منزل المغفور له محمد باشا سعيد فقابلني في غرفة الاستقبال، وكان واقفا يتأهب للخروج، وبعد أن حياني قال لي: أعجبتني آراؤك في المقال الذي أطلعني عليه سعد زغلول باشا. قلت: ولكنه ليس من كتابتي. قال: لقد وقع اختياري عليك مدرسة لبناتي، فلا معنى للتنحي، وقد أخبرني سعد باشا أيضا أنك أول معلمة عينت لتدريس اللغة العربية. قلت: ولكن الرجال غير راضين عن تدريسي. قال: لا بأس! أما أنا فإني راض. وقد كنت في ذلك أحاول أن لا أدرس في المنازل؛ لأني كنت أعدها سبة، ثم قال: ستعطين بناتي هنا أربعة دروس في الأسبوع، وقد جعلت مرتبك عن هذا سبعة جنيهات. قال ذلك وتركني وخرج دون أن ينتظر مني جوابا، وجاءتني بعد ذلك السيدة حرمه، وهي من فضليات نساء مصر كمالا واستقامة مع جمال طبيعي فتان، فقدمت لي بناتها، وكن ثلاثا؛ حضرة صاحبة العصمة زينب هانم والدة حضرة صاحبة الجلالة الملكة فريال، وحضرة صاحبة العصمة ناهد هانم حرم معالي حسين سري باشا، وشقيقتهما الثالثة بديعة هانم، وقد توفيت إلى رحمة الله.
كنت غير راضية عن هذا الدرس؛ لأني كنت أعده سبة، وكنت أخشى أن التلميذة التي أدرس لها في المنزل قد لا تمنحني من الاحترام ما يجب لمعلمة تدرس في المدارس ، خصوصا وهؤلاء الثلاث بنات أعلى رأس في مصر إذ ذاك، وقد خشيت أن يعتبرنني من بعض الحاشية، ولكني وجدت من أدبهن وحسن معاملتهن ما غير رأيي، وحببني في التدريس لهن؛ أدب رائع، ووجوه بريئة مشرقة سطع فيها دم الحياة الطبيعية لا الدم الصناعي، فكان النظر إليهن والبقاء معهن متعة، كان يجب أن أدفع أنا عنها عشرين جنيها شهريا على أقل تقدير، لا أن آخذ سبعة جنيهات، فالصفقة إذن كانت رابحة، وقد أرادت الناظرة أن تضر بي فنقمتني، وهكذا كنت بحسب ما تلوكه الألسن من الإشاعات، كالعفريت الذي إذا ضرب ولم تصبه أصبح ماردا - كما يقول عامة الناس خصوصا الفلاحين منهم.
كانت المدرسة والناظرة نفسها تخشاني بعد هذا؛ لأني اتصلت بوزير المعارف على زعمهم، بل وبمن هو أعلى منه.
أما معلمو اللغة العربية فقد زاد سخطهم إذ علموا أني لم أحل محلهم في المدارس فحسب، بل حللت محلهم في منازل العظماء من رجال مصر، فلا بدع أن سميت في نظرهم قاطعة الأرزاق، ومن هنا أصبحت أكره البقاء في وزارة المعارف، وقد كنت بغريزتي الطبيعية ميالة إلى العمل الحر، فكنت تجد بين أوراقي وأنا لا أزال طالبة في معلمات السنية رسما بديعا للمدرسة التي كنت أنوي فتحها على حسابي يوم أتخرج؛ ولهذا كنت - حسب تعبير علي ماهر باشا الأخير - أحفظ استقالتي في جيبي، وأرحب بالظروف التي تدفعني إليها.
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
تعينت - كما قدمت - يوم تخرجت من المدرسة السنية معلمة بمدرسة عباس بمرتب 6 جنيهات شهريا، وكنت في ذلك الوقت أتقاضى معاشا عن المرحوم والدي، ولم يكن يشترط فينا نحن البنات التوظف أو عدمه، بل كانت الشهادة التي تصدر إلى الرزنامة كل 3 شهور يقول فيها كاتبوها: إنها لم تتزوج ولم تمت، ولم تخرج عن دائرة الحكومة المصرية، ومع أني توظفت فقد كانت شروط الشهادة كلها متوفرة في، ولكني ظننت أنه لا يجوز لي أن أستولي على مرتبين من الحكومة في وقت واحد، فأخذت سركي معاشي، وذهبت إلى الكاتب الذي كنت أستلم منه المعاش، وسألته عما إذا كان يجوز لي أخذ هذا المعاش بعد تعييني معلمة في وزارة المعارف، واستيلائي على مرتبها؟ فقال لي: لا يجوز لك هذا. ولكنه أظهر العطف علي، ورأى أني لو أخفيت هذا لاستطعت أن أتمتع بالمرتبين، فقال لي في شيء من الرأفة والعطف: قدمي إلي خطابا بأنك ستتزوجين وأنا أعطيك مكافأة هي مقدار معاشك مدة 3 سنوات. قلت: ولكني لا أريد الزواج. قال: لست آمرك بالزواج، ولكني أقول لك اكتبي لي خطابا، ولدينا أوامر من الحكومة نفسها تحتم أن لا نتحرى عن هذا، فإذا جاءتني فتاة تسكن بجواري، وأخبرتني أنها ستتزوج، وأنا أعلم حقيقة العلم كذب ما تقول، فإني أصرف لها المكافأة؛ لأنها تصبح بعد ذلك لا حق لها في المعاش، فاكتبي هذا الخطاب اليوم، وبعد أسبوعين أسلم لك المبلغ. قلت: ولكني لا أستطيع أن أكتب أني سأتزوج، لأني لن أتزوج. فاحتد الرجل، وأخذ مني السركي، وهو يقول: «هي الكلمة حتقرصك؟ إن شاء الله ما اتزوجتي.»
ضاع مني إذن بهذا الصدق الحنبلي مبلغ معاشي لمدة 3 سنوات، ولكني لم آسف عليه.
خرجت بعد ذلك من وزارة المعارف كما يشهد التاريخ، وأرادوا نكاية بي أن يحرموني حتى من المعاش، فبقيت بلا معاش ثماني سنوات، وبعد أن خرجت بثلاث سنوات جئت الرزنامة أستلم معاش والدتي، وفي دعابة قصصت على كاتب المعاشات هناك حكايتي مع ذلك الكاتب القديم؛ أي زميله السابق يوم سلمته سركي معاشي، وعجب الرجل من تلك الحكاية المدهشة، وظن أن بها رتوشا، أو أنها بعيدة عن الحقيقة فقال لي: إذا كان هذا صحيحا، فإني أستطيع أن أرد لك معاشك بعد ما لا يزيد عن غمضة عين فاكتبي الطلب الآن. وكان وزير المالية في ذلك الوقت صاحب الرفعة علي باشا ماهر، وخشيت أن يقف في الموضوع فقلت: وهل يعرض هذا على معالي الوزير؟ قال: لا، إن هذا روتين، فأنت لم تتزوجي إلى الآن، ولست بموظفة، ولا من أرباب المعاشات، فلا بد من رد معاشك. فأطعته وكتبت له الطلب، وأنا واقفة أمامه، ورجوته أن يتتبع سيره، وبعد أسبوع جئت أسأل عن طلبي فقيل لي إنه في مكتب الوكيل، وكان الوكيل في ذلك الوقت المرحوم أحمد باشا عبد الوهاب، وكان يعرف ما بيني وبين رفعة ماهر باشا، ويظهر أنه خشي أن يوافق عليه فيلومه الوزير فكتب على الطلب: «موافق، ويعرض على معالي الوزير.» ولما ذهبت إلى المكتب أستعلم عن سير طلبي قيل لي أن أسأل عنه في مكتب معالي الوزير، قلت: إذن أرسل إلى هناك؟ قالوا: نعم.
قلت: لا أخرجه الله من ذلك المكتب بتاتا. ثم ذهبت إلى صاحبي الكاتب الذي أمرني بتقديم الطلب، وقلت له إن الطلب قد أرسل إلى مكتب معالي الوزير، ولا أظنه خارجا إلى يوم الحشر فأرجوك إن بلغك شيء عنه أن تخبرني بما يتم فيه، وبعد أسبوع واحد خاطبني ذلك الرجل تليفونيا، وقال لي أن أحضر إلى الرزنامة لاستلام السركي، فذهبت لاستلام السركي معاشي عن والدي بعد أن خدمت الحكومة عشرين عاما، وقضى الظلم أن أخرج منها بلا معاش، وكان في ذلك الوقت قد مضى على خروجي من وزارة المعارف 3 سنوات، وكانت الوزارة تناوئني فلم تسمح لي بمكافأتي، ولا بأجرة منزلي الذي كان هو كل ما أمتلك في هذه الدنيا؛ ولهذا كنت في أشد حالات الضيق المالي، وإن كان الناس والحمد لله يعلمون عني في ذلك الوقت غير الحقيقة.
صرف لي في ذلك الأسبوع نفسه جملة المتجمد من معاشي عن والدي من يوم أن خرجت من الحكومة أي منذ 3 سنوات، فاستلمت المبلغ الذي كان الرجل قد عرض علي استلامه بالكذب ... استلمته بالحق، وفي وقت كنت في أشد الحاجة إليه، وهكذا نفعني الصدق في حياتي مرة بعد أن أذاقني المر مرارا.
وعلى ذكر المعاش أقول إنه بعد استلامي المعاش بشهور أرسلت إلي وزارة المالية إذنا بمبلغ المكافأة على اعتبار أن لا حق لي في المعاش، فأخذت المبلغ، وكتبت إلى المالية خطابا أقول لها فيه: إني استلمت الإذن الذي أرسلته إلي على اعتبار أنه من معاشي تحت الحساب ؛ إذ مضى علي الآن أكثر من 3 سنوات لم أستلم معاشي الشهري، وكان ذلك المبلغ الذي استلمته يساوي معاشي لمدة 8 سنوات، وقد أخذته وصرفته على التعليم الذي ابتلاني الله بحبه، وكنت أخشى بعد هذا إذا سوي معاشي أن يطلب إلي رد المكافأة، ولم يكن معي منها شيء، وكنت أرسل إلى المالية كل عام خطابا أطالبها فيه بصرف معاشي حتى لا يضيع حقي في المعاش، ولكني لم أكن أسعى وراء ذلك الخطاب لأنفذه خشية أن يطلب مني رد المكافأة إذا سوي المعاش، وظلت المسألة معلقة إلى أن تولى وزارة المالية حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا، وكان بيني وبين ذلك الرجل العظيم صداقة إذ كنت أدرس لبناته، فكنت مطمئنة على معاشي ما دام تحت يده، ولشد ما كانت دهشتي إذ علمت أن لجنة المالية قد تشكلت برياسته، وقضت بحرماني من المعاش؛ لأن المحكمة حكمت لي بتعويض مالي مقداره 5500 جنيه، وهو منطق غريب من لجنة المالية؛ لأن المحكمة التي حكمت بذلك المبلغ قالت في حيثيات الحكم: إني ظلمت بإحالتي على المعاش؛ ولهذا قضت بتعويضي بذلك المبلغ عن ذلك الظلم، وإذا كانت المحكمة تعتبر أني ظلمت مع بقاء معاشي، فلست أدري - وايم الحق - كيف تحكم اللجنة بحرماني حتى من المعاش لكي يصبح الظلم ظلمين، ولكن هل يستطيع أحد أن يقول للقوي إنك على خطأ؟! أو إن ما فعلته ظلم؟! وقد ذهبت إلى دولة صدقي باشا أكلمه في الأمر في منزله فأظهر شيئا من الأسف، ولكنه لم يفعل شيئا، وأخيرا ذهبت إليه في مكتبه فلم أستطع مقابلته، وقال لي سكرتيره الخاص: لا تيأسي فقد يرجع دولة الباشا عن رأيه إذا استعنت بمن يفهمه الحقيقة. قلت: إنه يعرف من أمري ما لم يعلمه غيره، فمن الذي ألجأ إليه ليفهمه ما هو فاهم؟
نعم إن صدقي باشا قد حدد عمر وزارته بعشر سنوات، ولكن من يعلم ماذا يأتي به الغيب؟ وإذا ظل في الحكم عشر سنوات كما يظن فسأتحملها، وسأطالب بحقي بعد ذلك.
وشاء الله أن يخرج صدقي باشا من الحكم مباشرة، وأن يتولى وزارة المالية بعده حضرة صاحب الدولة حسن صبري باشا، والرجل كما يعلم الناس جميعا شديد صلب في الحق، فقابلت حضرة صاحبة العصمة حرمه، وكنت أعرفها من المدرسة السنية، فلم تشأ عصمتها أن تسمع مني شكايتي، بل قالت لي في جرأتها المعروفة: لقد علمت من زيارتك لي أنك تطلبين شيئا من زوجي، فحددت لك موعدا لمقابلته غدا قبل أن أراك، وقلت له: إنك على حق فيما تطلبين لما أعرفه من صفاتك أثناء التلمذة، وطلبت منه أن يساعدك بكل ما يستطيع، وهو على استعداد فاذهبي إليه، ولا داعي لشرح شكواك.
أكبرت فيها تلك الهمة، وذهبت إلى دولته في اليوم التالي فأنهى المسألة في أسبوع واحد، وكان ذلك في آخر عام 1933 أي بعد خروجي من الوزارة بثماني سنوات تقريبا، وقبل أن يسلم إلي السركي حصل ما كنت أتوقعه فطلب مني رئيس الرزنامة رد المكافأة، وقال لي بهذا التعبير: «إيدك على المكافأة التي أخذتها.» قلت: «لا يا سيدي! إيدك أنت على صرف معاشي عن هذا الشهر؛ لأنه لم يبق من المكافأة شيء إذا حسبت حقي في المعاش عن كل تلك المدة.» وكان قولي هذا صحيحا؛ فقد اتضح أن لي عندهم بضعة قروش، فكان إذن من صالحي أن أتأخر كل تلك المدة عن صرف المعاش، وإلا اضطررت إلى رد المكافأة التي لم يكن في الإمكان ردها بحال من الأحوال.
استلمت سركي معاشي، واضطررت أن أسلم سركي معاشي عن والدي، وقد كان أثرا طيبا أحب الاحتفاظ به، ولكني سلمته مرغمة.
عزة النفس تقضي علي دائما
كنت من صغر سني ضعيفة النظر، ولولا قلة المتعلمات في ذلك الوقت لما تمكنت من دخول المدرسة السنية، ولا صرح لي بأن أكون معلمة؛ لأن كتب التربية تقضي بأن يكون المعلم - حسب وصفهم - ملء المسامع والأفواه والمقل؛ أي أن يكون عظيما في شكله، حاد الحواس حتى يستطيع أن يضبط نظام التلاميذ، وقد كنت أنا على العكس من ذلك قصيرة القامة، نحيلة الجسم، ضعيفة البصر ، وإن كان منظر عيني لم يكن يدل على شيء من ذلك الضعف، بل كان من يراهما يحسبهما من أحسن العيون.
على أن التجارب العملية أثبتت كذب ما يذهب إليه علماء التربية، فقد كنت على صغر حجمي وضعف بصري، أستطيع حفظ النظام إلى حد بعيد لا ينافسني فيه معلم آخر، وهكذا نحمد الله على قلة المتعلمين والمتعلمات في ذلك العهد، ولولا تلك القلة لما استطعت أنا أن أعمل في معاهد التعليم شيئا.
نجحت في دبلوم معلمات السنية، وعملت كما قدمت معلمة، وبعد مضي سنتين أرادت الوزارة تثبيتي فأحالتني على الكشف الطبي، وكان القائم بذلك الدكتور فيشر، فدهش عندما رأى ضعف نظري، وحتم علي أن ألبس النظارات، وكانت بالطبع النظارات ثقيلة جدا، وقد تألمت في أول لبسها لثقلها، وكان قد أمرني أن أعود إليه بعد أن ألبسها أسبوعا، فعدت وقلت له: إني لا أستطيع الاستمرار على لبس تلك النظارات الثقيلة، فنظر إلي، وكأنه أنف أن يرد علي الجواب، ثم التفت إلى مساعده، وقال له: فهم هذه أنه يجب عليها لبس تلك النظارة. وساءني احتقاره فتألمت، ونظرت إلى مساعده قائلة: دع صاحبك هذا يفهم أني لن ألبسها. وكان المساعد لم يبدأ كلامه، ثم ألقيت بالنظارات أمامهما، وخرجت مسرعة.
وكتب الدكتور فيشر بعد ذلك تقريره فقال فيه إني سأفقد الإبصار بعد سنتين على الأكثر، وإن عيوني لا تتحمل قراءة ثلاثة كتب، وإنه لا يوصي مطلقا بتثبيتي. وبلغني هذا، فكتبت للوزارة أقول إني لا أستطيع العمل في الحكومة إلا مثبتة، وإنهم إذا لم يثبتوني، وجب عليهم أن يعتبروا خطابي هذا استقالة، وقامت الوزارة وقعدت لذلك النبأ؛ إذ لم يكن قد توظف في خدمة الحكومة من معلمات السنية إلا خمس معلمات قبل تخرجي، وثلاث زميلاتي، وكانت الوزارة في حاجة شديدة إلى معلمات لكثرة المعلمين، وقلة المعلمات.
فأكثرت الوزارة من إرسال المفتشين للتفتيش علي، والتبين من كفاءتي العلمية، ومقدرتي على حسن النظام، وقد أثبتت تقاريرهم أنني أحسن المعلمات نظاما وتدريسا، وقد مللت من كثرة المفتشين، وقضت علي عزة النفس أن أباشر التدريس واقفة لا أجلس مطلقا؛ حتى لا أضطر إلى القيام إجلالا لدخول مفتش على كثرة هؤلاء المفتشين، وأخيرا زارني مستر دانلوب مستشار وزارة المعارف بنفسه، ولم أكن أعرفه شخصيا، وكنت قد تضايقت من كثرة المفتشين، وعولت على أن لا أعبأ بأحد منهم.
فلما دخل علي مستر دانلوب، وناظرة المدرسة، وكنت بالطبع واقفة أدرس أمرت التلميذات بالوقوف، ثم بالجلوس، وسرت في درسي دون أن ألتفت إليه، وتناول هو كراسة التحضير، وكان بها جملة من الأوراق الصغيرة؛ إذ كنت أؤلف كتابا للمطالعة، وقد تركت أصول ذلك الكتاب في دفتر التحضير، فتناثرت الأوراق على الأرض تحت أقدام الطالبات، ومال هو لالتقاطها، وأرادت بعض التلميذات أن تساعده في ذلك، فأمرتهن بالكف عن هذا والالتفات إلى الدرس، وتركته يلتقط الأوراق بنفسه، وسرت في درسي دون أن تلتفت إليه التلميذات، فأعجبته قوة روحي في حفظ النظام، والتقط جميع الأوراق بنفسه، ووضعها في الكراسة كما كانت، ثم وضعها على منضدة المدرس.
كل ذلك وأنا لم ألتفت إليه، ولم أحسب حسابا لوجوده، وكانت السنة التي أدرس فيها الرابعة الابتدائية، وكنت أقرأ معهن قطعة إملاء أمليتها عليهن أمس، وأخذت منها موضوعا للمطالعة، وكانت إحدى التلميذات متغيبة في درس الإملاء أمس، ولم يكن أمامها كراسة، بل كانت تستمع لما يقال، وظن مستر دانلوب أني لم أرها، فقال لي: ألا ترين في فصلك هذا مخالفة لنظم التدريس؟ فقلت: أتقصد هذه التلميذة الجالسة في آخر الحجرة التي ليس أمامها كراسة؟ وكان الرجل يظن أني لضعف نظري لا أرى ذلك فدهش، وقال: نعم.
قلت: إننا نطالع في كراسة الإملاء التي أمليتها أمس عليهن، وقد كانت تلك التلميذة متغيبة، فالإملاء ليست مكتوبة في كراستها؛ ولهذا لم آمرها بإخراجها. قال: أوليس من حسن النظام الظاهري أن تخرج تلك التلميذة كراستها، وإن لم يكن الإملاء مكتوبا فيها؟ قلت: كلا، أنا لا يهمني الظاهر، وإنما يهمني النظام الحقيقي وفائدة التلميذات، فإن تلك التلميذة لو أخرجت كراسة ليس فيها الإملاء، ونظرت إليها لشغلها ذلك عن تفهم درسنا اليوم ؛ إذ هي تنظر إلى غير ما نقرأ نحن فيه، أما إذا جلست بدون كراسة فإنها مضطرة أن تصغي إلى ما يقرأ. قال: صدقت. ثم قال: وما درسك اليوم؟ قلت: مطالعة. قال: إن الوزارة قررت أن تطالعي في كتاب الفوائد الفكرية من صفحة كذا إلى صفحة كذا، وأنت اليوم تخالفين هذا، وتطالعين مع تلميذاتك في شيء لم تقرره الوزارة. قلت: لقد فهمت من هذا القرار الذي قررته الوزارة أنها تريد أن تحدد لي كمية ما يجب أن تقرأه التلميذات لا أن تضطرني إلى قراءة كتاب لا يفسد ذوق التلميذات في اللغة العربية فحسب، بل يفسد ذوقي أنا الأخرى. فنظر إلي وقال: ومن أين أتيت بتلك الإملاء؟ قلت: لقد وضعتها أنا خصيصا؛ لأني في صدد تأليف كتاب مطالعة لهن، فأنا أملي عليهن أصول كتابي. قال: وهل أنت واثقة من أنك لم تخطئي في تلك الأصول؟ قلت: لقد عينتني الوزارة هنا لأدرس اللغة العربية، ومعنى هذا أني أعلم الطالبات المطالعة والإنشاء، فإن كنت أنا نفسي لا أحسن ذلك كان الخطأ واقعا على الوزارة التي عينتني؛ لأنها عينت معلمة تجهل اللغة لتدرس تلك اللغة، أما أنا فإني أقوم بواجبي كمعلمة تعرف تلك اللغة، فإذا اتضح للوزارة غير ذلك كان لها أن تفصلني.
قال: ترجمي لي تلك القطعة. فترجمتها، وسر منها، ثم قال: ومن أين جئت بتلك الأفكار؟ قلت: لقد قرأت كثيرا، ولكني لا أذكر بالذات أني نقلتها من كتاب خاص. قال: إذن كل ما تملينه على الطالبات، وكل ما تطالعينه معهن من إنشائك؟ قلت: نعم. قال: ولم لا تقرئين في كتاب الفوائد الفكرية؟ قلت: لأنه لا يعجبني. قال: وهل أنت أفضل من عبد الله باشا فكري؟ قلت: كلا ولكنه مات، ولو بقي إلى الآن لغير كتابه حسب تغير الزمان، فأنا أفضل منه من تلك الوجهة؛ إذ أنا لا أزال باقية أعرف تغيرات الدهر، وقد مضى هو، هذا فضلا عن أنه رجل قد لا يعرف ما تحتاج إليه السيدات، أما أنا ففتاة أعرف ما تحتاج إليه الفتيات، خصوصا وأني أعاصرهن الآن. قال: ألا تجدين صعوبة في التدريس لضعف بصرك؟ قلت: لا أجد من ذلك شيئا؛ لأني كما ترى أستطيع أن أطالع، كما أستطيع أن أرى آخر تلميذة في الفصل، ولا يطلب من المعلمة إصابة المرمى الدقيق، كما يطلب من الضباط والعساكر. قال: صدقت، ولكنك تجيدين حفظ النظام إلى درجة بعيدة، فكيف تجيدين هذا مع ضعف نظرك؟ قلت: إني أحفظ النظام بمخي لا ببصري، ويكفي أن ترى مني الطالبات عينين سليمتين إذا رفعتهما في طالبة ارتعدت، وظنت أني لا أرى وجهها فقط، بل أرى دخيلة نفسها، وهذا على ما أظن كاف في حفظ النظام. قال: صدقت.
ثم التفت إلى الناظرة، وقال: الحق أني لم أناقش معلمة ولا معلما في منطق هذه المعلمة. قالت: صدقت يا مستر دانلوب؛ فهي دائما قوية المحاورة. وهنا عرفت أنا أن مخاطبي الذي كلمته بجفاء هو القابض على زمام الأمور في وزارة المعارف، وكدت أرتجف لولا رباطة جأش ربيت عليها، وذهب مستر دانلوب بعد ذلك إلى وزارة المعارف، وقال: لو قيل لي إن نبوية موسى عمياء لا ترى ضوءا لثبتها. ثم أراد بعد هذا أن يغير من تقرير الدكتور فيشر الذي تركت له نظاراتي بعد أن دفعت فيها ثلاثة جنيهات، فطلب من مسز ألجود أن تكون الوسيطة بيني وبين الدكتور فيشر لتعديل تقريره، وجاءتني مسز ألجود، وقالت: أريد أن تذهبي مرة أخرى إلى الدكتور فيشر. فقلت: لست بفاعلة، ولو أدى ذلك إلى فصلي. قالت: ولكني لم أسئ إليك، وأنا صديقتك، وسأذهب معك، وأمنعه من أن يكلمك. قلت: إذا كان الأمر كذلك فلا بأس.
ذهبنا إلى الدكتور فيشر فأخذ يلاطفني، ويقول لي: يظهر أن الوزارة ليس عندها غيرك، وما دام الأمر كذلك فنحن نقبل نظرك على العين والرأس. ثم أصلح من تقريره، وكتب تقريرا مناسبا، وثبت بقرار من مجلس الوزراء.
وعلى ذكر الدكتور فيشر أقول إني في سنة 1914 أي بعد أن مضى على تلك الحادثة خمس سنوات أردت أن آخذ رأيه في مسألة بصري، فذهبت إليه في عيادته كإحدى المريضات، فلما نظر إلي، وكان هو الذي يكتب في دفتره أسماء المرضى رأيته يكتب اسمي دون أن يسألني، فعرفت أنه لا يزال يذكرني، فقلت له: ما رأيك؟ هل سأفقد البصر قريبا؟ فضحك، وقد تذكر تقريره الذي قال فيه إني سأفقد بصري بعد سنتين، وكان قد مضى على ذلك التقرير خمس سنوات، ثم قال: لا خوف على بصرك الآن، فإنه على ما يظهر لي يتحسن، وهكذا الغيظ يغير حتى التقارير الطبية التي يجب أن تكون ثابتة.
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
سمح لي المرحوم الشيخ حمزة فتح الله بتدريس اللغة العربية، فانتهز المعلمات الإنجليزيات هذه الفرصة، وطلبن من الوزارة أن تكلفني تدريس اللغة العربية لهن؛ لأنهن بالطبع يستطعن التفاهم معي لمعرفتي اللغة الإنجليزية، أما المشايخ فقد كان تخاطبهن معهم بالإشارة، وربما أدت تلك الإشارات إلى عكس المعنى المطلوب، وكان هذا سببا في أن أعرف من عادات الإنجليزيات الشيء الكثير، والإنجليز يعملون لأمتهم الدعاية الكافية التي تجعل الأمم الأخرى تثق بهم ثقة عظيمة.
عرفت ذلك من ميول تلميذاتي الإنجليزيات، وإن كن فيما مضى معلماتي، فلم أشأ أن أجاريهن فيه، فكن أثناء درس المحادثة إذا طلبن مني أن أروي لهن خرافة مصرية، طلبت منهن أن يسردن لي خرافة إنجليزية لأشرح لهن أنا خرافة مصرية على طرازها، فكن في أول الأمر يرفضن ذكر خرافات إنجليزية مدعيات أن إنجلترا لا خرافة فيها، ولكنهن اضطررن أمام إصراري على أن كل بلد لا تخلو من الخرافات، واستشهادي ببعض ما كنت أقرؤه من الكتب الإنجليزية ... اضطررن أن يروين لي خرافات إنجليزية، وأروي لهن خرافات مصرية مثلها.
عرفت الإنجليزيات أني أدافع عن عادات بلادي، ولا أرمي أهلها بسوء، فأقلعن عن تجريح المصريين أمامي، ووافقنني على رأيي من أن كل الشعوب لا تخلو من أخيار، كما لا تخلو من أشرار، وأن الله لم يخلق أمة من ملائكة، وأخرى من شياطين، وفي ذلك تقرير لحقيقة أومن بها كل الإيمان.
أقامت المعلمات الإنجليزيات حفلة شاي دعت إليها بعض المصريات، وكنت بالطبع من بين هؤلاء المصريات، وأخذنا نتحدث أثناء تناول الشاي في مختلف الشئون، وفجأة عرضت إحدى المصريات إلى ذكر بعض المومسات، وسألت إنجليزية عن مرادف كلمة مومس باللغة الإنجليزية، فدهشت الإنجليزية لذلك، وقالت: إن تلك المرأة غير موجودة في إنجلترا، وما دام المسمى لا وجود له، فليس له بالطبع اسم في قواميس اللغة. ودهشت المصريات لذلك وأخذن يسألن أسئلة مختلفة عن الحالة في إنجلترا، وانبرت إنجليزية غيورة على بلادها تصف لهن إنجلترا بأنها بلاد الخير والعلم، ولا أثر للشر فيها، واندفعت في ذلك اندفاعا نسيت معه الحقيقة، فأخذت تزعم أنه ليس في إنجلترا كذوب ولا غشاش ولا لص ولا محتال، وأخذت المصريات تقول إن مصر ليس فيها من يصدق أو من يفي بوعده، وإن كل المصريين خونة لا أثر للفضيلة فيهم، وساءتني تلك الدعاية الكاذبة التي تقوم بها زميلاتي ضد بلادهن، ولكني سكت إلى أن هدأت العاصفة، ثم التفت إلى تلك الإنجليزية المتحمسة، وسألتها ببساطة: هل في إنجلترا محاكم وسجون؟ فدهشت وقالت: إنه لسؤال عجيب! ويظهر أنها ظنت في الغباء، فقلت لها: لا عجب يا سيدتي من سؤالي هذا، فإني لم أتشرف بزيارة إنجلترا. قالت: لا بأس، وأخذت تصف لي سجون لندن واتساعها، وتنسيق غرفها، وهنا أظهرت الدهشة، وقلت في شيء من السخرية: وهل بنيت هذه السجون يا سيدتي لتكون مأوى المصريين عند ذهابهم لتمضية الصيف في إنجلترا، ما دام ليس في الإنجليز كذاب، ولا غشاش، ولا قاتل، ولا شرير؟!
ارتج على السيدة الإنجليزية فلم تحر جوابا، وكانت غريبة لا تعرفني، أما المعلمات الإنجليزيات اللائي خبرنني وعرفن حواري، فقد نظرت كل منهن إلى فنجان الشاي الذي تشربه، واشتغلت به عن الرد علي، وقوى ذلك من عزيمتي، فقلت للسيدة التي كانت تناقشني: لا شك يا سيدتي أن هذه السجون مملوءة بالإنجليز أنفسهم، وهنا لا يخرج كلامك عن أحد أمرين؛ فإما أن يكون كلامك لا صحة فيه ولا حقيقة له، وإما أن تكوني صادقة ، وليس في إنجلترا لا لص ولا شرير، وهنا تكون النكبة الكبرى؛ لأن قضاة الإنجليز يكونون بسجنهم هؤلاء الناس الأبرياء ظالمين، ومصر إذا كان فيها من الدهماء اللص أو الكذوب، فإن قضاتها قد اشتهروا بالعدل والنزاهة، فلا ظلم في قضاء مصر، ولا إحراج، أفلا ترين بعد هذا أن مصر أفضل من إنجلترا؟
فسكتت، ولم تستطع الإجابة، وتشاغل عني باقي الإنجليزيات، ثم التفت إلى المصريات، وقلت لهن: لقد علمتن من ذلك النقاش أن تلك السيدة الإنجليزية كانت تكذب لصالح بلادها، وهي تشكر على ذلك، أما أنتن فيسوءني جدا أن أقول إنكن كذبتن كذبا واضحا في ادعائكن أن مصر ليس فيها وفي أو صادق، وليتكن اقترفتن جريمة الكذب هذه لصالحكن، أو لصالح بلادكن، بل لسوء حظ مصر أنكن تقترفن جريمة الكذب للدعاية ضد بلادكن، تلك البلاد المسكينة التي أنجبت نارا تحترق بها، على أنكن في ذلك الادعاء قد أسأتن إلى أنفسكن؛ لأنكن وأنتن تعترفن صراحة، وأمام زميلاتنا الإنجليزيات أنه ليس في مصر صادق ولا أمين، قد سجلتن على أنفسكن وصمة عار الكذب والخيانة؛ لأنكن لسوء الحظ مصريات ينطبق عليكن ما ينطبق على جميع المصريين.
الحرية وهل لها مسمى؟
كنت شغوفة بلفظ الحرية، وكنت أحسب أن لها مسمى حتى علمني الدهر أن الحرية والعدل اسمان وهميان لا حقيقة لهما، دفعني حبي لتلك الحرية الموهومة أن أطلب الخروج من خدمة الحكومة لأكون ناظرة للمدرسة المحمدية في الفيوم التي أنشأها مجلس المديرية في ذلك الوقت، وكنت أعتقد كل الاعتقاد أن العمل في تلك المدرسة عمل حر لا تدخل لأحد فيه.
وكان أن ذكر المغفور له سعد باشا اسمي أمام حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود، وروى له رواية المقالة، وكيف اختارني محمد باشا سعيد معلمة لبناته.
كان محمد باشا محمود في ذلك الوقت قد أنشأ المدرسة المحمدية في الفيوم، وعين لها ناظرة إنجليزية، ولكنه اختلف معها فتركت المدرسة لخلاف اعتبرت فيه أن المصريين لا يفهمون النظافة؛ لأنها طلبت من مجلس المديرية أن يرصف فناء المدرسة بالأسفلت على اتساعه، فلم يجد المجلس في ماليته ما يقوم بذلك، وتضايقت الناظرة لعدم تنفيذ هذا المشروع؛ لأن الفناء كان أثناء المطر يملأ بالوحول، فتحمله أرجل الطالبات إلى فصول الدراسة، فلما رفض المجلس طلبها تركته، وأخذ المدير؛ أي محمد باشا محمود يبحث عن ناظرة أخرى، وما كاد يسمع باسمي حتى أخذ عنواني من وزارة المعارف، وكتب إلي لأقابله في منزله بشارع الفلكي، وهناك اتفقنا على أن أذهب معه إلى الفيوم لكتابة عقد التوظف مع المجلس ذاته.
وراقني طلبه هذا، وسررت له كل السرور؛ لأني شعرت أني سأنال الحرية المرغوبة بعيدا عن الحكومة، وقد فاتني في ذلك الوقت أن أعرف أن مجالس المديريات هي أيضا جزء من الحكومة، وفي اليوم التالي سافرت معه في قطار واحد، وكنا في عطلة الصيف، وما كاد القطار يصل إلى الفيوم، وينزل منه حضرة المدير؛ أي رفعة محمد باشا محمود حتى أخذ العساكر يدفعون الناس ليفسحوا له الطريق، وكانت ضجة، وكان زحام اصطدم فيه كل الناس حتى أنا التي حضرت مع سعادة المدير نفسه.
هالني ذلك السلطان العظيم للمدير، الشيء الذي لم أعهده في عاصمة البلاد القاهرة، فمحافظها يسير دون ضجة ولا جلبة، أما المدير في المديريات فكأنه ملك، وذكرتني تلك الحادثة بحكاية رويت لي عن فلاحة رأت زحاما على محطة السكة الحديد في بلدها، فسألت: علام ذلك الزحام؟ فقيل لها إنه الخديوي يشرف البلد قالت: «يا سلام والزيطة دي كلها علشان الخديوي، والله أنا باحسبه المدير.» وهكذا عرفت في ذلك اليوم من هو ذلك المدير العظيم.
استقل عربته، وتبعته في عربة أجرة إلى المديرية، وهناك في ساحة المديرية ما كدنا نصل حتى قابله العساكر بتلك التحية العسكرية المعروفة، وقد صرخ فيهم رئيسهم: «كركون سلاح!» وتبع تلك الصرخة ضجة عظيمة من بنادق العسكر أفزعتني، ولم أكن رأيتها قبل ذلك، وتبعت المدير إلى غرفته، وأنا أكاد أرتعد خوفا، فطلب أحد الكتبة، وأمره بإعداد العقد فنظرت إليه، وقلت له: مع من؟ قال: معك. قلت: أتعاقد أنا معك؟ أعوذ بالله ! لقد اعتدت أن لا أخشى رئيسا، وقد شتمت رئيستي قبل أن أحضر معك، وإذا أنا ناقشتك فماذا يكون حالي، وأنت هنا ملك يخشاك كل الناس، وتحت أمرك عسكر أزعجتني تحيتهم لك؟ فأنا لا أقبل العمل معك، ولن أستطيعه. قال: ولكني سأعاملك بالحسنى. قلت: إنك إن قلت لي كلمة في المستقبل فسأقول لك عشرا. قال: ولكن هل تستطيعين إدارة المدرسة بنجاح؟ قلت: نعم. قال: لا بأس، فلن أقول لك تلك الكلمة.
وعلى ذلك اتفقنا، وأمضيت العقد، وعدت إلى القاهرة فقدمت استقالتي من وزارة المعارف، وكان المغفور له سعد باشا زغلول وزير المعارف في ذلك الوقت قد سافر إلى أوروبا لتمضية الصيف، وحل محله صاحب الدولة رئيس الوزراء محمد باشا سعيد الذي كنت أدرس لبناته في ذلك الوقت، فلما عرضت عليه الاستقالة رفض قبولها، وقابلني في منزله، فقال لي: لا بد من أن تسحبي استقالتك. قلت: لن أفعل! قال: هذا أمري. قلت: لقد أعطيت كلمة شرف. قال: سآمر المدير بتمزيق العقد - لأنه كان في ذلك الوقت وزيرا للداخلية - قلت: ولكني أعطيت كلمة شرف، ولا قيمة للعقد بجانبها. قال: فهل تقدرين كلمتك أكثر من تقديرك لكلمتي؟ قلت: كلمتي تنفذ علي؛ لأني قلتها. قال: ولكني سأكون ضدك إن فعلت. قلت: لا بأس فلن نتقابل بعد اليوم. قال: سبحان الله إنك لعنيدة، وهلا تزالين على تصميمك بعد أن علمت أن هذا يغضبني؟ قلت: نعم؛ لأنه يرضيني. قال: إذن أحمد الله إذ لم تطل مدتك في تعليم بناتي لأنك عنيدة، وأخشى أن تسري تلك الخلة منك إليهن. قلت: إذن قد عملت ما يرضيك في تعاقدي بالفيوم. فألقى بسبعة جنيهات مرتب الشهر الآتي، وقال: هذا مرتبك، وشاوري نفسك لعلك تهتدين. قلت: لقد صممت. فخرج من باب وخرجت من الثاني.
وهكذا بدأت عملي في الفيوم مغضوبا علي من رئيس الوزراء، ووزير الداخلية الذي هو ولا شك رئيس المدير، وإن كان لا يؤبه به في المديرية بمقدار ما يؤبه بالمدير مرءوسه.
حنبليتي في البعد عن الرجال
رفض وزير الداخلية بالنيابة قبول الاستقالة، وتركته كما قدمت، وذهبت إلى رفعة محمد باشا محمود فوجدته متمسكا كل التمسك بتنفيذ العقد الذي كتبته معه، وهنا احترت في أمري ماذا أفعل؟ وقال لي محمد باشا إنه سيتوسط لدى الوزارة في قبول استقالتي، وطالت مدة انتظاري خطاب قبول الاستقالة من وزارة المعارف، وكنت لذلك في أشد الحرج والضيق؛ هذا يطالبني بتنفيذ العقد، والوزارة تصر على عدم قبول الاستقالة، وكنت أزور المرحومة باحثة في البادية، وكان حضرة الشيخ المحترم زوجها يقرأ ما أكتبه في «الجريدة»، ويقارنه بما تكتبه هي، وكان يفضل كتابتي، ولو على سبيل إحراج زوجته ومعاندتها، ويظهر أنها تضايقت من ذلك، وأرادت أن يقابلني هو بالذات، ولعلها قصدت بذلك أن تريه أني وإن كنت أساويها في الكتابة إلا أني لا أساويها في الجمال، فعرضت علي أن أقابل عبد الستار بك الباسل، ولكني لعلمي بشدة غيرة النساء على أزواجهن رفضت رفضا باتا أن أقابله؛ ولهذا كنت إذا ذهبت إليها احتطت أن لا يراني حتى ولا من ثقب الباب، فكنت أجلس دائما بجانب الباب المغلق في الحجرة حتى إذا نظر أحد منه فلا يراني.
وكان ذلك يضايقها، وربما كان يضايق أيضا عبد الستار بك، وذهبت إليها، وأنا في حيرتي هذه فسألتني عن كيفية خروجي من ذلك المأزق، قلت: لقد فكرت فلم أجد لي مخرجا من هذا إلا أن أتزوج، وهذا العذر الشرعي يمنع الطرفين من التمسك بي، ولكني كما تعلمين لا أحب الزواج؛ ولهذا عولت أن أتزوج بشخص أكون واثقة من أنه سيطلقني في ليلة العرس. قالت: وكيف يتم لك ذلك؟ قلت: نعم! لقد سمعت إحدى سمسارات الزواج تقول: إن رجلا طلب منها أن تبحث له عن زوجة لا يشترط فيها إلا الجمال فقط؛ فهو لا يشترط علما، ولا مالا، ولا يهمه إلا أن تكون زوجته ملكة الجمال في الدنيا. فإذا تم لي الأمر، ورضيت تلك السمسارة أن تخدع الزوج فإني لا أقابله إلا ليلة الزواج بالطبع، وهناك أرتدي ملابسي هذه التي ترينها أنت، ويدخل الرجل وهو ينتظر أن يرى ملكة الجمال في العالم، وإذا به يراني كما ترينني الآن، فهل تظنين أنه يتمالك نفسه من أن يضربني أو ينتحر، وهنا نقضي ليلة العرس في القسم، ويكون قد تم لي ما أردت فأتخلص من الوظيفة والزواج معا.
كنت أقول ذلك، وكان عبد الستار بك الباسل يسمعه من الغرفة المجاورة، ومن هنا ثبتت في رأسه فكرة أني بشعة الخلقة إلى حد يجعل ذلك الزوج ينتحر في ليلة العرس، فلما ذهبت إلى الفيوم، وكان عضوا في مجلس المديرية كان أول ما فعله هو زيارة المدرسة ليراني، وعاد إلى زوجته فقال: إنها ليست من الدمامة بالمقدار الذي كنت أتصوره. وبديهيا أن هذا لا يدل على المدح، ولكنه يدل على أنه كان قد أخذ عن صورتي فكرة غير واقعية فظنني غولا، أو ما شاكل ذلك من الحيوانات، فلما رآني لا أزال من الجنس البشري الذي لا غرابة في خلقته قال ذلك لزوجته، ولكن الزوجة وخصوصا الزوجة الفاضلة المستقيمة المتعلمة كالمرحومة ملك شديدة الغيرة على زوجها الذي لا تعرف من الرجال غيره؛ ولهذا حركتها تلك الكلمة، وصممت عندما ذهبت إلى الفيوم إلا أن تضيفني في قصر الباسل، واضطررت إلى إجابة طلبها لما بيننا من صداقة، ولكني ذهبت محتاطة، فأخذت والدتي معي حتى لا أترك لعبد الستار بك سبيلا إلى مجالستنا في منزله، وجاء طبعا ليحييني، ورأى والدتي وقد سترت وجهها، ولكنه جلس، وهي عادة العرب في إكرام الضيوف والمبالغة في ذلك الإكرام، ولكني تضايقت؛ لأني عندما دخلت المنزل قالت لي المرحومة إنك أجمل من ذي قبل، وهي تريد أن تقول: أقل دمامة من ذي قبل. قلت: وما الذي تغير في؟ أترين أني غيرت شيئا من خلقتي الطبيعية؟ قالت: كلا! ولكنك تبدين في نظري مقبولة. تبين لي من تلك الكلمة أنها توجس مني خيفة؛ ولهذا أردت أن لا يمكث زوجها معنا فتوضأت وصليت، وإن كانت تلك ليست بعادتي في كل الأيام، فلما دخل وأراد أن يسلم علي باليد اعتذرت حتى لا ينقض وضوئي فجلس، وقد شعر بشيء من الجفاء، وهذا كل ما أردته، وأخذت المرحومة، وكانت على ما يظهر لي مغرمة به، أخذت تحادثه، وتقول له: ألست في حبي على رأي امرئ القيس حيث يقول:
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
قال: فلنسأل نبوية عن رأيها في معنى ذلك البيت. فقلت محتدة: أنا لا أسأل في معنى الأبيات الغرامية وفي شكلي ولبسي وكلامي ما يمنع أي رجل من أن يسألني ذلك السؤال، فإن هو تجاهل كل ذلك فليس له إلا الضرب. ودهش الباسل وقال: لا شك أنكما من النساء. وخرج، وكان هذا كل ما أريد، وقد ساءني أن يظهر على المرحومة شيء من الغيرة من فتاة لا تعرف الرجال، فأقسمت أن لا أبيت في ذلك المنزل إلا إذا دخلت أنا وهي في غرفة وأغلقناها من الداخل، وأخذت تستعطف فأرفض، وأقول إن كلامك شككني في طهارة هذا البيت.
أليس للرجال بعد هذا أيها القارئ أن يكرهوني، أو يصفوني بالجنون، وهل يلامون إذا فعلوا ذلك؟!
انتهت الليلة على خير ما يرام، أو على أسوئه، وفي الصباح استقللت أول قطار يترك قصر الباسل إلى الفيوم، وظللت صديقة للمرحومة؛ لأني كنت أحبها كثيرا، ولكني لم أدخل منزلها بعد هذا لا لأني كنت أشك في طهارة زوجها، ولكن لأني لم أكن أريد أن يكون اسمي بأية حال موضعا للشبهة.
وتصادف أن دخلت منزل المرحوم أحمد باشا الباسل لأزور زوجته، فرأتني المرحومة هناك، وقالت: إن عبد الستار بك مع الرجال، وأريد أن أدعوه لمقابلتك. قلت: ولكني يا سيدتي لا أريد مقابلته. قالت: اسمعي يا نبوية! إني أنا أريد أن أراه، ولعلي اتخذتك حجة. فضحكت وقلت: لا أدري لم تريدين ذلك، وليس في وجهه ما يعجب. وكانت شقيقة الباسل موجودة، وقد نفذت المرحومة غرضها قبل أن تقوله لي، وإذا به قد حضر، وبادرته شقيقته بقولها: إنها تقول عنك إنك دميم. قلت: لا بأس، وهذا لا يعيبه يكفي أنه نبيل كريم. وحييت الجميع، وخرجت في الحال بالرغم من إلحاح المرحومة باحثة البادية في استبقائي.
أعود إلى حيرتي قبل الوظيفة، فأقول إني كنت في أشد الحيرة حقا، كنت أفكر كثيرا في كيف أتخلص من طرفي النزاع، وكان لي صديقة فقالت لي إنها تعرف منجما ماهرا يخبرني عن المستقبل، ولم أكن أعتقد في المنجمين إلا أني وجدت من التسلية أن أذهب إليه، ولو على سبيل تمضية الوقت والخروج من الحيرة، ولو دقائق، ويظهر أن صديقتي تلك كانت سمسارة لذلك المنجم، فأخبرته عن حالتي قبل ذهابي إليه، فلما ذهبت رأيت شابا يظهر عليه أنه تلميذ صغير، وقد التفت حوله عدد عظيم من السيدات، وقيل لي إنه إنما يبحث مستقبلهن بالدور على حسب مجيئهن، وكنت بالطبع الأخيرة وجلست، وإذا به ينتهي من سيدتين، فيما لا يقل عن ثلث ساعة، وعلى هذا حسبت انتهاءه من جميع من كن قبلي فرأيت أنه لا يقل عن ست ساعات فقمت واقفة، وقلت بصوت مسموع: لقد جئت لأسري عن نفسي لا أن أتضايق، وبقائي هنا ست ساعات أنتظر ذلك الشاب الصغير ليروي لي مستقبلا هو أجهل الناس به مضيعة لوقتي، فإلى اللقاء.
وسمع الشيخ الصغير ذلك فقال: سأقدم النظر في مستقبلك على جميع الحاضرات فادني مني. واضطرتني صديقتي إلى الدنو منه لأكشف عن مستقبلي، وإذا به يقول: إنك في وظيفة حكومية، وتريدين الخروج منها إلى عمل آخر، وستخسرين كثيرا في ذلك العمل. ودهشت كيف عرف هذه الحقيقة، وكادت عقيدتي أن تتزعزع، واسترسل هو في كلامه، وكأنه أراد أن ينتقم مني، فقال لي: إنك ستمرضين وستفقدين بصرك. وكأنه كان ينافس الدكتور فيشر في ذلك، وكان يريد أن ينبئني بما يسوءني من جميع الوجوه، وأخيرا قال لي: إنك ستتزوجين من رجل يأخذ جميع مالك. وهنا تنبهت إلى كذبه، وقد كنت مصممة على أن لا أتزوج، فكيف إذن يتغير ذلك التصميم إلى الزواج لا من رجل ثري أطمع أنا في ماله، بل من رجل يأخذ هو مالي، وهذا بالطبع يستحيل علي ما دمت في عقلي، وهنا قلت له : أرجو أن تكشف لي عن أمر واحد، هل سأبقى صحيحة العقل أم أجن في يوم من الأيام؟ قال: لا، سيظل عقلك سليما. قلت: أنت إذن كاذب كل الكذب؛ لأنه من غير المعقول أن أحتفظ بعقلي الذي يرشدني الآن، وأتزوج برجل يأخذ مالي، إنك يا هذا كاذب. وقمت وتركت المكان.
قبلت استقالتي بعد ذلك.
وابتدأت عملي في المدرسة المحمدية بالفيوم، وكنت مسرورة بذلك العمل الجديد، فغيرت فيها تقريبا كل شيء، ويوم استلامها حضر معي المدير نفسه فدخل معي الفصول، وأخذ يقول لي هذا هو فصل السنة الأولى، وهذا هو فصل السنة الثانية، وغير ذلك؛ لأنه كان مهتما بالمدرسة أشد الاهتمام، ويعلم عنها كل شيء، وزارني بعد ذلك بثلاثة أيام، فاقترح أن أضع يافطة باسم كل فصل على بابه، ولم أكن أنا أهتم بمثل تلك الصغائر؛ لأن المدرسة لم تكن من الاتساع وتشابه النواحي، بحيث يخطئ الإنسان غرفاتها، بل كانت مدرسة صغيرة، لا يدخلها بالطبع إلا المعلمون الذين يعرفون مكان كل فصل، أما الزائرون فكانوا يذهبون معي إن شاءوا زيارتها فأدلهم على كل فصل؛ ولهذا تهاونت فلم أنفذ أمر المدير، وبعد أسبوع جاءني، وطلب زيارة الفصول، فلما وصلنا إلى باب الفصل الأول، وكان السنة الأولى، أخذ ينظر إلى أعلى الباب ليقرأ اليافطة التي وضعت، فلما لم يجدها قال لي: ما هذا الفصل؟ قلت له: السنة الأولى. ثم ذهبنا إلى السنة الثانية، وأراد أن يفعل نفس ما فعله في السنة الأولى، فقلت له: لا تنظر إلى أعلى! فإني لم أضع يفطا، أما السؤال الثاني وهو ما هذا الفصل فأنت تعلم أنه السنة الثانية، وأنت الذي عرفتني تلك الفصول منذ أسبوعين، وأظن أنك لم تنس بعد، فضحك، ولم يقل شيئا.
قوة الشباب وغروره
وهكذا كنت في مدرسة الفيوم أعمل بجد ونشاط، ولا أخشى رئيسا؛ لأني اشترطت عليه قبل تعييني أن لا يتدخل في شئوني؛ أي في شئون المدرسة التي يرأسها هو، وقد عمل الرجل بما تعهد لي به، وكان المدير كما قدمت الحاكم المطلق الذي يخشاه جميع الأعيان والموظفين.
وحدث أنه بينما كان يتحدث في أحد مجالسه مع مفتش صحة المديرية أن قال له في سياق الحديث إنه يود أن تعرف ناظرة المدرسة المحمدية أني أنشأت في المدينة منتزها تعزف فيه موسيقى البلدية عصر كل يوم، فلعلها تتريض هي وتلميذاتها فيه.
رأى مفتش الصحة أن ينفذ رغبة المدير في ذلك حبا في إرضائه والتقرب منه فجاءني، وقال لي: إن سعادة المدير يأمرك أن تذهبي مع بعض تلميذاتك إلى منتزه بلدية الفيوم لسماع الموسيقى هناك. جرحني هذا الأمر، أو بعبارة أخرى حرك غرور الشباب في نفسي، فقلت له: قل لسعادة المدير إني لست بمربية أبنائه الخاصة، ولا هؤلاء التلميذات ببناته حتى يكون له حق إرسالنا إلى المنتزه متى شاء، وإن هؤلاء التلميذات لهن آباء، ولآبائهن الحق في إرسالهن إلى المنتزه، أو منعهن من ذلك حسب ما يقدر هؤلاء الآباء.
دهش مفتش الصحة لهذا القول، وقال: كيف أبلغ ذلك لسعادة المدير؟ قلت: يا سيدي! إنك إنما تبلغه الحق الذي لا شك فيه، وما أنت في ذلك إلا رسول. وذهب الرجل إلى المدير يقص عليه القصة فاستاء المدير لتصرفه، وقال له: إني لم أطلب منك أن تأمرها بالذهاب إلى ذلك المنتزه، ولكني قلت لك أن تخبرها به علها تريد هي ذلك، فأرجوك أن تذهب إليها في الحال، وأن تشرح لها ما أخطأت أنت في شرحه. فدهش مفتش الصحة لاستسلام المدير لتصرفي الشاذ، ثم جاءني، وهو يبتسم فقال: عذرا يا سيدتي! فقد أخطأت فيما أبلغتك إياه، فالمدير لا يأمرك، ولكنه أراد أن يخبرك أن في مدينة الفيوم منتزها تعزف فيه الموسيقى عصر كل يوم، فإن رأيت من المستحسن الذهاب إليه، فلك هذا. قلت: حسنا سأستشير آباء التلميذات في ذلك.
كان أهل الفيوم ينفرون من تعليم البنات، ويعتقدون أن المتعلمة لا أخلاق لها، وأنها تخرج على العادات الشرقية، وعلى أخلاق الدين الإسلامي، فلما رأوني أشد تمسكا بالعادات الشرقية من نسائهم الجاهلات ظنوا في الجهل؛ ولهذا اضطررت أن أزين غرفة مكتبي بشهاداتي ليعلموا أني قد بلغت من التعليم قسطا، وتعمدت أن أناقش كل من زارني منهم ليعلم من مناقشتي مقدار ثقافتي، وهكذا انتقلت في تلك الفترة من حالة إلى ضدها، فبعد أن كنت لا أتكلم في المجالس إلا قليلا، أخذت أكثر من الكلام والمناقشة كلما قابلت أولياء أمور التلميذات.
وكان يدير المدرسة قبل تعييني فيها ناظرات سوريات، ثم ناظرة إنجليزية، وكان بالمدرسة معلم قديم يقوم بمقابلة أولياء أمور التلميذات بدلا من الناظرة، وكان لهذا يسوئ سمعة الناظرة، كما يريد طمعا في أن يحل هو محلها، وكان أهل الفيوم يصدقونه في ذلك؛ لأنهم لم يروا الناظرة، ولما تعينت عرض علي خدمته في مقابلة أولياء أمور التلميذات بدلا عني، فقلت له: كلا لست أقبل أن يقوم بعملي غيري، فإما أن أكون ناظرة بالمعنى الصحيح؛ أعمل كل ما يعمله الناظر، أو أن أتخلى عن ذلك المركز لمن يستطيع القيام به.
قابلت أهالي الفيوم فأعجبهم زيي واستقامتي، ووضعوا ثقتهم في المدرسة، وكانوا قبل ذلك لا يريدون إدخال بناتهم فيها؛ فكان المدير يزورهم، ويرجوهم أن يرسلوا بناتهم إليها، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يرضي المدير أرسل إلى المدرسة طفلة قد لا تتجاوز السادسة من عمرها حتى إذا بلغت السابعة أو الثامنة حجبها بالمنزل خشية على أخلاقها؛ ولهذا قلت لسعادة المدير: أرجوك أن لا تطلب من أحد من الأعيان إدخال كريمته، فإن كل مبتذل ممقوت مكروه. قال: وكيف نستطيع جمع التلميذات؟ قلت: اترك هذا لي، وسأعمل ما أستطيع. فكان الرجل من أهل الفيوم إذا جاءني ليدخل طفلته الصغيرة أناقشه، وأحبب إليه تعليم البنات، وأظهر له أن التعليم يزيد الفتاة عفة واستقامة، وأن العلم خير أينما حل، فكان يضطر إلى تصديقي لما كان يعاينه من زيي الكامل مع صغر سني، ومن كلامي الذي كان يشبهه بكلام الرجال، فكان يأتيني في اليوم الثاني بثلاث كريمات كان قد قرر حجزهن بالمنزل.
وهكذا دخلت المدرسة، وعدد تلميذاتها لا يزيد عن الثمانين، فما كدت أمكث فيها أربعة شهور حتى زاد عددهن على المائتين، وقد سر المدير بذلك سرورا عظيما، وأخذ يحسن معاملتي، وينفذ لي كل ما أريد.
وكنت في كل فرصة أجتهد أن أظهر لآباء التلميذات شدة حرصي على الأخلاق ليزدادوا ثقة بالمدرسة، وحدث أن أساءت تلميذة أدبها فطردتها، وجاءني والدها يسألني أن أعفو عنها، وأن أقبلها، وأنا أرفض وأتعزز، ودخل في تلك اللحظة سعادة المدير فدهش لهذا التغير العظيم في أخلاق أهالي الفيوم، وطلب منه الرجل أن يساعده في رد كريمته إلى المدرسة، فقال المدير مبتسما: لقد أخذت علي عهدا أن لا أتدخل في شئونها، فأنا لا أستطيع شيئا غير أن أضم صوتي إلى صوتك علها تقبل ذلك. وهنا قبلت رجاء المدير، وأعدت التلميذة إلى المدرسة بعد أن أخذت على أبيها عهدا بشدة الرقابة عليها، فشكر الرجل المدير، وحياه، وانصرف، وما كاد يخرج حتى نظر إلي المدير قائلا: إني لا أكاد أصدق ما أرى من ذلك التغير العظيم؛ فمن زهد الآباء في المدرسة إلى رغبة فيها، رغبة ملحة ينفذونها بالتوسل والرجاء! قلت: نعم، فإنه كلما ازداد عرض الشيء على الناس كلما ازدادوا زهدا فيه، «وأحب شيء إلى الإنسان ما منع.» قال: صدقت.
كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
كنت حديثة عهد بالحياة وأحوالها، ولم أكن أعرف من أعيان المصريين إلا أسماءهم، وكنت أتصور أن كلمة باشا إنما تعطى لأكثر الناس تعليما وذكاء.
وأخذ المدير يتحدث بالمدرسة، وما صارت إليه من الرقي في مدة قيامي بأعمالها، وإذا قال المدير أنصت جميع الأعيان؛ ولهذا اهتم الأعيان بالمدرسة، وأرادوا أن يشاهدوا ناظرتها، وأبلغني سعادة المدير أن فلانا باشا عين أعيان الفيوم سيزور مدرستي في يوم كذا الساعة كذا أيضا، واهتممت بالأمر، وكنت أعد نفسي للجمل التي سأقولها أمام سعادته، أو لأجوبة الأسئلة التي سيلقيها علي.
وجاء هذا العين، وإذا به يتكلم لا بلهجة والدتي فحسب، بل بأحط من آرائها، وهنا احترمت والدتي على عدم تعليمها، وقلت لقد وضعها ذكاؤها في مكانة من اللباقة تفوق أمثال هؤلاء الأعيان، وضايقني ما عرفته من جمود ذلك العين، وكان مما ناقشني فيه أنه بصفته عضوا في مجلس المديرية، ومن الأعضاء البارزين لا الغائرين في الجدار، بهذه الصفة لا يريد سعادته أن يعين المجلس معلما للغة العربية من الشبان المتعلمين، بل يريد أن يعين لي مقرئ مدافن المرحوم والده لا لسبب سوى أنه رجل كبير السن موثوق في أمانته، فقلت له: إذا كان كل ما نبغيه هو سن ذلك المعلم، وشدة ثقتنا من أنه لا يخشى منه على أخلاق الطالبات، وإذا كان هذا هو كل ما نطلبه من معلم يعلم اللغة العربية التي هي أهم فروع التعليم، فحسبنا أن نكتفي ببواب المدرسة؛ لأن فيه تلك الشروط متوفرة جدا، فهو رجل مسن، ومتزوج، وكامل في أخلاقه.
واحتار الباشا في الإجابة على ما قلت له، ثم قاسني بنظره من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وفكر في الموضوع مليا، ثم قال لي: إنك عنيدة. لأن أمله في تعيين المقرئ قد تبخر وطار، وقد كان واثقا من تعيينه بعد أن قدر كبر سنه واستقامته، أما العلم فلا ضرورة إليه ما دام هذا سيكون معلما للبنات.
كان ذلك الباشا قد قدم اقتراحا إلى مجلس المديرية بتعيين ذلك المقرئ، ولكن حديثي معه خيب الأمل في نجاح ذلك الاقتراح، ثم قابلت المدير بعد ذلك، وحادثته في المسألة، وطلبت منه سرعة تعيين شاب صالح من المتعلمين الجدد، وشرحت له بجلاء أن الشاب الصالح أفضل من شيخ لا صلاح فيه، وأن الصفات السيئة في الإنسان تزداد وضوحا كلما كبر، وهذا بديهي؛ فالإنسان كلما كبر ضعف عقله، فلا بأس بعد ذلك أن تقوى شهواته، والرجل الذي يولع بالنساء شابا يولع بهن أضعاف ذلك وهو شيخ؛ لأنه أصبح ضعيف الإرادة، ضعيف العقل، تتغلب عليه شهواته، وربما دفعه اعتقاد الناس في شيخوخته إلى الاسترسال في غوايته، وهو في مأمن من أن يتعقب خطواته أحد، وختمت محاضرتي هذه بطلب السرعة في تعيين ذلك المعلم، وفعلا عين للمدرسة معلم كامل من الشبان المتخرجين في ذلك الوقت.
وأخذ سعادة الباشا مكانه في الصف الأول من أعدائي المحترمين، وما عسى أن يقول عن تلك التي عارضته فيما أراد من التعيين في مجلس المديرية، وهو يعتبره من ضمن عزبه الطويلة العريضة؟ إنه لا يستطيع أن يقول عن أخلاقها بالنسبة للكمال شيئا؛ لأن هذا كان مشاهدا معروفا في أنحاء الفيوم، إذن فليسلك طريقا آخر إلى ذم تلك التي خيبت آماله فيما أراد، فيقول إنها عنيدة، وإنها تكاد تقابل من يزورها لا بكلمة الترحاب، بل بالضرب دونما سبب، فهي تضرب هذا، وتشتم ذاك، ولا تأبه بكرامة أحد، ولا تحترم الأعيان لما لهم من الحول والطول في المديرية، وغير ذلك.
ولقد بارك الله في مجهود ذلك الباشا من تلك الناحية، ووجد من يساعده، ويفهم الناس شدة أخلاق تلك الناظرة، فإنها تحاسب الرجل الذي يزورها على أية كلمة يظهر فيها لين أو مجاملة، وهي كما كانوا يقولون كالأسد المفترس لا تسمح لأحد أن يرفع رأسه في مجلسها.
ولو أن هؤلاء رأوني اليوم لعرفوا أني جبنت، كما أراده السن، فلم أعد أنا ذلك الأسد بل أصبحت أجبن من أرنب، ولا أدري هل هم بعد ذلك راضون عني؟ وإذا كانت شجاعتي هي التي كانت تغضبهم في الماضي فهل يروقهم الآن جبني؟
سؤال أريد أن يجيبني عليه كل من عاملني الآن وفي الماضي.
حياتي العملية
عرفت مما علمته عن أخبار غيري من ناظرات المدارس بالفيوم أن فكرة الناس سيئة في كل متعلمة، وأنهم يعتقدون أن العلم والكمال لا يتفقان، فبذلت كل همي لأخرج من رءوسهم ذلك الزعم الفاسد؛ فكنت أحاسب من يقابلني من الرجال على كل حركة من حركاتهم، وعلى كل لفظ أسمعه منهم، كنت أنا نفسي أحتقر الشهوات وأصحابها، وأقول إن الرجل الذي يتغلب هواه على عقله حيوان لا قيمة له، وإن المرء ومستقبله مرهون بمقدار ما يستطيعه من تجنب الشهوات والميل إلى الكمال الأخلاقي.
لهذا كنت لا أسمح لرجل بكلمة تنبو عن موضعها، وتصادف أني كتبت إلى المجلس بإصلاح مباني المدرسة، فأرسل إلي مهندسه، فقمت لأريه التلف في أثاثات المدرسة، وأطلب منه إصلاحها، وما كاد يرى يدي، وهي تشير إلى ذلك الأثاث المتهدم حتى قال في دهشة: يا سلام إيدك صغيرة قوي! وكنت في ذلك الوقت ألبس جلبابا واسعا، بكم واسع طويل، فكانت تظهر راحتي منه صغيرة جدا بالطبع، هالتني تلك الجرأة منه، وأنكرت عليه أن يخرج عن الكلام في العمل إلى الكلام في أوصاف من تكلمه، ونظرت إليه في شيء من الحدة، وقلت له: شيء بايخ! فخجل الرجل، قال: هل خرجت عن الأدب؟ وهل في كلمتي هذه ما يريب؟ قلت: إنها على الأقل لا محل لها؛ لأني أنا أعرف مقدار حجم يدي قبل أن أراك فلا معنى أن تخبرني بأنها صغيرة، وقد تكون أنت على غير حق في تقدير صغرها؛ لأني أنا أعرفها أكثر مما تعرفها أنت، وهل تجد من الحكمة أو من اللياقة أن أقول لك الآن إن الشمس طالعة، وأنت ترى ذلك بعينيك؟ لقد كنت أود أن كلامنا لا يخرج عن العمل، ولا يمس الشخصيات، فأنت في نظري مخطئ. قال: إني أعتذر، وإن كنت أعترف أني لم أخطئ. على أنه لم يكن يقدر الظروف فإني لو سمحت له بتلك الكلمة لما ضمنت في المستقبل أن يطري جزءا من أجزاء جسمي، فيقول لي مثلا إن عينيك جميلتان، وإن يدك لطيفة، وغير ذلك من الأوصاف التي لم أكن أسمح لأحد أن يذكرها.
على أنه استطرد بعد ذلك فقال: إني إلى الآن لا أعرف ما الذي أغضبك من كلمة بريئة كهذه؟ قلت: لم أغضب من الكلمة بالذات، ولكن ساءني أنكم أي الرجال لا تعرفون كيف تخاطبون النساء، ولا بدع في ذلك فإنكم لم تخاطبوا قبل اليوم إلا نساءكم، وعلي إذن أن أعلمكم مخاطبة النساء أثناء العمل، فإنها يجب أن تتصرف كلها إلى ذلك العمل، وأن لا تخرج عن مواضعه وإلا كانت عرضة لسوء الظن.
خرج الرجل من عندي، وهو في غاية الخجل، وفي اليوم التالي زارتني امرأته، فأكدت لي أن زوجها رجل شريف لا يعرف مداعبة النساء ، وأني قد أسأت الظن فيه بلا مبرر، وكان الرجل قد خشي أن أشكوه، فأرسل من يشفع له عندي، فقلت لها: لم أتهمه بشيء من هذا يا سيدتي، ولم يكن أمامه امرأة حتى أظن أنه داعبها، المسألة مسألة أن هؤلاء الرجال لا يعرفون بعد معاملة النساء، وقد أردت أن أرشده إلى كيفية تلك المعاملة، أما أنا فلا أخشى على نفسي من رجل، وليس في منظري ما يدعو إلى ريبة، واطمأنت المرأة على زوجها، وعلمت أني لن أشكوه إلى سعادة المدير فقبلتني بالإكراه وشكرتني، وانصرفت.
كنت كما قدمت أريد أن أفهم الرجال ثقافة المرأة الجديدة وكمالها مع تلك الثقافة؛ فكنت أتحدث إليهم طويلا في المواضيع العلمية، عسى أن أستميلهم إلى إرسال بناتهم إلى المدرسة، وتصادف أن زارني فاضل من فضلاء هؤلاء الرجال، فأعجب بحديثي أيما إعجاب، وذهب يرويه لزوجته، ويمتدحني أمامها، وسارت الغيرة في نفس الزوجة المسكينة، وظنت أن زوجها قابل فتاة لعوبا لعبت برشده، فأرادت أن ترى تلك الفتاة بنفسها، ولم يغمض لها جفن تلك الليلة، وفي الصباح زارتني مع صديقة لها يظهر عليها الذكاء والفطنة، فلما رأت لبسي، وما يبدو عليه من حشمة واستقامة، سرت بذلك سرورا عظيما، وعلمت أن زوجها إنما أعجب بالحديث لا بالغرام، ثم أظهرت شدة اغتباطها لملاقاتي، وقالت إنها هي الأخرى قد أحبتني، وإنها ترى في خير مثال للفتاة المتعلمة، ومالت على زميلتها فهمست في أذني قائلة: لقد أسهرتها الغيرة ليلة أمس فلم تنم، وستنام الليلة ملء جفنيها.
وكان آباء التلميذات في ذلك الوقت يزورون المدرسة كثيرا لرؤية تلك الناظرة الجديدة التي خالفت مبدأ الناظرات، فأخذت تقابل بنفسها الرجال، ومن من الناس لا يحب أن يرى فتاة نالت البكالوريا في زمن لم تنل فيه معظم النساء شهادات البتة؟ كنت إذن حديث القوم في سمرهم، خصوصا وأن من سبقني من الناظرات كن كلهن أجنبيات، ولم تر الفيوم قبل ذلك العهد ناظرة مصرية غيري، فلا بدع إذن أن أصبحت أعجوبة، وكان بجوار المدرسة مدرسة للراهبات كانت آهلة بالفتيات لشدة إقبال الأهالي على الأجانب كما هي عادتنا ولا فخر. ولم يمض علي في تلك المدرسة أربعة شهور حتى كادت مدرسة الراهبات تغلق أبوابها لكثرة إقبال الأهالي على مدرستي، ولا عجب فقد كنت فاكهة جديدة، أما الآن وقد كثر عدد المتعلمات، وأصبحت نبوية موسى كغيرها من المصريين لا تستطيع أن تؤثر في أفكار المصريين، أو تحملهم على احترام الأعمال المصرية والإعجاب بها.
ورحمة الله على الماضي.
المعلمة الإنجليزية
أردت إصلاح المدرسة المحمدية بالفيوم إصلاحا عمليا صحيحا؛ لأني وجدتها في حاجة شديدة إلى ذلك الإصلاح، ومما يضحك أني يوم توليت إدارتها، ومررت على الفصول، وجدت شيخا من إخواننا سادة دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد وقع في «حيص بيص» كما يقال في كيف يكسر البيض الذي لم يعتد الرجل تكسيره، ولم تعتد التلميذات أيضا ذلك، فكن يعجزن عن أن يكسرن بيضة دون أن يتلفن صفارها.
اضطررت هنا أن أعالج الحالة، وأن أكسر البيض للتلميذات لأعلمهن كيفية كسرها، وأن أقضي على تلك الفوضى بإخراج ذلك المعلم من تدريس التدبير المنزلي، وإعطائه دروسا في اللغة العربية بدل ذلك. وأعطيت دروس التدبير المنزلي لمعلمة لأنها أليق به مهما كان جهلها بتلك المادة، ولو في ظاهر الحالة، وساء المعلم ذلك؛ لأنه كان يتمتع، ولو بتذوق الأطعمة، وكان هذا القرار قد حرمه من ذلك التمتع، ساءه ذلك، ولكني لم أصطدم به، ولم يصطدم بي لأني أخذت أحسن معاملته وأتجنبه.
انتهيت من ذلك الإصلاح، وفكرت في تعليم اللغة الإنجليزية، وكانت تقوم بتدريسها معلمة سورية لا تكاد تعرف منها إلا بضع كلمات، وأردت أن أبحث عن معلمة أخرى من السوريات تستطيع أن تفهم اللغة التي تدرسها، فأعلنت في الصحف، ووصلني رسائل شتى من سوريات مختلفات، ولم تكتب لي إحداهن من سوء الحظ باللغة الإنجليزية، بل كانت جميعهن يكتبن باللغة العربية إذا صح أن يقال إن لغتهن تلك كانت عربية، رأيت إذن أن أقابل هؤلاء المعلمات قبل أن أختار من بينهن واحدة خشية أن تكون كالمعلمة التي بالمدرسة لا تستطيع التفاهم بتلك اللغة التي تدرسها، فزرت أغلبهن في منازلهن، وعلمت أنهن لا يفضلن معلمتي في شيء، ويظهر لي أن كل سورية في ذلك الوقت كانت تدعي العلم بأية لغة ما دامت تعرف ألف باء تلك اللغة، ومما أذكره أني زرت إحداهن، وسألتها هل تعرف اللغة الإنجليزية جيدا؟ قالت: أعرف سبع لغات. قلت: أسأل فقط عن اللغة الإنجليزية. قالت: أعرفها تماما. ورأيت أن أختبرها فأخذت أتحدث معها بالإنجليزية، وأخذت تجيبني بنعم أشكرك، وضايقتني تلك الإجابة؛ لأني لم أفهم منها إذا كانت واثقة تفهم ما تقول أم هي تحفظ هاتين الكلمتين فتنطق بهما عندما أخاطبها دون أي فهم.
وأردت أن أختبر ذلك بنفسي، فقلت لها: إن كل شيء بالمدرسة جميل إلا أني أنا شخصيا اعتدت أن أضرب المعلمات أمام الصفوف بعصاتي، وكنت أظن أنها ستدهش لهذا الكلام إذا هي فهمته، ولكنها وهي لا تفهم شيئا في اللغة الإنجليزية التي تريد تدريسها لم تظهر أية دهشة لهذا الخبر المضحك، بل أجابتني، نعم أشكرك. لقد صدق ظني إذن في أنها لا تفهم شيئا، وهنا قلت لها: وأنا أيضا أشكرك، وتركت المكان.
عولت بعد ذلك أن أعين إنجليزية لتدريس اللغة الإنجليزية، فذهبت إلى كونوت هاوس لأبحث عن معلمة إنجليزية هناك، فلم تقبل إحداهن السفر إلى الفيوم، واعتذرت إلي رئيسة المنزل، ولكني عند خروجي تبعتني سيدة إنجليزية كانت تجلس منفردة في ناحية من الصالة، وقالت لي: إني أنا أقبل ذلك العرض، ولكني لا أريد أن يعرض كلامي هذا على الرئيسة؛ لأنها تكرهني بعض الشيء، وكل عيبي في نظرها أن في أذني شيئا بسيطا من الصمم، قلت: ولكنك تسمعين. قالت: نعم، ولكني لست حادة السمع كباقي الإنجليزيات. قلت: لا بأس فليس هذا بالعيب العظيم. قالت: أعطني إذن عنوان المدرسة، وسأكون عندك بعد يومين. وفي الميعاد المحدد، وصلتني منها برقية فانتظرتها في محطة الفيوم، وحضرت بها إلى المدرسة، وأنا في أشد ما يكون من الغبطة والسرور حيث نجحت في إصلاح تعليم اللغة الإنجليزية بعد أن كان مهملا ، أكلت معها طعام العشاء ، وجهزت لها غرفة، وبعد شيء من السمر قامت كل منا إلى غرفة نومها.
ومن المدهشات أني في تلك الليلة حلمت أن تلك السيدة قد جنت، ووقفت وبيدها سكين تتهدد ابنة أخي، وقد كانت تلميذة داخلية بالمدرسة، فاستيقظت من النوم مرعوبة أرتجف من هول ما رأيت، ولكني لم أعر ذلك أي التفات، بل ظننته أضغاث أحلام، وقصصت لها الحلم، ونحن على مائدة الإفطار، فظهر عليها الغضب والامتعاض، وقالت: ليس ذلك بحلم، ولكنك إنما اتصلت ببعض أعدائي. وهنا جاءني شيء من الشك؛ لأني كنت أظنها ستضحك من ذلك الحلم، وتعتبره نوعا من التسلية، أما وقد أغضبها فقد ترك ذلك في نفسي أثرا، ولكني كظمت غيظي، وأكدت لها أن المسألة لا تعدو حلما، وبعد أربعة أيام من تاريخ وصولها إلى المدرسة، وقفت على باب غرفتها في الساعة السابعة مساء، وهي ترغي وتزبد، وتريد أن تضرب ابنة أخي بسكين أخذتها من المطبخ مدعية أنها قد أساءت الأدب، وهنا ظهرت عليها علامات الجنون الحقيقي، وأخذت أهدئ من غضبها في غير جدوى، وفي الصباح أخذت تذهب وتجيء دون أن تدرس، ثم دخلت غرفتي مرارا لتقول لي بصريح العبارة إنها لا تستطيع التدريس، وإنها تريد أن أعطيها مرتب ستة شهور لتذهب إلى حالها، وإلا ارتكبت في المدرسة جناية أكون أنا المسئولة عنها، ولم يكن في استطاعتي إعطاؤها ذلك المبلغ، ولم أشأ أن أعرض الأمر على المدير خشية أن يسفهني فيما فعلت فأخذت أسير وراءها أينما سارت حتى لا ترتكب ما تهدد به من تلك الجناية، ولم يكن في الإمكان أن يقبض البوليس على سيدة إنجليزية، والإنجليز في ذلك الوقت هم أسياد البلاد، إذن كان علي أن أتحمل تصرفاتها، وأن أعالجها بما أستطيع من صبر وحيلة.
وفي صباح يوم دخلت إلى مكتبي، وأنا أكتب شيئا، ولعله جدول الدراسة، فقالت لي: ماذا تكتبين؟ قلت: أكتب خطابا. قالت: لمن؟ قالت ذلك بخوف وارتباك، ولاحظت ذلك عليها، فقلت: لقنصل إنجلترا. قالت: لماذا؟ قلت: لأشكوك إليه. قالت: أوأنت فاعلة؟ قلت: نعم لا شك في ذلك. فخرجت من مكتبي مسرعة، وعادت ومعها حمال حمل حقائبها وخرجت، ولكنها لم تترك غرفة نومها مفتوحة، بل أغلقتها، وأخذت مفتاحها معها.
وصارحت المدير في ذلك الوقت بالحقيقة، فقال إنه لا يرى أن نتقدم لفتح تلك الغرفة من غير استئذان السفارة البريطانية، وهنا ذهبت إلى السفارة البريطانية، وشرحت لهم الحقيقة، فقال لي موظف السفارة الذي قابلني بعد أن قابل السفير: لا حرج عليك في فتح الباب، والسفير جاد في البحث عنها. وظهر لي أنها معروفة لدى السفارة، وبعد أربعة أيام، وصلني خطاب من بورسعيد فيه مفتاح الغرفة، ويظهر أنها خشيت مغبة بحث السفير عنها، فسافرت من بورسعيد إلى إنجلترا.
وهكذا فوجئت بالصعب العسير في أول عمل توليته.
نقل المدير
كان قيام الفتيات بالأعمال العلمية كإدارة المدارس أمرا جديدا وغريبا خصوصا في نظر الفيوميين؛ ولهذا كانوا يسيئون سمعة كل من تولت رئاسة مدرسة البنات، وكنت أنا على تمام العلم بذلك، فكنت أخاف كل الخوف على سمعتي، خصوصا وفي المدرسة كما قدمت معلم كان يقوم بأعمال الناظرة قبل تعييني، وكان يعتبر نفسه أحق بتلك الوظيفة من أية فتاة، وأن أية ناظرة تأتي إنما اغتصبت منه تلك الوظيفة اغتصابا لا بعلمها ولا بكفايتها، وإنما بجنسيتها، وهو لا يؤمن بذلك، بل يعتقد أن الرجال أولى من النساء بتلك الوظائف، وجئت أنا فحرمته من القيام بعمل الناظرة، فأصبح لديه لبغضي سببان لا سبب واحد.
كذلك كان كما قدمت بالمدرسة معلم من دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد منعته من ذلك التدريس من يوم تعييني، ولا شك أنه كان يتذوق ما يطبخ، وإخواننا من دار العلوم وأمثالهم من الأزهريين يقدرون الأطعمة تقديرا لا يفوقه شيء، وإذن فقد أصبح هو الآخر ضدي، ولكني كنت ألاين الاثنين، وأعطف عليهما، وأحترس منهما، وكنت لا أقبل على سمعتي أية ريبة حتى لا أجعل لهما ولا لغيرهما سبيلا إلى الخوض في عرضي؛ ولهذا كتبت على باب المدرسة: «لا تقابل الناظرة أحدا من الرجال قبل الساعة الثامنة صباحا، ولا بعد الرابعة بعد الظهر.» أي إني لا أقابل الرجال إلا في أوقات العمل المعينة للدراسة، والمدرسة في ذلك الوقت تكون مكتظة بالمعلمين والمعلمات والتلميذات أيضا، فلا شبهة علي في أن أقابل أحدا، وكان حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود يقرني على كل ما أفعله، ولا يتدخل في أعمالي.
وفجأة انقضى عهده، ونقل محافظا لبورسعيد، وخلفه غيره، وعز على المدير الجديد أن يكون للناظرة - وهي مرءوسة له - أوامر ونواه، فكان أول ما فعله أن أرسل إلي سكرتير مجلس المديرية الساعة السابعة مساء فرفضت طبعا مقابلته، وقلت للبواب يخبره أني لا أقابل الرجال إلا في وقت العمل، وأني الآن منفردة في المدرسة، فلا يجوز أن يدخل عندي رجل مهما كانت الأسباب، وقال السكرتير: إنه مرسل من قبل سعادة المدير. قلت: ولو.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدير لأعتذر إليه عن رفضي، وأشرح له الأسباب فقلت له: إني لا أزال فتاة صغيرة، وأقيم في المدرسة وحدي، ودخول الرجال علي وأنا منفردة يعرض شرفي للقيل والقال. قال: ولكنه مرسل من قبلي. قلت: إن الناس لا يعلمون تلك الرسالة، وهم فقط يرون رجلا يدخل في منزل تقيم فيه فتاة وحدها، على أنك أنت شخصيا لا تستطيع أن تضمن سلوك مرءوسيك، فهبني فتاة فاسدة الأخلاق، وافرض أن ذلك السكرتير على شاكلتي، فمن الذي يضمن لك حسن مسلكنا، ونحن على انفراد بعيدين عن كل العيون؟ أليس من الأفضل أن ترسله أثناء النهار حتى لا نكون نحن الاثنين في خلوة؟ قال: ولكنه يعمل النهار في المجلس. قلت: إن عمله معي قليل لا فائدة فيه، وقد قمت بأعمالي في المدرسة الآن سبعة شهور دون أن يعمل معي سكرتير من المجلس والأعمال على ما يرام، وإذا كان ولا بد من حضوره إلي فلا بأس من أن يخلى من عمله، ولو نصف ساعة. قال: ولكن هذا أمري. قلت: إنك تأمر في كل شيء، اللهم إلا فيما يتعلق بشرفي شخصيا، فلا أقبل فيه أمرا ولا نهيا، إني إنما جئت لأعمل في الدراسة ، وأثناء الدراسة، لا أن أعمل الليل والنهار.
وخرجت من عنده، وقد تأثر هو بعض الشيء، وأراد أن ينفذ طلبه بالقوة، فأرسل إلي السكرتير بعد بضعة أيام لا في الساعة السابعة فحسب، بل في التاسعة مساء، ورفضت طبعا دخوله إلى المدرسة، وتشبث هو، وقال: إن هذا أمر المدير، وإنه لا بد داخل. فقلت للبواب أن يخبره أنه إن دخل فسأستدعي النيابة العمومية، فخاف وانصرف.
وبعد أيام من تلك الحادثة زارني المدير في مكتبي، وكان يضع في عروة سترته وردة حمراء، وجلس جلسة لم أستحسنها منه، جلس تلك الجلسة على مكتبي بحيث التصق بي، فاضطررت أن أقف، وأن أقول له في شيء من الحدة: إني لو أعلم أن المديرين يتغيرون بتلك السرعة، لما أقدمت على قبول تلك الوظيفة، قال: وهل يعين في وظيفة المدير جندي؟ قلت: إني يا سيدي لا أخاف الشدة، ولكني إنما أشكو اللين. قال في شيء من الفكاهة: لم أسمع بأحد يشكو اللين غيرك. ثم طلب أن يرى المدرسة فخرجت معه، وكلانا مغضب، وتصادف أن صادفنا فراش يحمل على رأسه سبورة، وفي يده جردل، وكاد يصدمني بسبورته، فقلت في شيء من الغضب: «اوعى كده أنت راخر، أنت حتاخد وشي.» فقال المدير: إن هنا من هو أولى منه بذلك. فلم أتمالك نفسي، وقلت له: نعم لا أشك في أنك أولى منه بحمل تلك السبورة والجردل أيضا. وتراشقنا بعد هذا بالألفاظ، ثم خرج مغضبا يهدد بقوته وسلطانه.
ويظهر أن المدير شكا أمره إلى ناظر المدرسة الأميرية، وكان عضوا في اللجنة التي تدير المدرسة المحمدية التابعة لمجلس المديرية، وهي التي أديرها أنا، وأوحى إليه أن يقوم هو بدلا عنه بالمناورة، وكان بالمدرسة معلمة تقطن في بيت ذلك الناظر، وكان حول اسمها واسمه إشاعة متداولة فقلت لها يوما: إني أعلم يا سيدتي أنك فتاة فاضلة، وأن الناظر لا يقل عنك في الفضل، ولكن ما دام الناس يتكلمون في حقكما، أفليس من صالح التعليم أن تبتعدي عن منزله حفظا لسمعتك وكرامتك؟ ويظهر أنها أخبرت الناظر بذلك.
وبعد يوم جاءني الناظر نفسه فجلس في مكتبي، وأخذ يقول لي: إنه يعتبر تلك المعلمة كقريبة له، وإنه يتولى أمرها بنفسه، وإن زوجته تغار منها، وهو لا يدري ماذا يفعل. قلت: إن الزوجة يجب أن تكون لها الحرية في المنزل، وإذا كانت زوجتك لا تريد تلك المعلمة وجب أن تخرج هذه من المنزل. قال: وأين تلبث؟ قلت: حيث تريد هي. قال: ولكني أغار عليها أيضا، ولا أتركها تبيت في أي منزل كان. قلت: هل يرضيك أن تبيت في منزل أخي؟ وكان أخي في ذلك الوقت وكيل نيابة في الفيوم، قال: إن ما بيني وبين زوجتي من النزاع يصير بين أخيك وزوجته. قلت: إنه يتحمل من أجلي. قال: ولكني لا أقبل ذلك. قلت: وماذا تريد إذن؟ قال: ما المانع في أن تبيت معك هنا في المدرسة؟ وأن تتنازلي عن أوامرك فأزوركما في المساء في أي وقت أردت، وأن تعتبريني قريبك كما تعتبرني هي كوالدها؟ قلت: إن والدي يا سيدي قد مات، وليس لي من الأقارب إلا أخ واحد يقيم معنا في الفيوم، ولست أستطيع أن أختلق لي أقارب جددا، ولا أسمح لرجل أن يدخل تلك المدرسة مساء مهما كانت الظروف، فإن أردت أن تقيم تلك المعلمة معي، فلا بأس على شرط أن لا يزورها أحد. قال: إنني عضو في مجلس المديرية، وإن المدير يضع سلطة تلك المدرسة في يدي، وستندمين على استبدادك هذا. قلت: لا أندم على شيء، فإذا خرجت من ذلك المكان بشرفي كان هذا كل ما أرجوه.
عز علي أن يكون اشتغالي بالتعليم سببا في أن يفسد الرجال أخلاقي، وأنكرت على رجال التعليم كناظر تلك المدرسة أن يقوموا بمثل تلك الأعمال الدنيئة، فلم أتمالك من أن أقول له: إنك سافل وضيع لا شرف لك، ولا كرامة، وفي أثناء ذلك دخل أخي علينا، وسمع تلك الألفاظ، ورآني في حدة، وقد اغرورقت عيناي بالدموع، وما كدت أرى أخي حتى ذهلت، وخشيت أن يعلم الأمر فلا يبقيني في الوظيفة بعد أن يقتل ذلك الوغد، وكان أخي أقوى منه جسما، فسكت، وخاف الآخر مغبة ذلك فسكت هو أيضا، وجعل أخي يردد سؤاله: ماذا جرى؟ ولا يجيبه أحد منا؛ أنا لأني في حيرة أرجو أن أخفي الأمر عليه، والآخر لأنه خائف من أن أقول أنا الحقيقة فيكيل أخي له الضرب كيلا، وقد لا يخرج من عندي سالما.
وأخيرا تداركت الأمر، وقلت له: لا شيء، إن هذا الرجل يتدخل في أعمالي المدرسية. قال: أولهذا التدخل يجوز لك أن تقولي له إنك سافل منحط لا شرف لك، ولا كرامة؟ قلت: قد أكون مخطئة، ولكن هكذا دفعني الغيظ؛ لأنه قال لي افرضيني قريبك، وأنت تعلم أني لا أحب قرابة الرجال. وأنقذت تلك الجملة ناظر المدرسة، فقال: هذا كل ما قلته لها. ولم يعلم أخي أن عرض القرابة كان عرضا أراد به أن تكون علاقتي معه كعلاقة المعلمة الأخرى؛ أي علاقة الريبة والشك، فقال: لا تغضب يا أخي، وسأكون أنا قريبك. قلت: إذا كنت تريد أن تكون قريبه فلتكن تلك القرابة بعيدة عني.
وأخذ أخي الرجل من يده، وأراد أن يخرج به، ولم يخجل صاحبنا من موقفه بل قال لي أمام أخي مرة أخرى: اعلمي أن سلطة المدرسة في يدي، وستندمين. قلت: لقد قلت لك إني لا أندم، وسأخرج من هذه المدرسة شريفة أضع قدمي على رأس كل سافل منكم. وعجب أخي من هذا التعبير، وساورته الشكوك فخرج به، ثم عاد إلي وقال: اصدقيني ما الخبر؟ قلت: الخبر كما أخبرتك. قال: ولكن كلامكما الأخير يدل على أن المسألة تتعلق بالشرف. قلت: أوتظن أن هناك رجلا ينظر إلي نظرة الريبة؟! ليس في من الجمال يا أخي ما يغري، وهل عندك شك أني كنت ضده؟ قال: لا شك عندي في ذلك. قلت: إذن فلم أخفي أمره؟ فانصرف أخي.
ولقد فكرت إذ ذاك في الأمر فعلمت أن أخي لو عرف الحقيقة لانهال عليه ضربا، ووصل الأمر إلى القضاء، وهناك يقول الناس دخل عليها أخوها، ومعها ناظر المدرسة فضربه ضربا مبرحا، ولا شك أن هذا يعطي الناس فكرة أن ذلك الناظر كان يداعبني برضى مني؛ لهذا أخفيت الأمر عن أخي كل الإخفاء.
وفي اليوم التالي جاءني الناظر فدخل مكتبي دون أن يحييني، وبعد أن جلس قال: أتعلمين لم جئت؟ قلت: لا أعلم الغيب. قال: إنما جئت لأعلم هل لا تزالين مصرة على رأيك بالأمس؟ وكأن إخفاء الأمر عن أخي جعله يظن أني رضيت بما عرض، أو أني على الأقل أتردد في قبوله، قلت: أوتعلم أنت لم أذنت لك اليوم بالدخول؟ قال: إني أدخل بالرغم منك. قلت: كلا إنك من اليوم لن تدخل هذا المكتب، وإني أمنعك بكل قوة، وما أذنت لك اليوم إلا لأني ظننت أنك كنت سكرانا البارحة، وأنك جئت لتعتذر عن خطئك، أما وأنت مصر عليه، فلا أسمح لك بدخول المدرسة مرة أخرى، ولا يهمني ما يترتب على ذلك، فإن شرفي فوق كل شيء. قال: إذن سترين. وخرج مسرعا.
ابتداء المتاعب
إني أروي الآن مسائل مضت منذ نيف وثلاثين سنة على حسب ما أتذكر، ولست أدعي أني كنت على حق في كل ما فعلته، ولست أنكر أني كنت على جانب عظيم من الشدة في تقدير الرجال، وربما كان ذلك ناشئا من أني قرأت روايات غرامية كثيرة، كان فيها الرجال أبطال الخيانة والغدر بالنسبة للنساء فنظرت إليهم جميعا بتلك العين؛ ولهذا كنت أحاسبهم على أية كلمة تبدر من أفواههم في غير رحمة ولا شفقة، وقد مر بنا أني حاسبت المهندس على كلمة بدرت منه لا تدل على سوء نية أو شيء، ولكني كنت أود أن أعلم الرجال مخاطبة النساء بعد أن ظهرت النساء في ميدان العمل فجأة، وأمام رجال لم يعتادوا معاملتهن؛ لهذا قسوت على المهندس إذ قال إن يدي صغيرة، كما قسوت على المدير يوم استعمل نكتة قد يكون الغرض منها استعمال النكتة فحسب، وهو ما ينبغ فيه المصريون، وكما قسوت أيضا على ناظر المدرسة يوم عطف على المعلمة، وقد خلقت لي تلك الشدة في المعاملة أعداء أقوياء ، أولهما المدير، وثانيهما ناظر المدرسة الأميرية، وبيدهما كل الأمر في إدارة مدرسة البنات.
واشتهرت في مدينة الفيوم إذ ذلك بالشدة ولا فخر، وكان لسوء حظي أن زارني المرحوم حافظ بك إبراهيم، فقال لي: إنه لا يوافق على ظهور النساء في العمل سافرات. وكنت إذ ذاك أكشف وجهي، فقلت له: إن المرأة إذا عملت وجب أن تظهر بطبيعتها كما خلقها الله، وليس في ذلك شيء. قال: إن فيه إغراء. قلت: إنك متغال يا سيدي، فنحن المصريات ليس في خلقتنا الطبيعية إذا ظهرت كما هي ما يغري الرجال، وما دامت الفتاة منا تظهر أمام الرجال دون تبرج، أو تغيير في خلقتها الطبيعية فلا خوف من إغرائهم بها. قال: أوتظنين أنه ليس في وجهك الطبيعي ما يغري؟ إن فيه شيئا من علامات الجمال. أراد المرحوم بذلك أن يعلم مدى أفكاري، وأن يجرب في قول شوقي: «خدعوها بقولهم حسناء.» وقصد بما أراده علامة سوداء في وجهي، فقلت له في شدة: والله لولا مكانتك الأدبية لطردتك الآن. قال: ولم؟ هل أسأت أدبي في شيء؟ قلت: كلا! ولكنك في نظري أخطأت؛ لأنك دققت في وجهي حتى رأيت ما أسميه أنا تشويها، فادعيت أنه من محاسن الجمال. قال: هل في رؤيتي لوجهك خطأ؟ ألم تري أنت وجهي أيضا؟ قلت: نعم! رأيت رجلا لا أقل ولا أكثر، ولم أدقق في تقاطيع وجهك مثل ما دققت أنت. قال: إذن السلام عليك، وأشهد أنه يجوز لفتاة فقط في مصر أن تكشف وجهها، أما باقي الفتيات فلا. ثم تركني ومضى، ولم ير من المدرسة إلا وجهي مع أنه كان يقصد زيارتها.
ولم أعبأ بكل تلك الشهرة التي زادها المرحوم حافظ بك، بل كتبت إلى المجلس أطلب فصل تلك المعلمة من مدرسة البنات، فازداد حقد سعادة المدير والناظر علي، وعمدا إلى مضايقتي بشتى الطرق، وأخيرا ثبت لدي أني لا أستطيع العمل معهما، فأردت أن أستقيل بطريقة تحفظ لي كرامتي بعض الشيء، وقد كنت متعاقدة مع مجلس المديرية لمدة 3 سنوات، لم أعمل منها إلا سبعة شهور ونصف، وكان في العقد شرط ينص على أني إذا أردت ترك المدرسة، وجب علي أن أخطر المجلس في شهر مايو؛ أي قبل انتهاء الدراسة؛ ليستعد لتعيين ناظرة غيري عند ابتداء الدراسة، وأردت أن أعامل المجلس بالذمة والشرف، وأن أستقيل في الميعاد المحدد لاستقالتي، فكتبت أقول: إذا لم تفصل تلك المعلمة من العمل، فإني لا أستطيع البقاء في المدرسة؛ ولهذا أخطر المجلس باستقالتي، وإخلاء طرفي من المدرسة ابتداء من آخر سبتمبر المقبل، وقد أردت بذلك أن أنهي سنتي المدرسية، وأقوم بامتحانات النقل، وأسلم المجلس المدرسة في حالة مرضية في آخر سبتمبر، ولا شك أن شهور الإجازة من حق الناظرة التي عملت ابتداء من أول أكتوبر إلى آخر مايو، وكنا في ذلك الوقت في يوم 20 مايو.
وما كادت تلك الاستقالة تصل إلى سعادة المدير حتى حركه الحقد للانتقام مني، فعقد جلسة لمجلس المديرية بصفة مستعجلة عرض عليهم فيها استقالتي، ولما كان الأعضاء جميعهم يعلمون الإشاعات التي تدور حول تلك المعلمة، فقد صمموا على فصلها، وقرروا ذلك في جدول الأعمال قبل النظر في استقالتي، وبعد فصلها نظروا في استقالتي، وكان المنطق يقضي أن لا يكون هناك استقالة؛ لأني طلبت فصل المعلمة، وقلت إني إذا لم ينفذ هذا الشرط اعتبر مستقيلة، وما دامت المعلمة قد فصلت فقد أجبت إلى طلبي، ولا معنى إذن للاستقالة، ولكنها الضغائن تفعل في النفوس ما تشاء؛ ولهذا تشدد الأعضاء في فصل المعلمة، ونفذ أمرهم، ثم تشدد المدير بعد هذا في قبول استقالتي كما كان يسميها.
ولقد كانت الحالة طبيعية بعض الشيء حتى في قبول الاستقالة، لو لم يتوجها سعادة المدير بأعمال استبدادية بحتة؛ فقد حضر إلى المدرسة بنفسه في يوم تلك الجلسة الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمر التلميذات بالخروج من المدرسة، وأنهى السنة الدراسية بدون امتحان، وسلمني بيده قبول الاستقالة فشق علي الأمر إذ إن المسألة أصبحت طردا فظيعا، فقد طردت التلميذات طردا تحمل كل منهن كتبها في حجر ميدعتها، وخرجن باكيات ، وكان على حسب أمر المدير أن أخرج في الحال، ومعنى هذا أني طردت طردا؛ ولهذا رفعت أمري إلى القضاء.
وكان أخذ ورد وإشاعات تتداولها الناس، ورأى المدير أنه أخطأ في هذا، وأن عمله هذا يعد فسخا للعقد لا قبولا للاستقالة، وأراد أن يصالحني، وكنت قد تركت المدرسة، ومكثت في منزل أخي بالفيوم، ومن غريب الأحلام أيضا أني حلمت أن سعادة المدير دخل علي يحاول أن يصلحني، وأن يعتذر إلي، وقمت أروي ذلك الحلم في الصباح لأخي، فقال: لعلك تريدين ذلك، ولكن كم كانت دهشته عظيمة ساعة تحقق هذا الحلم؛ إذ حضر إلينا في الساعة الرابعة بعد الظهر مأمور مركز سنورس، وطلب مقابلتي فقابلته مع أخي، فقال لي إنه يهتم بأمري كثيرا؛ لأني خدمت الفيوم بإخلاص، وعلمت بناته هو شخصيا، وأنه لذلك جاء من سنورس ليعرض على سعادة المدير الصلح على شرط أن يعطيني ثلاثمائة جنيه، وعلمت من ذلك طبعا أن المدير قد طلب منه تلك الوساطة، فقلت له: إني أعلم أن سعادة المدير شديد في عمله، فكيف تجرأت أن تترك مركز عملك في سنورس لتطلب منه هذا الطلب الذي لا يقبله؟ وماذا يكون حالك إذا هو لم يرفض طلبك فحسب، بل عاقبك وأنبك على تركك عملك؟ قال: ولكني واثق أنه لن يفعل ذلك، وأنه سيقبل عرضي. وكان مع المأمور عمدة سنورس أيضا فأخذ ينظر إلي مندهشا، وقال المأمور: أؤكد لك أنه سيقبل هذا العرض، وسيضمن حضرة العمدة قبوله هذا. قلت: أعوذ بالله إني أعرف من سعادة المدير ما لا تعرفان، وأؤكد لكما أنه لن يقبل هذا العرض. وقلق العمدة في جلسته، وقال محتدا: «يعني لازم نقول لك إنه هو بعثنا؟» قلت: نعم أريد ذلك، وأريد أن أقول لك إني لا أقبله. وهنا حيا الاثنان، وخرجا.
ويظهر أن سعادة المدير عرض الأمر على سعادة أحمد باشا لطفي السيد، وكان على ما أظن من معارفه، وكان لطفي باشا يعرفني؛ لأني كنت أول فتاة ذهبت إلى سعادته - وهو مدير للجريدة - تعرض عليه نشر مقالاتها، فقابلني بأدبه المعروف ، وأعجب بمقالاتي، ونشر لي كثيرا منها في جريدته، ومن ثم نشأت بيننا معرفة، وكنت أرى فيه رجلا لا كالرجال في أخلاقهم، بل رجلا كامل الآداب موفور الكمال، محترسا في كل لفظة يقولها أمام أية فتاة، فلم أستطع أن أطبق عليه ما قرأته في الروايات والكتب من آداب غيره من الرجال؛ ولهذا كنت أعتبره رجلا فذا لا مثيل له في الرجال، وكنت لهذا أحترمه احتراما عظيما.
عرض الأمر على سعادته، وطلب سعادة المدير منه المساعدة فاستلم المبلغ، وأمضى عليه، ثم حضر إلي، وقال لي: لقد ادعيت أني وكيلك الشرعي، فاستلمت لك هذا المبلغ، وتم بيني وبين المدير الصلح على أني وكيلك الذي لا مرد لكلامي، فإذا كذبتني في ذلك فعليك إذن رفع الدعوى علي لا على المدير. وكان رفعي الدعوى عليه من رابع المستحيلات، وهكذا انتهت المسألة.
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
تركت الفيوم بعد انتهاء مشكلتي، وبعد أن أصبحت أكره العمل الحر الذي ذقت ثمرته، وعلمت منه أن مجالس المديريات قسم من الأعمال الحكومية، لكنه قسم تعمه الفوضى أكثر من غيره؛ فالمدير فيه الحاكم بأمره يعمل ما يشاء، ويتبع أعضاء مجلس المديرية إشارته، فهو لا يأمر فيطاع، بل هو يوحي من بعيد فيطاع إيحاؤه، ويشير الإشارة المبهمة فتنفذ إشارته، والرجل الذي يأمر مسئول عن أمره قد يخشى الخروج فيه عن حد الصواب، أما الرجل الذي يوحي من بعيد، فهو في مأمن من عاقبة ما يوحي به، والمسئولية واقعة لا محالة على عاتق أعضاء مجلس المديرية، وهم الموحى إليهم الذين يتنافسون في تنفيذ هذا الإيحاء دون أن يفكروا في عواقبه؛ فالمدير في مجلس المديرية مستبد أو ديكتاتور، ولكنه مع ذلك غير مسئول عن أعماله كباقي الديكتاتوريين، فهو إذن أشد الديكتاتوريين تعسفا، ولا غرابة بعد هذا أن عمت أعماله، وساءت عواقبها؛ لهذا أصبحت أكره الأعمال الحكومية، وفي مقدمتها مجالس المديريات.
وشاء الحظ أو سوءه أن يفتح مجلس مديرية الدقهلية مدرسة معلمات المنصورة، وأن يطلب لها ناظرة من حاملات دبلوم السنية اللائي كن في ذلك الوقت أندر وجودا من العنقاء والخل الوفي، وكان حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد عضوا في ذلك المجلس، ولم يكن بالطبع من الأعضاء الذين يوحى إليهم، بل كان هو العضو الوحيد الذي يصح أن يوحي إلى غيره لا أن يتلقى الإيحاء، وعرض سعادته على المجلس تعييني ناظرة لتلك المدرسة، وكان مدير المديرية في ذلك الوقت المرحوم محمد باشا شكري، وكان صديقا حميما لحضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد، كما كان فاضلا متضلعا في العلوم؛ ولهذا قبل ذلك العرض من سعادة لطفي باشا السيد، واتفق معه على تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، وأخبرني حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد بذلك، وحدد لي يوما للسفر إلى المنصورة، واقترح أن أبيت في منزل سعادته في برقين، وفي الصباح أذهب إلى المنصورة حتى لا أضطر إلى المبيت في أحد الفنادق، وهي عادة لم تكن مألوفة بين المصريات، فرحبت بفكرة سعادته، وشكرت له ذلك، وذهبت إلى برقين، وإذا بعربة المغفور له والده تنتظرني عند المحطة، فأخذتني إلى منزلهم العامر في برقين.
دخلت المنزل مغتبطة فقابلتني شقيقتاه، وزوجة والده بالترحيب كما هي عادة ذلك المنزل لكل طارق، جلست مع الشقيقتين، وكان المنزل ينفذ الحجاب بالدقة، فلا يدخل أحد من الرجال إلى محل الحريم، وعلمت أن هؤلاء الفضليات من نساء برقين لم يقابلن رجلا غريبا، ولم يتحدثن إلى رجل أجنبي عنهن، وهنا هالني الأمر، وتساءلت في نفسي ماذا يكون رأيهن في مبيتي في منزلهن، وتحدثي مع شقيقهن؟ ألا يبدو ذلك غريبا شاذا في نظر هؤلاء الفضليات؟ ولا يبعد بعد ذلك أن تحتقرنني لخروجي عن الفضائل التي اعتدنها، فكرت في ذلك فمادت بي الأرض، وخشيت على سمعتي السوء، ولم أدر ماذا أصنع، وأردت أن أتجنب مقابلة حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد حتى لا أظهر أمامهن بالخروج على فضائلهن المتبعة، فطلبت ماء لأتوضأ، وتوضيت وصليت، وجلست تائهة أفكر فيما عسى أن يقال عني، وحضر صاحب السعادة لطفي باشا السيد ليرحب بي قياما بواجب الضيافة، وهو المعروف بكرمه وسخائه المتناهي فقمت له، ولما أراد أن يسلم علي باليد اعتذرت إليه خشية أن ينقض وضوئي فجلس بعيدا عني، وكنت أجلس على ديوان كبير وضع بجانب نافذة تطل على جرن البلد، واندهش لطفي باشا إذ رآني على غير عادتي صامتة لا أتكلم، ويبدو على محياي أني سابحة في بحر من الأفكار والهواجس، فقال: هل أنت خائفة من تلك النافذة؟ وأشار إلى النافذة التي كانت خلفي، قلت: كلا، ولكني أفكر في كيفية مبيتي في هذه الليلة، وهل سأبيت مع شقيقتيك في هذه الغرفة، وهل لها مفتاح لنغلق الباب علينا؟ ونظر الفيلسوف إلي في شيء من الدهشة والسخرية، وقال: إذن أنت تخافين من الباب لا من النافذة؟ فقلت: نعم. فضحك، وقال: السلام عليك، سأقابلك غدا في المنصورة في غرفة سعادة المدير. وتركني وانصرف.
أما أنا فقد فرحت بالنتيجة التي وصلت إليها، وإن كان قد ساءني أن أظهر أمام ذلك الفيلسوف الفاضل النزيه بمظهر الارتياب، ولكن هي الظروف فإن الفتاة يجب أن تصون سمعتها من أن يتسرب إليها أي شك، أو تظهر أمام غيرها من فضليات الفتيات بمظهر لم يألفنه من قبل فتكون مضغة في الأفواه، والناس لا يعلمون إلا المشاهد والملموس أمامهم.
وفي اعتقادي أن المعلمة على الخصوص يجب أن تكون مثال الأدب والنزاهة والشرف إلى أبعد حد من حدود الكمال مهما كلفها ذلك لتكون قدوة صالحة أمام تلميذاتها، فإن أضافت إلى نزاهتها الظاهرية البادية نزاهة السريرة، وما وراء الغيب، فقد برهنت على أنها جديرة بمهنة التعليم والتهذيب، وإلا فلا كان تعليم، ولا تتوجه القدوة الحسنة من جانب المعلمات.
خرجت في الصباح دون أن أقابل صاحب السعادة لطفي باشا السيد كما أراد هو ذلك، وتقابلنا في غرفة المغفور له محمد باشا شكري، وبعد كتابة العقد بيني وبين المجلس لمدة خمس سنوات، دعاني المغفور له لتناول الطعام مع حضرة صاحبة العصمة حرمه، وكان المغفور له وقورا، قليل الكلام، يميل إلى الجد أكثر منه إلى الهزل حتى في أحاديثه .
ذهبت إلى المنزل فقابلتني السيدة الجليلة حرمه بالترحيب، وجلسنا نتسامر، وإذا بي أقابل سيدة لا كسيدات ذلك العصر، بل سيدة متعلمة سامية الأفكار، تدير منزلها بالحكمة والروية، وكان المغفور له على تضلعه في العلم يخشى جانبها، ويجلها كل الإجلال.
جلسنا نتحادث، فقامت بيننا من اللحظة الأولى صداقة متينة، فأخذنا نتسامر ونضحك، وقد أنست كل منا بالأخرى، وحضر المغفور له في وقاره وسكينته، وكان قلبي قد اطمأن إلى حرمه المصون، فعدت لا أخفي شيئا إذا أنا تبسطت أو ضحكت، وهنا نظرت إلى سعادته في شيء من الدعابة، وقلت: لا تؤاخذني إذا أنا نسيت في خطابك الآن أن أذكر كلمة سعادتك؛ لأني لم أعتد خطاب العظماء، فأنا «أكره «سعادتك» من كل قلبي»، أريد بذلك الكلمة لا شخص المدير.
واضطر سعادة المدير أن يضحك، وأن يقول: «أرجو أن لا تذكري تلك الكلمة ما دامت تعلمك كراهتي.» وهكذا توطدت بيني وبين صاحبة العصمة حرمه أواصر الصداقة من أول مقابلة، وقد حرصت كل منا على تلك الصداقة إلى اليوم.
وابتدأت عملي في مدرسة معلمات المنصورة بإعداد المدرسة وشراء أثاثها، وترتيب كل ما يصلح لها قبل أن تفتح، وكان المغفور له شكري باشا لا يرد لي كلمة، وإذا فعل أو أراد أن يفعل كان في منزله من يرغمه على تنفيذ ما أريد، خصوصا وقد رأت صاحبة العصمة حرمه أني لا أطلب إلا الصالح لتلك المدرسة التي يراد افتتاحها، وفتحت المدرسة أبوابها، وقد اقترحت أن تفتح إلى جانبها مدرسة ابتدائية، ففتحت المدرستان في وقت واحد، وأقبل أعيان المنصورة على المدرسة الابتدائية إقبالا مدهشا حتى كان فيها جميع بنات أعيان البلاد المجاورة، ومن بينهن شقيقة صاحب السعادة لطفي باشا السيد نفسه.
في المنصورة
لم أستفد من حوادث الفيوم شيئا، ولعل طيش الشباب قد غطى على كل ما يجب أن أستفيده من تلك الحوادث، فخرجت من الفيوم كما دخلتها، وقد صممت عزمي على أن أكون المثال الكامل لتلميذاتي في العصمة والكمال، لا أقول كما يقول غيري، إني أكتفي بما أعلمه عن نفسي من الكمال، بل أقول لا بد أن يعلم الناس كل هذا، كتبت على باب المدرسة أوامري السابقة، ومن أهمها «ممنوع دخول الرجال إلا ابتداء من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر»؛ أي أثناء العمل فقط.
وكنت لا أضع كغيري في مدخل مكتبي «برافان»، بل كنت أشدد على خادمي الخصوصي أن يكون على مقربة مني إذا دخل مكتبي ضيف أي رجل، وأن يدخل - أي الخادم - علي بلا استئذان، كنت أقول له ذلك لا لأني خائفة من الضيوف، ولكني كنت أعلم أن الخدم هم الذين يذيعون أسرار المنازل، وأن الخادم - وهو يرى ناظرته تخالف العادة المتبعة عند سيدات الشرق من عدم مقابلة الرجال - قد يسيء الظن فيها إلى حد بعيد، فأردت أن أغلق أمامه باب سوء الظن، وأجعله يشعر أني لا أخلو برجل؛ لأني قد أمرته أن يكون على مقربة مني بحيث يراني ويسمعني؛ أي يسمع ما يدور بيني وبين ضيفي من الحوار.
وكنت إذا أردت أن أكتب إلى ناظر المدرسة الأميرية، أو أحد موظفي مجلس المديرية خطابا أستفهم فيه عن شيء، أو أطلب شيئا أرسلت الخطاب مع خادمي مفتوحا حتى لا أترك له سبيلا إلى الظن والتخمين، فيقول: هؤلاء المتعلمات يكاتبن الرجال لغايات أخرى. بل كنت أريه الخطاب، وأخبره مضمونه، وأضعه أمامه في المظروف، وأتركه مفتوحا، وأسلمه إليه ليكون مطمئنا إلى أن المسألة لا تتعدى العمل، ولعل الزمن نفسه كان يتطلب مني ذلك الحرص؛ فقد كان اللوم موجها إلى المتعلمات، وكثيرا ما كانت الصحف تحمل عليهن، وكان الجهلاء من الناس لا حديث لهم إلا الطعن في التعليم، وتشويه سمعة المتعلمات.
فكان علي والحالة هذه أن أبرهن لجميع هؤلاء أنهم مخطئون، وأن التعليم لا يفسد صالحا، كما أنه لا يصلح فاسدا، اللهم إلا قليلا.
وكان لحسن حظي أن وثق الناس بي، وتحدثوا عني بالخير، ودفع هذا بعض أعيان المنصورة إلى زيارة المدرسة ليروا تلك التي سمعوا عنها كثيرا، ولكن شاء سوء الحظ أن تكون زيارتهم بعد الساعة الرابعة، وأن لا يسمح لهم البواب بذلك؛ لأن الناظرة تقيم وحدها في المنزل، ولا تسمح لأحد من الرجال بزيارتها إلا أثناء العمل.
عز عليهم الأمر، وقد كان بعضهم من أعضاء مجلس المديرية، وهم لذلك يعتبرون أنفسهم أصحاب تلك المدرسة، لا يجوز لأحد أن يرد لهم رأيا، أو يناقشهم الحساب فيها.
عادوا من المدرسة غاضبين، وشكوا أمرهم إلى سعادة المدير، وكان كما قدمت فاضلا محبا للعلم، وكان يود أن تنجح المدرسة التي أسسها هو، وأن يثق الناس بالناظرة التي عينها، وكان يسره أن يسمع دائما فيها مدحا لا قدحا، فهدأ من ثائرتهم، وأفهمهم أني على حق فيما فعلت؛ لأني على كل حال فتاة صغيرة السن، ولا يجوز لي أن اختلط بالرجال في غير أوقات العمل.
فعل ذلك، ثم أرسل إلي، وقص علي القصة، وقال: لقد صممت أن أصدر أمري بأن لا يزورك أحد إلا بعد أن يأخذ إذني في زيارتك. قلت: أنا لا أعطيك هذا الحق، ولست أنت بقريبي، ولا بولي أمري حتى تسمح بزيارتي أو تمنعها، ولقد صممت أن لا يكون لرجل علي سلطان، ولو أردت ذلك لاتبعت الطريقة المشروعة، ومكانتك مني كمكانة كل فرد في المنصورة، فأنت رجل أجنبي عني، وإذا كان يعيب المرأة أن ترى الرجل الأجنبي كانت رؤيتي لك عارا لا أقبله، أما إذا كان كما أعتقد أن المرأة لا يعيبها أن تقابل الرجال ما دامت متمسكة بالفضيلة والكمال فلا بأس إذن من أن أقابلك، وأن أقابل غيرك، أما أن تتحكم أنت في أموري الشخصية فهو ما لا أقبله.
قال: لقد أردت أن أمنع عنك لوم الناس، فأقول لهم إني أنا الذي أمنعها من مقابلتكم، فلا يكون عليك مسئولية في عدم مقابلتهم، فلا يغضبون منك، ولا يغضبون مني. قلت: إني شخص كامل يجب أن أكون مسئولة عما أفعل، ولا يهمني أن يغضب علي شخص أو أشخاص ما دمت على حق فيما فعلت، وأنا أود أن أتحلى بالفضيلة مختارة لا مضطرة، والسجين المقيد لا يوصف بالأمانة، إنما يوصف بها من يستطيع السرقة ولم يفعل؛ ولهذا أريد أن أمتنع عن الرجال إذا شئت أنا ذلك لا إذا شاء ذلك غيري. قال: جازاك الله! أنت تستحقين ما وصفوك به من الغلظة والشدة. قلت: ولا بأس في ذلك.
زارني بعد ذلك الرجال في أثناء العمل فسرتهم مقابلتي، وأعجبهم حواري، وأثنوا على المدرسة ثناء حسنا، وانتهت المسألة بميل كل أعيان المنصورة إلي ودفاعهم عني، وكان أعضاء مجلس المديرية يدعون دائما أنهم أولو الأمر في مدارس المجلس، وكنت كثيرا ما أردهم إلى الصواب فيما يدعون، وتصادف أن زارني أحد هؤلاء الأعضاء فأحسنت مقابلته، ورحبت به كعادتي المألوفة إذ ذاك لكل طارق، وأمرت الخادم أن يحضر القهوة، وكان مع العضو ضيف آخر، وغابت القهوة فأظهر عضو المجلس غضبه وتألمه لتأخر القهوة عن الميعاد، كأنه أراد أن يظهر للضيف الآخر مقدار سلطته على المدرسة وناظرتها وخدمها، فقلت له ضاحكة: أوتظن أن فراشي سيحضرها؟ قال: ولم لا؟ قلت: لا يا سيدي إنك مخطئ، إني أعمل هنا ناظرة لمدرسة، يهمني إتقان أعمالها المدرسية، وبيني وبين خدمي اتفاق أنه إذا كانت مراحيض المدرسة مثلا لم تنظف فعليهم أن ينظفوها قبل أن يحضروا لي قهوة، أو غيرها من تلك الكماليات، وليس هذا يا سيدي بمندرة دوارك، يجب أن يكون الخدم فيها على أتم استعداد لمقابلة الضيوف، بل هذه مدرسة يجب أن يكون خدمها على استعداد للقيام بأعمالهم المدرسية من نظافة وغيرها.
فلم يستطع العضو إلا أن يغض الطرف عن كلامه، وأن ينسحب بانتظام لا كانسحاب الطليان بغير انتظام.
مناهج التعليم ومناورات وزارة المعارف للإشراف على مجالس المديريات
في الماضي
كانت وزارة المعارف كثيرا ما تعطي السلطة لرجال لم يهبهم الله من الخبرة ما ينالون به التوفيق في أعمالهم، فإذا فتحت مدارس جديدة دبروا لها من المناهج ما لا يستطيع الإنسان أن يسير به عمليا في طريق النجاح، وكانت مدارس المعلمات في ذلك الوقت جديدة، وقد وضع لها منهج خاص، فكان فيه العجب العجاب.
لم تكن الطالبات تتعلم قواعد النحو في المدارس الأولية، بل كانت تدخل مدارس المعلمات، وهي لا تعرف شيئا من قواعد النحو في اللغة العربية، وكان المنهج يقضي أن يعطى لهن في السنة الأولى مرفوعات الأسماء والأفعال والممنوع من الصرف، ولا أدري كيف تيسر لواضع المنهج أن يعلم الممنوع من الصرف لطالبات لم يتعلمن المجرورات، يقول لهن المعلم: إن الاسم الممنوع من الصرف يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة. وهن لا يعرفن متى يجر الاسم، وتخصيص إعطائهن المرفوعات فقط دون المنصوبات، كان أيضا مضحكا لأنهن كن يتعلمن خبر إن دون أن يعرفن اسمها، كما يتعلمن اسم كان دون أن يعرفن خبرها، وهو تعليم ناقص مختل؛ لأني إذا أعطيت التلميذة جملة فيها كان أو إن، وجب أن تعرف أن اسم الأول مرفوع وخبرها منصوب، واسم الثانية منصوب وخبرها مرفوع، لا أن تعرف شطرا من كل جملة، وعلى ذلك يكون التعليم آليا عبارة عن حفظ لا يستند إلى شيء عملي مفهوم.
أما في الحساب، فكان منهج السنة الأولى إعادة الأربع قواعد الأصلية، ثم تجنيس الكسور الاعتيادية، ومهما فكر الإنسان ودقق لا يستطيع أن يفهم عقلية واضع ذلك المنهج؛ أولا لأن الكسور العشرية أسهل من الاعتيادية، وكان يجب البدء بها لأنها تسير حسب سير الأعداد الصحيحة خطوة بخطوة، مع ملاحظة أين توضع الشرطة العشرية، أما الكسور الاعتيادية، فلها قواعد تخالف الأعداد الصحيحة بالمرة، ولو جاز لنا أن نعلمها قبل أن نعلم الكسور العشرية لما جاز لنا إطلاقا أن نبتدئ فيها بالجمع والطرح؛ بل يجب أن نبتدئ بالضرب والقسمة لسهولتهما، ثم نعلم بعد ذلك الجمع والطرح، وما دام الإنسان لا يستطيع أن يجمع ربعا ونصفا ما لم يجنس كسرين، فنحن عند الجمع نضطر إلى عملية التجنيس اضطرارا، أما أن يعطى التجنيس فقط دون جمع ولا طرح، فهو ما لم أفهمه إذ ذاك، ولم أفهمه بعد ذلك.
ولهذا سار التعليم في مدرستي حسب تفكيري أنا لا حسب المنهج؛ فكانت التلميذات في السنة الأولى في اللغة العربية يطبقن في كتاب المطالعة على جميع القواعد الكثيرة الورود، وهو ما ابتدأت مصر تفكر فيه والحمد لله الآن، أما في الحساب فقد كنت أعلمهن الكسور العشرية لأثبت قواعد الأعداد الصحيحة من جمع وطرح وضرب وقسمة، ثم أعلمهن بعد ذلك ضرب الكسور الاعتيادية وقسمتها، ثم جمعها وطرحها، وبعد أن أجمع ربعا وربعين، أضطر اضطرارا إلى تعليمهن طريقة التجنيس.
وكان مفتشو الوزارة إذا دخلوا مدرسة معلمات المنصورة لا يكتبون عنها شيئا في سيرها في طرق التعليم، وإنما يوازن الواحد منهم بين منهج الوزارة والمنهج الذي تسير عليه المدرسة دون تفكير، ثم يشرح كيف تخالف هذه المدرسة منهج الوزارة.
ولم أكن أعبأ كثيرا بتلك التقارير التي لا شيء فيها جديد علي؛ لأنني كنت أعلم - والحمد لله - الفرق بين منهجي ومنهج الوزارة، وكان من ضمن ما كنت أخالف الوزارة فيه من النظم أني كنت أعطي طالباتي خمس حصص في الصباح، وحصتين فقط في المساء، وبذلك كن يخرجن للغذاء في الساعة الثانية عشرة والنصف، بينما تخرج مدارس الحكومة في الساعة الحادية عشرة والنصف، الوقت الذي لم يعتد بيت من البيوت الغذاء فيه، وكانت طالباتي تعود إلى المدرسة الساعة الثانية بعد الظهر، بينما كانت تلاميذ المدارس الأميرية يعودون الساعة الواحدة؛ أي في زمن لا يستطيع معه التلميذ هضم الأكل والاستعداد لقبول الدرس، وكان هذا من أظهر مخالفاتي لنظم وزارة المعارف. «ومن العجيب أن الوزارة منذ عامين أو ثلاثة قد اتبعته في مدارسها الثانوية»، وظللنا على هذا حتى دخلت مدرستي امتحان الكفاءة للمعلمات الذي تقوم به الوزارة نفسها، وإذا بها الأولى على جميع المدارس، وقد تفوقت خصوصا في اللغة العربية والحساب، وهنا قامت الوزارة وقعدت، وأخذ الناس يوازنون بين مدرسة معلمات المنصورة التي تديرها مصرية، ومعلمات بولاق القديمة التي تديرها إنجليزية، وشق ذلك بالطبع على الوزارة، فأخذت تفكر في نبوية موسى لأول مرة، وليتها ما فكرت.
اتجه الفكر على ما يظهر في الوزارة إلى عدم إبقائي في تلك الوظيفة مهما كلفهم ذلك، ولكن المدير كان كما قدمت رجلا فاضلا، فلم يعبأ بما كانت تفرضه عليه الوزارة من السخافات .
غضب مفتشو الوزارة لتفوق معلمات المنصورة على غيرها رغم سيرها على طريقة تخالف طريقة الوزارة، وأرادوا أن يحرضوا مستر دانلوب مستشار المعارف ضدي، وتصادف لسوء حظي أن أساء التصرف أحد مفتشي الوزارة في مدارس البنين، فمس كرامة مجلس المديرية، وغضب سعادة المدير لذلك، وكان رجلا أبي النفس، فقرر أن لا يدخل أحد مفتشي وزارة المعارف مدارسه، وكانت مجالس المديريات في ذلك الوقت مستقلة كل الاستقلال عن وزارة المعارف، ونقل هذا الخبر إلى مستر دانلوب مشوها محرفا، فقيل له: إن نبوية موسى لصداقتها لحضرة صاحبة العصمة حرم المدير قد أثارته ضد وزارة المعارف، وهي تريد أن لا يكون للإنجليز يد في مجالس المديريات، وهي لذلك تعلم طالبات المعلمات اللغة الإنجليزية حتى لا تحتاج إلى تعيين إنجليزية في المدرسة الابتدائية لتعليم اللغة.
وغضب مستر دانلوب لهذا التحدي، ولكن الرجل كان عمليا، فأراد أن يحضر بنفسه ليعلم مدى تلك القصة، وكان قد ابتدأ أن يتفق مبدئيا مع مستشار الداخلية أن يكون له الإشراف على مدارس مجالس المديريات، وفجأة ومن غير علم مني، ولا من المدير، زارني جناب المستر دانلوب، وكان يظهر على محياه الغضب، وما كدت أراه حتى قمت وحييته ورحبت به وأهلت، ولكنه قابل تحيتي وترحيبي بشيء من التجهم، وقال بشيء من الغلظة: أريد أن أرى فصول المدرسة. قلت: أهلا وسهلا، تفضل. ودخلت معه المدرسة، وزار الفصول فسر منها، وابتدأ يظهر ارتياحه، ثم قال لي: ألم يرسل المدير إلى مدارسكم أمرا بعدم إدخال مفتشي وزارة المعارف إليها؟ قلت: نعم، لقد كان ذلك. قال: فما السبب الذي حمله على هذا؟ قلت: لا علم لي به. قال: وكيف إذن أدخلتني فصول المدرسة ما دام المدير يمنعك من هذا؟ فقلت: إني أعرفك تمام المعرفة، ولم أدخلك كمفتش من وزارة المعارف، بل أدخلتك كصديق لي أنا، ولناظرة المدرسة أن تدخل من تشاء من أصدقائها على شرط أن لا يكون في دخوله ما يخالف الآداب، وأنت مستشار المعارف أي رجل معروف في الأوساط العلمية، ولا بأس من دخولك مدرستي شاء المدير أم لم يشأ. قال: وهل هذا سيكون اعتذارك إليه؟ قلت: نعم. فخف غضبه بعض الشيء، ثم ذهب إلى المدير، فعرفه هذا أن مسألة منع مفتشي وزارة المعارف لم يكن لها اتصال بي بتاتا، ولكن الرجل ما زال في شك من أمري خصوصا بعد أن قيل له بجانب هذا إني أنافس الناظرة الإنجليزية، وإني قد تفوقت عليها، وأنا أفخر بذلك.
وانتهت هذه الحركة بأن أشرفت وزارة المعارف على مدارس مجالس المديريات، وذلك بأمر جناب مستشار الداخلية الذي لا يستطيع المدير مخالفته.
غضب يمحو غضبا
كانت صلتي بحضرة صاحبة العصمة حرم المغفور له محمد باشا شكري مدير الدقهلية في ذلك الوقت قوية متينة كما قدمت؛ فكنت أزورها دون تكليف، وأدخل عليها بدون استئذان، ولكني مع هذا كنت أحتاط لسمعتي، فلا أرفع التكليف في منزل المدير إلا إذا كان هو غائبا عنه، وقد عرف خدم المنزل مكانتي من صداقة سيدتهم؛ فكانوا يرحبون بي عندما أزور المنزل، وحدث أني ذهبت إلى منزل المدير، ومعي كالعادة ساعي المدرسة، وعندما نزلت من العربة التي أقلتني إليه، سألت البواب عن السيدة، فقال لي بسذاجة: إنها خرجت يا سيدتي، ولكن سعادة المدير يجلس وحده في السلاملك فتفضلي بالدخول عنده. وساءتني هذه الكلمة البسيطة إذ إنها قد تشعر ساعي المدرسة أني اعتدت أن أزور المدير في منزله منفردا عند غياب زوجته.
ساءتني تلك الكلمة البسيطة؛ لأن الناس في ذلك الوقت كانوا يسيئون الظن بجميع المتعلمات، شأن عامة الناس بكل جديد، غضبت من بواب المدير غضبا كاد يدفعني أن أخاطبه بغير الكلام لو أن ذلك كان من عادتي، وقلت له في حدة متناهية: ومن الذي سألك عن المدير أيها الحمار؟ وهل من عادتي أنا أني أزوره، أو أسأل عنه؟ الحق أنك غبي بليد. قلت ذلك وعدت مسرعة إلى العربة التي أقلتني إلى منزلي في الحال، وسمع سعادة المغفور له تلك الألفاظ، فساءه أن يبدو من ألفاظي الشك في سمعته، وهو الأبي المعصوم ، فغضب وأخذ يقول إن نبوية قد خرجت عن حدود الأدب في ألفاظها، وشاء حسن الحظ أن تعود السيدة حرمه، وهو يعتب علي، ويستنكر ما قلته فساءها أن يشتمني كما زعمت، واشتبكت معه في نقاش عنيف كاد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وأخذت تقول له: إنك غربتني عن بلادي، وأنت مع هذا تكره كل صديقة تدخل بيتي، وتخفف من ألم غربتي، وإني ألاحظ على نبوية أنها تشعر بكراهتك لها إلى درجة أنها تترك المنزل عندما تعود أنت إليه. اشتد بينهما الجدل والخصام، وكانت هي الغالبة شأن كل السيدات، وطلب هو الصلح فلم يفلح، فأراد أن يوسطني في الأمر فاستدعاني تليفونيا بعد أن أخبرني أن السيدة قد عادت، فحضرت في الحال، فوجدته يقطع بهو المنزل ذهابا وجيئة، وهو في حالة غضب، فلما وقع بصره علي أشار إلى الغرفة التي كانت تجلس فيها حرمه، وقال: انظري كيف كنت سببا فيما بيني وبينها من خلاف. فلم أجبه، ولكني دخلت عليها مسرعة، وما كادت تراني حتى زاد غضبها وقالت: إنه أراد أن يبلغك هذه القصة حتى ينفرك من زيارتي. قلت: كلا يا سيدتي، إني إنما أحضر هنا لزيارتك لا لزيارته، ولا يهمني أغضب هو علي أم رضي، ولكن اسمحي لي أن أقول لك إنك ظالمة في غضبك منه؛ لأنه شتمني داخل منزله بعد أن أسأت أنا إليه على مسمع من الخدم، وعلى قارعة الطريق، إني أنا المخطئة لا هو. فزال غضبها من كلامي، وتم بينهما الصلح.
كانت هذه الحادثة سببا في إفلاتي من عقاب محقق أراده جناب المستر دانلوب مستشار وزارة المعارف، وهكذا أراد الله أن يكون السوء سببا في الخير؛ فقد كتبت مقالة في إحدى الصحف أنتقد فيها بعض أخطاء الرؤساء، وكنت أقصد الرؤساء المصريين طبعا، ولكن أحد خصومي أفهم دار المندوب السامي أن المقصود بالرؤساء في تلك المقالة هم الإنجليز، واتصلت دار المندوب السامي بجناب المرحوم المستر دانلوب، وطلبت منه أن يطلب فصلي من وظيفتي بما له من إشراف على مدارس مجالس المديريات، وأسرع المستر دانلوب إلى تلبية ذلك الطلب عندما عرف أن سببه هو طعني على الإنجليز، فزاد ذلك ما كان في نفسه من الشك في منافستي للإنجليز، وكراهيتي لهم، وحضر خصيصا إلى المنصورة يطلب من المغفور له محمد باشا شكري تنفيذ تلك المهمة؛ أي فصلي في الحال، وكان ذلك بعد الحادثة التي ذكرتها بيوم واحد، فحار في أمره، وتأكد أن حضرة صاحبة العصمة حرمه لا يمكن أن تصدق تلك الرواية، بل إنها ستتأكد من أن الفصل إنما بني على غضبه مني، وأن الحادث سيكون وقعه شديدا على نفسها خصوصا إذا اتهمته هو شخصيا بتدبيره.
احتار الرجل في أمره، وفكر في حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود لقربه من صداقة الإنجليز، واستطاعته التفاهم معهم، وكان في ذلك الوقت محافظا للقنال، فسافر في الحال إليه، وطلب منه أن يبحث في دار المندوب السامي عن سبب غضب الإنجليز علي لعله يجد حلا لذلك، وذهب صاحب الرفعة محمد باشا محمود فعرض عليه المقال، فترجمه لهم ترجمة حقيقية، وأفهمهم أن المقصود بذلك المقال رئيس مصري، فكتبت دار المندوب السامي إلى المستر دانلوب تقول له إن الترجمة خطأ، وإنه لا معنى لتنفيذ العقاب، وفي الحال خاطب المستر دانلوب شكري باشا تليفونيا، وطلب منه أن يصرف النظر عن مسألة الفصل، وما كاد المغفور له يعلم هذا حتى قص القصة على حرمه بعد أن أخفاها عنها كل تلك المدة، ومن غرائب الأحلام أني حلمت أن إنجليزيا لا أعرفه دنا مني وقبلني، فساءني ذلك منه، واعتبرته إهانة عظيمة، أخذت أبكي وأنتحب من أجلها، وأخيرا اعتذر إلي الإنجليزي قائلا إنه أخطأ، وما كان يريدني بذلك، فزال ألمي عند اعتذاره، وشعرت بشيء عظيم من الراحة، وفي اليوم التالي زرت صديقتي حرم المدير فرويت لها الحلم، وقلت: إني أخشى أن تنزل بي كارثة، ثم تزول، ولست أدري ما نوع الكارثة. قالت: لا تخشي شيئا، فإن الكارثة قد وقعت وقد زالت، ثم قصت علي قصة المستر دانلوب، وما فعله المغفور له زوجها لإنقاذي .
وهكذا شعرت نفسي بشيء لم أكن أعلمه، ولعل للأحلام علاقة بما تشعر به الروح الداخلية للإنسان من إحساس غامض؛ فهي قد تشعر بما يحيط بها، بينما يجهله الإنسان نفسه في يقظته، ويخيل إلي أن الإنسان قد يرى في أحلامه الأشياء التي حدثت بالفعل وعرفها غيره؛ لأن الروح قد تشعر بما يحيط بها من الحوادث التي وقعت فعلا، أما الغيب أي الحوادث التي لم تقع، ولم يعلمها أحد فأستبعد أن يراها الإنسان في أحلامه، وإن كنت أنا شخصيا قد حلمت مرة حلما خشيت أن يفسر بوفاة المرحوم شقيقي، وقد كان ما خشيته وتحقق الحلم بعد أربع سنوات، ولست أدري أكان ذلك لحبي الشديد له، وخوفي عليه فحلمت ذلك الحلم، ثم شاءت الصدف السيئة أن يتحقق؟ أم أن هناك أسبابا أخرى لمثل تلك الأحلام قد نجهلها الآن، وقد يكشف العلم في المستقبل عن حقيقتها؟ على أني أعترف أن جميع الأحلام التي رأيتها وتحققت، كانت كلها وقائع صحيحة حدثت وعرفها غيري يوم رأيتها أنا في منامي، اللهم إلا هذا الحلم الوحيد الذي رأيت فيه المرحوم شقيقي يهوي إلى حفرة عميقة، فيحدث صوتا مفجعا عظيما أيقظني من نومي وأنا أردد كلمة «أخي»، وبعد ذلك بأربع سنوات ذقت تلك الفاجعة، ولكني لم أتكلم بل تحدثت دموعي كثيرا فأنابت عن الكلام، وهي - وايم الحق - أبلغ ما يقال.
إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيا ومخاوفي
التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
أقنع حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود الإنجليز - كما قدمت - ببراءتي مما اتهمت به، ووثق حضرة صاحب السعادة المغفور له مدير الدقهلية بأعمالي، فأطلق يدي في إدارة المدرسة حتى كان لا يعارض لي أمرا، فالتفت إلى إصلاح المدرسة من الوجهة الأخلاقية، فاتجهت بنوع خاص إلى مسلك المعلمات؛ لأنهن قدوة التلميذات، وكان بالمدرسة معلمة من المدرسة السنية قد نالت شهادتها بعدي بثلاث سنوات فقط، وقد كانت زميلتي في بعض سني الدراسة، ولكن ما تعلمته من العلوم لم يكن لينير لها السبيل في حياتها الشخصية؛ لأنها على ما يظهر اقتصرت على علوم المدرسة، وهي لا تتناول شيئا من أخلاق الرجال ومشاكلهم مع السيدات مثلا، أما أنا فقد كنت على العكس من ذلك، قد استفدت فائدة عظيمة من قراءتي كثيرا من المجلات والقصص الغرامية التي كانت تمثل لي أخلاق الرجال وحيلهم في سلب النساء الشرف والمال معا.
لهذا كنت يقظة، أكاد أعرف ما يكنه الرجل من وراء تملقه فتاة من الفتيات، وكان لتلك المعلمة ابن عم كان يظهر لها الولوع بها إلى درجة بعيدة، وكان في الوقت ذاته يريد أن يولعها هي به ليسلبها ما كانت تتقاضاه من مرتبها؛ فكان يرسل لها كثيرا من الخطابات، ويطلب في كل خطاب يكتبه أن تكثر هي من الكتابة إليه، ويلومها على عدم تغزلها به، وإظهارها حبه وغرامه في كتاباتها، فكان بذلك يريد أن يعلمها كيف تولع به، وعرفت من خلال كلامه في تلك الخطابات أنه لا يكن لها حبا، وأنه إنما يريد أن يستغل ما يتظاهر به من الحب لمصلحته الشخصية ليسلبها ما استطاع أن يسلبها من المال، وكانت المسكينة تحرم نفسها من ضروريات الحياة، وترسل إليه مرتبها كاملا تقريبا.
نصحت لها بعبارات مبهمة فلم تفهم قصدي، ولم يزدها كلامي إلا تعلقا بابن عمها، وغراما به، وأخيرا أرسل إليها خطابا يقول لها فيه إنه سيحضر إلى المنصورة في يوم الجمعة ليقضي معها يوما مفعما بالمغامرات الغرامية بين الحقول والمياه، وساءني أن يتم ذلك؛ لأن المنصورة بلد صغير لا يخفى على سكانه شيء مما يدور فيه، فلم أسلمها ذلك الخطاب، ولم أخبرها به، ولكني في الساعة المضروبة لحضوره جلست في مكتبي، وقلت للبواب إذا جاءك رجل يسأل عن فلانة فقل له إن ناظرة المدرسة تنصحك بترك المنصورة حالا وإلا قبض عليك، فكان كلام البواب مفاجأة مفزعة للرجل، أسرع بعدها إلى القطار الذي أقله إلى القاهرة، وسافرت المعلمة بعد ذلك إلى القاهرة فعرفت ما تم له، وساءها الأمر، فجاءتني غاضبة تلومني على ما حدث، فهدأت من غضبها، ونصحت لها أن تتروى في الأمر، وأن لا تأتمن ابن عمها هذا كثيرا؛ لأنه يظهر لي أنه خائن محتال، وعارضت طبعا، فقلت لها: إذا كان ينوي الزواج منك فما الذي يؤخره إلى اليوم؟ وهل عندك مانع من أن يتم عقد الزواج الآن؟ قالت: لا مانع عندي، ولكنه هو يتعلل بعلل قد لا أفهمها. قلت: إذن هو محتال كاذب، وإني أمنعك بتاتا أن تكاتبيه، أو تستلمي منه خطابات ما لم يعقد عليك، وما دمت أنت لا مانع عندك فيجب أن يسرع هو إلى تنفيذ ذلك لتكوني واثقة من حسن نيته.
وبعد يومين جاءني خطاب منه يقول لي إنه لا يجوز لي مطلقا التدخل بينه وبين زوجته المستقبلة، وإن له أن يكاتبها، وأن يتنزه معها ما شاء، وشاء له الهوى، فأرسلت أقول له إني قد فهمت من جملة خطاباته أنه لص محتال، وأنه لا ينوي الزواج بها، بل هو يستغل تظاهره بالحب ليسلبها المال، وأنه في نظري أسفل الرجال قاطبة؛ لأنه لم يختر فريسة له يسلبها العرض والمال إلا ابنة عمه التي كان يجب عليه أن يدافع عن شرفها، وأن يحمي ذلك الشرف بكل ما يستطيع، لا أن يكون هو أول من يفسد أخلاقها، وإني لهذا لا أصرح له ولا لها بالمكاتبة إلا إذا أسرع إلى عقد العقد، وأصبحت زوجته الشرعية، ومن غير هذا لا يمكنني أن أسمح له بشيء من ذلك الحب الدنيء المتصنع.
وانقطعت جواباته بالطبع عنها، فلم تطق صبرا، وسافرت إلى القاهرة في عطلة الأسبوع، واضطر هو إذ ذاك أن يعقد عليها، وقال لها بعد انتهاء العقد: عليك أن تشكري ناظرتك؛ لأن خطابها إلي هو السبب فيما تم اليوم، وثارت ثائرتها كيف تكتب له الناظرة، وهل وقعت هي في غرامه أيضا؟ فقال لها ضاحكا: «غرام إيه يا شيخه دي لعنت أبويه!»
تم عقد الزواج، وتركت المدرسة في آخر السنة، ولكن ابن عمها ما لبث أن أظهر لها غايته الحقيقية، وهو أنه لا يميل إليها، ولا يريدها زوجة له خصوصا بعد أن أصبحت ولا مرتب لها؛ أي بعد أن غاض منبع النقود الذي كان يغريه بالتقرب منها، فطلقها دون أن يدخل بها، وهكذا ظهرت غايته واضحة جلية، وعرفت هي أني كنت على حق فيما نطقت لها به.
وبعد هذه الحادثة استقامت معلمات المدرسة، ولو في ظاهرهن، وصح ما كنت أريده من ظهورهن بمظهر الكمال والحشمة ليكن قدوة صالحة لطالباتهن، وكانت كلمتي نافذة لا مرد لها، فاستقامت شئون التعليم في المدرسة، ودخلت تلميذات المدرسة امتحان شهادة كفاءة المعلمات فتفوقت مدرسة المنصورة على جميع مدارس المعلمات الأولية، ومن بينها مدرسة معلمات بولاق، وأخذ الناس يتناقشون في المفاضلة بين الناظرة المصرية والإنجليزية؛ لأن ناظرة مدرسة بولاق كانت إنجليزية، وكان الناس قبل ذلك يعتقدون بأن المصريات لا يصلحن بتاتا لنظارة المدارس، وأثبتت لهم تلك الحادثة عكس ما كانوا يتوهمون؛ فأخذوا يفضلون الناظرة المصرية على الإنجليزية، وفي ذلك فتح باب ما كان ليلجه أحد في الماضي، وهو تعيين ناظرات مصريات لجميع المدارس، وكان الإنسان في ذلك الوقت لا يستطيع أن يجاهر بفكرة تعيين ناظرات مصريات، وإلا تعرض لخطرين معا؛ أولهما - وهو صحيح - غضب السلطات الإنجليزية عليه ووقوفها في وجهه، وثانيهما: معارضة السامعين لما يقول، ودحضهم أقواله وبراهينه بكل ما يستطيعون، ويظهر أن أعدائي اتخذوا من ذلك سلاحا يحاربونني به فيما أريده من الإصلاح اعتقادا منهم أن الإنجليز سيساعدونهم على كل ما يريدون، ولكن المستر دانلوب كان على العكس من ذلك لا يزال يعطف علي، تبين لي في ذلك الحين حرج مركزي، وعرفت عدوا قويا يسعى ورائي، ويجتهد في أن يعين مديرا للدقهلية حتى يستطيع الانتقام مني، وكنت أعتقد اعتقادا لا يخالطه شك في أنه سينجح فيما يريد، وأن بقائي كناظرة لا يمكن أن يدوم، وأني سأضطر إلى تركي هذا العمل غضبت أم رضيت، قبلت أم رفضت، فقدمت في مدرسة الحقوق منتسبة، وكان أن نجحت في جميع السنوات إلى أن أصبحت في السنة الرابعة، وكان من المؤكد أن أنجح لو أني استطعت دخول ذلك الامتحان، وقبل الامتحان بشهر أرسل إلي المستر دانلوب أحد المفتشين الإنجليز ليطلب مني عدم دخول ذلك الامتحان، صارحته بمخاوفي وقلت إني لن أبقى كثيرا في وظيفة ناظرة؛ ولذلك فأنا أتلمس بتلك الشهادة التي أريد أن أنالها عملا آخر في الحياة، فاستدعاني المرحوم المستر دانلوب، وأظهر لي كل عطف، وقال لي إنه مسئول عن بقائي ناظرة دون أن يتعرض لي أحد، ولما كاشفته بأن هذا العدو سيكون مديرا للمنصورة في أقرب وقت، قال: إنها أوهام فتيات لا تنطوي على حقيقة. فقلت له: هب أنها تحققت فماذا يكون موقفي أو موقفك؟ قال: سأحميك بكل ما أستطيع. قلت: يكفيني هذا الوعد الصريح. وامتنعت عن دخول الامتحان لأني كنت أعتقد أن المرحوم المستر دانلوب إذا قال فعل.
ذكريات حديثة
عفوا أيها القارئ! فسأخرج بك من ذكرياتي القديمة الغريبة التي تكاد تكون ضمن القصص إلى ذكريات حديثة لا تقل عنها غرابة، ولعلها تهمك لقربها من الزمن الذي نعيش فيه.
قضى علي سوء الحظ أن أكون ناظرة لمدرسة حرة كما يدعون، أو لمدرسة مستعبدة كما أسميها أنا، وقامت إيطاليا - لا عفا الله عنها - فهاجمت مصر بطائراتها فخاف الناس، وذلك قبل أن تنتصر إنجلترا، وتخلصهم من ذلك الخوف، خشيت كما خشي كل ناظر من عدم استمرار المدارس في عملها، وكان خوفي مضاعفا؛ لأن الناس في مصر يعتبرون تعليم البنات كماليا لا ضرورة له، فهم إذا قامت الحرب رأوا أن المنزل خير مكان يأوي الفرد؛ لهذا خشيت ألا أتمكن من الإنفاق على مدارسي، وصممت على أن أغلقها خوفا من أن تفلس، ولا شك أن المدارس الأهلية إذا استدانت، واستدانت، خرج منها صاحبها لا بملابسه كما يقولون، ولكن بعد أن يبيعها.
ولهذا عرضت الأمر على معلمي مدارسي، وصارحتهم بنيتي في إغلاق المدارس فعارضوا في ذلك، فطلبت منهم أن تخفض مرتباتهم في ذلك الظرف فقط إلى الحد الذي أستطيع معه السداد، واتفقت مع أساتذة دار العلوم على مرتب أساسه 10,5 جنيهات شهريا بدلا من 12 جنيها فتعاقدوا على هذا، ورضوا به مختارين، ولكني ذهبت يوما إلى الوزارة، وإذا بي أصادف فرقة بأكملها من تلاميذ المدارس الحرة جاءت لتحتج على صاحب المدرسة، وسألتهم ما سبب هذا الاحتجاج قالوا: لقد أساء صاحب المدرسة إلى أستاذنا. وهنا نظرت، وإذا بالفرقة تحيط بها فرقة أخرى من أساتذة دار العلوم، يظهر أنهم هم الذين قادوها إلى الوزارة، فنظرت إلى التلاميذ، وقلت: أساءكم معاملة صاحب المدرسة لأستاذكم الذي هو من دار العلوم؟ قالوا: نعم. قلت: أوكان عاجزا عن أن يأخذ بثأره بدلا من أن ينيب عنه «كبشة» صبية كما يقولون؟
تألمت من أن يقوم معلمو دار العلوم بإفساد المدارس الحرة إلى هذا الحد، وأردت أن أنتصر لهذا التعليم الذي ضحيت من أجله، أنبت زعيمهم؛ أي زعيم الدار، على هذا التصرف الذي من شأنه أن يعلم التلاميذ كيف يتمردون لا على ناظر المدرسة فحسب، بل وعلى معلميها أيضا، وغضب زعيم الدار لما أبديته أنا من النقد، وأراد أن ينتقم لنفسه ولجماعة دار العلوم، وفجأة ومن غير انتظار جاءني أحد أساتذة دار العلوم يوم الخميس 26 ديسمبر يقول إنه لا يقبل التعاقد الذي اتفق عليه معي في أول أكتوبر، وهددني بالاستقالة، ولكني أفهمته أنه رجل، وأنه يجب أن ينفذ كل ما تعاقد به على أني لا أعارض في استقالته إذا شاء، وفي يوم السبت 28 منه خاطبني زعيم الدار فجأة أيضا، ومن غير انتظار، وقال لي في لهجة الآمر الناهي: نحن لا نقبل تلك الفوضى، ولا تسمح الجماعة بأن يأخذ أحد أفرادها أقل من الحد الأدنى، وهو لا يريد طبعا بالجماعة أهل منزله كما اعتاد الناس، ولكنه يريد جماعة دار العلوم، قلت: ولكننا اتفقنا، ووافق معالي وزير المعارف على ذلك الاتفاق. فقال لي شيئا لم أفهمه، ولعله أراد ما يشابه هذا البيت:
وكنا إذا الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
فلم يهمني شأنه وشأن الجبار، ولكن كان يهمني تصرفه نحوي على أنه والحق يقال لم يدعني أفكر في ذلك كثيرا ولا قليلا، بل قال في لهجة الآمر: عليك الآن أن تستدعي فلانا - وذكر بعظمة اسم ذلك المعلم - وأن تعتذري إليه في الحال، وأن تسترضيه وإلا ثارت عليك جماعة الدار. وهنا أترك للقارئ أن يرد على صاحبنا بالإنابة عني إذا كان ثمة رد، وأن يتصور حرج مركز نظار المدارس الأهلية أمام ذلك السلطان القوي الذي أصبحت معه الجماعة لا تخشى كبيرا ولا صغيرا حتى ولا الجبار، ولا يهمها في التعليم شيء إلا أن تجاب مطالبها، ومطالبها هي جمع المال من كل الوجوه وبجميع الوسائل، لم أجبه أيها القارئ، ولا أدري ما الذي سيكون من أمري، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهل من سبيل أيها الرأي العام إلى إرضاء جماعة دار العلوم؟
مكافأة سنية لمن يدلني على ذلك.
وهل نستطيع نحن أن نتوسل إلى الجبار الذي لا تهتم به دار العلوم لينقذنا من ظلمهم؟
لقد استطاع حضرة صاحب السعادة النقراشي باشا في يوم من الأيام أن يسكت تلك الحناجر، وأن تخضع له، وخصم لزعيم الدار في ذلك الوقت 15 يوما، ووزيرها الحالي ليس بأقل حزما ولا عدلا من ذلك الوزير، فلعله ينظر في الأمر، ويفهمهم بجلاء أنه ليس هو الذي يعاتب بتلك الوسائل.
مكائد
لم يمض على ذلك زمن حتى تحقق ما كنت أخشى، وعين أحد رجال وزارة المعارف مديرا للتعليم في مديرية الغربية، وكان صديقا حميما لخصمي العنيد، وكان فوق ذلك محبا للسلطة والنفوذ، جبارا على مرءوسيه، ولم أكن أخضع في حياتي لجبار، وقد نقل في ذلك الوقت المغفور له محمد باشا شكري، وحل محله صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار؛ فكان خير خلف لخير سلف، وأراد مدير التعليم أن يظهر سلطته؛ فأرسل إلى المدرسة خطابا كتب في أوله بعض أسماء مدرسين، وفي مقدمتهم اسمي الكريم، ثم طلب في الخطاب أن أرسل لهؤلاء الموظفين شهادة الجنسية وحسن السير والسلوك، وساءني بالطبع أن يتجاهل مدير التعليم الجديد أني عينت في المجلس منذ ثلاث سنوات، وأن المجلس كان راضيا عني كل تلك المدة، وأنه إذا طلب مني شهادة حسن سير وسلوك، كان على المجلس نفسه أن يكتبها لي بعد أن خدمته كل تلك المدة بإخلاص واستقامة.
ساءني ذلك التجاهل منه، وجاء كاتب المدرسة ليعرض علي الخطاب فأخذته منه، ونظرت إليه نظرة استخفاف بأمر ذلك الخطاب، ووضعته في درج مكتبي، فسألني الكاتب: ألا تريدين حضرتك أن تجيبي عليه؟ قلت: كلا، لا إجابة لي على ذلك. ومضى أسبوع ثم آخر، وأتحفنا مدير التعليم بعدة نسخ من ذلك الخطاب يرسل إحداها تلو الأخرى، ولا أجيب عليها.
ثم زار المدرسة المدير الجديد؛ أي صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا، ومعه مدير التعليم طبعا، وبعد أن تفقد المدير المدرسة، وسر منها سرورا عظيما، قال لي: إن هناك فكرة بين الأعضاء بإلغاء تلك المدرسة. قلت: إنها فكرة خاطئة؛ لأن مجلس المديرية لا يدير مدارس تستحق الذكر إلا مدرسة المعلمات هذه، وبضع مدارس ابتدائية لا قيمة لها، ثم المدارس الأولية القليلة.
والمجلس مع ذلك قد ضخم موظفي إدارته، ورفع مرتباتهم بلا مبرر، فإذا أراد الاقتصاد في المال فما عليه إلا أن يقتصد في مرتبات هؤلاء الموظفين، وفي عددهم أيضا، فإن هذه الإدارة الكبيرة تدير بضع مدارس لا قيمة لها، وما سمعنا أن قاطرة بخارية عظيمة يؤتى بها لتجر وراءها قاربا، لا هناك ولا هنا، وإلا كان ذلك خطلا في الرأي وإسرافا في المال، فإذا أراد سعادة المدير الاقتصاد فما عليه إلا أن يحذف نصف موظفي إدارة المجلس.
قال مدير التعليم: ولكنهم قليلون لا يستطيعون القيام بعملهم إلا بكل مشقة. قلت: لقد كتب إلي هؤلاء الموظفون عشرة خطابات في صوغ لا معنى له ولا فائدة منه، ولو أن لديهم ما يشغلهم لما تعلقوا بتلك السفاسف. قال: وما هو ذلك الموضوع؟ قلت: طلبتم مني في تلك الخطابات الكثيرة المتعددة أن أرسل إليكم شهادة تثبت جنسيتي، وأخرى تثبت حسن سيري وسلوكي، مع العلم بأني موظفة في ذلك المجلس منذ ثلاث سنوات، ولو طلب أحد شهادة تثبت حسن سيري وسلوكي لكان على المجلس نفسه أن يكتبها لي حسب ما خبره عني في تلك السنوات الثلاثة، فأنتم تعملون ما لا فائدة منه، ولا مؤاخذة يا سعادة البك إذا قلت إن مرتبك الضخم لا يتحمله هذا المجلس بمورده الضئيل، على أنه لا خسارة في الأمر إذا ردك المجلس إلى الوزارة التي انتدبت منها.
وقد تفضل أنت العودة إلى عملك في الحكومة فتستفيد ويستفيد المجلس معك؛ لأنك هنا لا عمل لك إلا الأشياء التي لا تؤخر ولا تقدم، وإلا فما معنى أن تطلب شهادة جنسيتي بتلك الخطابات الكثيرة، ولا يشك الناظر في وجهي في مصريتي لحظة؟
قال: هذا ما يقتضيه النظام. قلت: وهل قدمت أنت إلى المجلس بجنسيتك؟ قال: إني كنت موظفا بوزارة المعارف، ولي فيها ملف خدمة. قلت: وهل فاتك أنني مثلك تماما في ذلك، وملف خدمتي موجود بالوزارة؟ أم حسبت يا سيدي أنهم أحضروني هنا من وكالة البلح؟! ثم نظرت إلى معالي سعيد ذو الفقار باشا، وقلت: لا شك يا سيدي أنك تقتنع بمصريتي تماما، وأنت تنظر إلى وجهي هذا الأسمر دون شهادة، أما سعادة البك مدير التعليم فهو أشبه بالإنجليز منه إلى المصريين؛ فهو بعد أن يقدم لك شهادات بمصريته سيتركك وأنت في حيرة من أمر جنسيته هذه. وضحك معالي سعيد ذو الفقار، وقال: إنها لعلى حق فيما تقول، وسأؤيد هذه المدرسة بكل ما أستطيع. وسكت مدير التعليم على مضض.
وفي اليوم التالي من تلك الزيارة جاءني من المجلس نسخة من الخطاب السابق إرساله لي بعد أن شطب منه اسمي، فقدم الكاتب الخطاب وهو يضحك لأنه لاحظ أن اسمي غير موجود بين الموظفين الذين يطلب منهم شهادة الجنسية، وحسن السير والسلوك.
وهنا نظرت إلى الكاتب، وقلت له: اطلب من هؤلاء الموظفين الشهادات المطلوبة منهم بكل سرعة، وأرسلها في الحال إلى المجلس.
كان هذا الحادث سببا في أن يتحمل مني مدير التعليم، وإن كان هو الساعي إلى الشر لأنه هو الذي كان يحرض أعضاء المجلس على فكرة إلغاء المدرسة، ويمنيهم بالخير إذا فعلوا ذلك؛ لأن خصمي العنيد كان يسعى في النقل إلى المنصورة، وكان متأكدا من نجاحه، وهكذا صارح مدير التعليم أعضاء المجلس بتلك الفكرة، وقال لهم: إن المدير المقبل سيسر لفكرة إلغاء هذه المدرسة. وعلى ذلك انتشرت الفكرة، ووصلت إلى المدير كما قدمت، وكان علي أن أدافع عنها بكل ما أستطيع.
لهذا اجتهدت أن أفهم المدير؛ أي «ذو الفقار باشا» أنه يستطيع الاقتصاد من موظفي المجلس لا من إلغاء المدرسة.
وحدث بعد ذلك أن زار المدرسة المرحوم حفني بك ناصف المشرف على اللغة العربية، وكان لمدير التعليم كتاب مطالعة تقرؤه تلميذات في سني المدرسة الابتدائية، وقرأت البنت أمام حفني حديثا للساعة عن نفسها، فقالت: ها أنا ذا، فطلب المرحوم حفني بك من التلميذة أن تعيد الجملة وتصححها، فقرأتها مرة وثانية وثالثة، وسألني حفني بك عن هذا الخطأ المتكرر، فقلت: إن التلميذة تقرأ صحيحا؛ لأن هذا هو المكتوب في كتاب المطالعة، وإن كان الواجب أن تقول «ها أنا ذي».
قال: إذن الكتاب مخطئ. قلت: نعم، قال: ولم لا تصححينه؟ وكان مدير التعليم موجودا معه، فقلت في ابتسامة: لو فعلت ذلك لطردت من البلد؛ لأن المؤلف هو سعادة المدير.
انتهت تلك الزيارة، وتركت في نفس مدير التعليم أثرا لا يمحى، فزار المدرسة في اليوم التالي، وحضر درس المطالعة في هذا الفصل، وقرأت تلميذة في نفس الكتاب: «لقد رمد الثعبان» قرأتها بكسر الميم، فاحتد المدير على المعلم، واشتد في إهانته وقال إنه يعلم التلميذات الخطأ، وإن رمد معناها عمي، وأما رمد فمعناها هلك، وهي المقصودة.
استأت لإهانة المعلم أمام تلميذاته، وأردت أن أهدئ من حدة المدير فملت إليه في همس وطلبت منه أن نترك الفصل معا ليسترد هذا المسكين هيبته، أو على الأقل يستطيع أن يقف على قدميه؛ لأنه كان يرتعد خوفا أمام تهديدات المدير، ولكنه رفض في صوت عال، وقال إنه لا يسمح بمثل هذا الخطأ، فملت عليه ثانية، وقلت له بنفس صوته: لا بأس يا سيدي فإن الإنسان غير معصوم من الخطأ، وقد أخطأت أنت بالأمس تحريريا، فاسمح له أن يخطئ اليوم شفويا، واحدة بواحدة، وهنا اضطر أن يخجل، وأن يترك الفصل معي، وهكذا استحكمت حلقة الخلاف بيني وبينه.
سعيد ذو الفقار باشا
زرت مدير التعليم بعد هذا، وكان - كما قدمت - شديدا سيئ المعاملة لمرءوسيه، ولكنه قابلني ببشاشة وترحاب لما رآه من عطف مدير المديرية علي، وما كدت أجلس في مكتبه حتى استأذن عليه أحد النظار؛ أي نظار المدارس التابعة للمجلس، فدخل الرجل في شيء من الخجل والتهيب، فلم يقم له المدير، ولم يمد له يده، فاضطر أن يحييه برفع اليد؛ أي تحية عسكرية، وقال مدير التعليم بشدة: ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟ قال: جئت لتشملني بعطفك. فقال: ماذا تعني بهذا الكلام؟ إني أود أن أخلق منكم رجالا لا يميلون إلى الملق، فاذهب من حيث أتيت ما دام ليس لديك مطلب تقدمه. فحيا الرجل تحية عسكرية أخرى، وأراد أن ينصرف وهو يترك المكان بظهره حتى لا يدير ظهره لسعادة المدير، وهنا احتد المدير، وقال: أريد أن أخلق منكم رجالا يحترمون أنفسهم، ولا يفعلون ما تفعل. وخرج الرجل وهو يدعو له بطول العمر.
وساءني هذا؛ لأني زميلة ذلك الذي أهين، ولعل المدير ما فعل ذلك إلا ليظهر لي مقدار بطشه وسلطانه على النظار زملائي؛ ولهذا تألمت، وقلت له وأنا أضحك ضحكة عصبية ملؤها الغيظ والغضب: أرجوك يا سيدي إذا أردت أن تقابل أحد نظارك هؤلاء أن تعلمني قبل ذلك لأتمكن قبل مقابلتك لهم لا من ترك غرفتك فحسب، بل من ترك المنصورة بأكملها، حتى لا أشعر بما تم في تلك المقابلة العنيفة التي لا تخلق من مرءوسيك رجالا كما تقول، بل تخلق منهم عبيدا أرقاء لا يصلحون في نظري للتعليم والتهذيب؛ لأنهم في نظري لا كرامة لهم ولا إرادة، وأول ما يطلب من المعلم أو الناظر هو قوة الإرادة والمحافظة على الكرامة، وهؤلاء التعساء الذين قضى عليهم سوء الحظ أن ترأسهم ولو عاما واحدا لا يصلحون بعد ذلك لوظائف التدريس أو إدارة المدارس. واضطر مدير التعليم أن يضحك ضحكة صفراء كما يقولون، وأن يقول: إني أعامل كل مرءوس بما يتناسب وأخلاقه.
وكان لحسن حظي أن عطف علي حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وهو مدير المديرية في ذلك الوقت، وأراد أن يساعدني بكل ما يستطيع، فلم يكن يستطيع أحد أن يعاديني معاداة صريحة حتى ولا مدير التعليم خوفا من معاليه، وأوغر مدير التعليم صدور أعضاء المجلس، وطلب منهم أن يلحوا في طلب إلغاء المدرسة تنفيذا لإرادة المدير المقبل، واسترسلوا في طلبهم هذا، وجاهروا بالعداوة نحو المدرسة، وأقامت المدرسة حفلتها السنوية، وأردت أن أنتقم من هؤلاء الأعضاء في تلك الحفلة، فألفت مفاخرة بين طفلتين إحداهما ابنة رجل متعلم، ولكنه متوسط الحال، والأخرى ابنة رجل جاهل من أعيان البلاد، فأخذت كل منهما تفخر بوالدها، وتغلبت ابنة المتعلم على ابنة الجاهل، وكان مما قالته لزميلتها: إن فخر والدي في رقي معارفه وكمال مداركه، أما أنت فلم يرتق والدك إلا بالطين - أي الفدادين - أما هو مجردا من طينه فلا قيمة له ولا احترام.
ساء أعضاء المجلس تلك الجرأة، واعتبروها إهانة لهم، وطلبوا عقد المجلس بصفة مستعجلة ليطلبوا فصل ناظرة المدرسة، وعلم المدير بما أرادوه، وكان ذكيا لبقا اعتاد معاشرة الملوك، والخروج من المآذق، فعقد المجلس، وبعد أن سمع مرافعتهم وإلحاحهم في طلب فصلي، قال لهم: إنه هو الآخر مستاء مني لتلك الجرأة، ولكنه هو المسكين فيهم إذ هو الذي قضي عليه بمعاملة الناظرات، وهو محافظ على سمعته لا يستطيع أن يتعاون مع ناظرة ماجنة، أو مستهترة، وإنه يطلب منهم قبل الفصل أن يبحثوا عن ناظرة أخرى، فإذا استطاعوا الوصول إلى ناظرة تماثل نبوية موسى في كمالها وحشمتها فلا مانع عنده من رفت نبوية لتحل تلك محلها.
أما أن يعين مكان نبوية ناظرة ماجنة مستهترة فهو ما لا يرضاه لشرفه، بل يفضل أن تشتمه الناظرة عن أن يتعامل مع فتاة سيئة الأخلاق لا يستطيع ردها إلى الكمال والفضائل ...
وهنا عرف الأعضاء أن المدير لا يريد تغيير الناظرة، وأن مدير التعليم حينما زين لهم تلك الفكرة أراد أن يوقع بينهم وبين المدير، فعادوا إلى صوابهم، وأمنوا على كلامه، وانتهت الجلسة بأن أرسل خطاب شكر على محافظتي على الأخلاق والآداب.
هكذا كان حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار حريصا كل الحرص على سمعته، لا يسمح مطلقا أن يمسها شيء من الشك أو الريبة، ومما أذكره لمعاليه أن السيدة لبيبة هاشم، وكانت صاحبة مجلة في ذلك الوقت جاءت لمقابلته فرفض مقابلتها، وزارتني لأتوسط بينها وبين المدير في تحقيق رغبتها، فكلمته تليفونيا، ورجوته أن يقابلها فقال: هل هي صغيرة السن؟ قلت: نعم هي في مثل سني، أو أكبر قليلا. قال: أرجو أن تعافيني من تلك المقابلة. قلت: أحمد الله الذي خلق لي وجها يمكنني من مقابلتك صباح مساء دون أن ترفض أو تتردد. وكان لشدة حرصه على العادات الشرقية لا يقابلني أنا نفسي إذا زرت منزله، بل تقابلني السيدة حرمه وكريماته، وكانت عاداته في منزله عادات الشرقيين المحافظين، فلا يسمح لحرمه المصون بأن تصحبه في أية جهة، ولم يرها أحد من المنصورة عموما، بل كانت تأتي من القاهرة وتذهب إليها دون أن يشعر أحد بمجيئها أو ذهابها، وكان معاليه قوي الشكيمة في منزله، حسن المعاملة في وقت واحد، لا يسمح لخادمة أن تدنو منه، بل كانت تقوم حرمه بكل طلباته الخصوصية، فكان مثال الكمال في منزله، وفي عمله.
وقلت له يوما: إني أعتقد يا باشا أنك الرجل الوحيد المعصوم، وكأن الله قد خلقك لا تعرف الفساد. فضحك مستهزئا، وقال: نعم يا نبوية، أنا لا أعرفه لا في منزلي ولا في عملي، وهي جملة حكيمة لو نفذها الرجال لأفادوا البلاد، وأفادوا العمل، فالرجل خارج عمله حر فيما يريد، والعصمة لله وحده، وما انتقدت في حياتي الرجال لشيء من تصرفاتهم الشخصية، ولكني كنت أنتقد تصرفاتهم أعمالهم الحكومية التي ما تناولوا مرتباتهم إلا لإصلاحها، ولو أنهم أهملوا ذلك الإصلاح الذي ينقدون له لخفت المصيبة، لكن كثيرا منهم يقوم هو بإفساد الأخلاق في تلك الأعمال الموكلة إليه، وهو شر الفساد والمحن.
مكيدة
كرر مدير التعليم تدبيره ثم فشل؛ لأن سعادة المدير تمسك بأن لا جدال مع فتاة كاملة، ورأى هو أن مسألة الكمال والحشمة حالت بينه وبين الانتقام مني، وجعلت المجلس يكتب لي جواب شكر بدلا من أن يفصلني فكان همه - ولا شك - أن يجد في هذا الكمال نقصا ليطلع عليه المدير، وكنت لا أظهر أمام أحد بشيء من الحلي مهما كان نوعه، ولكني - ككل شابة أو فتاة - أميل أن أظهر أمام زائراتي من السيدات أني أمتلك مثلها أو أكثر؛ ولهذا كنت إذا زارتني سيدات أريهم حليي التي مر بنا ذكرها، ومن بينها ذلك القرط، ولم يكن غرضي من ذلك التجمل بل كان الظهور بالغنى.
وفي يوم من أيام الجمعة زارتني بعض السيدات، ولبست حليي كعادتي معهن، ثم انصرفن، ونزلت بعد ذلك أرتب مكتبي، وأنا لا أزال متجملة بذلك القرط، وفجأة أخبرني البواب بأن سعادة مدير التعليم قد شرف، فأمرته بإدخاله، ثم تذكرت القرط فانتزعته، ووضعته في سلة الورق التي على مكتبي تحت الورق الموجود في السلة.
ودخل هو وسألني في بعض أشياء، فدخلت المدرسة لأستقصي عنها، وعدت وحياني بعد ذلك وخرج، ولعدم اكتراثي بمسألة الحلي لم أفطن إلى أن القرط قد فقد من مكانه؛ لأني لم أبحث عنه، ولم أتلمسه، وبعد ذلك الحادث بثلاثة أيام خاطبني مدير التعليم تليفونيا، وقال لي: لقد ظننتك فصلت الخدم جميعهم. قلت: ولم ذلك؟ قال: ألم تفقدي شيئا ثمينا؟ فتذكرت القرط، ووضعت يدي في السلة لأخرجه من مكانه فلم أجده، فعلمت أنه أخذه، قلت: إنك إذن آخذه. قال: أولم تعرفي ذلك إلى الآن؟
قلت: نعم؛ لأني لا أهتم بتلك الأشياء، ولم أتذكر أني وضعته هنا إلا بعد أن كلمتني أنت الآن. ومر على ذلك وقت ولم يحضر هو القرط، ولم أطالبه به، وفي يوم من الأيام كنت مسافرة، وكان سعادة المدير مسافرا إلى القاهرة أيضا، وظهرت في العربة التي كان هو بها أي في ديوان الحريم الذي كان إلى جانبي في الدرجة الأولى، ورآني مدير التعليم، وكأنه انتهز تلك الفرصة ليظهر للمدير أني كباقي النساء حتى ينتزع منه فكرة الكمال التي علقت بذهنه، ولا أدري كيف كان ممسكا بالقرط في تلك اللحظة فأخرجه وقال لي: تفضلي قرطك، ليعلم الناس أنك كباقي النساء لك من الحلي ما لهن. قلت: إنك يا سيدي أنت ولا غيرك من الرجال لم ترني ألبسه، أما وجود حلي ثمين عندي فهو كوجود أي مبلغ من المال عند أي رجل من الرجال، ولو لم تجده أنت في سلة الورق لما علمت أن لي قرطا كهذا، على أني أؤكد لك أني لا أحتفظ به كأداة للتجمل، بل أحتفظ به كمال مدخر، وكأثر من آثار الماضي. وكان لسوء حظ مدير التعليم أن سعادة المدير لم يأبه شيئا من التفاتته، فلم تترك تلك الحادثة أثرا ما في نفس سعادته غير اعتقاده في، بل زاد احترامه لي، واهتمامه بأمري.
وهكذا فشل مدير التعليم في محاولة الإيقاع بي مرة أخرى.
نكبة
معلمات المنصورة بين الإنشاء بإجماع الآراء والإلغاء بإجماع الآراء
كنت أقوم في مدة حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار بأعمالي بهمة ونشاط لما كنت أراه من عطفه وتشجيعه، فلم يكن أقل عطفا من سلفه، بل كان أشد تمسكا بالكمال وتشجيعا على المضي فيه شدة القدر القاسي أن ينقل حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وأن يحل محله من قضى حظي العاثر أن يكون خصمي الدائم العنيد، وما كاد قرار النقل يشاع حتى ذهبت إلى المرحوم المستر دانلوب، وذكرته بوعده السابق، وقلت له: لقد حصل ما كنت أخشاه، ونقل إلي خصمي الأول.
قال: قد علمت ذلك فلا تخافي، وسأقوم بما تعهدت به. وأرسل إليه يقول إن أي ضرر يلحق بي سيعتبره مستشار المعارف موجها لشخصه هو، فلم يستطع المدير أن يقوم بعمل عدائي، ولكنه زار المدرسة في نفس الأسبوع الذي نقل فيه إلى المنصورة، وكان في نظراته وابتساماته ما يدل على التشفي، وما كاد يلقي نظرة علي حتى حياني بابتسامة صفراء قبل أن يمد يده بالتحية، ثم قال وهو يتردد في تحيته: لعلك مسرورة من مركزك الحالي، قلت: نعم مسرورة وسأظل كذلك.
وهكذا زار المدرسة وخرج، وقد حركت تلك الزيارة كوامن قلبينا، وجاءني في اليوم الثاني لزيارته مدير التعليم، فقال لي: لقد ودعت المدير السابق بقصيدة مدح، أفليس من المستحسن أو الواجب أن تستقبلي المدير الحالي بمثل تلك القصيدة؟ قلت: إنه لم يترك لي وقتا لذلك، بل زارني مفاجأة، ولم يكن في مقابلته ما يشجعني على مدحه، ولو أنه حاول نسيان ما مضى في أعماله المستقبلة لوجدت من نفسي بعد ذلك رضا بمدحه والثناء عليه، أما الآن فماذا أقول وقد افترقنا في الماضي على أسوأ حال، واجتمعنا أمس وكل منا على حالته الماضية؟ قال: لا بد أن تحاولي كتابة الموضوع، وسأزورك غدا لأخذ ما يجود به خيالك، ولم يخلف وعده، بل جاءني في الغد فوجد على مكتبي القصيدة التالية:
يا دهر كم تعدو وكم تتقلب
وتفل عزم العاملين وتتعب
إن كان ما تبغيه ذلي فالذي
تبغيه لا يرضاه شهم طيب
حالي كما جربتها من شدة
ما صدني عنها العدو الأغلب
ما فل عزمي حادث فيما مضى
بل زادني علما بما يتعقب
ما ازداد دهري في التعنت والأذى
إلا بلغت من العلا ما يصعب
وما كنت من أهل التنعم والحلي
كيما أخاف من الزمان وأرهب
ما لذ لي يوما طعام طيب
أو نالني مال أقول سيذهب
حالي كأهل الفقر فيما كابدوا
من ملبس أتعبت فيه وأتعبوا
أهوى التقشف ما استطعت فإن مضى
مال أفرقه فماذا أندب
الرزق في الدنيا كثير واسع
عين تفيض به وأخرى تنضب
ما الخوف إلا أن يقال تقهقرت
جبنا ولما يأت ما تتطلب
غرسي أخاف عليه من وقع الردى
بعد الكمال وذاك غرس طيب
غرس سهرت الليل في تقويمه
حتى نما فله أبش وأغضب
جاهدت لا أبغي الثراء وإنما
فخر البلاد وعزها ما أطلب
وقرأ سعادة المدير القصيدة وأخذها معه، ولقد عبرت فيها عن مخاوفي؛ لأني لم أكن أخشى شيئا إلا هدم مدرسة معلمات المنصورة التي بذلت فيها مجهودا جبارا؛ فكانت في امتحان الكفاءة أولى مدارس المعلمات في القطر مع حداثتها على أن تنبئ عما كان في الواقع صحيحا؛ فإن المدير خشي إن هو أضرني أنا شخصيا أن يبطش به مستشار المعارف، فقر قراره على أن يلغي مدرسة المعلمات، وقد كانت ميزانية مدرسة المعلمات هي التي كان يصرف منها على المدرسة الابتدائية، وكان قانون مجالس المديريات يقضي بأن تصرف ثلاثة أرباع مالها على التعليم الأولي، والربع الباقي على الابتدائي والثانوي والصناعي؛ لهذا كانت ميزانية مدرسة المعلمات كبيرة تكفيها كما تكفي المدرسة الابتدائية التي كانت تقيم معها في منزل واحد، فإذا ألغيت مدرسة المعلمات عجزت المدرسة الابتدائية عن القيام بنفقاتها، ولن يستطيع المجلس أن يصرف لي مرتبي من ميزانية المدرسة الابتدائية، وقد كان 26 جنيها شهريا؛ لهذا رأى المدير أن يلغي أعضاء المجلس مدرسة المعلمات ليضعني أنا والمستشار أمام الأمر الواقع، وعذره لدى المستشار واضح جلي؛ لأن أعضاء المجلس هم الذين سيلغون المدرسة بما لهم من الحول والصول، وليس للمدير يد فيما سيفعلون.
وهكذا أخذ المدير يدبر الأمر خفية، أما أنا فقد كنت على يقين مما سيفعله لا لأني أعلم بشيء من الحقيقة، ولكني كنت أستنتج ما يدور بخلده من الممكنات؛ لأني كنت أعلم تمام العلم أنه لا بد من أن ينتقم مني، ولا سبيل إلى ذلك الانتقام إلا بتلك الحيلة، فأخذت أستطلع الأخبار، وأتحدث إلى بعض أعضاء المجلس في فكرة إلغاء مدرسة المعلمات، فكان يقول بعضهم بدهشة واستغراب: ومن أخبرك بهذا؟! وقد علمت من تلك الأسئلة أن إلغاء المدرسة أمر لا مفر منه، وأنهم يعدون له العدة في الخفاء، وفي إحدى الليالي حلمت أن النار شبت في إحدى غرف مدرسة المعلمات، فعرفت أن النكبة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فذهبت إلى مستشار المعارف، وأخبرته بما تم عليه عزم المدير من إلغاء مدرسة المعلمات إكراما لي، فاستبعد الرجل الأمر، وقال إنه محال أن يضرب التعليم تلك الضربة لينتقم مني، وإني إنما أتخيل ما لا يمكن حصوله، قلت: هب أن خيالي تحقق فماذا يكون موقفك بعد أن يلغي المجلس مدرسة المعلمات بإجماع الآراء؟ قال : سألغي القرار يوم صدوره.
فذهبت إلى مدير التعليم، وسألته عن إلغاء مدرسة المعلمات، فقال: أساحرة أنت تعلمين بسحرك الغيب؟ قلت: نعم، ولكن سحري لا يمكنني من معرفة اليوم الذي ستطير فيه مدرسة المعلمات. قال: قد لا تنتظرين كثيرا، وما دام خيالك خصبا إلى هذا الحد، فلم لا تتخيلين أنها تلغى غدا؟! وعرفت عن مزاحه هذا أن المدرسة ستلغى قريبا، وأنه يريد إخفاء حقيقة ما قال بشيء من المزاح، قلت: ومتى يعقد مجلس المديرية؟ قال: إنه سيعقد يوم كذا في الأسبوع المقبل، فتأكدت أن المدرسة ستلغى في ذلك اليوم.
وفي يوم انعقاد المجلس خاطبت مدير التعليم تليفونيا قبل دخوله الجلسة، وسألته عما سيتم في تلك الجلسة بشأن مدرسة المعلمات قال: لك أن تتخيلي ما تشائين، أما أنا فليس عندي ما أقوله. قلت: حسنا إنك لا تريد أن تتكلم إلا بعد أن أكون أنا أمام الأمر الواقع. قال: لا شأن لي بخيالك وتنبؤاتك. وما كاد يخرج من الجلسة حتى اتصلت به تليفونيا، وسألته عما تم بشأن مدرسة المعلمات، فقال بصوت الظافر: لقد ألغيت بإجماع الآراء. فاتصلت في الحال بمستشار المعارف تليفونيا، وأخبرته الخبر، واستنجزت وعده، قال: إن هذا كلام فارغ لا أصدقه. قلت: ما عليك إلا أن تتصل بمدير التعليم, فاتصل به في الحال، وعرف حقيقة الخبر، وما كاد يعرفها حتى أرغى وأزبد، وقال لمدير التعليم: إنها سخافة يجب أن يدفع ثمنها مجلس المديرية، ولم يمض نصف ساعة حتى اتصل مستشار الداخلية الإنجليزي بالمدير نفسه، وطلب منه أن يرسل قرار إلغاء مدرسة المعلمات مع مخصوص إلى الداخلية، وأرسل القرار في الحال، ثم عاد إلى المجلس في اليوم التالي وعليه إشارة وزير الداخلية بإلغاء ذلك القرار.
وهكذا ألغيت مدرسة المعلمات بإجماع الآراء، ثم عادت إلى الوجود في اليوم التالي، ومن طرائف التاريخ أن الذي اقترح إلغاءها ليرضي المدير الحالي هو نفس العضو الذي كان يقترح إصلاحها في مدة المغفور له محمد باشا شكري، وكان ذلك ليرضيه أيضا، فأنشئت مدرسة المعلمات بناء على اقتراح ذلك العضو، وموافقة أعضاء المجلس بإجماع الآراء؛ فلما تغير المدير ألغيت باقتراح ذلك العضو أيضا وموافقة جميع الأعضاء بإجماع الآراء، وهم هم أنفسهم أصحاب القرار الأول وأصحاب القرار الأخير، ولله في خلقه شئون!
رضاء بعد الغضب
أعيدت المدرسة، ولكن إلغاءها ترك في نفسي أثرا لم يمكني التغلب عليه، كنت غير مطمئنة من عملي مع ذلك المدير، متأكدة كل التأكيد أنه سيبطش بي متى استطاع ذلك، والمدير لا شك يستطيع أن يعمل ما يريد؛ ولهذه المناسبة «السيئة» تذكرت المدة التي قضيتها مع المغفور له صاحب الرفعة محمد باشا محمود، وكيف كان - رحمه الله - عادلا لا يهمه إلا العمل، وقد سمعت في ذلك الوقت أنه نقل إلى البحيرة، فعملت أبياتا من الشعر أعدد فيها مفاخره، وما كدت أخلص من هذا حتى حادثتني حضرة صاحبة العصمة حرم المدير الحالي تليفونيا، وأخبرتني أنها تريد زيارتي فأهلت ورحبت، وكان ذلك لأن الداخلية حتمت على هذا المدير أن يصالحني، وهو يعلم أني كنت في أشد الغضب والألم، فأراد أن يمهد لنفسه السبيل بزيارة صاحبة العصمة حرمه، وفي المساء زارتني السيدة المصونة حرمه، فاستقبلتها لدى الباب استقبالا يليق بمقامها؛ لأنها كانت سيدة جليلة، وهي في الوقت نفسه حرم مدير المديرية، وسرت باستقبالي ثم ودعتها بما استقبلت به من الحفاوة والإجلال، وفي اليوم التالي أخبرني مدير التعليم أنه آت لزيارتي هو وسعادة مدير المديرية، فتذكرت الأبيات التي عملتها في مدح المغفور له صاحب الرفعة محمد محمود باشا، ووضعتها على مكتبي بعد أن كتبتها بخط جميل، وهي الأبيات الآتية:
عهدناك يا ابن الأكرمين محمدا
تشيد بالعزم الثناء المخلدا
عهدناك مقداما عهدناك واحدا
تعد بالآلاف إذا الفضل عددا
فإن نلت باستحقاقك المجد والعلا
قد كنت قبل اليوم شهما مسودا
لك البيت من أعلى البيوت مكانة
وقد كنت من عهد الطفولة سيدا
فإن هنأتك القوم إذ نلت منصبا
فإني أهني منصبا نال مفردا
دمنهور هذا يوم مجدك فأبشري
وتيهي على كل العواصم إذ غدا
ولو أن هذا الدهر جاد بمثله
علينا لشاد المجد فينا وجددا
حسدناك إذ نلت المراد وضيعت
صروف الليالي جل آمالنا سدى
وفي آخر الأبيات كما يرى القارئ شيء من التلميح بأسفي واستيائي لنقل ذلك المدير إلى الدقهلية، ونقل المغفور له محمد باشا محمود إلى دمنهور، وكنت أود العكس.
أخيرا جاء الميعاد الذي حدده سعادة المدير لزيارتي، فلم أسمح بالدخول إلا بعد أن انتظر على الباب نصف ساعة، ثم صعد إلى مكتبي، ومعه مدير التعليم فوجدني جالسة على مقعد ضخم كبير، وليس بالغرفة مقعد مثله، بل بها كراسي خيزران من العادية، وقد هيأ لي طيش الشباب إذ ذاك أن أفعل هذا لأهينه، وأجلسه على كرسي عادي في الوقت الذي أتربع فيه أنا على كرسي ضخم، فلما دخل لم أعبأ بدخوله، ولم أقم لاستقباله فحيا وجلس، ولم أرد عليه تحيته، فقال: ما لك غاضبة لا تردين؟! قلت: وما شأنك بغضبي؟ قال: أنا رئيس تلك المدرسة. قلت: وما شأنك أنت بي يا حضرة الرئيس ولست بقريبي ولا صلة لي بك، وما الذي يهمك من غضبي؟ قال: لقد جئت لأزور المدرسة. قلت: ولكنك مع هذا تعلم أني لا أريد أن أراك ولا أستقبلك. فأخذ يلين في لهجة، ويقول: لقد استقبلت زوجتي أمس استقبالا حسنا. قلت: وما الخطأ الذي فعلته تلك السيدة حتى أستقبلها بغير ذلك؟ ولم تكن عضوا معكم في المجلس، ولم تدبر شيئا. قال: ولكنها زوجتي ولها ما لي من الكرامة. قلت: نعم، إن لها كل كرامة تستحقها زوجة مدير، وليس لها في نظري من الأخطاء ما يجور إلى أن أحرمها من تلك الكرامة، ومن ذلك الاحترام الواجب لزوجة مدير.
قال: وماذا أنت فاعلة الآن، وقد جئت لزيارتك، وأريد أن أرى المدرسة؟ قلت: لك أن تراها كما تريد، أما أنا فلا أسير معك. قال: وكيف تحل المشكلة إذن؟ قلت: لا مشكلة يا سيدي؛ لأني «ح اجيب لك نايبة تاخدك تزورك المدرسة». قال بغضب: ما هذا الكلام؟ قلت: وماذا فيه؟ إني سآتيك بنائبة عني أنا لتأخذك لزيارة المدرسة، فهل في ذلك ما يغضبك؟ قال: إنك تقسين علي في معاملتك، أفتظنين أني لم أعامل ناظرة غيرك؟! قلت: كلا! أعلم أنك عاملت غيري من الناظرات كما أعلم أن تلك المقابلة لا تزال مدونة في محاضرة البوليس. قال: لقد كانت مسألة تافهة أثارها بعض مجانين الأهالي بالفيوم. قلت: إن في المنصورة أمثال هؤلاء المجانين، ولو أني عاملتك معاملتها لوصلنا إلى ما وصلتما إليه بالفيوم. قال: دعيك من الماضي، ولننظر إلى المستقبل، وسأرضيك بقدر ما أستطيع. قلت: لا أظن أنك ترضيني مختارا، وإنك إن أرضيتني اليوم فستنتهز فرصة إغضابي غدا إذا استطعتها، ورأيي أن يحترس كل منا من الآخر، وأن لا أقابلك ولا تقابلني إلا للضرورة، ويفعل الله بنا ما يريد.
قال: أعاهدك ألا أسيء إليك بعد هذا. قلت: أرجو أن تكون في هذه المرة صادق الوعد. لكنه ما لبث بعد هذا أن ضايقني مضايقة عظيمة فذهبت إلى مكتبه، وكان عنده بعض الأعيان، فقلت له: من العقل أن لا يعمل الإنسان عملا إلا وله من غاية تفيده شخصيا، ولا أدري ما هي الغاية التي تتلمسها سعادتك من مضايقتي والإساءة إلي؟ إنك إن انتصرت علي بعد ذلك فلن يعجب بك أحد، أو يصفق لك استحسانا، بل يقولون جرب قوته ضد فتاة، وإذا أنا انتصرت عليك كان الويل والخجل لك، فما الذي يحملك على هذا؟ قال: إني لا أضايقك. قلت: ولكني أنا شخصيا أشعر بتلك المضايقة. قال: لعلك من رواد الزار، ولعل عليك عفريتا يكرهني. قال ذلك بشيء من السخرية أمام الأعيان ليظهر أني امرأة كباقي النساء الجاهلات، فابتسمت، وقلت له في نفس سخريته: يجوز يا باشا أن يكون علي عفريت، ولكن ما رأيك لو أن هذا الأمر قد ثبت جليا لأصبحت أنت شيخة الزار؛ لأن عفريتي لا يظهر إلا على يديك، أو بعبارة أخرى لا يتحرك إلا إذا زمرت له أنت وطبلت. فضحك الأعيان، وخجل سعادته.
انتقام
أخذ المدير ينتقم مني، وأخذت أنا الأخرى أبحث في وسائل لأنتقم بها لنفسي؛ فكانت من أهم وسائله إفهام الإنجليز أني وطنية محبوبة، وأني أكره الإنجليز، وأعمل ضدهم، ولم أكن أتجه إلى وجهة نظره هذه؛ لأني كنت أجهل ما يدس لي عند الإنجليز.
وكان امتحان الكفاءة للمعلمات، وامتحان الابتدائية يقامان في مدرستي، وكان يسبق الامتحانين امتحان عملي للتدبير المنزلي، وكنا نخلي محال المطبخ والمائدة وغيرهما لإجراء الامتحان العملي للتدبير المنزلي، وكانت هذه الأشياء في أعلى دور من المدرسة، وكنت أعلم شدة ميل المدير إلى التدخل في كل شيء يتعلق بالسيدات، فعلمت من هذا أنه سيدخل الامتحان العملي، وأردت أن أقطع عليه الطريق فيما يريد، فكتبت إلى المستر دانلوب خطابا أقول له فيه: إن وزارة المعارف هي المسئولة عن نظام الامتحانات، وعن المخالفات للآداب التي يجوز أن تقع فيها ما دامت هي القائمة بتلك الامتحانات العامة، وإني أعلم أن المدير شديد الرغبة في أن يتدخل في كل شيء، وأنه سيحضر حتما لامتحان العملي، والطالبات في ذلك الامتحان يلبسن ملابس قصيرة تكشف عن سيقانهن كما تكشف عن سواعدهن، بل إن أكمامهن ترفع إلى ما فوق الساعد، وإن دخول رجل بينهن وهن على تلك الحالة يخالف الآداب الشرقية الواجب رعايتها في البلاد، والتي يجب عليك أنت أن تحافظ عليها، فإذا دخل المدير لجنة الامتحان العملي كنت أنت هدفا للوم الذي سينصب على تلك التصرفات المستهجنة في نظر الناس.
وصله الخطاب، واهتم به، ونبه على رئيسة اللجنة أن تغلق عليها باب الدور الذي سيقوم فيه الامتحان، وأن لا تسمح لرجل بالدخول مهما كانت درجته، وكانت رئيسة اللجنة سيدة إنجليزية، فحضرت، وكان أول ما طلبته أن يعمل لباب الدور رتاج، ودخلت وأغلقته عليها وعلى الطالبات، وطردت جميع الخادمات فنزلن إلى الدور الأرضي، وجلسن فيه، وكان جلوسهن خلف الباب الخارجي أي أمام مكتبي، وتحقق ما تخيلته، وحضر المدير، وطرق الباب، وكنت قد أمرت الخادمات أن لا يفتحن للمدير الباب إلا بعد أن يستأذن مني، وطرق المدير الباب بشدة، وقال للخادمة: افتحي أنا المدير. وذهبت إحداهن تستأذن مني، وتضايق المدير، وطرق الباب مرة أخرى ثم ثالثة، والخادمة تجيب بأنها لا تستطيع أن تفتح الباب إلا بعد أن تأذن الناظرة، وأن إحدى زميلاتها ذهبت لتستحضر ذلك الإذن، واشتد المدير في لهجته، وقال: أنا مدير البلد. وقالت الخادمة: وأنا مالي يا سيدي.
وأخيرا قالت له: لا تغضب، وسأذهب أنا بنفسي. وجاءتني الخادمة الثانية فأمرتها أن تحضر لي كوبا من الماء قبل أن تفتح له الباب، وكانت هذه بالطبع كل الوسائل التي أستطيع أن أنتقم بها لنفسي.
فتحت الخادمة الباب بعد أن وقف خارجه نصف ساعة ودخل، وكنت واقفة على باب مكتبي، وقد أمرت الخادمات أن لا يرشدنه إلى شيء، ومن ترشده سترفت في الحال، ودخل المدير ووقف أمامهن، وقال لأقربهن منه: أين لجنة الامتحان؟ قالت: لجنة؟ لجنة إيه يا سيدي، ودي تبقى إيه؟ قال: ألم تحضر هنا سيدة أجنبية، فأين هي؟ قالت: سيدة أجنبية! واش عرفني أنا؟ وسأل الثانية فلم تفده بأكثر من هذا، فتركهن وذهب، وبدلا من أن يصعد إلى السلم الموصل إلى الدور الأعلى ذهب إلى الجهة الثانية التي مر بها المراحيض، وبعد أن زارها بالطبع عاد إلى مكانه الأول، وسأل السؤال الأول بشدة، وقلت أنا للخادمة التي كان يخاطبها في أول الأمر: خذي ده يا فلانة - مشيرة إلى المدير - وديه اللجنة، وهنا عرفت الخادمة معنى كلمة اللجنة التي كانت تتجاهلها، وذهبت أمامه وتبعها، وهو في غضب، فلما وصل إلى الدور الثالث طرق الباب ففتحت له رئيسة اللجنة بنفسها لترى من الطارق، وقالت: من أنت؟ قال: أنا المدير. قالت: إني آسفة لأني لا أستطيع الخروج إليك ولا إدخالك عندي. وأغلقت الباب، ونظرت الخادمة إليه في شيء من الدهشة، وقد ذهل هو وخجل من موقفه، فقالت له: يا عيني يا سيدي طردتك؟! ولم يجب هو بشيء، ولكنه أسرع بالنزول قفزا، فكان يقفز كل ثلاث درجات دفعة واحدة، ومر بالخادمات اللائي كن بالفناء والخادمة تجري وراءه، ولما خرج هو يجري، وفتح الباب الخارجي، وكان جمهور من الناس مجتمعا عند الباب في انتظار بناتهم فسمعوا الخادمة ، وهي تقول: مسكين والنبي ، صعب علي لما طردته. فظن الناس أن التي طردته هي نبوية موسى، وانتشر الخبر في مدينة المنصورة، وأخذ الناس يتساءلون كيف استطاعت أن تطرده وأن تبقى؟ وكثرت الحكايات والأقاويل، وكلها تنصب على موقف المدير المخجل من ناظرة المدرسة الظافرة المنتصرة.
سوء حظ وعناد
اشتد العناد بيني وبين المدير فأخذ يفهم الإنجليز أني أعمل ضدهم، وتصادف أن قام سمو الخديوي في آخر عهده سنة 1914 برحلة إلى الأقاليم، وجاء إلى المنصورة، وكان المدير بالطبع الذي يرتب نظام الاحتفال باستقباله وتوديعه، وعلمت أنه لا ينوي أن يشرف الخديوي مدرستي لما كان بيني وبينه، كما علمت أن سمو الخديوي كان سيشرف بيت الطاهري بك، وهو قريب من المدرسة، وكان بيني وبين سيدة البيت صداقة، وكانت الغرفة التي سيشرفها الخديوي لها بابان أحدهما على طرقة ضيقة توصل إلى الحرم، والآخر الباب الخارجي الذي أعد لاستقبال سموه، فطلبت من السيدة أن تسمح لي أن أقف وراء ذلك الباب الداخلي لأشاهد الخديوي من ثقب مفتاح الباب، فأجابت الطلب، وما كدت أظفر بذلك حتى ذهبت إلى ذلك الباب، وأغلقته بالمفتاح، وأخذت مفتاحه معي، ثم أحضرت تلميذة صغيرة بارعة الجمال لا يتجاوز سنها السادسة، وأعددت لها قصيدة مدح في سمو الخديوي، وعنيت بتحفيظها تلك القصيدة، وإجادة إلقائها عناية تامة، وكنت أفعل ذلك سرا لا يعلم به أحد، وقد اشتريت لهذه التلميذة فستانا أبيض يناسب بياضها الرائق، وربطت شعرها بشريط أزرق يناسب لون عينيها، ووضعت على صدرها وشاحا كتب عليه مدرسة المعلمات بالمنصورة، مع أن التلميذة لم تكن من مدرسة المعلمات بالطبع، ولكني أردت أن أذكر الجمهور بمدرسة المعلمات التي ألغاها المجلس بإجماع الآراء تحت ضغط المدير، ثم أعيدت إلى الوجود في اليوم الثاني، فكان اسمها عارا على المدير وسلطته؛ لأنها بقيت رغم إرادته.
كتبت القصيدة على قطعة حرير زرقاء بلون السماء، ثم أحطتها بإطار من أزهار البنفسج الجميلة اللطيفة رسمت بالبوية، ولم يكن النقش بالبوية على القماش معروفا في ذلك الحين، فكانت تحفة رائعة، ثم كسوت بها «مخدة» حشيت بريش النعام، ولم أعمل «مخدة» واحدة، بل عملت مخدتين من صنف واحد؛ لأني كنت أعلم أن المدير سيحرض علي مفتش الداخلية الإنجليزي، ويدعي له أني شتمته أمام الناس؛ لأن القصيدة كان بها تعريض به، أخذت المخدة الأخرى، وأهديتها إلى زوجة مفتش الداخلية، فسرت بها سرورا عظيما، وعرضتها على المفتش أمامي، فقلت له في بساطة: إن المكتوب على تلك المخدة قصيدة عملتها مدحا في الخديوي، ورجائي أن تقرأها، وأن تقول لي انتقادك عليها؛ لأني أريد أن أرسلها له. وكان الرجل من الإنجليز الذين يعدون أنفسهم شرقيين يجيدون اللغة العربية فقرأها، وقال إنها عظيمة، وبناء على هذا أخذت موافقته على هذا التعريض بالمدير.
وعندما شرف سمو الخديوي الغرفة المعدة له في منزل الطاهري بك كنت أنا على الباب الخلفي، وما كاد سموه يأخذ مجلسه حتى فتحت الباب، ودفعت بالتلميذة أمامه، وقد قدمت لسموه المخدة فأخذها، وسر بها كثيرا وقبلها، وقال إنها أحسن هدية قدمت إليه في تلك الرحلة، وظن الحاضرون أن مهمة الفتاة قد انتهت، ولكنها ما لبثت أن تقدمت إلى الخديوي تلقي القصيدة بإلقاء جيد، وإشارات حية قد يعجز عنها الممثل الكفء، فأخذت تشير إلى الخديوي، ثم تشير إلى المدير، فيما كان يخصه من التعريض، وتلك الأبيات التالية:
قد طار نومك والحوادث حوم
ورماك بالأهوال ليل مظلم
أبليت جسما كاد يخفى رقة
وقضى عليه
الدهر فيما يجرم
أتعبت قلبا كان محمود العلا
فغدا لجور زمانه يتألم
تبغين تعليم البنات ونشره
ويلح دهرك في
العناد ويظلم
تبني ليهدم كل ما شيدته
من ذلك البنيان
وهو الأرقم
وكانت تشير إلى المدير في الكلمات التي تحتها خط في هذه الأبيات لتظهر للخديوي أن المدير هو المقصود بالذات في كلمات الدهر والزمان، ولتؤكد معنى ما ذهبت إليه قالت:
مولاي إن الدهر
عبدك فانهه
عما يخبي للكرام ويكتم
وأشارت إلى المدير عند قولها «الدهر عبدك»، فأصبحت الإشارة ثابتة لا شك فيها.
وأخذ الخديوي يعجب بإلقاء التلميذة، ويمتدحها، ووقف المدير متحيرا في أمره ، لا يدري ماذا يفعل كتمثال من الزعفران لا يكاد يتحرك، وأخذ الأعيان يتبادلون الابتسامات لتلك الجرأة المدهشة من فتاة تشتم المدير أمام الزائر العظيم، ثم مضت التلميذة في إلقاء القصيدة، فقالت:
ما ضر أهل الشرق إلا أنهم
تركوا النساء وراءهم وتقدموا
فانحطت
الأبناء
بالأم التي
جهلوا مكانتها العلية فيهم
جهلت بأحوال الحياة فأوقعت
أبناءها في شر ما تتوهم
قد عودوها الجبن من عهد الصبا
فتعلم
الأبناء
ذاك وعلموا
وتسارعوا للعار في أعمالهم
والفسق والبهتان إن يتكلموا
وأخذت تشير إلى المدير فيما تحته خط، وهو بالطبع مع الإشارة يعد سبا علنيا، وأدت الفتاة مأموريتها، ثم عادت أدراجها.
وكانت قصيدة ناظرة مدرسة المعلمات والفتاة الصغيرة التي شتمت المدير أمام سمو الخديوي سمر الناس في ليلتهم.
وفي صباح الغد ذهب الناس لتوديع سمو الخديوي على المحطة، وأخذت تلميذات المدرسة الابتدائية التي كنت أديرها، وذهبت لأودعه، وكنت قد طبعت خمسة آلاف نسخة من القصيدة، وذاع ذكر القصيدة بين الناس، وما كادوا يروننا على إفريز المحطة حتى أخذوا يسألوننا عنها، وكان جميع أعيان المنصورة هناك لتوديع سمو الخديوي، فوزعت عليهم نسخ القصيدة بعد أن شرحت لهم في الليلة الماضية، فكنت ترى أصدقاء المدير إذا وقعت في يدهم نسخة من القصيدة ذهبوا إليه ليطلعوه عليها، أما عامة الناس فكانوا يغتبطون بقراءتها، ويتلذذون بإلقاء بعض الأسئلة على معلمي المدرسة، فيسأل أحدهم أحد معلمينا: «من هو الأرقم يا أستاذ؟» فيقول المعلم: «الدهر يا أخي!»
ويظهر لي أنه حصل سوء تفاهم بين المدير وسمو الخديوي، ولا أدري إذا كان للقصيدة شأن في هذا أم لا، ولكن المشاهد الذي رآه الناس أن سمو الخديوي لم يأخذه معه في صالونه، مع أن العادة تقضي أن يركب المدير مع سموه إلى آخر حدود مديريته، ووقف صالون سمو الخديوي في مكان بعيد عن إفريز المحطة، فاضطر المدير أن ينزل، وأن يتخطى قضبان السكة الحديد إلى المكان الذي وقف فيه الصالون فزلت قدمه وسقط بين القضبان ثم قام.
وبعد أن سار القطار بالخديوي جاءني المدير ومعه وكيل المديرية والحكمدار، فحياني باليد وضغط على يدي قائلا: إن سمو الخديوي سر منك سرورا عظيما. وهو يريد بذلك أن يهددني بالانتقام مني لما فعلته، وأردت أن أجيبه على تهديده بمثله، فقلت في لهجة المستفهم، وفي ابتسامة فاترة: «ومين اللي قال لك إنه سر مني؟ ده ما خدكش وياه في الصالون، ولقد أسفت كثيرا لسقوطك على قضبان الحديد، وأرجو أن لا يكون قد أصابك ضرر منه.»
وأردت بذلك أن أقول له: لا يهمني تهديدك، ويكفيني مذلتك اليوم، وكان جوابي بشكل مضحك حقا حتى أغرق وكيل المديرية والحكمدار في الضحك.
ولم أستطع في ذلك اليوم أن أستقل العربة التي أقلتني إلى المحطة إلا بعد ساعتين، وذلك لازدحام الناس لرؤية تلك الناظرة التي استطاعت أن تشتم المدير أمام جميع الأعيان.
ويقول المدير نفسه لأحد إخوانه: إنه خرج من المحطة مسرعا إلى منزل مفتش الداخلية ليشكوني إليه، فلما دخل غرفة الاستقبال، وجد المخدة بالقصيدة على أحسن مقعد في الغرفة، فكاد يشل لأنه عرف أنه لا يستطيع أن يطعن في القصيدة بعد أن رآها مفتش الداخلية، وهو مستشرق، وفي اليوم التالي أرسل إلي مفتش الداخلية، ولما دخلت عليه قال: أكان من اللياقة أن تشتمي المدير أمام سمو الخديوي والمودعين؟ قلت: من قال لك ذلك، وكيف شتمته؟ قال: بقصيدتك. قلت: ألم أقدمها إليك من قبل؟ وآخذ رأيك فيها فلم لم تقل لي إن فيها سبابا أو شتائم؟ قال: إنه لم يظهر لي ذلك. قلت: فإذا كان لم يظهر لك وأنت مفتش اللغة العربية أكثر من المدير، ومن كثير من الأعيان الذين حضروا لتوديع الخديوي، فكيف يظهر لهم هم السباب الذي لم يظهر لك. فسكت وترك الأمر.
ومن ذلك اليوم أوغر المدير صدور الإنجليز ضدي؛ إذ حاول أن يفهمهم أني من شيعة الخديوي بعد أن سافر سموه إلى تركيا سفرته الأخيرة، ومع أن قصيدتي لم يكن يراد بها مدح الخديوي بمقدار ما كان يراد بها ذم المدير، وهكذا تلتبس الحقائق أمام دس المدير.
إنشاء وتعمير
كنت في مدة المغفور له محمد باشا شكري قد اقترحت أن يبني مجلس المديرية بناء مدرسة المعلمات والمدرسة الابتدائية، واختير لها فدانان من الأرض، وأخذ في عمل تصميم البناء، وأراد مدير التعليم أن يقوم بعمله، ولكني رفضت تصميمه، وقمت بعمل التصميم، وساعدني المدير على تنفيذه بعد أخذ ورد دام طويلا، وأخيرا قام بالتصميم مهندس إنجليزي كنت أشرف أنا على عمله، وبعد أن تم التصميم، واعتمده المجلس، قدر المهندس نفقاته بمبلغ 24 ألف جنيه، وعرض على الداخلية، فرفضت أن تصرح بهذا المبلغ الكبير لبناء مدرسة للبنات، وطلبت أن لا تزيد النفقات عن 16 ألف جنيه.
هنا وقع المجلس في حيرة، وسر مدير التعليم ذلك؛ لأنه انتهزه فرصة ليقدم تصميمه هو، وعارضت أنا في ذلك، وقلت: إن في استطاعتي أن أرفع بعض أجزاء هذا البناء، فتكون نفقات الجزء الباقي منه لا تزيد عن 16 ألف جنيه. وصرح لي المدير بذلك، وشطبت على محال المطبخ والتدبير المنزلي، ومغسلة، وغرفة المائدة، ومطبخ المائدة نفسه، وتركت الفصول فقط، وقوم المهندس البناء بعد ذلك، فقدر نفقاته بمبلغ 16 ألف جنيه، ووافقت الداخلية، وابتدأ المقاول في حفر الأساس، وزارنا المرحوم المستر دانلوب ليتفقد البناء الجديد، وقبل أن يذهب إليه مر على المدرسة القديمة هو ومدير التعليم فطاف المدرسة، ودخل المطبخ، فقال: إن المطبخ ضيق جدا. وكان المدير في ذلك الوقت عدوي فقال مدير التعليم في شيء من الاعتزاز بنفسه: إن المطبخ هو الشيء الوحيد الذي لا أشرف عليه أنا. قلت: عفوا يا سيدي، وهل إذا أشرفت عليه تستطيع أن تعمل شيئا في مثل هذا المنزل الضيق، فهل كنت تخلق حجرة واسعة للمطبخ أم كنت تستطيع أن تزحزح جدران هذا المطبخ ليتسع؟ على أنك أشرفت على ما أعتقد على البناء الجديد، فهل احتطت لمطبخه؟ قال: نعم. قلت: كلا يا سيدي، فسيرى جناب المستشار اليوم أن البناء ليس فيه مطبخ للتدبير، ولا للمدرسة، ولا غرفة للمائدة أيضا، ولا شيء من الملحقات الضرورية للتدبير المنزلي. فدهش المستشار، وقال: أصحيح هذا؟! وكان مدير التعليم قد تظاهر أمامه بأنه هو صاحب تصميم البناء، فلما قلت ذلك أسقط في يده، وقال لي همسا: لقد غششتني، وذهبنا إلى البناء الجديد، وأطلعت المستشار على أساساته، وبينت له المواضع التي يجب أن تبنى فيها غرفة المائدة، ومحال التدبير جميعه، فوبخ مدير التعليم على هذا التقصير في البناء، وذهب إلى الداخلية في الحال فصرحت بزيادة 8000 جنيه لعمل تلك الملحقات، وأعيد البناء إلى أصله الحقيقي، ونجحت في لعبتي، وقد تم البناء في مدة المدير المشاغب، ونقلت المدرسة إليه، وما كدت أقيم في البناء الجديد أسبوعا حتى زار المدرسة عظيم من عظماء وزارة المعارف كان أقرب الناس إلى جناب المستر دانلوب، وتظاهر أنه جاء لزيارة المدارس الأميرية، وأنه أراد أن يزورني شخصيا، وبعد أن زار المدرسة قال لي: إن عملك مجيد، وإنك أفضل من ناظرات المدارس الأميرية، وإن بقاءك في مجلس المديرية على كراهية المدير لك خسارة عظيمة على مستقبلك، وإن ما رأيته من أعمالك اليوم يجعلني أود مساعدتك بتعيينك وكيلة لمدرسة معلمات بولاق. قلت: ولكنك تعلم يا سيدي أني أتقاضى هنا 26 جنيها، وأن القانون المالي لا يجيز أن أعين بالوزارة بذلك المرتب. قال: إنك تجهلين مقدارك يا سيدتي؛ فناظرة مثلك مجدة يجب أن يعمل لها كل استثناء ممكن، ولا يتأخر مجلس الوزراء أن يساعدك بذلك متى شرح له مكانتك جناب المستشار.
كان ذلك الباشا يخاطبني مخاطبة الثعلب للغراب لغرض في نفسه، ولم أكن أفطن لغرضه فقلت له: وهل تظن أن مثل ذلك الاستثناء ميسور؟ وهل يعنى مجلس الوزراء في الحالة الحاضرة - وقد كنا في سنة 1914 - مع اضطرابها بتعيين فتاة مثلي في مدرسة قد أخذت بناءها السلطة العسكرية؛ فهي الآن في حكم العدم، وما الذي يهم مجلس الوزراء من تعيين وكيلة لمدرسة مغلقة؟ قال: صدقت! قد لا تتم تلك الأمنية، ومع ذلك فلم لا تجربين؟ ولا يكلفك ذلك إلا كتابة الطلب، وسأحفظ طلبك عندي، فلا يعلم به أحد إلا إذا وافق عليه مجلس الوزراء. فكتبت له طلبا أقول فيه إني أرغب أن أكون وكيلة لمدرسة بولاق بمرتب شهري قدره 26 جنيها على شرط أن أكون مثبتة، وأن يكون لي خادمة خصوصية، وأعطيته الطلب وأنا أعلم أنه كلام لا قيمة له؛ لأن تحديد المرتب عقبة عظيمة، وشرط التثبيت عقبة ثانية؛ لأن نظري كما قدمت كان ضعيفا لا يسمح بتثبيتي، فلا بد لمجلس الوزراء أن يثبتني بصفة استثنائية، وأن يقرر مرتبي بصفة استثنائية أيضا، «وخبطتين في الرأس توجع»، على أني كنت أجهل أن في الأمر دسيسة سياسية؛ ولهذا أعطيته الطلب وأنا واثقة أنه لن يجاب.
وما كانت أشد دهشتي إذ خاطبني الباشا في اليوم التالي تليفونيا، وهنأني بوظيفتي الجديدة، قلت بدهشة: ومتى اجتمع مجلس الوزراء لتعييني؟ قال: إنه لم يجتمع، ولكن الوزراء وافقوا على التعيين متفرقين. قلت: عجبا! وما الدافع لهم إلى كل تلك السرعة والمدرسة التي عينت بها مغلقة فلا حاجة إلى تعيين وكيلة لها أو ناظرة. قال: لقد تم هذا والسلام. فقلت: إني أرفض هذه الوظيفة؛ لأن في طياتها أمرا خفيا لا أفهمه. قال: على كل حال لا بد من حضورك حالا لمقابلة جناب المستشار؛ فهو وحده يستطيع أن يشرح لك الحالة.
قابلت جنابه في اليوم التالي، وأنا مصممة على رفض التعيين، وقال لي إنه يدهش لرفضي بعد أن عينني في وظيفة لم تعين فيها مصرية من قبل، وبمرتب لم تتناوله غيري من المصريات. قلت: نعم هذا صحيح، ولكن سرعة تعييني على ما فيه من العقبات، وعلى عدم وجود المدرسة التي عينت فيها تدل على أن في الأمر شيئا خفيا، وماذا عسى أن يكون هذا الشيء إلا اتهامي بالاشتغال بالسياسة ضد الإنجليز، وإذا كان هذا صحيحا، فكيف أستطيع أن أعاشر سيدة إنجليزية بصفتها ناظرة، وأنا وكيلة لها لا شك عندي أنها سيدة فاضلة محترمة، وقد كانت في الماضي معلمتي، ولكنني لو كنت محلها لما استطعت أن أعاشر تلك الوكيلة بعد أن قلبت لي ولأمتي ظهر المجن في أحرج المراكز. قلت له ذلك استنتاجا بما عساه أن يكون، وقد كان هو الحقيقة بعينها؛ فقد أفهموا جناب المستشار أني ناظرة محبوبة من جميع الأهالي، وأني أعمل ضد الإنجليز في الخفاء، وأن بقائي في المنصورة قد يقلب أهاليها ضد الإنجليز عن بكرة أبيهم، وزاد هذا الاعتقاد رسوخا في نفس المستشار ما ذكرته له، إذ ظن أني لاشتغالي بالسياسة ضد الإنجليز قد شعرت بما بلغه عني، فزاد تشبثه بتعييني وكيلة مهما كانت الظروف، ولو بالقوة، خصوصا وأن ناظرة مدرسة السنية كانت قد بلغت الستين من العمر، وفصلت لبلوغها السن القانوني، ولم تكن تستطيع السفر إلى بلادها لتحرج الحالة الدولية، فأرادوا أن يجدوا لها عملا خارج الحكومة ريثما تضع الحرب أوزارها، وخصوصا أنه لم يقرر لها معاش لدخولها الخدمة في سن كبيرة، ولو أني كنت أعلم تلك الحالة لوافقت من أول الأمر على التعيين خدمة لتلك التي كانت ناظرة لي يوما ما، ولكني كنت أجهل ذلك، واعتقدت أن المسألة سياسية بحتة، وخشيت أن تساء معاملتي.
القوة فوق الحق
تشبث جناب المستشار بتعييني وكيلة مهما كلفه ذلك؛ ولهذا قال إنه لا بد من قبول وظيفة وكيلة؛ لأني أنا نفسي التي طلبتها، ولكني اشترطت أن أكون مثبتة، قال: لا مانع، وسأرسلك الآن إلى القومسيون الطبي. فقلت: لقد عرض نظري على القومسيون الطبي منذ خمس سنوات، فلم يوافق على تثبيتي، وثبتني مجلس الوزراء بصفة استثنائية، فهل تظن جنابك أن نظري زاد قوة بعد عملي خمس سنوات أم تراه قد زاد ضعفا على ضعفه القديم؟ قال: إنك ستذهبين الآن إلى القومسيون مع جناب مسز ألجود، وله أن يقرر ما يريد. ثم استدعى مسز ألجود في الحال، وأرسلني معها فاستقبلني ثلاثة من الإنجليز، وكان القومسيون يشكل عادة من رئيس إنجليزي، وعضوين مصريين، فخالف في تلك المرة عادته، وزادني ذلك نفورا على نفوري الأول، وأشار الرئيس إلى العلامة الأولى، وسألني عن مكان فتحتها، فقلت له في شيء من الغضب: هل تظن أنني أراك أنت شخصيا؟ قال: عجبا! ألا ترينني؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي اليوم، وسأكشف عليك في يوم آخر.
فخرجت من الغرفة وتأخرت مسز ألجود معه برهة، ثم لحقت بي، وأعادتني إلى المستشار الذي ما كاد يراني حتى هب مسلما علي وهو يبتسم قائلا: أهنئك بالنجاح في الكشف الطبي. قلت: وهل نجحت، وأنا لم أر الرجل نفسه؟ قال: نعم! وقد عينت وكيلة لمدرسة بولاق أيضا، وأمامك أسبوع واحد تستعدين فيه لتسلم مركزك الجديد. عدت إلى المنصورة، وقد علمت أني غير باقية فيها، فدعوت سيدات المنصورة إلى اجتماع ودعتهن فيه، وألقيت عليهن خطابا يتضمن كثيرا من الطعن على المدير بصفة غير مباشرة، ومن ذلك أني قلت: «يتهمونني أيتها السيدات بكراهيتي الشديدة للرجال، فناشدتكن الله ألا دافعتن عني عند رجالكن، فإني لا أكره من الرجال إلا الدنيء السافل.»
ولما كانت كراهيتي للمدير مشهورة عند جميع الناس، فقد كان هو المقصود بالدنيء السافل، وقد طبعت تلك الخطبة ووزعتها في مدينة المنصورة، فأخذ المدير نسخة منها، وذهب بها إلى المستر دانلوب ليشكو من سوء تصرفي، فلما ترجمت الخطبة للمستشار لم يجد فيها ما يوجب لومي؛ لأن الطعن لم يكن صريحا، بل كان يفهم بالقرائن، وقد قال جنابه: لا لوم على نبوية في أن تقول: إنها تكره الدنيء السافل، ولا يمكن معاقبتها على ذلك؛ لأني أنا نفسي أكره كل دنيء سافل.
وبعد مضي أسبوع رفضت قبول وظيفة وكيلة لبولاق، كما رفضت مبارحة مدرستي، فأرغى جناب المستشار وأزبد، وأحاط المدرسة فرقة من الجنود الإنجليز منعت دخول أي شخص إليها، وصرحت لجميع من فيها بالخروج حتى لم يبق في المدرسة غيري، وقال المدير إنه مستعد أن يخرجني منها إذا كتبت قبولا صريحا وظيفة وكيلة لبولاق على أن يصحبني بعض رجاله ليسلمني إلى المستشار باليد، وعز علي الأمر فلم أقبل، وقضيت في سجني ثلاث ليال، غضب المستشار لذلك كل الغضب، وأراد أن يتخلص مني، فكتب لمستر ورنوك خطابا رسميا يقول له فيه إنني جننت، وإن هذا جنون وراثي بدليل أن أخي عرض عليه قبل ذلك مصابا بذلك، وقد بنى المستشار ذلك الوهم على حقيقة وهمية لا علاقة لها بالحقيقة؛ وذلك لأن المرحوم شقيقي كان قد أصيب بحمى التيفود، وهو في سن السابعة عشرة، فلما شفي من الحمى كان يهرف قليلا كعادة كل مصاب بها، وكان يتقاضى معاشا عن والدي يقطع عنه في سن الثامنة عشرة، ولجهل والدتي ظنت أن المعاش يمكن استبقاؤه إذا ثبتت إصابة شقيقي بالذهول، فقدمت طلبا بذلك، وعرض الطلب على المستر ورنوك، وهو مدير مستشفى المجاذيب، وكشف على المرحوم، فقرر أنه سليم معافى، فلما تضايق المستشار مني تقدم إليه أحد أقاربي بتلك الحكاية تملقا منه للقوة الغاشمة، وشاء الله أن لا يجاريهم المستر ورنوك فيما أرادوا، فكتب إلى المستشار يقول: إن ذلك الشخص عرض عليه منذ عشرين عاما، وقررت أنه سليم معافى، وأنه لا يستطيع القبض علي بعلة الجنون ما لم أستكتب تقريرا مطولا يستطيع أن يحكم منه، ولو على تهوري، فأرسل إلي المستشار مفتشا يطلب مني أن أكتب بالتفصيل كيف رفضت الوظيفة بعد أن طلبتها بنفسي، فكتبت إليه تقريرا أقول فيه: إني طلبت الوظيفة باعتبار أنها وظيفة تليق بي، وكنت أعتبر نيلي لها حظا سعيدا، ولكني لما رأيت أنهم عينوني فيها بمجلس وزراء في لحظات معدودة، وبسرعة لم يعهدها أحد، خصوصا وأنه لم يكن هناك داع لتلك السرعة؛ لأن المدرسة التي عينت بها كانت معطلة عن العمل، وقد احتلت بناءها السلطات العسكرية، علمت أن في الأمر شيئا خفيا لا أعرفه، وزادني يقينا فيما اعتقدت أن القومسيون الطبي الذي تشكل من ثلاثة من الإنجليز مفروض فيهم جميعا النزاهة قد أقروا صلاحيتي للعمل دون أن أرى شيئا.
علمت من ذلك كله أني متهمة بالسياسة، وتعييني وكيلة لناظرة إنجليزية بعد هذا الاتهام يجعل تلك الناظرة ضدي، وعلى ذلك يكون بقائي معها لا كوكيلة وناظرة بل كسجان ومسجون، فهي لا تأتمنني في شيء بل ستراقب حركاتي وسكناتي مراقبة شديدة تجعلها تتوهم الشك يقينا، وتقلب الحقائق رأسا على عقب، ولست ألومها في ذلك، أو أنسب إليها الشر، بل وهي معلمتي أعرف عنها الكثير من الخير، ولكني لو كنت مكانها لفعلت ما تفعل مع تلميذة تمردت علي وعلى أمتي، وقلبت لي ظهر المجن في أشد المراكز حروجة؛ ولهذه الأسباب رفضت الوظيفة.
عرض هذا التقرير على المستر ورنوك فأعطاني الحق كله، وقال إني لم أخطئ في شيء، وإن الخطأ واقع على الوزارة نفسها، وإنه يهون عليه أن يقبض على المستر دانلوب نفسه من أن يمسني بسوء، قال ذلك للمستر دانلوب تليفونيا، فصارحه الآخر بأني ضد الإنجليز، وأنه يجب القبض علي لهذا السبب، قال المستر ورنوك: وما الذي يمنعك أن تقبض عليها سياسيا وقد قبضتم على كثير من المصريين؟ قال دانلوب: إنها ذكية جدا وقادرة في أعمالها، ومحتاطة كل الاحتياط. قال ورنوك: إذن لا شأن لي بها. ثم كتب إلى الوزارة خطابا رسميا يقول فيه:
ردا على خطابكم والإشارة التليفونية التي سبقته أفيدكم أنه لا يمكن التدليل على جنون تلك السيدة ما دامت كما تقولون أنتم ذكية جدا، وقادرة فيما تقوم به من الأعمال، ومحتاطة كل الاحتياط.
وهنا ثارت ثائرة المستشار، ولم يجد أمامه من الحيلة إلا الالتجاء إلى المرحوم أخي، وكان المرحوم في ذلك الوقت قاضيا جزئيا بقنا، فخاطبه مستشار الداخلية تليفونيا، وهو في الجلسة فطلب منه رفع الجلسة والحضور إليه في القاهرة حالا، ولما وصل المرحوم إلى القاهرة، وجد ساعي المستشار ينتظره على المحطة بسيارة المستشار الخصوصية، فسار به في الحال إلى جناب المستشار، وبعد أن حياه، وشرب معه الشاي، طلب منه أن يقابل مستشار المعارف، وأن يقضي له ما يريد، وذهب أخي بسيارة مستشار الداخلية إلى مستشار المعارف في منزله، فقابله أحسن مقابلة، ورجاه أن يرجوني في قبول الوظيفة، فوعده خيرا، وقضى ليلته بالقاهرة، وفي الصباح المبكر سافر إلى المنصورة فوصل إليها قبل الظهر، وكانت التعليمات بوصوله قد سبقته، فأدى له الجنود الواقفون بباب المدرسة التحية، وأفسحوا له فدخل، وطلب مني أن أصحبه إلى مستشار المعارف، فلما رفضت قال لي: إن الظروف حرجة، وإني أنا شخصيا أسخر بالحياة لأنه ليس لي أولاد، أما هو فلا بد أن يفكر في أولاده، وإني بعنادي هذا سأحرج مركزه كل الإحراج .
فلم أستطع أمام هذا أن أتردد، بل ذهبت معه، وفي صباح اليوم الثاني أخذني بنفسه إلى غرفة المستر دانلوب، وهناك أمضيت على خطاب قيامي بالعمل كوكيلة لمدرسة بولاق، واعتمد تعييني في ذلك اليوم، وكان مجلس الوزراء قد عينني وكيلة لمدرسة بولاق في يوم 27 نوفمبر سنة 1914، وفي يوم 4 ديسمبر كتب مستشار المعارف المستر دانلوب بالقبض علي، وفي يوم 10 ديسمبر تم تعييني، وتسلمت العمل كما يزعمون، فليعجب القارئ من ذلك التناقض إذ تعينني الوزارة وكيلة بمدرستها في يوم 27 نوفمبر، ثم تطلب القبض علي بعد ذلك بأسبوع، ثم تعينني نهائيا عندها بعد ذلك الطلب بأربعة أيام، والجنون فنون كما يقولون.
وظيفة وكيلة
أمضيت خطاب قيامي بالعمل بصفة وكيلة لمدرسة بولاق بمكتب المستشار كما قدمت، وقمت بالعمل إذا كان هناك قيام به في منزلي؛ لأن المدرسة كانت مغلقة، وكانت السلطة العسكرية قد استولت على بنائها، وفي تلك الأثناء تولى السلطان حسين عرش مصر فهدأت الأمور، وطالب عظمته الحكومة بفتح المدارس، فأخلت السلطة بناء مدرسة المعلمات ببولاق، وفتحت المدرسة أبوابها في أكتوبر سنة 1915، وعملت وكيلة تحت يد ناظرة إنجليزية كنت أعرفها من قبل؛ لأنها كانت معلمتي، وكنت أقدر أخلاقها كثيرا، ولكني شعرت عندما عملت معها بشيء من الجفاء ما كنت آلفه منها من قبل؛ وذلك لأنها كانت تعتقد أني ضد الإنجليز، والظاهر أن للإنجليز خطأ جوهريا في تصديق كل ما ينقل إليهم من الإشاعات والتمسك به، وعدم تصديق ما يخالفه مهما كان خطأ الإشاعة الأولى، وبعدها عن الحقيقة، والشخص الذي اتهم بمناوأة الإنجليز إذا هو أكد لهم أنه مظلوم، وأن ما سمع عنه مجرد افتراء، فهم لا يتحولون عن اعتقادهم الأول، بل ربما نظروا إليه بعين الاحتقار إذ يعدونه جبانا كاذبا؛ فلهذا كنت مضطرة على الرغم مني أن لا أدافع أمام تلك الناظرة عن نفسي، وأن لا أدلل لها عن براءتي خشية أن تتهمني بالجبن والكذب، فكنت أعاملها بالحذر والصمت كما كانت هي أيضا تعاملني بشيء من الملاينة الظاهرة ينطوي تحتها شيء من الخوف خشية أن أناوئها.
أردت أن أنصرف إلى العمل لأبرهن بعملي على حسن نيتي، والحق إني كنت - ولا أزال - أحب التعليم حبا يشغلني عن كل شيء سواه حتى النظر في السياسة؛ لأني كنت أعتقد أن الإنسان يخدم بلاده بالمهنة التي يتقنها والتي يجب أن يتفرغ لها، أما هي فكانت تريد أن تصرفني عن العمل في المدرسة بكل ما تستطيع، وحصل أني اطلعت على كراسات الطالبات في اللغة العربية، فوجدت فيها أخطاء كثيرة أصلحتها بالقلم الأزرق، وعز على المعلمين المشايخ أن تصلح أخطاءهم فتاة من مدرسة السنية، فشكوا أمرهم إلى كبير في الوزارة، وشجعهم على ذلك ما كانوا يرونه من شدة حذر الناظرة مني، وطلب ذلك الكبير منهم الحضور فحضروا إلى مكتبه، ومعهم كراسات الطالبات التي أصلحت أنا أخطاءها، وعرض الأمر على المستشار، وكان الرجل دقيقا في عمله عادلا في تصرفاته، فسألهم عما كتبته أنا بالقلم الأزرق، وهل هو خطأ أم صواب؟ فقالوا: إنه صواب. وهناك ثارت ثائرته، وقال: «أتشكون إلي من أن فتاة من السنية وجدت لكم أخطاء، أنتم المشايخ أعلام اللغة العربية فأصلحتها؟ وهل كان من صالح التعليم أن تتركها؟ الحق إن شكواكم غريبة مضحكة، وإن خير ما يمكنني أن أقوله لكم هو أن تخرجوا من مكتبي دون أن ينالكم عقاب.»
وهكذا باءوا بالفشل من شكواهم، ولكن حضرة الناظرة طلبت مني بعد ذلك أن أترك الأمور تجري في مجراها الطبيعي، وأن لا أتدخل في عمل أحد من المدرسة، ومن ثم ابتدأ بيني وبينها شيء من العداء والجفاء، وكانت غرفتي إلى جانب غرفتها، فكنت أنتقد بعض أعمالها، وكانت المعلمات في ذلك الوقت ككل مصري يتهمن المصري بالكذب وكل العيوب، ويبرئن الإنجليز من كل عيب مهما صغر، وأردت أن أشرح لهن الخطأ فيما ذهبن إليه، فقلت لهن: إنكن تعتقدن أن الإنجليز لا يكذبون، وفي استطاعتي أن أبرهن لكن عمليا أنهم ككل الشعوب منهم الصادق والكاذب والأمين والخائن، وهذه ناظرة إنجليزية الأصل، وستقابل اليوم بعض المعلمات لتعينهن في مجالس المديريات ، وربما استطعت أن أثبت لكن كذبها مما تقوله لهؤلاء المعلمات، وكان أول من دخلت عند الناظرة آنسة طلبتها هي لتعينها ناظرة في مدارس مجالس المديريات، فقالت لها: «إن هناك مدرستين فتحتهما مجالس المديريات إحداهما مدرسة شبين الكوم والأخرى مدرسة طنطا، فاكتبي إلي تطلبين وظيفة ناظرة في مجالس المديريات لأعينك في إحدى المدرستين.» قالت الفتاة: «ولكني لا أريد مدرسة شبين الكوم، بل أريد مدرسة طنطا.» قالت: «لا بأس، ولكن يجب عليك في الطلب أن لا تعيني المدرسة التي تريدينها، وسأعينك في طنطا كما تريدين.» وخرجت الفتاة من غرفتها إلى غرفتي، وقصت علي قصتها أمام بقية المعلمات، فقلت لهن: إن هنا كذبا لا أستطيع إثباته الآن؛ لأن مدرسة طنطا بنيت بناء حسنا لتديرها ناظرة إنجليزية لا مصرية، وستعين الفتاة في مدرسة شبين الكوم.
وجاءت بعد هذه ناظرة بنها، فطلبت من الناظرة أن تعينها في مدرسة شبين الكوم؛ لأنها غير مستريحة في بنها، فقالت الناظرة في دهشة: «وهل ستفتح مدرسة في شبين الكوم؟ إني لم أسمع بذلك.» وعندما قصت ناظرة مدرسة بنها حكايتها تبين للمعلمات أول كذبة كذبتها الناظرة الإنجليزية، وجاء بعد ناظرة بنها فتاتان تريدان التوظف بوظيفة معلمتين في مدرسة طنطا، فسألتا الناظرة عمن ستعين ناظرة لمدرسة طنطا، ولكي يرضياها قالتا لها إنهما لا يقبلان العمل تحت رياسة مصرية، فقالت لهما: لا تخشيا شيئا فناظرة طنطا ستكون بالتأكيد إنجليزية. وهنا ظهرت الكذبة الثانية، وهكذا أثبت لهن ما يزيد عن عشر كذبات في يوم واحد، وقد دهشت المعلمات لاعتقادهن الراسخ أن الإنجليز لا يعرفون الكذب، ولكنهن خضعن للحقيقة الواقعة.
وبمناسبة هذا أقول إني قد علمت هذه الناظرة الإنجليزية اللغة العربية، فلما دخلت الامتحان تفوقت على زملائها الإنجليز في تلك اللغة، فعينت لسوء حظي مفتشة للغة العربية، وجاءتني في المنصورة عندما كنت ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة لتمتحن طالبات مدرستي في التربية العملية؛ أي تنتقدهن في إلقاء دروسهن باللغة العربية على الطالبات، وكان معها على ما أتذكر خالد بك حسنين، فعلمت أن مثل هذا الامتحان لا يسفر عن حقيقة لجهلها هي باللغة العربية؛ ولأنها الكل في الكل فيه قلت لها مازحة: إني مستعدة أن أحضر لك فنجانا عظيما من القهوة على شرط أن تتعهدي لي بعدم رسوب الطالبات في تلك المادة. فقالت: لا، لا أذوق قهوتك. وقامت فعملت هي وخالد بك في الامتحان مدة ساعتين، ثم جاءت لتستريح في مكتبي فقلت: ألا تزالين تصرين على عدم قبول شرطي، وشرب القهوة؟ قالت: لا، كلا. أما خالد بك فقال لي: لقد طار مخي من التعب فأرجو إحضار القهوة، وإني مستعد لأن يرسب من الطالبات حتى الأوليات. ثم أعطتني كشفا، وقالت: إنه يجب علي أن أضع للطالبات درجاتهن في أعمال السنة من 30. فقلت لها: إني أعلم أن أوليات الطالبات سيرسبن في امتحانك، وإذن سأعطي هؤلاء الأوليات 60 من 30. فقالت بحدة: لا تفعلي! فإن هذا غير مصرح به. وضايقني تجاهلها المزاح إلى هذا الحد، فقلت لها: ألا تمزحون في بلادكم؟! فقالت: كلا، نحن لا نقول الكذب حتى ولا في المزاح. مع أنها - كما رأى القارئ - قالت ذلك الكذب في الجد الصحيح.
الدعاية الوطنية
من أحسن خصال الإنجليز، ومن أهم الأسباب التي تكلل أعمالهم بالنجاح دعايتهم المستمرة لبلادهم، فهم يحدثونك عن مفاخر أبناء وطنهم، كما كان يتغنى الشاعر العربي القديم بذكرى عنترة بن شداد، أو الزير سالم، أو غيرهما من أبطال التاريخ، وهم في سبيل ذلك قد ينسون الحقيقة، ويصل كلامهم إلى حد الخرافات، يتغنى الإنجليزي بمفاخر قومه بحماسة نادرة فيثبت ذلك في نفسه، ويعتقد اعتقادا صحيحا أن أبناء جنسه خير البشر، وأفضلهم على الإطلاق، وهو لذلك لا يدخل من المصانع أو المتاجر إلا ما كان إنجليزي الأصل فتروج تجارتهم، ويحملون غيرهم من الأمم على احترام أمتهم والثقة بها، وترى تلك الظاهرة الحسنة في كل شخص أو هيئة أو جماعة منهم؛ فهم يوحون إلى الناس جميعا باحترامهم والثقة بأعمالهم، وينفون العيب عنهم مهما ظهر.
كنت أعرف ذلك منهم، وأريد أن أقتدي بهم في إعلاء اسم أمتي، وكانت ناظرتي الإنجليزية تود أن تفهمني غير ما أريد ، وكان بالمدرسة حوالي 35 معلمة مصرية ومعلمة واحدة إنجليزية، فكانت كلما أخطأت إحدى المعلمات المصريات، قالت لي: هكذا المصريون لا يفلحون في عمل. فإذا عارضتها في ذلك قالت: لا تقيسي على نفسك فأنت مستثناة. وكنت أجيبها أني مصرية صميمة، وأن لون بشرتي وشكل وجهي الفرعوني يدلان على أني من صميم مصر، ومحال أن أستثنى من بناتها، وأنها هي تحكم على المصريات حكما قاسيا لا مبرر له، مع أنهن كالإنجليزيات في كفايتهن، ومحال أن يعصم شخص من الخطأ، فكانت تعارض بشدة في ذلك، وأخيرا قلت لها: إن بالمدرسة 35 معلمة مصرية ومعلمة واحدة إنجليزية، وبناء عليه يجب أن نجد 35 خطأ من المصريات يقابله خطأ واحد من الإنجليزية، وإني سأحصي أخطاء الفريقين. قالت: محال أن تجدي للإنجليزية خطأ. قلت: سنكون أمام الأمر الواقع في المستقبل القريب. وكانت تلك السيدة الإنجليزية تدرس 12 حصة أسبوعيا فقط في التدبير المنزلي؛ ليكون عندها من الوقت ما يكفي لإرشاد معلمات التدبير اللاتي كانت كل منهن تدرس 24 حصة في الأسبوع، وكانت تلك السيدة تستغل سيطرتها عليهن، فتوزع دروسها عليهن فلا هي ترشدهن، ولا تقوم بتدريس دروسها نفسها.
وفي أحد الأيام تغيبت إحدى معلمات التدبير المنزلي، فأمرتني الناظرة أن أوزع دروسها ففعلت، ولكني لم أوزع درس السيدة الإنجليزية التي كانت تقوم بتدريسه تلك المعلمة بصفة غير رسمية، وعندما ابتدأ ذلك الدرس أتيت إلى الناظرة، وأخبرتها أن الفرقة الفلانية ليس بها معلمة، قالت: لعلك لم توزعي دروس المعلمة الغائبة. قلت: كلا قد فعلت، وهذا الدرس مخصص للسيدة الإنجليزية. قالت: وأين هي؟ قلت: إنها في غرفتها تشرب الشاي مع ضيف لها. قالت: محال أن تترك درسها. قلت: إنها يا سيدتي لا تدخله بتاتا، بل هي تتركه للمعلمة الغائبة. قالت: إني لا أسمح لك بذلك القول. قلت: إن الحقيقة لا تقبل الجدل. فقامت وهي تكاد تتميز غيظا، وذهبت إلى غرفة المعلمة الإنجليزية، وأمرتها بالحضور إلى الدرس، وكانت تلك المعلمة الإنجليزية تدرس درس التربية العملية في التدبير المنزلي، ونظرا لأن الطالبات يعلمن أنها لا تصحح مذكرات دروسهن التي يلقينها أمامها؛ لأنها لا تفهمها، بل تضع عليها الدرجة حيثما اتفق، أخذن يهملن إعداد مذكراتهن، وبعد يومين من الحادثة الأولى كانت إحدى طالباتها تدرس درس «يخني» للسنة الرابعة من المدرسة الملحقة، وكان ذلك في الحصة الأولى صباحا، فلم تعد مذكرة درسها، بل أخذت كراسة إحدى طالباتي، وكانت قد أعدت بها درسا للسنة الثانية في مبادئ جدول الضرب، وقد أرادت الطالبة بأخذ تلك الكراسة أن توهم المعلمة الإنجليزية بأنها أعدت مذكرتها، وأنها أخطأت فأحضرت كراسة أخرى بدلا من كراستها، وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولكن المعلمة ما كاد يقع بصرها على مذكرة طالبتي التي كانت قد أعدتها بنظام وإتقان حتى وضعت عليها الدرجة النهائية وأمضت، ولما دخلت طالبتي لإلقاء درسها أمامي رأيت إمضاء المعلمة الإنجليزية والدرجة في نهاية المذكرة، فسألت الطالبة عن السبب في وضع تلك الإمضاء، فأخبرتني بما حدث، فذهبت إلى الناظرة، وبيدي الكراسة، وقلت لها: ما رأيك في معلمة تضع إمضاءها والدرجة على كراسة لم تقرأها؟ قالت: ليس ذلك بغريب على المصريات. قلت: وما رأيك إذا كانت إنجليزية؟ قالت: محال أن يصدر هذا من إنجليزية. فأطلعتها على الدرس فرجعت، ثم قالت: لعلها قرأته، ولكنها لم تفهمه جيدا. قلت: إن السيدة التي تقرأ السنة الثانية على أنها الرابعة، وتقرأ كلمة «حساب» على أنها «طبيخ»، ثم تقرأ كلمة جدول الضرب على أنها «يخني» لا يجوز لنا أن نعتبر أنها قرأت شيئا، بل هي وضعت الدرجة جزافا دون أن تعرف في المذكرة شيئا. فقالت الناظرة بحدة: أرجو أن لا تناقشيني في أخطاء تلك السيدة مرة أخرى. قلت: لست بفاعلة، ويكفي أني أظهرت لك أن الإنجليزيات أكثر من المصريات أخطاء. ولم تعد بعد ذلك إلى الطعن في المصريات أمامي.
وكان بالمدرسة ضابطة تعرف اللغة الإنجليزية، وتشاطر الناظرة رأيها في الطعن على المصريات؛ ولهذا كانت الناظرة تحابيها، وترفع من درجتها، واعتمادا على ثقة الناظرة بها وميلها إليها أرادت أن تتعالى علي متناسية أني وكيلة المدرسة، وأنها إحدى الضابطات، ومررت بعنابر النوم يوما فوجدت أن بعض الأسرة بها وسائد مربعة فوق وسادتها الأصلية، وبعضها ليس به تلك الوسائد، وأن الطالبات تشاجرت على تلك الوسائد الزائدة، فكل منهن تريد أن يكون لها وسادة مربعة، وهكذا كانت تلك الوسائد منبع شقاق وخصام، فأردت أن أمنع ذلك الشقاق بوضع جميع الوسائد المربعة في عنبر واحد هو عنبر نوم السنة الثالثة، وهي أعلى سني المدرسة، فأمرت الخادمات بنقل جميع الوسائد الزائدة إلى ذلك العنبر، وعز على الضابطة التي أشرت إليها أن لا آخذ رأيها في ذلك، فنقلت الخبر إلى الناظرة وزادته فظاعة بأن قالت لها: إن الوكيلة تعمل ما تريد دون أن تعبأ برأي الناظرة أو تستشيرها. وكانت ضابطة الخدم سيدة فرنسية، فأمرتها الناظرة أن تنقل الوسائد من عنبر السنة الثالثة، وتوزعها على العنابر الأخرى كما كانت، ونفذت الضابطة ما أمرت به الناظرة، وما كدت أرى ذلك حتى ارتديت ملابسي وتأهبت للخروج دون أن أقول للناظرة شيئا، ورأتني وأنا مارة بباب غرفتها في طريقي إلى خارج المدرسة، فنادتني فلم أجبها، فتبعتني وأوقفتني، وسألتني عن سبب خروجي، فقلت: لا أستطيع أن أؤدي عملي كما يجب، أو أقوم بالمسئولية الملقاة على عاتقي عندما أنوب عن الناظرة في غيابها بصفتي وكيلة للمدرسة، ما دامت إحدى الضابطات تهزأ بأوامري وتمحوها كلما أرادت ذلك، ورأت الناظرة أنها أخطأت، فقالت: ولكني أخذت الوسائد من عنبر السنة الثالثة لأنجدها ثم أعيدها إليه. قلت: حسنا، أما أنا فسأبقى في منزلي إلى أن تعود الوسائد إلى حيث وضعتها، ثم سلمت عليها وانصرفت، وذهبت إلى المرحوم الدكتور طلعت لآخذ إجازة مرضية، ورأى الدكتور أن حرارتي 39 درجة، فقال: إني أعتقد أنك لست بمريضة بالرغم من ارتفاع حرارتك، ولعلك مغضبة أو مجهدة، وعلى كل حال، فأنت تستحقين إجازة للراحة من ذلك الإجهاد، وسمح لي بإجازة 15 يوما، فعدت إلى المدرسة لأسلم الإجازة، وآخذ ملابسي، وما كادت الناظرة تراني حتى تبعتني إلى غرفتي، وقالت: ألا تزالين مغضبة؟ قلت: لا يغضبني شيء، ولكني لا أستطيع البقاء في تلك المدرسة إلا إذا نفذت أوامري. قالت: لقد أحضرت المنجد، وستكون الوسائد في محلها غدا. قلت: لا بأس يا سيدتي، وسأكون بالمدرسة غدا إن شاء الله. ومررت بالضابطة الفرنسية التي رأت كيف غيرت الناظرة أمرها الأول، والتي كانت تتألم بعض الشيء من قوة نفوذ الضابطة الأخرى، فقالت لي: أهنئك بفوزك الباهر، وها نحن نعمل بسرعة في تنجيد الوسائد ووضعها في مكانها الذي أمرت أنت أن توضع به. وهكذا عادت الوسائد إلى مكانها في اليوم التالي، كما عدت أنا إلى عملي، وفي النفوس ما فيها.
تهمة كاذبة
كان لسوء حظي في ذلك الوقت أن انتشرت إشاعة تشير إلى أن الإنجليز ضدي، مع أني لم أكن أشتغل بالسياسة إطلاقا، بل لم أكن - علم الله - أكره الإنجليز، ولكن هكذا شاء أعدائي أن يفهموا الإنجليز غير الحقيقة، والإنجليزي إذا فهم شيئا، واستقر في رأسه لا يتنازل عنه مهما كانت الظروف، ومهما ظهرت له الحقائق، فهم في ذلك يتمثلون بقول الشاعر:
ما الحب إلا للحبيب الأول
فالرأي الأول له عندهم المكانة الأولى مهما كان خاطئا، وكل ما عداه خطأ لا يأبهون به.
لهذا كان مركزي حرجا، وأخذ كثير من الموظفين يتحينون الفرص لإسقاطي بعضهم لكراهتهم لي، وهم قليلون، والبعض الآخر مجاملة للإنجليز جريا وراء تلك الإشاعة الكاذبة، وفي ذلك الوقت تولى المغفور له السلطان حسين الحكم، وأخذ يزور المدارس، وكان عظمته عصبي المزاج جريئا يقول ما يريد، فكان المستر دانلوب مستشار المعارف يخشاه.
فلما جاء دور مدرسة معلمات بولاق، وحدد موعد زيارة عظمة السلطان لها، أخذ المستر دانلوب بنفسه يتردد على المدرسة ليتأكد من أن كل ما فيها يرضي عظمة السلطان، وقد زار الفصول جميعها، فلما دخل فصلي، وكنت أدرس «التربية العلمية»، رأى في سواد ملبسي ما يثبت علي تهمة عدم رضائي بالحكم الحاضر، وقد كنت في شبابي المعلمة الوحيدة التي ترتدي ملابس سوداء، وكنت أفعل ذلك محافظة على الحشمة والكمال، فقال لي: يجب أن تغيري ملابسك هذه. قلت: وما السبب الذي يدعوني إلى ذلك ؟ قال: إن حضرة صاحب العظمة السلطان سيتأكد من ملابسك هذه أنك ضد الحكومة الحاضرة، وأنك تشايعين الخديوي السابق. قلت: لم أتصل عمري بسمو الخديوي ولا بحاشيته، وقد كنت ألبس ملابسي السوداء وسموه في الحكم. قال: ولكن عظمة السلطان لا يعلم ذلك. قلت: ولكن جنابك تعلمه، وأظن أن من الواجب أن تطلعه على الحقيقة. قال: ليس هذا من شأني، ولكني أقول لك إنك إذا لم تغيري ملابسك فلا تلومن إلا نفسك، وسينفيك السلطان إلى مالطة، ولا يستطيع أحد أن يعارضه في ذلك. قلت: أأنفى لأني ألبس ملابسي التي اعتدت أن ألبسها طول حياتي؟ قال: نعم سيكون ذلك، وأنت وحدك المسئولة عنه. قلت: لست آسفة يا مستر دانلوب، فإن بلدا تنفي الناس لا لسبب سوى أنهم يلبسون ملابسهم لا يأسف الإنسان على الخروج منها لا إلى مالطة فحسب، بل إلى جهنم إن شاء الله؛ لأني لا أظن أن في جهنم يعاقب الناس على ملابسهم.
قال: إذن أنت تصرين على لبس ملابسك هذه أمام عظمة السلطان؟ قلت: نعم، وأمنعك منعا باتا أن تحدثني في أشياء شخصية لا علاقة لها بالعمل، فأنتم الإنجليز تعرفون مقدار الحرية الشخصية، ولا تسمحون لأحد أن ينتقد شخصيات غيره؛ ولهذا فإن لك أن تنتقد أعمالي، أما ملابسي فلست أسمح لك بالكلام فيها. قال: إذن هذا حد بيننا، ولست مسئولا عما يصيبك، بل أنت المسئولة شخصيا عن تصرفاتك.
قلت: إني شخص كامل يا مستر دانلوب، وكل شخص بالطبع مسئول عن تصرفاته. فتركني وخرج، وقد كادت الدموع تتساقط من عيني لولا مسكة من الجلد كانت تمنعني من أن أظهر ما يشمت الأعداء بي.
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
بقيت طيلة يومي غارقة في أفكار لا حد لها ولا نهاية.
وفي اليوم التالي زار المدرسة المرحوم الشيخ شريف المفتش بوزارة المعارف، ودخل مكتبي فلم يحيني مع أنه كان يعرفني أيام كنت ناظرة لمدرسة المنصورة، وكان يحييني تحية طيبة، ولكنه لما بلغه أن الإنجليز ضدي، أو أني أنا ضد الإنجليز كيفما يريد القارئ، فقد أخذ يتجنى علي، ولم يحيني، ولم يكفه ذلك بل قال لي بصوت ملؤه التأنيب: لم لم تحييني عند دخولي؟ فنظرت إليه مندهشة، وقلت له: إنك أنت القادم، وكان الواجب عليك أن تحييني. قال: ألم يبلغك أني آت لعمل «البروفة» لزيارة عظمة السلطان؟ قلت: بلغني ذلك. قال: فلم لم تحييني تحية السلطان؟ قلت: لا أعلم أنك السلطان.
قال: سأخرج، ثم أعود لتحييني تحية السلطان. قلت: لم أعتد تمثيل الروايات المحزنة أو المضحكة أمام طالباتي، فأنت تخرج وتعود ليحييك الطالبات، أما أنا فسأظل ساكنة. قال: وما هي التحية التي ستحيين بها عظمة السلطان؟ قلت: التحية التركية يا سيدي؛ لأن عظمته تركي الأصل، ومن الذوق أن نحييه تحية بلاده. قال: ولكني أريد أن تحييه تحية العرب، فهل تعرفين ما هي؟ قلت: كلا؛ لأن العرب لم يكن لديهم سينما لنعرف تحيتهم. قال: ألم تزوري بلاد الصعيد؟ قلت: لا، لم أتشرف.
قال: هناك يحيون تحية العرب، وهي هكذا؛ «وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر حتى خيل إليه أنه أصيب بطلق ناري في ذلك الجنب فمال عليه»، وقال: هل لك أن تجربي هذه التحية؟ قلت: كلا يا سيدي، سأحييه التحية التركية. قلت ذلك وملت في وقفتي على منصة المعلم في شيء من السخرية، وكان بجانبه الغمراوي بك المفتش في وزارة المعارف أيضا، وكان المرحوم الشيخ شريف يعرف اللغة الفرنسية، أما الغمراوي فيعرف الإنجليزية، وفي تلك اللحظة دخلت ناظرة المدرسة، ونظرت إلي وأنا أقف تلك الوقفة التي تدل على عدم الاهتمام، قالت: أتقفين هكذا أمام السلطان؟ قلت: كلا سأقف هكذا «وملت قليلا عما كنت»، فلم تجبني، وخرجت مسرعة من الغرفة، فلما رأى ذلك الشيخ الغمراوي، وفهم ما دار بيني وبين الناظرة أخذ الشيخ شريف من يده، وقال له: هيا بنا، ما لنا وللسيدة نبوية!
طلب بعد ذلك الشيخ شريف مذكرة الدرس الذي سألقيه أمام عظمة السلطان، فقلت: إني لم أعدها، وسأعدها في يوم إلقاء الدرس كعادتي في باقي دروسي. قال: ولكني أريد الاطلاع عليها . قلت: لست بالطفلة لتعلمني أنت، فإن كان في الكفاية للتدريس أمام عظمة السلطان تشرفت بالقيام به، وإن لم يكن كان عليكم أن تمنعوني من التدريس أمام عظمته، أما أن تعلمني الدرس قبل إلقائه فهي سخرية لا أرضاها للمعلمات. ووقفت ساكتة، وكنت في الفصل ألقي درسا، قال: ألا ترغبين في التدريس أمامي؟ قلت: قد انتهى درس اليوم. قال: هل هناك مانع من أن تلقي الدرس الذي ستلقينه أمام عظمة السلطان؟ قلت: درس السلطان سألقيه أمام عظمته، ودرس اليوم قد انتهى.
ومرة أخرى سحبه الأستاذ الغمراوي بك من يده، وخرج به.
ذهبت إلى غرفتي بعد ذلك، وقد اسودت الدنيا في عيني، وتأكدت أني واقعة في كيدهم لا مفر لي منه، ثم فكرت قليلا، وكنت أعرف المغفور له سعيد باشا ذو الفقار كبير أمناء صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين، فرأيت من الواجب أن أكتب له، وأطلعه على جلية الأمر، فقلت له في خطابي: «إنك قد رأيتني في المنصورة، وتعلم أن ملبسي الرسمي هو السواد، كنت ألبسه في زمن سمو الخديوي السابق، ولا أزال ألبسه إلى الآن في هذا الزمن السعيد الذي يتولى الحكم فيه أكثر الناس وطنية وإخلاصا للبلاد، ولكنهم يتهمونني بالسياسة ظلما، ويريدون ضربي لا بأيديهم، بل بيد أبي الفلاح.» وما كاد عظمة السلطان يقرأ الخطاب حتى أمر باستدعائي إلى السراي، وعندما سلمت عليه، وأخبرته القصة بحذافيرها قال: لا تخشي أحدا منهم، وسأدافع عنك بكل ما أستطيع.
لم أخبر أحدا باتصالي بالسراي، ولا بما تم لي مع عظمة السلطان، بل خرجت مدعية الذهاب إلى منزلي، ثم عدت من الخارج مثلما كنت قبل خروجي لا سرور ولا ابتهاج، فلم يلاحظوا علي أي تغيير، وقد بيتوا نيتهم على تحريض السلطان ضدي ونفيي إلى مالطة، ثم تعيين شيخ وكيلا للمدرسة بدلا مني، وهكذا يريد الله دائما أن أحل محل الشيخ، أو يحل الشيخ محلي كأنني من الفقهاء.
أخطأ سادتنا في اختيار الأستاذ الذي أرادوا أن يحل محلي، اختاروا شيخا لم يخلق في حياته للتعليم ، ولست أنكر أنه كان عالما متضلعا في اللغة العربية، ولكنه لم يكن معلما، بل كان من يصغي إليه وهو يلقي الدرس، يظن أن هناك مشاجرة يجب أن يستدعى لها البوليس، فهو يلقي بصوت جهوري يخترق الحوائط، ولا تصغي إلى ذلك الصوت طالباته بل يلعبن ويمرحن، كأن كلا منهم لا يرى صاحبه، وكان - فضلا عن هذا - غير منظم في ملابسه، يعشش العنكبوت في أجزاء جبته، وهو لا يشعر به، وكان - بحسب وظيفتي - يجب أن أكون آخر معلمة يزورها السلطان، ولكنهم نظروا إلى ما سيكون فوضعوا ذلك الأستاذ بعدي.
وشرف عظمة السلطان المدرسة، وأخذوا يروون له الأقاصيص عن نبوية موسى، وكراهيتها للحكم الحاضر، وكان عظمته يسمع هذا ليلقي به في الهواء دون أن يقول شيئا، وزار جميع الفصول فتألم من شكل التحية التي كانوا يحيونه بها؛ فقد كانت المعلمة أو المعلم يقف على المنصة، وهي ترتفع عن أرض الحجرة بنحو 40 سنتيمترا حتى إذا دخل عظمته الغرفة حياه بضربة قوية من يده اليمنى على جانبه الأيسر يتفزع منها عظمته، خصوصا وهي تأتي من فوق رأس عظمته، وكان - رحمه الله - قصير القامة، فكان حتى المعلم الذي لا يزيد عنه في الطول يزيد عنه بارتفاع المنصة، تضايق السلطان من تلك التحية المؤلمة، وأظهر مضايقته، ولكنه لم يكن في الإمكان تغييرها، ودخل السلطان أخيرا الفرقة التي كنت أدرس بها، ويظهر أنهم قالوا له: إن المدرسة هنا نبوية، ولكنه أخطأ السمع فظنها «نبيهة» فدخل الفرقة يقول: «سعيدة يا ست نبيهة.» ولكنه ما كاد يقع نظره علي وأنا أحييه التحية التركية لا من فوق المنصة كما فعلوا، بل من أسفلها، ما كاد يقع بصره علي حتى قال: «أهلا ست نبوية.» ووضع يده اليسرى تحت يدي ليمنعها من الوصول إلى الأرض، ثم حياني باليد اليمنى يدا بيد، ولم يفعل ذلك مع غيري؛ لأنه غير ممكن.
ودهش جناب المستشار كما دهشت حضرة الناظرة؛ لأن السلام كان يدل على أن كلا منا يعرف الآخر، وألقيت الدرس أمام عظمته، فسر منه كثيرا ، وفي نهايته نظر إلى المستر دانلوب، وقال: ما الذي يمنع تلك السيدة من أن تكون ناظرة لتلك المدرسة؟
وبهت المستر دانلوب، ولم يحر جوابا، واحمر وجه الناظرة، ولكنها لم تقل شيئا، وخرجوا من غرفتي إلى غرفة الأستاذ المختار لوكالة المدرسة، وكان طويل القامة جدا، وقد وقف على المنصة، فكاد يصل إلى سقف الغرفة، وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر صارخا: قيام! فقفز السلطان مترا من هول تلك المفاجأة، وكادت يد المدرس تصل إلى طربوش السلطان، فلم يقف السلطان في الغرفة، ولم يسمع كلمة من الدرس غير تلك الكلمة المشئومة «قيام»، ثم ذهب إلى غرفة الناظرة، وأقسم لا يبرح المدرسة حتى ينقل منها ذلك المعلم الفظ؛ لأنه أزعجه هو، وهو رجل، فما بال الطالبات، وهن من الجنس الرقيق، وهكذا كتب خطاب نقله أمام عظمة السلطان، ولم يعد الأستاذ للمدرسة مرة أخرى.
قد يظن القارئ أني حرضت عظمة السلطان عليه حتى تم له ما تم، ولكني أشهد الله أني لم أذكره لعظمة السلطان؛ لأني كنت أريد أن يحميني عظمته من ضرباتهم لا أن يضرب غيري.
وبعد مبارحة عظمته المدرسة جاءتني الناظرة، فقالت في شيء من الدعابة: ما الذي أعجبه من درسك، لقد كنت سوادا في سواد؟
قلت: لعلك عرفت من هذا أني أستطيع أن أرضي أبناء بلدي. قالت: إنه قد أخطأ في تقديرك. قلت: من منا التي تنفى إلى مالطة؟ التي كانت تلبس ملابسها، أم التي تقول على السلطان مثل هذا القول؟ قالت: على رسلك! فهو لا يستطيع أن ينفيني.
وقد أهداني عظمته ساعة يد من الماس بسوار ذهبي، كما أهدى بعض المعلمات أشياء أخرى أقل من الساعة قيمة.
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
وضعت زيارة المغفور له السلطان حسين لمدرسة معلمات بولاق حدا لاضطهادي، فلم أعد بعدها مضطهدة، بل تركت وشأني، ولكني لم أكن أعمل بالمعنى الصحيح؛ لأني لم أكن معلمة، ولا ناظرة، بل كنت شيئا بين الوظيفتين، وهذا الشيء لا عمل له في الغالب، وهو ما يسمى بوكيلة المدرسة، تضايقت من هذه الحالة، وأردت أن أبحث عن عمل آخر مهما كان أستعيد فيه نشاطي وجدي، حتى إني رجوتهم أن أكون ناظرة لمدرسة أولية، وهي وظيفة لا تتناسب والمرتب الذي كنت أتقاضاه، ولكن كنت أراها أفضل من العطل؛ لأني أستطيع فيها أن أعمل، وأن أصلح المدرسة دون أن يعارضني أحد في ذلك الإصلاح، وكانت في نظري على حد المثل الإنجليزي «كن رأس كلب، ولا تكن ذنب أسد»، ولكنهم أبوا علي حتى تلك الوظيفة المتواضعة، وأخيرا عولت على ترك العمل في الوزارة، فكتبت إلى مستشار المعارف المرحوم المستر دانلوب خطابا باللغة الإنجليزية أقول فيه ما نصه:
أريد يا جناب المستشار أن أصارحك بما يجول في نفسي، ولكني أخشى إن فعلت ذلك أن تظن أني متهوسة لا أقدر ما لك من السلطة والسلطان، وأنا لذلك أقول لك إني أعرف جيدا أنك مستشار وزارة المعارف؛ أي وزيرها الفعلي، وأن في استطاعتك أن تفصلني من عملي بلا ذنب، ولا يستطيع أحد أن يناقشك في ذلك، بل أنت أقوى من ذلك، فإنك تستطيع أن تمنعني من التوظف في جميع مجالس المديريات، بل أنت تستطيع بمساعدة أنصارك الكثيرين أن تمنعني من أي عمل حر مهما كان، وأنت فوق هذا وذاك الرجل الإنجليزي النافذ الكلمة، وفي البلد أحكام عرفية، فأنت تستطيع التخلص من حياتي بكلمة تخرج من فيك.
إذن أنا أعرف مقدارك تماما، ولكني أريد أن أسدي إليك معروفا بأن أطلعك على ما يقال في غيبتك، والرجل القوي العظيم لا يعرف ما يقال عنه، وقد يفيده ذلك لو عرفه، فأنا أقول لك مع شدة احترامي لشخصك إني إذا دخلت غرفة نومي، وأغلقت نوافذها وأبوابها، ووثقت أن أحدا لا يسمعني من خلق الله قلت فيك ما يأتي:
إن هذا المستشار أشر من الألمان؛ لأن أولئك الألمان يغتصبون حق محارب، أما هو فيغتصب حق مسالم، وقد اغتصب حقي بعد أن وثقت به، وسلمته إليه.
دخلت هذه المدرسة فوجدت أن كل من بها لا نصيب لهم من الأخلاق الحقيقية، فهم لا يعملون حبا في العمل، بل يعملون رغبة في الوصول إلى المرتب الذي هو في نظرهم كل شيء، فعجبت كيف اجتمعت تلك الفئة، واتفقت على احتقار الأخلاق، ونبذها ظهريا، أما أنا فقد كنت أعمل لحب العمل، ولكني ما كدت أعمل في هذه المدرسة ستة شهور حتى أصبحت كزملائي لا أعمل إلا لتناول الأجر، فأين ذهبت أخلاقي إذن؟ ومن هو يا ترى سارقها؟ إنه هو ذلك المستشار الذي سلب غيري من الناس أخلاقهم، ثم سلب بعد ذلك أخلاقي أنا شخصيا، إنه شر من اللص؛ لأن اللص يسرق أموالا تذهب وتأتي، أما هو فيسرق أخلاقا، وهي إذا ذهبت لن تعود، وإني لهذا أقول لك بصراحة تامة: إني أريد أن أسترد أخلاقي، فاعتبر هذا الخطاب استقالة مني من أول الشهر الآتي.
وتفضل بقبول شكري واحترامي.
استلم جنابه الخطاب، وكان يعلم أن عظمة المغفور له السلطان حسين لا يرضى بخروجي من العمل مهما كانت الظروف، فلم يستطع أن يقبل استقالتي، بل فكر في إزالة ما أشكو منه، وهو منعي من السلطة في العمل، فعينني ناظرة لمدرسة معلمات الورديان، ويظهر أنه أراد أن يحفظ لنفسه خط الرجعة فكتب خطاب تعييني بالصيغة الآتية تقريبا:
حضرة المحترمة الفاضلة السيدة نبوية موسى، وكيلة مدرسة معلمات بولاق
بما أنك برهنت في مدة قيامك بعمل وكيلة لمدرسة معلمات بولاق أنك لا تصلحين لهذا العمل، وقد طلبت مرارا تعيينك ناظرة لمدرسة، ولو أولية، وقد رأت الوزارة تجربتك في وظيفة رئيسية، فعينتك ناظرة لمدرسة معلمات الورديان.
وإني أترك للقارئ التعقيب على هذا الخطاب العجيب الذي يقول إن التي لا تصلح وكيلة لمدرسة معلمات أولية تعين ناظرة لمدرسة مثلها، وهو بالطبع لا يستطيع أحد أن يفهمه.
حصل هذا في الوزارة، ولم أكن أعرفه، وفي آخر يوم من الشهر، وأنا أستعد لمبارحة المدرسة تنفيذا لاستقالتي حضر إلى مكتب الناظرة المرحوم مغربي باشا، واستدعاني، ثم أخذ يؤنبني كيف أرسل إلى الوزارة خطابا دون أن أطلع عليه الناظرة، وقانون المدارس يقضي أن لا يرسل أحد من موظفيها خطابا إلى الوزارة إلا بواسطة ناظرة المدرسة، وانضمت إليه الناظرة في ذلك التأنيب، فقلت: إني لم أرسل للمستر دانلوب شكوى من المدرسة، أو من تصرفات ناظرتها حتى يجب علي أن أطلعها عليه، بل أنا أشكو منه هو شخصيا؛ لأنه هو الذي نقلني من المنصورة إلى هنا دون أن يستشير حضرة الناظرة في ذلك فهو خطاب شخصي له. قال المغفور له مغربي باشا: ومن أنت حتى تكتبي إلى جناب المستشار خطابا شخصيا؟ قلت: أنا حرة في تصرفاتي أستطيع أن أكاتب حتى الملوك إذا شئت، ولهم هم أن يردوا علي، أو أن يهملوا ذلك، فإذا رأى جنابه أني لست ممن يصغي جنابه إلى أقواله كان له أن يلقي بذلك الخطاب في سلة المهملات، ولا يعيره أي التفات، ولكن يظهر لي أنه قرأه كما يظهر لي من كلام سعادتكم، وأنكم حضرتم لتسلموني خطاب قبول الاستقالة، فضحك المرحوم ضحكته الحلوة، وقال: لقد جئت لأسلمك خطاب تعيينك ناظرة لمدرسة معلمات الورديان، وعليك أن تذهبي غدا إلى مقر وظيفتك الجديدة، وأن ترسلي إلى جناب المستشار خطابا تعتذرين له فيه عن خطابك هذا. قلت: نعم سأرسل إليه ذلك، ولو استطعت لكتبته قصيدة مدح مطولة، فأرجوك أن تحمل إليه تحيتي، واعتذاري. ثم كتبت إلى جناب المستشار خطابا آخر أقول له فيه: لقد أسأت التعبير في خطابي السابق، ولكني مع تلك الإساءة قد فعلت خيرا، فقد أظهرت بذلك الخطاب صفاتك النادرة التي قل أن توجد في رئيس غيرك، فأنت مع قوتك وسلطانك لم ترد أن تعاقبني على سوء تعبيري، بل رددت إلي حقي كاملا، وأظهرت بالعمل لا بالقول أني أسأت الظن بك ظلما، وأنك بريء مما نسبته إليك، ولولا خطابي هذا لما ظهرت فيك تلك المواهب السامية، ولا ظهر للناس خطئي فيما ذهبت إليه من اتهامك ظلما، أو جهلا بصفاتك النادرة، فاقبل اعتذاري، وشكري، والسلام عليك.
تسلمت عملي في مدرسة معلمات الورديان، ومع أن مرتبي لم يزد، ولم تتغير درجتي في شيء ما، فقد سررت بتلك الوظيفة سرورا عظيما، ولم أعبأ بصيغة خطاب التعيين ، بل تركته على مكتبي، وزارني المرحوم الكيلاني بك، وكان مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، فلما وقع بصره على الخطاب قال: يجب أن تخفي هذا عن أعين الناس. قلت: وما فيه حتى أخفيه؟ وما الذي يضيرني منه من ظهوره؟ إن وزارة تعين ناظرة في مدرسة معلمات لأنها لم تصلح وكيلة لمدرسة معلمات أخرى، فهي التي يجب أن تخجل من مثل هذا الهذيان الذي شاءت أن تتحف الناس به. فضحك وقال: صدقت.
زارني بعد ذلك مباشرة جناب المرحوم المستر دانلوب، ومعه المرحوم كيلاني بك، وعلمت من تلك الزيارة السريعة أنه يريد أن ينتقم لنفسه فيشتمني كما شتمته، وقد صممت أن أترك له هذا الحق دون أن أعارضه فيه، وما دمت قد شتمت ذلك الرجل العظيم، فمن العدل أن يشتمني هو دون أن أعارضه في ذلك، وهكذا سرت معه على تلك النية، وكانت المدرسة تسكن منزلا قديما من منازل الوقف، وكان المنزل عجيبا في ترتيب غرفه، فلم يكن به صالات، ولكن كان به غرف صغيرة يتداخل بعضها في بعض، فلم تكن تصل إلى غرفة حتى تمر داخل أبواب كثيرة متعددة، وكانت تلك الأبواب قديمة بالية، وليس فيها شناكل تثبتها إلى الحائط المجاور، فوقف جنابه أمام أول باب، وقال لي: إن التعليم في مدرستك لا فائدة منه، ولا خير فيه ما دمت تهملين مثل تلك التفاصيل. قلت: ولكني لم أستأجر المنزل، ولا يسمح لي بالذهاب إلى وزارة الأوقاف لأطلب منهم ذلك الإصلاح، بل إن حضرة المفتش الحاضر هو المسئول عن ذلك. قال: كلا أنت المسئولة عن كل شيء هنا، وأنت المخطئة المهملة. فسكت لأني قد صممت أن أنفذ ما أراده هو من منهج الشتائم، ولكن بعد أن ولجنا أربعة أبواب، وهو يخطب عند كل باب منها، لم أجد بدا من أن أبتسم لتلك الخطب، وكان كلما وقفنا بباب، وابتدأ يؤنب، يسرع المرحوم كيلاني بك إلى تزرير جاكتته استعدادا لسماع الخطابة، فلما قربنا من الباب السادس نظرت إلى المرحوم كيلاني بك، وقلت : استعد لتزرير الجاكتة؛ فإن الباب الآتي لا شناكل فيه. ودخلنا بعد ذلك فصلا من فصول الدراسة، وقد تضايق جناب المستشار من ابتسامي، فأراد أن يوبخني بطريقة غير مباشرة، فنظر فرأى طالبة تبتسم فقال: يجب أن تؤنبي هذه الطالبة على ضحكها بدون سبب؛ لأن هذا سوء أدب منها. وفهمت ما أراده فأخذت أوبخ الطالبة على ضحكها بلا سبب، وأنا نفسي أضحك بلا سبب، وكان منظري أمام جناب المستشار مثيرا للاستغراق في الضحك، فاضطر المرحوم كيلاني بك أن يضحك عند خروجنا من الغرفة، فنظر إليه المستشار بحدة، وقال له: «هل في وجهي أرجوز يضحكك؟!» فزرر المرحوم جاكتته مرة أخرى، وبعد أن سار المستشار، وسرنا في إثره قال لي همسا: «وانت ما انت عماله تضحكي من الصبح؟!» قلت: «الناس مقامات يا أفندم.»
دخلنا بعد ذلك فصلا آخر كان المعلم يلقي فيه درس إملاء، فنظر جنابه إلى كراسات الطالبات فوجدهن قد بيضن الموضوع السابق، فنظر إلي شذرا، وقال: لا أريد أن تبيض الطالبات موضوعات الإملاء فهل سمعت؟ قلت: ولكني أريد ذلك؛ لأن هذه الموضوعات الإملائية قطع أدبية مختارة أريد أن تقرأها التلميذات مرارا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتبييضها؛ فهن يستفدن من ذلك فائدة مزدوجة، فيتعلمن منه أدب اللغة، ويعتدن حسن التنسيق في الكتابة؛ لأني أحتم عليهن العناية بتحسين الخط في التبييض. قال: ولكني لا أوافق على ذلك، وأنا مستشار المعارف. قلت: نعم إنك مستشار المعارف، ولكن تلك الصفة لا تؤهلك للتدخل في هذا فأنت أرقى منه، وعملك ينحصر في أمرين؛ أن ترضى عن عملي فتبقيني فيه، أو تسخط فتمنعني منه، أما أن تقوم أنت بأعمال الناظرة، فليس هذا من الحزم في شيء، فنظر إلي في دهشة، ثم تحول عني إلى الجانب الآخر من الغرفة، وتبعه المرحوم كيلاني بك، وقال له: يجب أن تقنعها بعدم تبييض الإملاء. ولم أشأ أن أرد عليه في ذلك، وقد تفقد جميع غرف المدرسة، فسر من نظافتها ونظامها، وشد على يدي عند خروجه قائلا: أهنئك. وهكذا كان الرجل عادلا لا يغريه سلطانه. وفي اليوم الثاني جاءني المرحوم كيلاني بك، وقال لي: جئت لأقنعك بعدم تبييض الإملاء. قلت: إن الأمر الذي لم يستطعه المستشار لا يستطيعه أحد في الوزارة، فلا تتعب نفسك فيما لا يجدي.
سوء حظ
نقلت من مجلس مديرية الدقهلية في المنصورة إلى وزارة المعارف بعد أن وقع بيني وبين المدير حوادث مر بنا ذكرها، وقد زارني حضرة صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين بمدرسة معلمات بولاق وأنا وكيلة لها فأيدني تأييدا عظيما كما مر بنا ذكره، وكان شديد الثقة بي وبنجاحي، ثم زار بعد ذلك عواصم المديريات، ومن بينها المنصورة، وكانت حوادثي مع مديرها لا تزال ماثلة أمام أنظار أعيان الدقهلية، ودعا سعادة المدير الأعيان لتناول العشاء مع عظمته، وقد جلس هو على يمين عظمته على مائدة العشاء، وأخذ عظمته يروي قصتي، ويقول إن المعارف أرادت غبني، وإن عظمته تشبث بترقيتي، وعينني ناظرة لمدرسة معلمات الورديان، وإني في نظره أكفأ ناظرة، وإن أعمالي تسير على غاية ما يرام، وكان عظمته يقول ذلك، وهو يتحدث إلى المدير، فيضطر سعادة المدير أن يوافق على كلامه، وأن يقول له نعم يا أفندم هي كذلك، وأخذ الأعيان ينظر أحدهم إلى الآخر مندهشا لما يسمع حتى كان أحدهم يهمس في أذن جاره على المائدة قائلا: لقد وقفت اللقمة في زور المدير من الخجل والارتباك. فقال: لقد درست أمامي درسا عندما كانت وكيلة لبولاق فكان أحسن درس سمعته، وهي في نظري تقدر بعشرة رجال، وهي قديرة على أعمالها متوقدة الذكاء سريعة الخاطر، هذا فضلا عن كمالها واستقامتها، فهي من رجال مصر القلائل.
كل ذلك والمدير المسكين مضطر أن يرد عليه من وقت لآخر بقوله: نعم يا أفندم. وكثر تهامس الأعيان فيما بينهم في ارتباك المدير وقلقه، وانتهى الحديث على تلك المائدة على أسوأ ما يكون، وقال ظريف منهم: ما كاد المسكين يرتاح من تلك السيدة حتى أقلقه ذكرها، فكأنما خلقت لإزعاجه. وكان بعضهم يكره المدير فأخذ يتغنى بذلك الحديث، ويكرر ما قاله عظمة السلطان مظهرا بذلك خطأ المدير وغطرسته، وكان لذلك الحديث صدى في نوادي المنصورة، فقد ذكر الناس بتلك الليلة المشهورة التي ألقت فيها التلميذة قصيدتي أمام سمو الخديوي السابق، وهي القصيدة التي شتم فيها المدير بأسلوب ملتو غريب لم يستطع معه إثبات الشتائم التي وجهت إليه، والتي دلت عليها إشارات التلميذة، وهكذا كانت تلك الليلة من ليالي المدير السود.
أما أنا فقد بليت في وزارة المعارف بأظلم من ذلك المدير، وشاء سوء حظي أنا الأخرى أن يزورني في مدرستي مفتش إنجليزي كان مشهورا بغطرسته وحبه لإساءة الموظفين، وكنت عند زيارته أتفقد طالبات مدرسة المعلمات في صفوف الصباح استعدادا لدخول الدروس، وكانت مدرسة المعلمات تقف في جانب من الفناء، وتقف تلميذات الملحق، أو المدرسة الأولية التابعة لها الجانب الآخر، فوقف المفتش بين المدرستين في وسط الفناء، ولم أكن رأيته في حياتي، فلما انتهيت من تفقد طالبات مدرسة المعلمات، واتجهت إلى جهة الملحق اعترضني هو في وسط الطريق فقال لي بشدة دون أن يحييني: إنك متأخرة. فنظرت له بدهشة وقلت: ومن أنت أولا؟ قال: أنا فلان المفتش بوزارة المعارف. قلت: إني أسير حسب ساعتي وساعة المدرسة. قال: إن ساعتك متأخرة. قلت: لا بأس، قلت ذلك بعد أن وليته ظهري، وسرت نحو صفوف الملحق فاشتد غيظه، وعز عليه أن لا أقف لسماع تأنيبه، فقال لي بإشارة احتقار من سبابته: إني أكلمك. قلت: أعلم ذلك كما أعلم أن أمامي تلميذات قد تأخرن عن ميعاد درسهن حسب رأيك، ولا بد أن أصرفهن قبل أن أتفرغ لمحادثتك. قلت ذلك، وأنا لا أزال في طريقي، وتفقدت تلميذات الملحق حسب عادتي، ثم انصرفن إلى فرقهن، وبقي هو واجما وسط الفناء.
وقد مررت به في طريقي إلى مكتبي، فلم ألتفت إليه، فاضطر أن يتبعني، وهو يقول: أنا هنا يا سيدة نبوية. قلت: أعلم ذلك. قال: إني أريد أن أزور المدرسة. قلت: إن المدرسة أمام جنابك تفعل بها ما تريد. قال: أود أن تصحبيني. قلت: حسنا. وسرت إلى جانبه فنظر إلي متعجبا، وقال: أليس من العجيب أن تكون ساعتك متأخرة عن ساعتي؟! قلت: وما وجه العجب في ذلك وأنا لم أرك في حياتي، ولم أضبط ساعتي على ساعتك؟ قال: وما الذي ستفعلينه اليوم بعد أن علمت أن ساعتك متأخرة؟ قلت: لا شيء، أفرض أني لم أرك، وأسير حسب ساعتي إلى أن تنتهي دروس الصباح، ثم أضبطها بعد ذلك لأني لو ضبطتها الآن لقل وقت الحصة الأولى خمس دقائق، وهذا ما لا أريده، أما إذا سرت كما أنا فقد دخلت التلميذات الدرس بعد تأخر خمس دقائق، ثم ينتهين منه بعد تأخر خمس دقائق أيضا، ولا ضرر في ذلك.
غاظه كلامي، وأراد أن ينتقم مني، فأراد أن يتفقد نظافة المدرسة قبل أن يتفقد الدروس لاعتقاده أن المصريين لا يعنون بالنظافة، ودخلنا مطبخ المدرسة فأدهشته نظافته، ووقف حائرا لا يدري ماذا يفعل، ثم تفقد كل شيء فيه بدقة، وأخيرا أخذ يشم حوائطه بأنفه، وكان الرجل طويل الأنف، وقد ضايقني ذلك منه فقلت له: أتريد يا مستر فلان أن تكنس حوائط مطبخي بأنفك، وهل إذا فعلت ذلك في كل غرفة تدخلها أجد من وقتي متسعا للسير معك؟ إن لدي أعمالا أريد إنجازها، فإلى اللقاء! قلت ذلك وتركته فتبعني مسرعا، وهو يقول: تمهلي إني أريد أن أزور المدرسة بحضورك. فسرت معه، وأخذ في أثناء سيره يقول لي بمناسبة أو بغير مناسبة: نحن الإنجليز - وكان يلبس طربوشا مصريا - فقلت له: وما بالك بنا نحن المصريين ألسنا خلقا مثلكم؟ إنك تلبس طربوشا مصريا دلالة على أنك موظف مصري، أو على الأقل لتحمل الناظر إليك على الاعتقاد بأنك موظف مصري، فما بالك تذكرني من وقت لآخر بأنك إنجليزي الأصل؟ اخلع إذن هذا الطربوش والبس قبعتك الحقيقية، ودع ذلك الرياء في الملبس.
انتهت الزيارة بمثل ما ابتدأت به من سوء تفاهم يتفاقم كلما خطونا خطوة، وكتبت لجناب المستشار خطابا أشكو إليه فيه من تصرف المفتش، وقلت له: إن المفتش في تفتيشه يجب أن يكون قدوة حسنة يحتذي بها النظار، وإذا كان مفتشك الإنجليزي على حدة بصره لا يستطيع أن يرى القذارة على حوائط مطبخي إلا على بعد أنفه من تلك الحوائط، فكيف أستطيع أنا أن أرى تلك القذارة مع قصر نظري؟ هل ينتظر مني أن أجدع أنفي لأضع حبة عيني على الحائط، وأرى القذارة التي رآها مفتشك على بعد أنفه، الحق يقال: إنه متعنت، وإني أفضل أن أضرب بالسياط على أن أرى وجهه مرة أخرى.
ويظهر أن جناب المستشار استدعى المفتش فدافع عن نفسه دفاعا لا يتفق مع الحقيقة، بل كان ملؤه الكذب والخداع، وكانت زيارة المفتش في يوم سبت، وأراد المرحوم أن يتحقق من صحة قول المفتش، فزار المدرسة مفاجأة يوم الخميس، ومعه مسز ألجود، وكانت سيدة إنجليزية طيبة القلب شريفة المبدأ، ففتشت المدرسة تفتيشا دقيقا حتى إنها تفقدت ملابس الطالبات الداخلية، وسرت سرورا عظيما من نظافة المدرسة ونظامها، وأخبرت جناب المستشار بما رأت، فهنأني عند خروجه من المدرسة باجتهادي، ونظافة مدرستي، ثم طلب من المفتش السابق أن لا يزور المدرسة مرة أخرى، وهكذا كان المستشار عادلا بالرغم من كثرة الدسائس التي كانت تحاك لي عنده.
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
دافعت عن كرامتي أمام ذلك المفتش الإنجليزي، ومن يدافع عن كرامته يعاده الكبراء والرؤساء؛ ولهذا انضم ذلك المفتش إلى قائمة أعدائي، وكان أشدهم خطرا علي خصوصا بعد أن خذله جناب المستشار، وأمره بعدم زيارة مدرستي.
وفي صيف هذا العام طلبت من الوزارة أن تصرح لي بفتح فصل جديد في المدرسة الملحقة بمدرسة المعلمات.
وكان النظام في المدارس الأولية أن يديرها مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، فنظار المدارس وناظراتها يعرضون عليه ما يريدون عمله، وهو الذي يخاطب الوزارة في شأنهم، أما المدرسة الملحقة بمدرسة المعلمات فقد كانت تتبع إدارة مدرسة المعلمات، ولناظراتها الحق في الاتصال بالوزارة فيما تريده من الأعمال سواء أكان يتعلق بمدرسة المعلمات أم بالمدرسة الأولية الملحقة لها، واطلع المفتش الإنجليزي على خطابي الذي أرسلته إلى الوزارة في طلب فتح فصل، ووجد في ذلك فرصة سانحة لإذلالي ومساواتي بنظار المدارس الأولية، فأرسل خطابي إلى مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، ولما كان عزته في إجازة استلمه أحد المفتشين الذين تحت سلطته، وقد طلب المفتش الإنجليزي أن يزور المدرسة، وأن يعطي رأيه الخاص في فتح الفصل أو عدم فتحه دون أن يعبأ برأي الناظرة.
جاءني ذلك المفتش، وكان شيخا، وهو في درجة أقل من درجة معلمي مدرستي، جاءني في زهو وكبرياء، وألقى إلي بخطاب المفتش الإنجليزي، وطلب مني أن أطوف المدرسة معه ليستطيع أن يعطي رأيه في فتح الفصل.
أدهشتني تلك المفاجأة التي لم أكن أنتظرها، ثم نظرت إلى الرجل في شيء من الهدوء، وقلت له: إنك لا تعرفني كما أني لا أعرفك، وليس بيننا ما يوجب أن يؤلم أحدنا الآخر، وأنا أعتبر أن في خطاب الوزارة هذا إهانة لي، ولكنها إهانة لم تصدر منك، وليس لك فيها ذنب؛ ولهذا لا أريد أن أسيء إليك، فأرجو أن تشرب قهوتك كضيف مكرم، ثم ترسل إلى الوزارة فتقول لهم إن ناظرة مدرسة المعلمات رفضت مقابلتي، وطردتني من المدرسة. قال: أوتريدين أن أكذب؟ قلت: ليس في ذلك كذب يا سيدي، فأنا لا أسمح لك بالتدخل في شأني أو الإشراف علي؛ لأنك في داخل مدرستي، وإشرافك علي إهانة، ولكنك بريء من تلك الإهانة في نظري؛ ولهذا لا أريد أن أسيء إليك، أو أطردك من عندي، ولكني أطلب منك أن تخبرهم أنني فعلت ذلك، وغرضي من هذا أن أهينهم على سوء تصرفهم.
قال: لا أستطيع أن أدعي ما لم يحصل. قلت: حسن! ثم استدعيت الخادم، وقلت له: أخرج هذا الشيخ من هنا. وكان الخادم قد سبق له التوظف في المدارس الأولية، ويعلم ما لهذا الشيخ من سلطة على ناظراتها، والخادم لا يعرف الفرق بين ناظرة المعلمات وناظرة المدرسة الأولية؛ ولهذا وقف مندهشا ينظر إلي في حيرة، فقلت بغضب: قلت لك أخرج ذلك الشيخ وإلا فصلت من هنا. وعند ذلك قام الشيخ وقال: كفى سأذهب، ولكني أخشى أن يضر ذلك بمستقبلك. قلت: لا تخف شيئا، فأنا إذا خرجت من هذه المدرسة سأجد عملا في غيرها؛ لأني أستطيع أن أفتح مشغلا للخياطة أو ما شاكل ذلك، ويجب أن تنظر أنت إلى مستقبلك، فأنت إذا تركت الوزارة لا أظنك تجد عملا في غير مقاري المدافن.
قال: وما أقول لهم إذن؟ قلت: سبحان الله العظيم! يا رجل قل لهم الناظرة طردتني، ولم تقبل مني شيئا. فخرج وكتب إلى الوزارة خطابا عجيبا كان إلى الغزل أقرب منه إلى الشكوى؛ إذ قال في خطابه ذلك: ذهبت إلى ناظرة مدرسة المعلمات، وما زلت ألين لها فتشتد، وأدنو فتبعد، وأستميلها فتنفر، وأحنو فتقسو. وهكذا من تلك المقابلات اللغوية الظريفة، وأخيرا قال في آخر خطابه: ثم قلت لها ماذا أقول للوزارة؟ قالت: «يا رجل قل لهم الناظرة طردتني.»
كان هذا الخطاب حديث كتبة الوزارة مدة شهر يجعلون منه سمرا حلوا للتفكهة، وكان جناب المستشار مسافرا في إنجلترا لتمضية إجازته الصيفية، فلم يستطيعوا أن يعملوا لي شيئا.
فلما عاد من إجازته عرض عليه الخطاب، وعرف منه أنه انتقام من ذلك المفتش فاستدعاه، وقال: لو ذهب هذا المفتش إلى مس مورسن ناظرة مدرسة معلمات بولاق فماذا كانت تصنع معه؟ قال: لا شك أنها كانت تطرده. قال المستشار: إذن نبوية على حق في طرده. وكتب على الخطاب بالحفظ.
وعرض بعد ذلك على الوزير، وكان - المغفور له - عدلي باشا يكن، فقال مبتسما عندما قرأ خطاب المفتش: «الله يخيبه يعني ملقاش يتغزل إلا في نبوية موسى!» ثم أشر عليه بالحبر بالحفظ.
مضى بعد ذلك عام، وأقيمت لجنة امتحان كفاءة المعلمات في مدرستي، وتلك اللجنة لا شأن لناظرة المدرسة بها لأنها لجنة تقيمها وزارة المعارف لامتحان المعلمات النهائي، ولا يجوز لناظرات مدارس المعلمات أن يتدخلن فيها أو يدنون منها؛ ولهذا لم يكن يهمني من شأنها شيء، وكان رئيس اللجنة إذا زارني في مكتبي اعتبرته ضيفا يجب إكرامه، وقد عين رئيسا لها حضرة صاحب العزة أحمد بك العوامري، وعزته مهذب أديب حلو الحديث، فكان يشرفني من آن لآخر في مكتبي فأرحب به كأكرم ضيف دخل ذلك المكتب.
وأسرة العوامري بك من الإسكندرية، وفجأة نكبت الأسرة الكريمة، وتوفي والد العوامري بك، واضطر الرجل أن يرسل إلى الوزارة تلغرافا يطلب منها تعيين غيره رئيسا لتلك اللجنة ليقوم بالعمل مقامه، ولم يكن لدى اللجنة إلا عمل يوم واحد، فاضطرت الوزارة أن تعين ذلك الشيخ رئيسا لتلك اللجنة بدلا من العوامري بك، وبلغني هذا التعيين، فلم أعبأ به ولم أهتم له؛ لأن شأن تلك اللجنة لا يعنيني، وكنت في مكتبي، وإذا بذلك الشيخ يدخل علي في شيء من التردد والاستحياء، فقمت له ورحبت به؛ لأني أعتبره ضيفا، ودهش هو لذلك التغيير في مقابلتي، وجلس صامتا، ثم قال بصوت خافت كأنه يحدث نفسه: «والله عدية يسين سرها باتع.» قلت: وكيف ظهر لك هذا السر؟ قال: في مقابلتك لي؛ لأني لما عينت في تلك اللجنة خشيت أن تقابليني بمقابلتك السابقة، فبت طول الليل أقرأ عدية يسين رجاء أن يهديك الله لي. فضحكت وقلت: لا شأن للعدية فيما ترى من تغيري، فالفرق بعيد بين الموقفين؛ لأنك في موقفك الأول كنت تنفذ إهانة أرادت الوزارة أن توجهها إلي، أما اليوم فأنت رئيس لجنة لا علاقة لي بها، فإذا دخلت مكتبي، فأنت ضيف يجب علي إكرامك والترحيب بمقدمك، وهكذا فعلت، أما عدية يسين فلا شأن لها على ما أعلم في تصرفي هذا. فسر الرجل، وبقي طيلة يومه يتردد على مكتبي في تناول القهوة.
ضابطة فرنسية
منع ذلك المفتش الإنجليزي السالف الذكر من دخول مدرستي كما مر بنا؛ فكان يتردد علي كضيف ويقول لي إنه يحب مدرستي حبا جما، وإنه يود من صميم فؤاده أن يزورها، وكان يرجو بذلك أن أظهر ميلي إلى زيارته لمدرستي، أما أنا فكنت أجيبه على عكس ما يريد فأقول له: وما الذي يعجبك في مدرستي، وليس فيها على رأيي شيء يغري، فبناؤها قديم، وناظرتها كما تعلم أنت لا تسر الأذن ولا العين. فكان يقول لي إنه يرى مدرستي على عكس ما أصفها أنا. وزارني يوما مع حضرة صاحب العزة المرحوم كيلاني بك مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية في ذلك الوقت، وبقيا يتحدثان في مكتبي مدة، فقال المفتش الإنجليزي أثناء حديثه مع المرحوم كيلاني بك: لقد غاظني ذلك الناظر، وكدت أضربه عندما عاينت العنكبوت يعشش في بعض غرف مدرسته، وأنت تعلم يا كيلاني بك أني أنا المفتش الإخصائي للعنكبوت. فضحكت أنا، وقلت: لماذا تضربه ما دمت أنت المفتش الإخصائي للعنكبوت، والرجل حريص على وجوده عنده ليجد لك عملا، فإن العنكبوت إذا زال من جميع المدارس وأنت الإخصائي في التفتيش عليه أصبح لا معنى لوجودك في الوزارة، فأنت إذن مدين لأمثال هؤلاء النظار الذين يحتفظون لك بعملك المحبوب، وهو التفتيش على العنكبوت، وكان عليك متى عرفت ما أقوله أن تشكر الرجل لا أن تضربه. فضحك المفتش الإنجليزي، وقال: سامحك الله؛ لأنك دائما مازحة طروبة.
وما زال يتودد إلي بمثل تلك الزيارات حتى لا أشكو إلى المستشار مرة أخرى، وحتى يتمكن من زيارة مدرستي، وفي النهاية تم له ما أراد، وسمح له المستشار بزيارة مدرستي، وفي أول زيارة زارها للمدرسة بعد ذلك الغياب أخذ يطريني، ويلهج بمدحي، ويمدح كل ما يراه، وبعد أن زار المدرسة وأعجب بها دخلنا درسا في التربية العملية.
وكان درس انتقاد عام، وألقت الطالبة درسها، وقد جلس المعلمون، وأنا في وسطهم، وهو على يساري، فوضع ساقا على ساق، وكنت في ذلك الدرس دائما أجلس جلسة أدبية حتى أكون مثالا حسنا لطالباتي، ولكن ذلك المفتش جلس إلى جانبي، وقد وضع ساقا على ساق، فحاكيته في جلستي على كره مني لذلك، وأردت بذلك أن ألفته إلى ما يجب عليه في آداب الجلوس.
وفجأة اعتدل في جلسته، ورفع ساقه من على الآخر، وجلس في أدب واحتشام، وعدت أنا إلى جلستي المعتادة، فلما انتهى الدرس سألت التلميذات كعادتي واحدة بعد أخرى عن رأيهم في الدرس، ثم انتقلت إلى سؤال المعلمين، وكان المعلمون قد اعتادوا أن يجيبوا على أسئلتي وهم جلوس، فلما سألت أحدهم أمام المفتش، وقف للإجابة فامتعضت، وقلت له: لقد اعتدت يا فلان أن تجيب على الأسئلة وأنت جالس، فما الذي حدا بك إلى الوقوف وتغيير ما اعتدناه، مع أني أريد دائما أن تكون دروسنا في حضور المفتشين، أو في غير حضورهم، على حالتها العادية لا تغيير فيها؟ قال: لقد رأيت ذلك أبلغ في تأدية ما أريد من المعاني. قلت: حسنا، فعليكم إذن أن تتبعوه من الآن.
وبعد أن انتهيت من سؤال المعلمين سألت المفتش، وأدهشني أن وقف وأجاب، ولكن لم يقف ليجيب على سؤالي فحسب، بل وقف ليطريني ويطري مدرستي أمام الطالبات، ويقول إن هذا الدرس أفضل درس رآه في حياته من دروس النقد العام في التربية العملية، وهكذا اصطلحت مع أحد خصومي الألداء، ولكن الحقد لم يفارق قلب الرجل، وكان يسعى إلى مناوأتي جهد استطاعته.
وخيل إليه أنه لو عين بمدرستي ضابطة أجنبية لاختلفت معي، وأظهرت للوزارة معايبي، وكان في ذلك ما يمكن الوزارة من الإساءة إلي، ويظهر أنه لم يتيسر له الحصول على ضابطة إنجليزية فعين لي ضابطة فرنسية.
وكانت سيدة فرنسية طيبة القلب حسنة الأخلاق، ولكنها تجهل كل شيء بالمدارس، فكنت أحسن معاملتها، وكنت أقوم أنا بالضبط بدلا عنها؛ لأنها لا تعرف عن أمور الضبط شيئا، وفرضت أن الوزارة لم تعين ضابطة، وأني كعادتي أتفقد كل أمور المدرسة من نظافة وتعليم وخلافه، وكانت السيدة تشعر بذلك، وتشكرني عليه، وبعد أن قضت بالمدرسة ثلاثة شهور زارنا صديقي المفتش الإنجليزي المعروف، وكان أول همه أن يختلي بها، وأن يسألها عن أحوالها، فقالت: إنها ناظرة نشيطة طيبة القلب تقوم بعملي وعملها؛ لأني لا أعرف في ذلك العمل شيئا، وما كاد يسمع منها ذلك حتى انصرف عنها، وقد خاب أمله فيما دبره.
عرفت من تصرفاته بعد ذلك أنه يريد مناوأتي إذا استطاع، فكنت لا أعبأ به، وشاء له الطمع وحب المال أن يؤلف كتاب مطالعة لمدارس المعلمات الأولية باللغة العربية، وكنت غير راضية عن هذا الكتاب، وإن كان قد استعان في تأليفه ببعض المصريين أو المشايخ، ولكن عبارات الكتاب أقرب إلى اللغة الإنجليزية منها إلى اللغة العربية، ودخل يوما درسا من دروس المطالعة، فسألني في شيء من الزهو عن رأيي في كتابه، وكان يعتقد أني سأمدحه وأطريه، فدهش عندما أجبته: إنه ليس بكتاب عربي، قال: كيف ذلك؟ فأشرت إلى جملة فيه ابتدأها بقوله: أنا أتكلم، أو ما شابه ذلك فأشرت إليها، وقلت: ليس هذا بالأسلوب العربي الصحيح، فغاظه ذلك، وقال للأستاذ المعلم، وكان من دار العلوم، ولا يعرف شيئا في اللغة الإنجليزية: أفي هذه الجملة خطأ يا أستاذ؟ وأشار إليها، قال الأستاذ: لا. فقلت: إنك تقول لا على أنه لم ينصب في تلك الجملة الفاعل، ولم يرفع المفعول، ولكن هل هذا الوضع من اللغة العربية في شيء؟ فخجل الرجل، وعرف أني أعارض في مدح الكتاب، وقال في همس: لم أكن أعرف أنكما تتناقشان في ذلك.
ودخل مرة على أستاذ من دار العلوم كان متين الأخلاق كثير الفضائل، فلم يعجبه، وقال: إنه قديم في أسلوبه؛ لأنه لم يتبع الإرشادات التي وضعتها الوزارة في تعليم الإملاء من كتابة الكلمات الجديدة على السبورة قبل الابتداء في درس الإملاء. قلت: إن ذلك لا يتناسب واللغة العربية. قال: إني من المستشرقين. قلت: نعم، أما أنا فمن العرب، ولا يعرف المستشرق في لغتنا ما نعرف نحن من أن إملاءكم لا ضابط له، فرائدنا فيها النظر والسماع، وضربت له مثلا بكلمات كثيرة تنطق بغير ما تكتب به، أو تنطق نطقا لا يتناسب مع كتابتها، أما في اللغة العربية فإملاؤنا قياس تضبطه القواعد، فإذا نحن كتبنا على السبورة كلمة «نداءكم»، وهي مفتوحة أوهمنا الطلبة أن كلمة نداء بعدها حرف أو حرفان تكتب مفردة رغم أننا لو قرأناها بالضمة لكانت «نداؤكم» بالواو، ولو قرأناها بالكسرة لكانت «ندائكم» بالياء، فليس لنا بعد هذا أن نقول للتلميذ انظر إلى الكلمة، بل نقول له اسمع، وتبين النطق بها، إذن يجب علينا في إملائنا أن نذكر التلميذ بقواعد الإملاء التي قاعدة فيها، وأن نأمر بأن يتبين النطق ليكتب الكلمة صحيحة، واضطر المستشرق أخيرا أن يوافقني على هذا الرأي، وأن يعترف أن ما كتبه من الإرشادات لمعلمي اللغة العربية كان خطأ.
مناوآت
ابتدأت المناوآت تحت إشراف ذلك المفتش، فكان في كل يوم جديد من الوزارة، وكنت أسير في عملي بحذر متناه، ولا أعبأ بما يختلقون، وكان كل هم كبار الوزارة أن يرضوا ذلك المفتش الإنجليزي على حسابي؛ فكانوا يتخيرون لي المعلمين الذين سبق لهم أن تنازعوا مع نظارهم رجاء أن يحصل بيني وبينهم من الخلاف ما يجيز للوزارة التدخل في شئون مدرستي، وكنت لشدة حذري وسعة صدري مع المعلمين أتجنب كل إشكال من هذا القبيل، وكانت عادتي أن لا أتألم إلا من إهانة وجهت إلي ممن هو أعلى مني، أما مرءوسي فقد كنت أعتقد أن تسامحي معهم حلم ونبل، فلا أتألم منهم مهما كانت تصرفاتهم، وكانوا بمعاملتي اللينة يطيعونني أكثر مما يطيع المدرسون ناظرا عتيا مستبدا، وكان بالوزارة كما قدمت عظيم يكرهني، فكان إذا سمع بمعلم اختلف مع ناظره نقله إلي، وحدث أن مرض معلم بمرض النورستانيا فنقل في عام واحد إلى أربع مدارس، وفي كل مرة ينقل من المدرسة بعد أن يضرب ناظرها، وسمع بحكاية ذلك العظيم فسر سرورا يتناسب مع عظمته، وأمر بنقله إلى مدرستي بالإسكندرية.
نقل هذا المدرس إلي فجأة دون صفارة إنذار؛ فدخل مكتبي لأول مرة، وأخذ يشكو من الوزارة ويتململ؛ لأنها نقلته في عام واحد خمس مرات، وقال إنه أتى وحده، وترك أسرته في القاهرة خشية أن تنقله الوزارة للمرة السادسة، فطيبت خاطره، وقلت: إنه من المنظور أن لا تنقل، وإني أنا شخصيا سررت بنقله، وإني سأعمل كل ما يرضيه. قال: نحن في الورديان؛ أي في بقعة نائية بعيدة عن السوق، ولا أدري كيف أتدبر غذائي اليوم. قلت: لا بأس، يمكنك أن تدفع ثمن الغذاء للمتعهد، وتصرفه لك المدرسة من اليوم. قال: ولكنك لم تستأذني الوزارة في ذلك. وكان قانون المدارس يقضي بأن يستأذن الناظر الوزارة في السماح للمعلمين بالغذاء بالمدرسة إذا طلبوا ذلك على شرط أن يدفعوا الثمن ، قلت: لا بأس فإن الوزارة قد سمحت لزملائك بالأكل، ولا شك أنها ستسمح لك به، ولا غبار على عملنا إذا نحن صرفنا لك الأكل من اليوم إلى أن يأتينا تصريح الوزارة ما دمت أنت مضطرا إلى ذلك لبعد أسرتك عن المدينة. فشكرني وخرج، ولكني لاحظت أنه غير عادي، وأن عينيه حمراوان، فتخوفت منه، وقد شاء سوء الحظ أو حسنه أن أنسى مسألة غذائه، فلم أتكلم مع المتعهد في شأنها، ولم أتذكرها إلا بعد أن دق جرس الغذاء، وهنا خشيت إذا لم يرسل إليه غذاؤه أن يثور، وهو - والحمد لله - ثائر من نفسه، خشيت مغبة غضبه، فلم أر أمامي إلا أن أصرف له الغذاء من منزلي، فأمرت الخادم أن يحضر غذاءه من منزلي الخاص، وما كادت تقدم الأكل إليه حتى ثار وتهيج، وقال: كيف استطعت واستطاعت ناظرتك سرقة هذا الأكل من المدرسة بدون إذن الوزارة؟! ثار على المرأة حتى كاد يضربها، فهرعت إلي ملتاعة، وقصت علي قصتها، فذهبت لأرى الخبر بنفسي، فرأيته ثائرا متهيجا، يسب ويشتم في مدرسة تسرق أكل الوزارة علانية، وما كاد يقع بصره علي حتى قال: لا بد من أن أقتادك إلى النيابة.
فقلت في هدوء: ولم ذلك يا سيدي؟
قال: لأنك سرقت لي أكل الحكومة بدون إذنها. فضحكت، وقلت له: وإذا كان هذا الأكل من منزلي أنا الخاص، فماذا يكون موقفك؟ فقال: أقتادك إلى النيابة أيضا كي أرد شرفي؛ لأنك اعتبرتني متسولا. قلت: ولم تتصور هذا؟ ولم لا أكون قد اعتبرتك ضيفا كريما، فأردت الاحتفاء بك؟ قال: إني لا أعرفك. قلت: لقد تعارفنا اليوم يا سيدي، وعملنا معا.
وهدأ الرجل قليلا كأنه يفكر فيما يصنع، وأسرعت أنا، وأشرت إلى الخادمة بأخذ الطعام من أمامه، وهو جسم الجريمة حسب اعتقاده، فهدأت ثائرته، وكأنه نسي الموضوع، وعلمت من ذلك أنه غير عادي، وراعني شدة احمرار عيونه، وتأكدت أنه إما أن يكون شاربا أو مريضا، وكان عندي معلم طيب السيرة من دار العلوم، كنت أعتمد عليه لمتانة أخلاقه، وكان اسمه «الشيخ حاتم» فاستدعيته، وطلبت منه أن يشم رائحة ذلك الزميل، وأن يخبرني إذا كان هو في حالة سكر، وعاد الشيخ حاتم، فقال: إن الرجل غير سكران، وأنا أعرفه من قبل ذلك. قلت: إذن هو مريض. قال: قد يكون ذلك، فإنه غير عادي في كلامه.
عرفت من تلك الظروف أن الوزارة أرادت أن تنقل إلي رجلا متهيجا ليناوئني، فكتبت إلى ذلك العظيم في الحال أقول له: إن الرجل الذي نقلتموه إلى مدرستي مريض، وأرجو أن لا تظن أني تشاجرت معه، أو حصل بيني وبينه أي نزاع، الرجل مريض، وأنا طبعا أسامحه في كل ما يقول لمرضه، ولكني سأحملك تبعة كل ما يحصل من وجود رجل مختل الشعور في مدرسة بنات، وأنتظرك، فإذا لم تنقله في بحر أسبوع كان علي أن ألجأ إلى من هو أكبر منك.
عجب العظيم من خطابي هذا، وأشفعته بخطاب آخر، وكان للرجل في كل يوم حادثة أو حادثتان؛ مررت على باب فصله يوما، فترك الفصل، وخرج في إثري، وقال: إنه لا يقبل أن يكون في مدرسة لا أمانة فيها، قلت: وما هي الخيانة التي تبينتها حضرتكم؟ قال: عدم محافظتكم على مواعيد الحصص بالضبط، فقد انتهى وقت الدرس، ولم يدق الجرس. قلت: إذا شئت فاترك الفصل. قال: لا ... لا أقبل ذلك، ويجب أن يدق الجرس الآن. فتركته، وسرت في طريقي، وفي اليوم التالي دخل مكتبي ثائرا متهيجا يقول: إنكم مثال الخيانة في تلك المدرسة، قلت: ولم ذلك يا سيدي؟ فألقى أمامي بكتاب مطالعة كان لبنت تركت المدرسة بعد أن كتبت اسمها عليه، وقد أعطاه له الكاتب بدلا من أن يصرف له كتابا جديدا، وقال: هذا الكتاب لا تملك المدرسة حق استعماله، واسم صاحبه مكتوب عليه. قلت: لقد تركت تلك الطالبة المدرسة، وتركت الكتاب، ولم تسأل عنه، ولما كانت إدارة المدرسة لا تعرف الخيانة، فهي تستعمله في صالح التعليم. قال: إن هذا العمل خيانة في نظري. قلت: وماذا تريد؟ قال: أريد أن يرسل هذا الكتاب لصاحبته. قلت: لا نعرف عنوانها. قال: يجب أن تبحثوا عنه. فرأيت أن مناقشته ضياع لوقتي، فأظهرت شيئا من الغضب، وقلت: اترك هذا الكتاب، ولا تدخل مكتبي مرة أخرى. قال: أغضبت حضرتك؟ وظهر عليه شيء من التعقل، وهكذا السكران أو المجنون إذا رأى شدة معقولة ارتدع، فقلت له: والله لقد ضايقني حضرتك وحضرة الوزارة، وكل تلك التصرفات، ورجائي أن لا تدخل مكتبي مرة أخرى. قال: سمعا وطاعة.
وبعد يومين من هذا التاريخ نقل إلى مدرسة محرم بك الابتدائية بناء على إلحاحي وخطاباتي التي كانت تتوالى على ذلك الكبير، ولم يمكث في مدرسة محرم بك يومين حتى تشاجر مع ناظرها وضربه، وأبلغ الخبر إلى الوزارة فأحالته على القومسيون الطبي، فقرر أنه مريض مختل الشعور، وأخذ ذلك العظيم يقول في مكتبه: عرض ذلك المعلم على خمسة من نظارنا الرجال فلم يعرفوه، وتشاجروا معه، وبمجرد ما وقع نظر نبوية موسى عليه، قالت: إنه مريض، ويجب علاجه، تالله إنها لساحرة.
حصل ذلك في سنة 1915، وانقطعت عني أخبار ذلك المعلم، فلم أعلم عنه شيئا، وفي سنة 1936 كنت عند سكرتير صاحب السعادة العشماوي بك، وإذا بأفندي يقبل علي ويسلم بلهفة، ويقول لي: لم يساعدني في نكبتي من النظار إلا أنت. وفي الحال تذكرت ذلك الشيخ المريض، وقلت: «لعلك فلان؟» فقال: نعم أنا هو، ولا أزال أحفظ لك ذلك الجميل.
استمرار المناورات
يئس المفتش من حصول نزاع بيني وبين المعلمين، فأراد أن يتدخل في الموضوع، وأن يخلق هو نزاعا بأي شكل كان، وشاء سوء الحظ أن تتاح له الفرصة فأرسلته وزارة المعارف إلى الإسكندرية للإشراف على حفلة توزيع إعانة المدارس الحرة للبنات، ودعاني مفتش التعليم الأولي لحضور حفلة التوزيع، وألقى المفتش الإنجليزي كلمته في الحفلة فابتدأها ببراعة استهلال، قال فيها:
لقد خلق المصري جبانا بفطرته.
ثم انتقل من مدح المصريين بهذه الكيفية إلى المدارس التي جاء لتشجيعها فقال:
إنك تدخل تلك المدارس فترى كل من فيها في حركاتهم وسكناتهم وألفاظهم زبالين.
وساءني أن يقوم إنجليزي في حفل من المصريين كان يرأسه كبير من الأسرة اليكنية فيطعن المصريين أولا، ثم يعطف على المدارس التي جاء لتشجيعها فيرميها بكل عيب ونقيصة، ساءني أن يحيينا ذلك الأجنبي تلك التحية، وهو واحد ونحن جماعة، فملت أعيب على المفتشين ونظار المدارس الثانوية سكوتهم على تلك الإهانة، وضحك أحدهم، وقال: «إن الرجل كان يتكلم بلهجة أعجمية لم يفهمها أحد إلا الذين اعتادوا لهجة الإنجليز في اللغة العربية.» قلت: ولكنكم أنتم من هؤلاء. قال: نعم، ولكن ما الذي يدعونا إلى إذاعة ما قال بين الملأ ما دام الناس أنفسهم لم يفهموه؟ فكان عذرا ظريفا، وإن كان لم يقنعني، وقام المفتش الأول، وقال كلمة في تعليم الفتاة شاد فيها باسمي؛ بصفتي أول فتاة مصرية تولت المناصب المختلفة بوزارة المعارف، وانتهت الحفلة بعد أن اختلى المفتش الإنجليزي بمفتش التعليم الأولي، وأفهمه أنه أخطأ في الإشارة بذكري لأني ضد وزارة المعارف، ولأنه يجب محاربتي، قال مفتش الأولي ذلك لبعض أصدقائه، وبلغني فأوجست منه خيفة؛ لعلمي أن هؤلاء الناس يخدمون الإنجليز في كل ما يريدونه من رغبات، ولو بالإشارة، وفيما قاله المفتش الإنجليزي ما يكفي لتوجيه نظر المفتش الأولي إلى العمل ضدي.
لم يطل انتظاري حتى بدا لي مجهود ذلك المفتش في العمل ضدي، فقد ابتدأ أحد مدرسي مدرستي يشق عصا الطاعة، ويناوئني العداء بلا سبب، فكنت أقابل هذا بصبر وحلم خشية أن يكون قد حرضه أحد على ذلك، وأخيرا أردت أن أكتشف الحقيقة فخاطبت مفتش التعليم الأولي تليفونيا في مساء أحد الأيام، وقلت له في أثناء حديثي إن فلانا - وذكرت له اسم المدرس الذي تخيلت أنه يحرضه - إن فلانا هذا مع ما يبدو عليه من نشاط وذكاء قد ظهر أن نتيجته في الامتحانات سيئة جدا، قلت ذلك لأعلم إذا كان بين المفتش والمدرس رابطة فينقل إليه ما قلت.
وفي صباح اليوم التالي كنت أحضر درس انتقاد كانت تلقيه طالبة في مادة الخط، وحضر جميع المعلمات والمعلمين، وكان على منصة التدريس كرسي وضعته الطالبة لتشرح للتلميذات طريقة الجلسة أثناء كتابة الخط.
ودخل ذلك المعلم متأخرا والغضب يبدو على وجهه، وكنت في الأسبوع الذي قبله قد طلبت من المعلمين أن يجلسوا على أدراج طالبات كانت موجودة في جهة من الفصل حتى لا يكونوا قريبا من المعلمات، وقد أعجب المعلمون بذلك الاقتراح، ووافقوا عليه، وجلسنا جميعا، ووقف هو زائغ البصر، فقلت له في هدوء وعطف: «تفضل اجلس إلى جانبي.» وكان بجواري مقعد خال فقال: لا ... ثم ذهب إلى منصة التدريس، وأخذ الكرسي الذي أعدته الطالبة ووضعه بشدة أمام المكان الذي كنت أجلس فيه، ثم جلس.
وهمست أنا إلى إحدى الطالبات فأحضرت كرسيا آخر وضعته بدل الكرسي الذي أخذه المعلم، وتابعت الطالبة السير في درسها، وعند انتهاء الدرس سألت الطالبات، ثم المعلمات، ثم المعلمين عن آرائهم فيه، ولم أشأ أن أتخطى ذلك المعلم حتى لا يظن أني تضايقت منه، فقلت له: ما رأي حضرتكم في هذا الدرس؟ قال: ليس لي رأي فيه؛ لأني كنت متعبا، فلم أعمل شيئا. قلت: أشكركم. وسرت في درسي حتى إذا ما انتهيت ذهبت إلى مكتبي، وكتبت له خطابا قلت فيه: إن بقاء المعلمين الرجال بين المعلمات وبين الطالبات ضرر لا بد منه، ونحن نتحمل مخالطتهم بالمعلمات وجلوسهم معهن رغبة في الظفر بآرائهم فيما يتعلق بالدرس، وقد قلت إنك كنت مجهدا فلم تعمل، فلم دخلت هذا الدرس بلا عمل، وأنت تعلم أنك لو طلبت مني تصريحا بالتغيب عنه لما تأخرت في إجابة طلبك؟ لأن بقاءك بلا عمل مثال سيئ لباقي المعلمات والمعلمين؛ إذ يكون هذا سابقة لبقائهم في الدرس بلا عمل، وصرفهم الوقت في اللهو والعبث.
قرأ المعلم هذا الخطاب، ولم يستطع الإجابة عليه بل ظل مترددا مدة طويلة، ثم كتب لي كتابا يقول فيه: «إني قد خالفت أوامر الوزارة في أشياء كثيرة، منها أني صرحت للمعلمين بالأكل داخل المدرسة بعد أن منعت الوزارة ذلك رسميا، وأني فتحت سنة أولى من القسم الإضافي في العلوم مع أن الوزارة لم تصرح بذلك، وأني أزيد عدد حصص اللغة العربية عن المقرر.» وطلب مني أن أرفع هذا الخطاب إلى الوزارة. وأردت أن أتأكد من أن المفتش وشى إلى المعلم بما أخبرته به فاستدعيته بالتليفون، وحضر في الحال، فلما حضر استدعيت المعلم فدخل علينا، وكانت دهشتي عظيمة عندما ابتدأ حديثه معنا بأن أخرج من جيبه خطابا كان ذلك المفتش قد كتبه له، وهو ناظر مدرسة يدرس بها ذلك المعلم يشكره فيه على حسن نتيجته في الامتحان، قدم ذلك الخطاب، وهو يقول: إن سعادتك كتبت لي ذلك الخطاب تشكرني على حسن نتائجي أيام كنت أدرس تحت رياستك، وهي تنكر علي ذلك، وتقول إن نتائجي في الامتحان سيئة. فنظرت إلى المفتش، وكنت في ذلك الوقت أقوم بوضع أسئلة امتحانات النقل بنفسي دون أن يطلع عليها المعلمون، فنظرت إلى المفتش، وقلت له: إنك تشكره في خطابك هذا على حسن نتيجته في الامتحان، فهل كنت أنت واضع الأسئلة أم هو؟ قال: بالطبع هو الذي كان يضع الأسئلة. قلت: إذن أنت تشكره على خراب ذمته؛ لأن المعلم إذا وضع هو أسئلة الامتحان في المادة التي يدرسها، وكان غير دقيق في عمله، وغير مأمون عليه، أعد التلاميذ له فنجحوا جميعا، وليس في ذلك ما يستوجب الشكر، بل فيه ما يستوجب الذم، أما أنا فإني أضع أسئلة امتحانات مدرستي، فإذا قلت عن شخص إنه مقصر أو إنه مجد في تدريس مادته فأنا على حق فيما أقول، وإني بعد هذا أسألك سؤالا واحدا: هل بينك وبين هذا المعلم اتصال لاسلكي حتى استطعت أن تخبره بما قلته لك أمس في نفس هذه الليلة؟! ليس في منزل الرجل تليفون، فكيف اتصلت به بهذه السرعة؟ لا بد أنك كلفت نفسك كثيرا، فأنت إذن ذو غاية سيئة؛ ولهذا أطلب منك أن تترك هذا المكتب حالا، وأن لا تعود إلى المدرسة مرة أخرى، أما معلمي فسأعرف كيف أقوده إلى الصواب.
وخرج المفتش دون أن يقول كلمة، واستدعيت بعض المدرسين فقرأت عليهم خطاب المعلم الذي طلب مني تبليغه إلى الوزارة، وقلت لهم: إنكم تعلمون أني لم آخذ منكم رشوة عندما سمحت لكم بالأكل في المدرسة، ولكني سمحت بذلك حبا في صالح عملي، فإن المدرسة بعيدة عن الأحياء المأهولة، وليس بجوارها مطعم أو شيء يمكن أن يشترى للغذاء، والمعلم إذا بقي بلا أكل لا يستطيع أن يتقن تدريس الحصة السادسة أو السابعة، وليس في أكله في المدرسة ما ينافي الآداب الشرقية؛ لأنه يجلس في غرفة المدرسين، وهي منعزلة تمام العزلة عن المدرسة، فإذا جاز له أن يلهو ويلعب فيها فقد جاز له أن يأكل أيضا.
فالوزارة مخطئة في عدم التصريح بأكل المدرسين بدعوى أنها مدرسة بنات، وأنتم أنفسكم شكوتم لي ذلك التعنت، فعملت على إزالته، وكذلك فتح الفصل ليس لي فيه مكسب شخصي، ولكني أردت أن أخدم التعليم في الإسكندرية، ولم أكلف الوزارة زيادة المعلمين، بل فتحت الفصل بكم، ولم يتألم أحد منكم من ذلك، فأنا إذن شريفة حسنة النية فيما أفعل لا أريد غير الإصلاح؛ ولهذا سأرسل هذا الخطاب إلى الوزارة، وسأعترف بكل ما فيه، وخرج المعلمون بعد ذلك يكادون يذوبون خجلا من فعلة زميلهم، ثم كتبت إلى المستر دانلوب خطابا أرفقت به خطاب المعلم، وقلت له فيه: إن كل ما جاء في هذا الخطاب صحيح، ولم أعمله أنا لغاية شخصية؛ فقد فتحت القسم الإضافي سعيا في نشر التعليم في الإسكندرية دون أن أكلف الوزارة شيئا، وصرحت للمعلمين بالأكل؛ لأن ذلك في صالح العمل، وبدونه يختل نظام التعليم بالمدرسة لبعدها عن المطاعم، وزدت عدد حصص اللغة العربية؛ لأن الطالبات سيكن معلمات يدرسن بتلك اللغة، وهن في حاجة شديدة لها.
عملت ذلك للصالح لا للأغراض الشخصية، وإني مصرة أن أعمله طالما كنت ناظرة لتلك المدرسة فلا تحقق معي فيه، وافعل بي ما شئت على اعتبار أن ما بلغه المعلم صحيح، أما المعلم فقد خرج في كتابه هذا عن حدوده؛ لأن الوزارة لم تعينه رقيبا علي، فليس له أن يتدخل فيما لا يعنيه.
وبعد أسبوعين من إرسال الخطاب إلى الوزارة جاء تصريح للمعلمين بالأكل في المدرسة، وتصريح آخر بفتح الفصل، وإنذار لذلك المعلم تحذره الوزارة فيه من العودة إلى مثل ما فعل، فكان هذا سببا في أن يبتعد المعلمون جميعا عن المفتش الأولي الذي كان يمني ذلك المعلم بالترقية، فانتهت أمانيه بالإنذار.
تحريض مستمر
هكذا كنت لا تشرق الشمس علي إلا استقبلت حادثا جديدا من مشاغبات ذلك المفتش الإنجليزي القوي العنيد، ولا أدري كيف أنتصر عليه مع ضعفي وقوته، وقد كان يساعده موظف عظيم من موظفي وزارة المعارف، فما كان ينقل إلى مدرستي معلم إلا قابله ذلك الموظف العظيم، وودعه بحرارة قائلا له: إني أعلم يا فلان أني مرسلك اليوم إلى جهنم، ولكن ما الحيلة ولا بد من تعيين مدرسين في تلك المدرسة؟ على أني مستعد كل الاستعداد لنقلك إذا أنت شكوت من سوء معاملة ما.
ولا شك أن المعلم كان يكره النقل من القاهرة إلى الإسكندرية، وما دام ذلك الرئيس الخطير قد وعده بالنقل إذا هو اشتكى، فكان من المعقول أن لا يقيم في المدرسة أكثر من أسبوع أو اثنين حتى يشكو أو يتشاكى، وكنت أجهل ذلك بالطبع، ولكن الظروف كانت توقفني على حقيقة ما يعملون مصادفة، ونقل إلى مدرستي معلم اسمه «الشيخ محمد سعد»، وكان - رحمه الله - رجلا تقيا مجدا في عمله مخلصا له، وكان مستقيما في مسلكه إلى حد الخشونة، فكرهته الطالبات لذلك التشدد، وأردن أن يوقعن به فأبلغنني أن الشيخ سعد قال لهن كلمة منبوذة لا يجوز لمعلم أن يقولها، ولما كنت أعرف في المرحوم الكمال والصدق والاستقامة لم أستطع تصديق ما قيل لي، ولكني دهشت مع ذلك من إجماع البنات عليه، فكنت أسألهن واحدة واحدة، وهن مصممات على ما قلن لي من أن الأستاذ قال لهن كلمة لا يليق به أن يقولها، وأخيرا طلبت منهن أن يقلن لي تلك الكلمة، وبعد إلحاح قلن إنه قال: «فواحش.» وسألت: «في أي درس قالها؟» فقلن لي: «في درس الدين.» وهنا طلبت كراسة من كراساتهن في الدين فوجدت مكتوبا فيها تلك الآية الكريمة:
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة .
ولم يكن المسكين هو الذي يختار تلك الآيات، بل كانت الوزارة هي التي تختارها، وهنا أعدت السؤال على الطالبات، فعلمت أن الكلمة التي قالت الطالبات إنه قالها هي المذكورة في الآية؛ أي إنه قرأ الآية.
أدهشني تفنن الطالبات في الاتهام إلى ذلك الحد، وسررت جدا من أن فراستي لم تخب في ذلك الأستاذ الفاضل فأرسلت إليه، وقلت له: «هل صحيح أن حضرتك قلت أمام الطالبات كلمة فواحش؟» فثار الرجل وقال: «إني لم أصل إلى هذا الحد من الانحطاط، ولقد قال لي فلان باشا قبل نقلي إلى هنا إني مقدم على جهنم، ولقد صدق، وأنا أطلب نقلي اليوم.» فضحكت في شيء من الهدوء، وقلت له: دعنا مما قاله فلان، وأرجوك أن تجيب على سؤالي فقط: «هل قلت تلك الكلمة أم لم تقل؟» قال: «بالطبع لم أقلها، ولن أبقى في مدرسة أسأل فيها عن ذلك.» قلت: «إنك واهم يا سيدي، فالمدرسة لم تظلمك، ولم تنكر عليك فضلك واستقامتك، وما أردت بسؤالي هذا إلا لألفتك إلى الوسط الذي تعيش فيه لتحترس منه، أما الكلمة يا سيدي فإنك قد قلتها وكتبتها أيضا على السبورة، وأمرت الطالبات بحفظها، وها هي كراسة الدين التي أمليتها أنت على الطالبات.» وأظهرت له الكراسة فدهش الرجل، وأسف لما بدر منه. قلت: لا بأس إنك لم تسئ إلي بما قلت، بل أحسنت فقد عرفتني بماذا يوصون المعلم عند نقله إلي، وأظن يا أستاذ أني انتصرت عليهم في كل أدواري، وسأنتصر إن شاء الله، ولست أنا ممن يتهمون الناس جذافا، أو يسمعون فيهم كذب القول، بل إني قد تحريت الوصول إلى الحقيقة في مسألتك هذه حتى وصلت إليها قبل أن أعرض الأمر عليك، وما عرضته عليك لأتهمك بشيء، بل لأوجه نظرك إلى الخطر الذي يحدق بمدرس البنات، خصوصا إذا كان مستقيما متمسكا بأصول دينه بعيدا عن ملاينة الطالبات، فأنت في نظري اليوم أفضل مما كنت بالأمس.
وبقي الرجل عندي إلى أن خرجت من المدرسة، ونحن على أحسن حال من التفاهم، وحسن المعاشرة .
مناورات
ظلت المناورات بيني وبين ذلك المفتش الإنجليزي طول مدة توظفي بالوزارة، وكنت أعلم شدة كراهيته لي، ولم أكن أعمل على إزالة تلك الكراهية؛ لأني كنت أعتقد أن ذلك فوق طاقتي، وكنت أقول: لا معنى لاستجلاب رضاه ما دام هذا غير ميسور، وما دمت أنا هدف سخطه، وتعنته، فيجب على الأقل أن أعطي له كما أخذت منه، والشر بالشر والبادئ أظلم، وكنت إذا تذكرت حالتي وحالته، وضعفي وقوته أقول: «أنا الغريق فما خوفي من البلل.» وكان قليل الأدب مع المعلمين؛ فكنت أدفع شره عنهم بقدر الإمكان، وكنت كعادتي لا أتبع قانون الوزارة حرفيا، بل أتصرف فيه سعيا وراء نفع الطالبات، وكان مقرر الحساب لمدارس المعلمات في ذلك الحين يحتم إعطاء الكسور الاعتيادية قبل العشرية، ولما كنت أعلم أن هذا خطأ؛ لأن الكسور العشرية في عملياتها تسير على نفس الطريقة التي تسير عليها الأعداد الصحيحة؛ فكل عدد من جهة اليمين يقل عن نظيره من جهة الشمال عشر مرات، حتى إذا انتهت الأعداد الصحيحة جاء بعدها الكسر العشري والرقم في الخانة الأولى منه يقل عن نظيره في العدد الصحيح عشر مرات، وهكذا، فكنت أرى أن إعطاء عمليات الكسور العشرية إعادة لعمليات الأعداد الصحيحة، لا فرق بينها وبين الأعداد الصحيحة إلا تحديد موضع العلامة العشرية؛ ولهذا كنت أطلب من معلم الحساب أن يعطي الكسور العشرية قبل الاعتيادية.
وجاء ذلك المفتش، كان له أن يفتش على كل مادة في العالم حتى القرآن، فلما رأى أن المعلم يعطي الكسور العشرية قبل أن يعطي الاعتيادية أحضر له المنهج، وقال له باللغة العربية لا أقول الفصيحة بل اللكناء: «هل أنت أعمى؟» مشيرا إلى ما كتب في المنهج، وكان ذلك أمام التلميذات، وتصادف أني كنت في تلك اللحظة أمر أمام الفصل، فسمعت قوله هذا؛ لأنه كان يلقيه بلهجة غضب وصوت عال، فدخلت مسرعة، وأردت أن أدافع عن كرامة المعلم أمام تلميذاته، فقلت للمفتش باللغة الإنجليزية: «لا يا سيدي ليس هو بالأعمى، ولكني أنا العمياء ؛ لأني أنا التي أمرته بذلك.» فخجل المفتش، وكان يخشى أن يتصادم معي، فقال لي في لهجة وادعة: «لا بأس، فإن هذا اختلاف في الآراء.»
وهكذا ظل الرجل يكرهني ويخشاني، وينتظر لي أقل كبوة ليهاجمني من جرائها، وكان بالطبع كثير الأنصار يخشاه كل الناس ويتملقونه؛ فكان يبتكر لي المنغصات ابتكارا، وكان مما فعله أنه لم يسمح لمدرسة المعلمات بالورديان بتعيين طبيبة فيها كما هي العادة في جميع المدارس، وكنت إذ ذاك قوية كثيرة النشاط فلم أعبأ بذلك، وكنت أقوم بعمل الضابطة الفرنسوية التي لا تصلح لمركزها كما مر بنا، كما كنت أقوم بعمل الطبيبة، ومن حسن المصادفات أني يوم خرجت من تلك المدرسة أسرع هذا المفتش فعين لها طبيبة في يوم خروجي، فلم تحضر الناظرة التي خلفتني إلا وفي المدرسة طبيبة، وذلك حتى لا تظهر قوتي بضعف من كانت ستحل محلي، وشاء القدر أن تهمل الطبيبة، وأن تهمل الناظرة نظافة التلميذات، فينتشر في المدرسة الجرب بحالة مفزعة، وكانت المدرسة بعد خروجي منها بأربعة أشهر محل قيل وقال لما منيت به من ذلك الداء العضال، خرجت الضابطة الفرنسية، وحلت محلها ضابطة مصرية، فكان بدلي ثلاث موظفات؛ الناظرة والضابطة والطبيبة، ومع ذلك لم تكن المدرسة في نظافتها على ما كانت عليه في مدتي، وعرف الرجل في قرارة نفسه قيمة عملي فزادته تلك المعرفة حنقا علي، وسيأتي فيما بعد مجهوده العظيم المنتج في تعكير صفوي أينما كنت، وكان يقول في لهجته القاسية: «إنها - أي نبوية - قوة شديدة خطرة.»
لقد خرجت بذلك عن الزمن الذي أكتب فيه، وهو زمن وجودي بمدرسة الورديان لهذا أعود فأكمله.
قامت الحركة الوطنية في سنة 1919، وكان صاحبي المفتش المذكور على استعداد تام للقضاء علي إذا قامت مدرستي بحركة مهما تفهت، وكنت محبوبة من المعلمين والمعلمات والطالبات أيضا، وكنت نافذة الكلمة في الجميع، فاجتمعت بالمعلمين والمعلمات، وقلت لهم: لست ممن يعتقدون أن الإضراب في المدارس مما يفيد البلاد، بل أنا أعلم أن البلاد على حاجة شديدة إلى التعليم، وأن المعلمين يجب أن يكونوا بعيدين عن الحركة الوطنية؛ لأنهم يقومون بعمل وطني مجيد يجب أن لا ينصرفوا عنه إلى عمل آخر مهما جل، وذلك العمل تثقيف أمة أمية قد انتشر فيها الجهل إلى أقصى حدوده؛ فنحن في كفاحنا ذلك الجهل الشديد يجب أن نتفرغ له، وأن لا ننظر إلى عمل غيره، هذا، ويهمني أن لا نكون قدوة سيئة للطلبة فنظهر أمام طالباتنا بمظهر الجبن والغش والكذب؛ لأني أعلم أن المعلمين هم الذين يحرضون الطلبة، ثم يعاقب الطلبة وحدهم، وهذا جبن من المعلم، وكذب ورياء يجب أن لا يعلمه عنه تلاميذه.
فأنتم الآن بين أمرين إما أن تقرروا أني على حق في تجنبي الإضراب وتتبعوني عليه، وإما أن تقرروا أني مخطئة، وأن نقرر الإضراب، وفي تلك الحالة يجب أن نضرب نحن - أي الناظرة والمعلمين - علنا دون خوف أو مواربة، ولست أخرج عن إجماعكم الذي تجمعون عليه، فإذا اخترتم الأولى؛ وهي العمل، فيجب أن لا تكونوا ضعفاء؛ لأن المعلم الضعيف لا يصلح للتدريس، ويجب أن تظهر قوتكم في قيادة طالباتكم، فلا تمكنوهن من الإضراب بتاتا، وسأضطر إلى إخبار الوزارة عن كل ضعيف منكم؛ أي عن كل معلم أضربت طالباته في وجهه.
انفض الاجتماع، وخرج كل معلم، وهو أحرص ما يكون على أن لا تضرب طالباته، وهكذا أضربت جميع المدارس إلا مدرسة معلمات الورديان، وضاعت من يد المفتش الوسيلة التي كان يريد أن يهاجمني بها، فكان مغربي باشا - رحمه الله - يخاطب المدرسة تليفونيا كل يوم، فيسألني هل أضربت الطالبات؟ فلما كنت أجيبه بالسلب كان يضحك بملء فيه، ويقول: إن عملك هذا قد فاق عمل السحرة والمشعوذين، ولا أدري كيف تضرب جميع المدارس، ولا تضرب مدرستك وأنت وطنية؟ فكنت أقول: إن وطنيتي يا سيدي تقضي علي بعدم الإضراب؛ لأني أريد أن أخرج أمتي من هذا الجهل المخيم على العقول.
وهكذا أضربت جميع المدارس، وسافر طلابها، ولم يبق بالإسكندرية إلا مدرسة معلمات الورديان، وقطعت المواصلات، ثم أعيدت، وتلقيت أمرا كتابيا من الوزارة بمسامحة الطالبات، أو بالإضراب، لا أدري، وهكذا اضطرت الوزارة أن تأمرني بالإضراب بعد أن أعياها احتمال إضراب تلك المدرسة.
إضراب إجباري
أمرتنا الوزارة بمسامحة المدرسة كما قدمت، أو بالإضراب بعبارة أخرى، وكانت المواصلات في ذلك الوقت قد قطعت ثم أعيدت، وأمرت الحكومة بأن لا يسافر أحد في قطارات السكك الحديد إلا بتصريح من الحكومة، وذهبنا إلى المحافظة، وكتبت للطالبات وللمعلمات التصاريح ولي أيضا، وكانت والدتي معي فرفض الضابط الإنجليزي أن يصرح لها بالسفر، وأدهشني هذا الرفض فأخذت أناقشه في معنى رفضه هذا، وكيف أستطيع أنا البقاء في الإسكندرية بعد إغلاق المدرسة، وكيف تستطيع والدتي البقاء وحدها، وقد كانت تقيم معي في بناء المدرسة نفسه بأمر من الوزارة؟
وبعد جهد استطعت أن أقنعه بوجهة نظري، ويظهر أن الرجل لم يكن يعلم في ذلك الحين أن الفتاة المصرية كانت تستطيع التعبير عما تريده باللغة الإنجليزية، فأدهشته مناقشتي، وقال إنه سيساعدني عند الحكمدار، أو نائب الحكمدار لا أدري، وكان إذ ذاك المرحوم «أنجرام بك»، وقبل أن يذهب إلى الحكمدار سألني في شيء من الزهو: ألا ترين أنه ليس من صالح مصر أن تستقل، وأن من الخير لها أن تبقى تحت سيطرتنا؟ قلت: إنك يا سيدي تكلفني الإجابة على سؤال لو صدقت فيه لأسيء إليك، فأنتم المستعمرون بهذه الأسئلة تعلموننا الكذب والجبن، وليس من المعقول أن يفضل أحد الاستعباد على الحرية؛ فالوحوش في الصحراء، والطيور على الأشجار تفضل حريتها عن أن تحبس في أقفاص من الذهب أو في حدائق غناء مهما عوملت بالحسنى، ونحن بشر مثلكم، فكيف نرضى أن تقودونا، وكيف نعترف بذلك؟ إنك لو سألتني التفضيل بين استعمار إنجلترا وفرنسا لما ترددت في الإجابة عليك، بل كنت أؤكد أننا نفضل الإنجليز على كل من عداهم، أما أن تطلب مني المفاضلة بين حريتنا واستعبادنا فهذا هو الأمر المدهش، ويكفي أن يكون في سؤالك هذا ما يظهر خطر الاستعمار، فإنكم بمثل هذه الأسئلة تسلبوننا أخلاقنا وفضائلنا، وتعلموننا الكذب والخداع، وهما شر الصفات. قال: أوتظنين أن فيكم الكفاية لحكم أنفسكم بأنفسكم ؟ قلت: ولم لا يكون ذلك؟ ألسنا بشرا مثلكم؟ إن فينا من الذكاء ما قد يعوزكم أنتم الإنجليز، فمنا من يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية كما يتكلمها أهلها، أما أنتم فلم أر منكم من أتقن لغة أجنبية عن بلاده. قال: صدقت أنت على شيء من الحق في ذلك.
ثم تركني، ودخل على المرحوم «أنجرام بك»، ويظهر أنه روى له ما جرى بيني وبينه من المناقشة، فأراد المرحوم أن يراني، واستدعاني إلى مكتبه، فلما دخلت عليه حياني، وكان لطيفا، ثم جلس ينظر إلي، وأخيرا قال لي: لم طلبت مقابلتي؟ قلت: أنا لم أطلب ذلك بل ولم أكن أعرف أن في هذه الغرفة ضابطا عظيما اسمه أنجرام بك، ولكنهم قالوا لي إن أنجرام بك يريد مقابلتي. قال: ألم تطلبي ترحيل والدتك؟ قلت: نعم طلبت هذا. قال: ولكني لا أستطيع ترحيلها لأنها ليست بمعلمة، ولا طالبة. قلت: ولكنها امرأة تريد أن تصل إلى منزلها، فالعطف عليها لا يقل عن العطف على أي معلمة أو طالبة. فابتسم وقال: ولكني لا أستطيع ذلك العطف. قلت: ولم طلبت مقابلتي إذن؟ قال: لأقول لك إني لا أستطيع ترحيل والدتك. قلت: أما كان خيرا لي ولك أن ترسل إلي بذلك النبأ المحزن، فلا تؤلمني بسماعه منك، ولا تؤلم نفسك باحتجاجي؟ فضحك ضحكة عالية، وقال: لا ألم، فقد أمرت لها بالتصريح. وهنا شكرت له ما صنع، وخرجت.
إرهاق واستفزاز
لم يصلوا إلى ما أرادوه من اتهامي بتحريض الطالبات على الإضراب؛ لأن المدرسة خيبت ظنهم، ولم تضرب بتاتا، فعمدوا إلى استفزازي وإرهاقي بكل الوسائل، وكانوا يعلمون أني أحرص على إبعاد المعلمين عن المعلمات، حتى إني أعددت لمعلمي مدرسة المعلمات غرفة لها باب يفتح على الشارع مباشرة، وبجانبها دورة مياه؛ فهي لا تتصل بالمدرسة بأية حال.
أما المدرسة الملحقة فقد كان جميع معلماتها سيدات، وكانت هي داخل الفناء، فلم يكن يدخلها رجل، وأرادوا مضايقتي فعينوا لها ناظرا، وكان شابا لا بأس بجماله، أنيق الملبس، فكان عليه أن يبقى طول النهار بالمدرسة الملحقة؛ أي وسط معلماته ومعلمات مدرسة المعلمات أيضا؛ لأن معلمات التربية كن يذهبن مع طالباتهن إلى التدريس بالملحقة، فكان هو يستطيع أن يرى أو يجالس كل من في المدرسة من معلمات أو طالبات على ما كان عليه من شباب وجمال، فساءني ذلك، وأرسلت أطلب من وزارة المعارف نقله، فلم تقبل، ثم سألتني الوزارة عن سبب النقل، وأرادت بذلك أن توقعني مع الناظر، فقلت: إن الرجل كريم الأخلاق، ولا عيب فيه إلا أنه رجل، أو بعبارة أخرى شاب جميل، وما كان للوزارة أن تضع يوسف بين الفتيات، وهي تعلم أن يوسف على فضائله وعفته قد ذهب جماله بعقول السيدات، فقالت الوزارة: إن السبب غير معقول، وأخيرا بلغني أن هناك مركز ناظر مدرسة خاليا، فنصحت للرجل أن يطلب تعيينه فيه، وقلت له: إنك إذا لم تظفر بذلك المركز فقد تضيع عليك الفرصة؛ لأني سأعمل على إخراجك من هنا مهما كانت الظروف، وقد يضطرون إلى إخراجك من عندي حسب طلبي في وقت لا يجدون فيه مركز ناظر خاليا من صاحبه، فاقبل نصيحتي، وتشدد في طلب النقل.
ولكنهم أفهموه أني أريد به السوء، وأني لا أستطيع نقله مهما فعلت، وتصادف بعد ذلك مباشرة أن حدد يوم لزيارة حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد أيام كان سلطانا، وجاء رجال وزارة المعارف قبل الزيارة ليشرفوا على الترتيبات التي اتخذت، وكان في مقدمتهم المرحوم مغربي باشا، فقلت له: اعلم يا باشا أنني لا أستطيع أن أفهم معنى إصرارك على إبقاء شاب جميل بين فتياتنا طيلة النهار، وهو - والحمد لله - لا عمل له؛ لأنه ناظر، ولا أظن أن غيري يفهم ذلك، وسأعرض المسألة على حضرة صاحب العظمة عند تشريفه المدرسة لأرى إذا كنت أنا على حق أم الحق في جانبكم، وسترى سعادتك أن عظمة السلطان سيخرجه أمامك رغم كل اعتراض، ونظر مغربي باشا إلى بعض من كانوا معه، وقال: «إنها تفعل ذلك، وأكثر منه، فاستدعوا لي ذلك الناظر.» ولما حضر، وحياه قال: اسمع يا أستاذ، إننا قد قررنا نقلك اليوم من هذه المدرسة . قال: إلى أين؟ قال مغربي باشا باسما: لقد قررنا نقلك من هنا، أما إلى أين فهذا ما لا نعرفه الآن.
وخرج الرجل يتعثر في أذياله، ويندب سوء حظه، ويندم على عدم إطاعتي فيما رجوته فيه، ثم عين معلما في مدرسة «إدكو»، ومن غريب المصادفات أنه لم يتمتع بعدها بوظيفة ناظر، وكان يرجوني كثيرا أن أتوسط له، وكنت أجيب رجاءه، وأفعل ما أستطيع دون جدوى، وهكذا ناله من الضرر أكثر مما نالني.
زيارة ملكية
عدنا إلى المدرسة بعد أن هدأت الحالة، وتولى المغفور له الملك فؤاد سلطانا على مصر، فأخذ يزور المدارس جميعها، واستعد مفتشو وزارة المعارف لاستقبال عظمته إذ ذاك في كل مدرسة، واجتهدوا أن يظهروا له في كل مدرسة دخلها غرائب فن التربية، وبدائع فن التنميق والتحسين والتجميل، وصرفت الوزارة في كل مدرسة مبلغا عظيما من المال للوصول إلى تلك الغاية، وجعلوا مدرستي آخر مدرسة تتشرف باستقبال عظمته، ثم أهملوها فلم يخبرونا بزيارة عظمته إلا قبل الزيارة بأسبوع واحد، ولم يصرفوا لي مليما واحدا للإنفاق منه في استقبال عظمته، وعرفت أنا ما يراد بي، فضحيت بمبلغ شهرين من مرتبي صرفته على استقباله، وكانت لمدرسة المعلمات مدرسة أولية ملحقة يتمرن فيها الطالبات على التدريس كما قدمت فأعددتها للزيارة، وكان ذلك ضد رأي حضرة صاحب السعادة المغربي باشا الذي قال: إنه لا يجوز أن يزور عظمته مدرسة أولية، ولكنني نفذت رأيي، وأعددت المدرسة، وكانوا يظنون أن عظمته قد لا يسر من مدرستي فيكون ذلك سببا في إخراجي منها، وكان المرحوم المستر دانلوب الذي كان يحميني من ذلك المفتش الظالم قد ترك القطر المصري، وأصبح لصاحبنا كل السلطة والسلطان بصفته أحد أبناء التاميز، ولا يستطيع أن يرد عدوانه إلا إنجليزي مثله.
شرف جلالته المدرسة فاستقبلته الطالبات في أول فصل دخل بقصيدة استحسنها هو ومن معه، وكانت من شعري، ثم قدمتها إلى جلالته مكتوبة في إطار على طراز عربي مزخرف بالصدف البراق، وأحطت القصيدة برسم بديع لبعض الأزهار، فأعجب بها كل الإعجاب، وكان صاحبنا المفتش حاضرا، فوقف صامتا لا يكاد يصدق أذنيه، وكان يسير وراءنا المغفور له سعيد باشا ذو الفقار، وكان رحمة الله عليه يميل إلى مساعدتي، فكنا إذا دخلنا فصلا وخرجنا منه تغير موقفي بالنسبة لجلالته، فصرت على يمينه بعد أن كنت على يساره، وهنا ينبهني سعيد باشا من خلفي قائلا: «إنك على يمين عظمة السلطان.» وكان عظمته مسرورا باسما فشجعني هذا، فنظرت إلى عظمته مستفهمة: لقد تغير المركز دون أن أقصد، فهل ضايق هذا عظمتكم؟ فابتسم المغفور له وقال: لا، أبدا.
وكنا قد فرشنا لعظمته في الممرات بساطا ضيقا، وفجأة نظرت فإذا أنا أسير على البساط، وجلالته يسير على الأرض، فقلت: عفوا، إن هذا البساط قد وضع لعظمتكم، أما أنا فأسير كل يوم من هذا الطريق على الأرض. فضحك جلالته ثانية، وقال: لا حرج عليك.
زرنا جميع الفصول، وقد ارتاح جلالته إلي، وأخذ يصغي إلى حديثي كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، فلما انتهت زيارته لفصول مدرسة المعلمات انتقلنا إلى الملعب، فشاهد عظمته فصلا يلعب بعض تمرينات رياضية، وكنت أقف إلى جانبه، ومن ورائي حضرتا صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وعدلي يكن باشا وزير المعارف إذ ذاك، وإلى جانب وزير المعارف المرحوم مغربي باشا، وقد مال عليه وأفهمه أني أريد أن يزور عظمة السلطان المدرسة الملحقة، وهو ما لا يوافق عليه، واستعد المغفور له عدلي باشا لمنع تلك الرغبة التي أريدها أنا، ولكني سبقته إلى تنفيذها، فقلت لجلالته: إني قد أعددت لزيارة عظمتكم المدرسة الملحقة، وهي أظرف بكثير من مدرسة المعلمات؛ لأن تلميذاتها طفلات صغيرات، ولكنهم يحاولون منعي من ذلك مع أني أنفقت على زينة تلك المدرسة من جيبي الخاص، وكل حجتهم في ذلك المنع أننا سنسير خطوات تحت الشمس، وأنا مستعدة ردا على هذا الاعتراض أن أحضر لعظمتكم مظلة. قال: أنا عسكري يا سيدة، وسأذهب إليها رغم هذا، وبدون مظلة.
وانتهت ألعاب الطالبات، وابتدأنا نسير جهة المدرسة الملحقة، وأسرع المغفور له عدلي يكن باشا ليمنع جلالته عن الذهاب فقال له باللغة الفرنسية: لقد أعطيت وعدا بالذهاب. فسرنا وسار الجميع في أثرنا، وهم يتهامسون حتى إذا وصلنا إلى المدرسة الملحقة قال عظمته: حقا إنها أفضل من مدرسة المعلمات، وكانت المدرسة حديثة البناء؛ تتكون من ثلاثة أضلاع، وكان العيب الوحيد الذي في البناء أنه لا توجد مظلات أمام أبواب الفصول، بل كانت تفتح جميعها على العراء، ولستر هذا العيب وضعت أمام الفصول قماشا يحجب الشمس عنها فظهر بهاؤها ورونقها، فلما قال عظمته: إنها أحسن من مدرسة المعلمات. قلت: نعم، هي أحسن الآن بعد أن وضعنا لها هذا القماش؛ لأن هذا البناء يعيبه عدم وجود مظلات أمام أبوابه، ولعلهم أرادوا بعدم مجيء عظمتك إلى هنا إخفاء ذلك العيب. فضحك جلالته، ودفعني عدلي باشا يكن في ظهري بقبضة يده قائلا: ألا تريدين السكوت؟ قلت: لا، ويجب أن يعرف عظمته كل شيء. فضحك الجميع، وسرنا إلى غرفتي، وهناك شكرني حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد، وقال: إنه لم يسر من مدرسة مثل سروره من مدرستي. ووقف المفتش الإنجليزي مشدوها لا يبدي حراكا، حتى إنه لكثرة دهشته فتح فمه فلم يغلقه، وخرج عظمة السلطان ومن معه، ولم يبق أمامي غير حضرة المفتش، فقال: لا أدري ما الذي صنعت له حتى أعجب بك كل الإعجاب؟ قلت: لقد سحرته يا مستر فلان كما سحرت جناب المستر دانلوب من قبل، ولكني لسوء حظي لم يفلح سحري فيك أنت فقط. فتركني دون أن يجيبني وانصرف.
نتائج الزيارة الملكية
انتهت الزيارة الملكية، وكان من أثرها أن عمل ذلك المفتش ضدي جهد المستطاع، وكان لسوء حظي أنا أن المستر دانلوب الذي كان يحميني قد عاد إلى بلاده، وانتهز ذلك المفتش الفرصة، وأفهم الإنجليز أني ضدهم، وأن بقائي كناظرة محبوبة قد يكون له نتائج لا تتناسب وحالة الحرب التي كنا فيها، وتغاضى سامحه الله عن أن مدرستي كانت المدرسة الوحيدة التي لم تضرب، ولم تقم بأية حركة، ولكن هكذا الشخصيات تدخل في السياسة وكل شيء؛ فالرجل لأغراضه الشخصية اتهمني بما يعلم هو نفسه أنه اتهام باطل، والإنجليز يثقون في بعضهم البعض ثقة عمياء، فلا يبحثون عن مبلغ ما يقوله أحدهم من الصحة أو من الحقيقة، وهكذا اتفق رأيهم على أن لا أعمل في التعليم عملا جديا، ولم أكن أعلم بذلك الاتفاق.
وبعد الزيارة بأسبوع جاءني ذلك المفتش، وقال لي: إن الوزارة قد رأت ترقيتي؛ لأن عظمة السلطان قد سر من مدرستي سرورا عظيما، وإنه جاء ليخبرني بتلك الترقية، وقد بحث في ميزانية المدرسة فلم يجد لي درجة تناسبني؛ ولهذا يريد أن يعينني مفتشة، وأن يرفع مرتبي من 26 جنيها إلى 35. وكنت أعلم أن المفتشة ليس لها عمل خاص تقوم به مستقلة، وأنها إنما تكتب تقاريرها لكبار الموظفين، وبعبارة أخرى للمراقب، وهو بعد ذلك حر في أن يعمل بإرشاداتها، أو أن يهملها، فأثرها في التعليم لا قيمة له، أما ناظرة المدرسة فمستقلة في عملها يمكنها بكل سهولة أن تصلح شأن المدرسة التي ترأسها، وأن توجهها إلى حيث تريد، ولقد كنت أنا أتفنن في تنفيذ أوامري إلى درجة أضطر بها الوزارة إلى إجابة طلبي مهما كان، كما فعلت في إنشاء فصل دون أن تأمر الوزارة به، وفي السماح للمعلمين بالأكل دون أن تصرح به الوزارة، وغير ذلك، ومما فعلته في ذلك الصدد أني أردت أن أقدم الغذاء لبنات المدرسة الأولية الملحقة بالمدرسة، ولم تكن الوزارة في ذلك الوقت قد سمحت لأية مدرسة أولية بهذا، وكنت أعلم أنني إذا طلبت ذلك رفض طلبي، كما كنت أعلم أن كتبة الوزارة في غاية الكسل، وأنهم قد لا يعرضون الخطابات التي نرسلها نحن نظار المدارس على الرجال المسئولين إلا بعد ورودها بشهر على الأقل؛ ولهذا كتبت خطابا إلى الوزارة أقول فيه:
إنه نظرا لبعد مدرسة الورديان عن الأماكن المعمورة، وحضور التلميذات إليها من أماكن بعيدة، لا أرى مندوحة من أن أدبر لهن مسألة الغذاء بالمدرسة، وقد عرضت على المتعهد، فقبل أن يقدم لهن الغذاء لكل تلميذة مقابل ثلاثين قرشا تدفعها شهريا، ونظرا لأن أهالي التلميذات قد ضججن بالشكوى منذ زمن بعيد من هذه المسألة، فقد رأيت أن تنفيذها لا يكلف الوزارة شيئا، وينفع التلميذات في الوقت ذاته، وقد جمعت منهن فعلا المبلغ المطلوب للغذاء، وسلمته للمتعهد، وهو مستعد أن يقدم لهن الغذاء في أول الشهر، فإذا رأت الوزارة غير ذلك الرأي فلتكتب لي بسرعة قبل ذلك الميعاد حتى أستطيع منع هذا.
كتبت ذلك الخطاب في الأسبوع الأخير من الشهر، وأنا أعلم أنه لن يقرأ قبل أن يمر من الشهر الجديد أسبوعان على أقل تقدير، وهكذا بدأت الغذاء، وعرض الخطاب على ذوي الشأن في أواخر الشهر الثاني، وخجلوا أن يقولوا إنهم لم يطلعوا على الخطاب في الوقت المناسب للرفض فاضطروا إلى إقراره، وهكذا ظفرت بما أريد رغم عدم ميل الوزارة إليه.
واحتجت في بعض الأحيان إلى غرف أزيدها على مباني المدرسة، وكانت المدرسة في بناء مستأجر تابع لوزارة الأوقاف، وكان يحيط بذلك البناء منازل أخرى تابعة لوزارة الأوقاف أيضا.
وكتبت إلى الوزارة لتخابر الأوقاف في أن تؤجر لنا منزلا معينا من تلك المنازل التي تحيط بنا، وتلكأت وزارة الأوقاف في إجابة الطلب، وعرضت الأوراق على المرحوم فتحي باشا، وكان مشهورا بتصرفاته المدهشة العجيبة، ولما قرأ في خطاب وزارة المعارف أنها في أشد الحاجة إلى استئجار ذلك المنزل بأسرع ما يكون كتب عليه وهو يبتسم كلمة «طظ»، وهكذا كلما عرض عليه أمر استئجار ذلك المنزل كتب عليه تلك الكلمة المأثورة، وأخيرا ذهبت إليه، وقلت له: إنك تعلم يا معالي الوزير أني أنا الناظرة المصرية الوحيدة، فأنا أفتتح الآن طريق المصريات، ولو أن ملف تلك المدرسة عرض عليك وفيه إشارة من ناظرة إنجليزية لنفذت لها معاليك ما تريد. وخجل المرحوم بعض الشيء، وقال: لو أني أعلم أن ناظرة تلك المدرسة مصرية لنفذت ذلك من زمن بعيد. وطلب الملف، وكتب عليه بالتصريح بتأجير المنزل لوزارة المعارف بأسرع ما يكون.
ولكن المنزل لم يكن خاليا بل كان مسكونا، وقال لي مأمور الأوقاف في الإسكندرية إنهم لا يستطيعون عمل شيء لإخراج الساكن بالسرعة المطلوبة ؛ لأن بيده عقدا، ولأنه يدفع الإيجار في مواعيده، فذهبت إلى الرجل، ورجوته في أن يخلي لنا المنزل، وبحثت له عن منزل آخر من منازل الأوقاف أيضا بأجر أقل من منزله، وعرضته عليه، ولكنه رفض وتعنت، وقد كان المنزل ملاصقا للمدرسة فأفهمته أن المنزل مطلوب للحكومة، وأن الحكومة تعمل كل ما تريد دون أن يستطيع أحد أن يعارضها «كلام فارغ»، وكان الرجل جاهلا لا يستطيع تكذيب ما أقول، ولكنه مع ذلك تعنت ورفض أن يترك المنزل، وفي اليوم التالي لمقابلتي له أحضرت أحد البنائين ففتح بابا في غرفة من غرف المدرسة ملاصقة لذلك المنزل، وإذا بذلك الباب الذي فتحناه يؤدي إلى غرفة نومه، وإذا به يرى أن غرفة نومه تهدم، وأن المدرسة قد اتصلت به، فرجاني أن أكف عن تتميم فتح الباب إلى أن ينقل عفشه، ونقل عفشه في الحال إلى المنزل الذي اخترته له.
وهكذا كنت أنفذ أوامري بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة، فكنت كناظرة أقوم مستقلة بعملي، أعمل لإصلاح المدرسة ما استطعت إلى ذلك سبيلا حتى كنت أعمل ما يراه غيري غير ممكن، أما كمفتشة فليس لي التنفيذ ولا العمل مستقلة، وكل ما أستطيع عمله هو تقديم تقارير واقتراحات تتضخم بها دواليب وزارة المعارف دون أن يقرأها أحد، ولقد عرفت ذلك من تجارب كثيرة إذ كنت أرى تقرير المفتش يأتيني، وعليه إشارة مراقب التعليم والوكيل بأمل اتباعه، وبعد شهر من تاريخ ذلك التقرير يأتيني تقرير آخر يناقضه، وعليه نفس الإشارات، مع العلم أني لا أستطيع تنفيذ التقريرين، ويعارض كلاهما الآخر، إذن تقارير المفتشين كانت لا تتبع إذا تعقل الناظر، وأراد أن لا يسير سيرا مضطربا متناقضا، أو تنفذ لمدة شهر إذا كان الناظر عديم التفكير، ثم يمحوها تقرير آخر؛ ولهذا كنت أكره أن أعمل في التفتيش الذي لا أثر له في إصلاح التعليم؛ ولهذا كله رفضت الوظيفة التي عرضها علي ذلك المفتش، ورفضت العلاوة أيضا، ومقدارها 9 جنيهات شهريا، وسافر المفتش ممتعضا، ثم عاد فعرض علي أن يكون مرتبي في التفتيش 40 جنيها، ثم 45، ثم 50 جنيها، وأنا أرفض كل ذلك العرض.
وأخيرا غضب المفتش، وقال: لقد جعلتني أشك في تصرفك كناظرة. قلت: إذن أنت تتهمني بأني أستفيد من المدرسة، أو من الأغذية التي تصرف للمدرسة مبلغ 24 جنيها شهريا، هذا إذا عملت المدرسة 12 شهرا، وهي لا تعمل إلا 8 شهور، فعظم المبلغ المعروض علي يدلك على أنك مخطئ، أما رأيي فيك بعد ذلك فهو أنك لست بمعلم، بل أنت دعي على المهنة، ولقد قرأت لأحد الأساتذة الإنجليز عبارة يقول فيها: «تنقدني كلية كذا على عمل لو أنها منعته عني لنقدتها لتعطيني إياه.» وأنا كذلك الأستاذ تعطيني وزارة المعارف مبلغ 26 جنيها شهريا على عمل أنا أحبه، ولو أني غنية لأعطيتها 30 جنيها لأستمر في ذلك العمل، فمرتبي إذن 56 جنيها، والعمل أحبه، وأنت اليوم تعرض علي عملا مبغوضا بمرتب خمسين جنيها، فرفضي في محله لا غبار عليه لمن يفهم مهنة التعليم، وخرج الرجل من مكتبي غاضبا، وبعد ذلك ببضعة أيام استدعاني المغفور له يحيى إبراهيم باشا، وكان وزيرا للمعارف، وقال لي: «لست ممن يكذبون، ويدعون أنهم يعارضون الإنجليز فيما يريدون، بل أنا رجل صادق أقول لك: إنه ليس في مصر وزير يقف أمامهم، ويبقى في كرسيه دقائق بعد ذلك، والإنجليز لا يريدون أن تكوني ناظرة، وهم أيضا لا يريدون الإضرار بك، وقد عرضوا عليك مرتب 50 جنيها لإرضائك، ورفضك هذا معناه أن أضطر أنا إلى إيذائك، أو إخراجك قهرا من العمل، وهذا ما لا أحبه.» قلت: شكرا يا سيدي لم أكن أعلم ذلك، ولو علمته من قبل لقبلت ما عرض علي، وأنا اليوم أقبله. وشكرت للرجل صدقه وإخلاصه، فإنه لا يضر المصريين إلا أولئك الوزراء الذين يتشدقون بمقاومة الإنجليز فيما يريدون، وهم في الباطن أضعف بكثير من أولئك الذين يقولون الحقيقة؛ لأن الذي يقول من وراء الإنجليز إنه يقاومهم يضطر أن يستر قوله هذا بطاعتهم طاعة عمياء لا نقاش فيها، أما الذين يصرحون بإطاعة الإنجليز، فقد يدفعهم هذا التصريح إلى رجاء الإنجليز في تعديل أوامرهم ولو قليلا محتجين برغبة الشعب، ولأنهم هم أصدقاء الإنجليز الذين لا يريدون لهم إلا كل خير.
وهكذا نفعني ذلك الرجل العظيم بتصريحه، وعدت إلى الإسكندرية، وزارني صاحبي المفتش في اليوم التالي، وسألني عن رأيي في العرض الذي عرضه، قلت: لقد قبلت العرض مع الشكر. قال: إنك لم تقبليه حتى خاطبك الوزير. قلت: نعم، لأنه كلمني باللغة العربية «بالعربي» ففهمته، ولم يفهم الرجل مضمون العبارة «العربية» التي أردت بها الصراحة. فقال: ولكنك تحسنين اللغة الإنجليزية. قلت: نعم، ولكني أحسن اللغة العربية أكثر من ذلك، ولا أفهم الحقائق إلا بها. وهكذا قلت ما أريد دون أن يفهمه الرجل، ونقلت بقدرة من لا أدري إلى التفتيش.
كيف كانت خطتي في التدريس؟
أرى وقد نقلت إلى التفتيش أن أذكر لقراء ذكرياتي كيف كانت خطتي في التدريس قبل أن أعمل في التفتيش.
أردت أن أجرب تدريس الحساب بنفسي لأرى نتيجة الطالبات إذا اتبعت المعلمة معهن التفكير المنطقي السليم، فدرست الحساب للسنة الأولى، وكنت آخذهن بالمنطق لا بالقواعد، فقلت لهن: إن المعاملات في الدنيا لا تخرج عن حالتين؛ إما أن يضم الإنسان شيئا إلى سامعه، وهذا يسمى «جمعا»، وإما أن يعطي غيره شيئا مما معه، وهذا يسمى «طرحا»، وليس في الحساب إلا هاتان العمليتان أخذ وعطاء، ولكننا نسمي جمع الأعداد المتشابهة ضربا، وبدلا من أن أجمع 5 على نفسها ست مرات أضرب 5 × 6، كما نسمي طرح الأعداد المتشابهة من عدد قسمة، فإذا قسمنا 300 على 25 فنحن نطرح 25 من 300، ونبحث عن كم مرة يمكن طرح 25 منه، فخارج القسمة وهو 12 معناه أننا استطعنا أن نطرح 25 من العدد 300 اثنتي عشرة مرة، وهكذا سرت مع الطالبات بطرق غير مستعملة لا أرى أن أشرحها في ذكرياتي الآن، وترتكز كلها على المنطق السليم والتفكير الصحيح، فكان من نتيجة ذلك أني عندما وصلت بطالبات السنة الأولى إلى السنة الثالثة كن أقوى تفكيرا، وأدق منطقا في الحساب من طلاب البكالوريا.
وتصادف أن كان من بنات الإسكندرية نفسها سبع طالبات في مدرسة بولاق رسبن في امتحان الكفاءة، فنقلتهن الوزارة إلى مدرستي بالورديان، وكانت هذه أول سنة فتحت فيها المدرسة السنة الثالثة، فلم يستطعن السير مع طالباتي لا في الحساب، ولا في اللغة العربية، أما في الجغرافيا والتاريخ فكن يفهمنها حسب اعتقادهن كما يفهمها طالباتي؛ لأن درس التاريخ لا يرتكز كثيرا على المعلومات السابقة، فقد تدرس نابليون بنجاح دون أن يعرف الطلاب تاريخ جان دارك.
أما الحساب واللغة العربية فمجهود الطالبات فيهما يرتكز على المعلومات السابقة، وكيفية فهمهن لأصول المادتين؛ ولهذا تضايقت الطالبات السبع، وظنن أنهن لا يستطعن السير مع طالباتي في الحساب واللغة العربية، كما ظنن أنهن أقوى من طالباتي في الجغرافيا والتاريخ، فكتبن إلى الوزارة يتظلمن لها، ويقلن إن طالبات مدرستي قد أنهين مقرر السنة الثالثة في الحساب في السنة الثانية، كما أنهن يقرأن في اللغة العربية في كتاب قواعد اللغة مع أن المقرر عليهن هو الجزء الثالث من الدروس النحوية.
وشاءت قدرة أعدائي أن يقوموا ويقعدوا لهذا الخبر، وأن يحرضوا جناب المستشار على إرسال مفتشة إنجليزية لتحقيق هذا الأمر، وجاءت المس بيلي، ومعها المرحوم كيلاني بك، وكان مفتشا للتعليم الأولي بالإسكندرية، ولم يخبراني بشيء، ولكنه جلس معي ودخلت هي الفصول، وبعد ساعة أو أكثر عادت الآنسة بيلي، وهي تقول: لقد تحققت من صحة شكوى الطالبات السبع المنقولات من القاهرة إلى هنا؛ لأني رأيت في درج إحدى الطالبات كتاب قواعد اللغة العربية مفتوحا، مما يدل على أنها تستعمله، كما عرفت من الطالبات أنفسهن أنهن أنهين مقرر السنة الثالثة في الحساب، وهن في الثانية. وأدهشني ذلك القول منها فقلت لها: ولماذا تكلفين نفسك استنباط أشياء كان في وسعك معرفتها مني أنا شخصيا لو تكرمت بسؤالي عنها؟ فطالبات مدرستي قد أنهين مقرر السنة الثالثة في السنة الثانية، ولا ريب في هذا، وهن أيضا يقرأن في كتاب قواعد اللغة العربية، ولو أنك شرفت المدرسة في الحصة الأولى لوجدت الكتاب في أيديهن.
قالت: ولم إذن تخالفين منهج التدريس؟
قلت: لم أخالفه يا سيدتي؛ لأن المنهج نص على تعليمهن الاشتغال والندبة، وجموع التكسير، وغير ذلك من الأبواب التي لا وجود لها في الكتاب الثالث الذي وزعته الوزارة عليهن، وقد رأيت بدلا من ضياع الوقت في إملاء تلك الأبواب عليهن، ونحن في عصر السرعة أن يشترين كتاب قواعد اللغة، والكتاب ليس من تأليفي، ولا من تأليف والدي، حتى يظن أن لي غرضا شخصيا من أن تشتريه الطالبات، بل هو كتاب تبيعه وزارة المعارف، فالربح عائد إليها، وغرضي هو عدم ضياع أوقات الطالبات فيما لا يفيد. قالت: ولكنك خالفت المنهج. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: لأن المنهج نص على أن تكون هذه الأبواب حسب ما في الكتاب الثالث. قلت: إن هذه الأبواب يا سيدتي غير موجودة في الكتاب الثالث، فكيف نعطيها حسب ما في الكتاب الثالث؟ إنه كلام لا قيمة له ولا معنى، ولو أنك رجعت إلى مذكرات طالبات معلمات بولاق لوجدت أن المعلم قد أملى عليهن تلك الأبواب من كتاب قواعد اللغة بالحرف الواحد. قالت: كلا، إنه يبسطها إلى حد الكتاب الثالث. قلت: إني قد علمتك اللغة العربية يا سيدتي، ومع ذلك فيظهر لي الآن أنك تعرفين فيها أكثر مما أعرفه أنا، فهل لك أن تبسطي هذه الأبواب، أو تأمري معلما بتبسيطها لأتعلم منك ما تريدين؟ قالت: وما رأيك في الحساب، وقد خالفت فيه المنهج صراحة؟ قلت: كلا، لم أخالفه، فإن المنهج قد ذكر أبوابا في السنة الأولى، أو في السنة الثانية، فعلمت كل ما ذكر، وزدت عليه، فأنا لم أخالف المنهج، ولكن منهجكم ناقص، وكان الواجب أن يقول: «ومحظور إعطاء غير ما ذكر.» ولكنه لم يفعل.
قالت: ولكنك بإنهائك منهج السنوات الثلاث في سنتين تخلين بطرق التربية الصحيحة؛ لأنك لم تسيري في تدريسك خطوة خطوة. قلت: لك الحق في ذلك يا سيدتي، فأنا على ما يظهر قد درست مقرر السنة الأولى في أربعة شهور، بينما درستم أنتم في مدرسة بولاق على ما يظهر لي في ثلاث سنوات، وإذا كان السير بالطالبات خطوة خطوة مفيدا كما تظنين، فأنا أطلب منك إجراء امتحان لطالباتي وطالباتكم في مقرر السنة الأولى فقط، فإن نجحت طالباتكم وجب علي أن أغير خطتي، وإن نجحت طالباتي كان عليكم أنتم أن تغيروا خطتكم. قالت: ستنجح طالباتك لا مراء؛ لأنك موهوبة في الحساب، ولكن المدارس الأخرى لو سارت على نهجك لفشلت. قلت: وهل طلبت منكم أن تسير المدارس الأخرى على نهجي؟ وما دمت أنا ناجحة في طريقتي، فكيف تنتقدونني فيها؟ وطال بيني وبينها الجدال، وأخيرا كلمت المستر دانلوب تليفونيا فقلت له: «إن جناب المس بيلي تحقق معي في تهم أنا معترفة بها، ولا أرى مع هذا الاعتراف وجها للتحقيق؛ فالمسألة أني سرت في طريقي على كيت وكيت، والأمر بيدك إن شئت سمحت لي بالأمر فيما أفعل، وإن شئت عاقبت بما تريد، ولست أنوي التحول عن رأيي فاسحب مفتشتك، واعمل ما تراه صالحا. قال: سأحملك في النهاية تبعة فشل هؤلاء الطالبات إذا لم تنجحي في طريقتك. قلت: وهو كذلك. وناولت سماعة التليفون للآنسة المفتشة، فطلب منها أن تترك المدرسة.
وبعد أسبوع من ذلك التاريخ زار المدرسة مفتش إنجليزي لا أعرفه، وكانت مهمته امتحان السنة الثالثة، ودهش لسرعة الطالبات في الإجابة مع صحة الجواب، بقي معهن ما يزيد على حصة كاملة، ثم انتقل إلى مكتبي، فقال: لقد تحققت أن لك طريقة شاذة في تدريس الحساب لا تتبعها المدارس الأخرى؛ ولهذا أرجو أن تسيري على نهج المدارس الأخرى حتى يكون بينكم وحدة في التعليم. قلت: أرجو أن تخبرني عن رأيك في طالباتي وطالبات المدارس الأخرى، أيهن أقوى تفكيرا وأكثر استعدادا؟ قال: إن طالباتك أقوى من المدارس الأخرى بلا جدال. قلت: إذن فاطلب من المدارس الأخرى أن تتبعني. قال: لقد استدرجتني إلى ما لا أريده. قلت: إنما استدرجتك الحقيقة التي لا مراء فيها.
أخذت الوزارة تتكلم في مسألة قوة طالباتي في اللغة العربية والحساب، وضعفهن في التاريخ والجغرافيا حسب ما كانوا يظنون، وأجمعوا رأيهم على أن يكون امتحان الكفاءة سهلا جدا في اللغة العربية والحساب، وصعبا في التاريخ والجغرافيا إلى حد الإعجاز حتى ترسب جميع طالباتي، وفات منطقهم الصحيح أن صعوبة أسئلة التاريخ تأتي من أن يختار واضع الأسئلة موضوعا عقليا لا وجود له في الكتب التي بأيدي التلاميذ، أقصد لا وجود له في صفحة واحدة؛ لأنه يتطلب مقارنة أعمال الملك فلان بأعمال غيره من وجهة كذا وكذا، ومثل هذه الأسئلة تحتاج إلى فكر وإلى مقدرة في الإنشاء، وهو ما كان في طالباتي دون غيرهن؛ ولهذا ما كادت أسئلة التاريخ توزع على الطالبات في مدرسة معلمات بولاق حتى صرخن وولولن قائلات إنهن لم يأخذن شيئا منها، وأخذ المفتشون يهدئون روعهن، ويشرحون لهن الأسئلة دون جدوى، وأخيرا اتصل رئيس لجنة مدرسة بولاق برئيس لجنة مدرستي بالإسكندرية، وسأله عما تم له في لجنتي، فأجابه لا شيء والطالبات تكتب كتابة قيمة بلا انقطاع، فعجبوا لذلك، وكان رسوب طالبات معلمات بولاق 40 طالبة من 80 في التاريخ وحده، ولم ترسب من مدرستي واحدة، وما كان يعثر أحد من المصححين على ورقة جيدة في التاريخ حتى يقول هذه ورقة من الإسكندرية.
وهكذا خاب ظنهم.
ولعل هذا كان من بين الأسباب التي جعلتهم يفكرون في نقلي من ناظرة مدرسة الورديان إلى التفتيش.
عملي بالوزارة
حضرت إلى الوزارة، وعرفت مما سبق أن الإنجليز، وهم أسياد البلاد لا يريدون مجهودي كناظرة مدرسة، ولا أدري لم كانت هذه الرغبة، ولعل ذلك لأني كنت أول ناظرة مصرية تولت رياسة مدرسة معلمات في الوزارة، وقد كانت مدرستي في ذلك العام أولى مدارس المعلمات الأخرى مع حداثة عهدها؛ فأخذ الناس يوازنون بين مجهود الناظرة الإنجليزية التي كانت تدير مدرسة معلمات بولاق منذ زمن بعيد، وبين الناظرة المصرية، وهي حديثة العهد بنظارة المدارس، وكتب بعضهم شيئا من تلك الأفكار في الصحف اليومية، ولعل هذا كان السبب المباشر في تمسك الإنجليز بإخراجي من وظيفة ناظرة، وجعلي مفتشة، والمفتشة لا يمكن أن يعرف مجهودها، أو يظهر له أثر خصوصا إذا كانت الوزارة لا تؤيدها في عملها، على أنه قد ظهر لي فيما بعد أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، بل إن خصومي من رجال الوزارة الذين كنت أندد بمسلكهم، وأعدد لهم الوقائع الصحيحة الدالة على انغماسهم في الرذائل ...
أرادوا أن يظهروا للإنجليز براءتهم من تلك الرذائل، وأني أقول عنهم - أي الإنجليز - كيت وكيت، وأني أحرض الناس ضدهم ليحملوا الإنجليز على كراهيتي، وعدم تصديقي فيما أقول، وهكذا تم لهم ما أرادوا، وأيد افتراءاتهم ذلك المفتش الإنجليزي بأكاذيبه.
علمت ذلك فعلمت أنه لا يراد بي خير، وأنهم - وهم يخشون من نفوذي وقوتي في مدرسة واحدة - لا يمكن أن يقووا ذلك النفوذ في جميع المدارس، بل لا بد أن أعارض في كل ما أريد؛ لهذا نويت أن لا أعمل، وأن أنفذ لهم رغباتهم مهما كانت رغباتي وميولي:
إذا لم يكن غير الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
حضرت إلى الديوان فاستدعاني المغفور له المغربي باشا، وكان المعروف أنه يعرف من نوايا الإنجليز ما لا يعرفه غيره، وكان مستشار المعارف في ذلك الوقت المستر «باترسون» الذي كان بعد ذلك مستشارا للمالية، فلما دخلت على المغربي باشا قال لي: «إنه مسرور جدا من تعييني مفتشة لما يعلمه من انتقاداتي الدقيقة التي لا تترك من عيوب التعليم شاردة ولا واردة.» علمت من ذلك الكلام أنهم يريدون مني أن أنتقد المعلمين بشدة، وأن أدقق عليهم كل التدقيق، حتى إذا زرت عددا عظيما من المدارس اطلعوا على تقاريري، وعاقبوا كل من ذكرت عنه شيئا من العيوب بخصم جزء من مرتبه، وذلك بناء على ما جاء في تقرير حضرة السيدة نبوية موسى المفتشة بالوزارة.
ولا شك أن المعلمين إذا فوجئوا بذلك العقاب سيستغيثون بالوزارة من تلك المفتشة، ويطلبون عدم تفتيشها عليهم، وهذا كل ما تريده الوزارة؛ لأنها لا تريد مجهودي في أية ناحية من نواحي التعليم.
زرت بعد ذلك مائة مدرسة، فلم أنتقد شيئا في تقاريري عن معلمة أو معلم، بل كنت أنصح المعلمين والمعلمات، وأنتقدهم شفويا، ولا أدون شيئا عن هذا في تقاريري، وعندما قمت بتفتيش ذلك العدد من المدارس خاطبني المرحوم مغربي باشا تليفونيا، وقال لي : ما هذه التقارير التي كتبتها؟ قلت: وهل قرأتها سعادتك؟ قال: نعم. قلت: ذلك ما ظننت من قبل كتابتها، وهل تقرأ سعادتك كل تقارير المفتشين والمفتشات؟ قال: لا، ولكني أقرأ المهم، فقد كنت أظن أن تقاريرك مهمة، أما الآن فتقارير كهذه من شأنها أن تجعل المعلم يضع قدمه فوق رءوسنا. قلت: لعل هذا يا سعادة الباشا كل ما أردته أنا. قال: ولكني بعد هذه التقارير قد غيرت فكري في جهودك وذكائك. قلت: لا يجوز لك هذا، والله لولا ذكائي ما كتبتها على تلك الصورة؛ لأني إنما كتبتها لك لا للمعلمين حتى لا أعطيك فرصة عقابهم، ودفعهم بذلك العقاب إلى الشكوى مني. وضحك المرحوم ضحكة عالية، وقال: «الله يجازيك هو أنت بتسحري.» ثم استمر يقول: ولكنك على كل حال قد ضيعت اعتقاد الناس فيك بهذه التقارير. قلت: سأرد ذلك الاعتقاد إلى ما كان عليه بكتابة تقرير إجمالي أشرح فيه عيوب تدريس المواد المختلفة بمدارسكم دون أن تستطيعوا عقاب أحد، وكتبت تقريرا مطولا عن تدريس جميع المواد بالمدارس أظهرت فيه أن الرقابة على تدريس تلك المواد غير موجودة، وأن التدريس غير مجد، وأن ذلك كله يرجع إلى تصرفات غريبة من ولاة الأمور أنفسهم. وأطلعوا المستشار على ذلك التقرير بعد أن ترجموه له، وكان كما أظن لا يريد أن أفتش أنا على المدارس، فأراد أن يتخذ من ذلك التقرير وسيلة إلى بلوغ ما يريد من إبعادي إبعادا كليا عن التعليم، فاستدعاني، وقال لي في شيء من الشدة: إ ... هذا التقرير لا يتفق وآراء المس بيلي. قلت: أتعلم جنابك أني أنا التي علمت المس بيلي اللغة العربية؟ قال: لا. قلت: سلها، فهي لا تنكر ذلك. قال: وما أهمية ذلك في الموضوع؟ قلت: إن الدروس التي أنتقدها هي اللغة العربية، وما يدرس بها، وعلى مس بيلي أن تتبعني فيها لا أن أتبعها أنا. قال: ولكنها المفتشة الأولى. قلت: وماذا تريد مني جنابك؟ قال: أريد أن تنتقدي الدروس حسب آرائها لا حسب آرائك أنت. قلت: وكيف يتسنى لي ذلك؟ أمعنى هذا أني أفتش المدرسة، ثم أعود فأخبر المس بيلي عن كل ما رأيته فيها لتملي علي انتقاداتها هي عما رأيته أنا؟ ولو أني فعلت ذلك لكان عمل المفتشتين هو عمل مفتشة واحدة، كما أنه يصبح عملا معقدا لا قيمة له، وإني بناء على ما تقول أظن أن جنابك لا تريد أن أعمل في التفتيش. قال: أوتقبلين ذلك؟ قلت: ولم لا أقبله ما دامت هذه إرادتك أنت، وما دمت تعطيني مرتبي كاملا؟! قال: نعم، سأعطيك المرتب كاملا، وسأمتعك أيضا بالعلاوات دون أن تعملي. قلت: لك مني ألف شكر على هذا. وسر الرجل من الاتفاق الذي تم بيننا، وشكرني جزيل الشكر، وأوصلني إلى خارج باب غرفته، وهو يضغط على يدي، ويقول: أشكرك.
وكانت الوزارة قد أعدت لي مكتبا خاصا وساعيا خاصا، فبقيت في ذلك المكتب 6 شهور لا أعمل شيئا للوزارة، ولكني كنت أكتب في الأهرام مقالات أنتقد فيها نظم التعليم في وزارة المعارف، وأمهرها بإمضاء «ضمير»، وأخيرا استدلوا على كاتبة المقالات، وأخبروا المستشار بذلك، وقدموا له مقالة منها منشورة في الأهرام فاستدعاني، وقدم لي المقال بعد أن لفت نظري إلى الإمضاء، وقال: من كاتب هذا المقال؟ وكان جنابه يظن أني سأتنصل منه؛ ولهذا أعد الإجابة على جوابي شيئا من السب والاحتقار كقوله: «إنكم أنتم المصريين كذابون جبناء.» وكم كانت دهشته شديدة عندما أجبته بعدم اكتراث: إني أنا كاتبة ذلك المقال. وقد أخذته الدهشة، فبقي بضع دقائق دون أن يقول شيئا، ثم قال بعد أن خفت دهشته: وهل تبقين بعد هذا في وظيفتك؟ قلت: ولم لا يا سيدي؟ وهذا مقالي يشهد أني لم أقل فيه من سفيه الألفاظ أو المعاني ما يعيب شخصا، أو يقلل من كماله، إنه نقد بريء لطرق التعليم يا سيدي، فإذا كان قد ترجم خطأ فاتركني أترجمه لك، وأنت هنا مستشار التعليم تقول إنك ما جئت إلا لإصلاحه، فهل يغضبك أني أرشدك إلى ذلك الإصلاح، أو أمهده لك كشخص من أتباعك يهمه أن يمهد لك ما تريد؟ قال: ولكني لا أريد أن تكتبي في الصحف. قلت: ولكنك لم تخبرني بذلك حتى الآن. قال: لا بأس وأنا أمنعك من الآن من الكتابة. قلت: ولكنك يا سيدي تطلب مني دائما المستحيل، إنك منعتني من العمل في التعليم الذي أعدتني ثقافتي له، وجعلتني أقيم في غرفة كسجينة لا عمل لها، وأنا أسلي نفسي بتلك المقالات، وأعدها واجبا من واجبات التعليم التي يجب علي القيام بها، ومن الصعب بل من المستحيل أن أبقى في غرفة بالوزارة بلا عمل، فإذا كنت تريد مني أن لا أكتب فاسمح لي أن أخرج من تلك الغرفة، وأن أذهب إلى حيث أريد، وأن أعمل ما أريد، وما دمت أنت في غنى عن مجهودي دون ذنب مني، فيجب يا سيدي أن تصرف لي مرتبي كاملا دون أن أحضر إلى الوزارة، بل ودون أن أرتبط بالبقاء في القاهرة. قال: لك هذا، اذهبي حيث تريدين، واعملي ما تريدين، ومرتبك مضمون لك. وحفظ الرجل وعده هذا فلم يخل به، وخرجت من عنده على هذا الاتفاق، وفي اليوم التالي تركت القاهرة إلى الإسكندرية.
إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
كنت قد تعرفت إلى كثير من سيدات الإسكندرية في أثناء الحركة الوطنية، من أشهرهن صاحبات العصمة حرم سليمان بك يسري القاضي بمحكمة الاستئناف، ومحمد بك درويش المستشار، وعبد الرحمن بك سعد أحمد المستشار أيضا، وغيرهن، وكن قد زرنني وأنا بمدرسة المعلمات، وأظهرن لي رغبتهن في العمل لصالح مصر، وكان ذلك في سنة 1919، فشرحت لهن أن التظاهر والمسير في الطرقات لا يناسب كرامتنا كسيدات شرقيات، وأن في استطاعتنا أن ننفع بلادنا بطرق أخرى كالسعي الجدي في نشر التعليم بين الفتيات؛ لأن البلاد كانت في أشد الحاجة إليه، ومع أن مثل هذا العمل كان عملا سلميا لا يمكن أن يتعرض له أحد، فهو عمل مجيد ينفع البلاد نفعا جزيلا، ويبقى أثره بعد الحرب، فلما اتفقت مع المستشار على مغادرة القاهرة عدت إليهن، فوجدتهن على استعداد عظيم للعمل معي، وقد ساعدتهن الزعيمة المحترمة صاحبة العصمة هدى هانم شعراوي، وقمن بعمل حفلة عظيمة جمعن بها مبلغا من المال، فلما أخذن رأيي في كيفية التصرف فيه قلت لهن أن يشترين بهذا المبلغ أدوات مدرسية، وأن يستأجرن منزلا لفتح مدرسة أهلية للبنات، وتم الاتفاق، وذهبت أنا مع أحد أزواج صاحبات العصمة أعضاء جمعية «ترقية الفتاة»، وهو الاسم الذي اخترناه لهذه الجمعية، وأمضى عزته عقد الإيجار، وقد شعر قلبي في هذا الوقت بخطر استهدف أنا شخصيا إليه، إذا كنت أنا التي سيعهد إلي بإدارة المدرسة.
ودار البحث بين أعضاء جمعية ترقية الفتاة على كيف تدار المدرسة، ومن الذي يتولى ماليتها، وغير ذلك، ثم أجمع أغلب الأعضاء رأيهن على أن تتولى الجمعية نفسها مالية المدرسة، وأن أقوم أنا بإدارتها، ولما كنت أعلم أن الجمعية تديرها سيدات بعيدات عن العمل لا بقاء لها كثيرا لاختلافهن في الرأي، وعدم صبرهن على إدارة المدرسة، فقد رفضت، وقلت: إني أنا شخصيا لا أقبل أن أوظف تحت عشر سيدات لا يبعد أن يختلفن بعد شهرين، وأن يغلقن المدرسة لهذا الاختلاف، ولكني مستعدة إذا هن سلمنني الأدوات التي اشتريت أن أسلمهن إيصالا بها على أن أردها إليهن يوم أعجز عن فتح المدرسة، أما إذا فتحت المدرسة، وسارت في طريقها، فليس لهن أن يطالبنني بتلك الأدوات ما دامت المدرسة مدرسة، وأن أقوم أنا بإدارة المدرسة دون أن آخذ من الجمعية شيئا، وأن أكون مسئولة عن ماليتها، فعلي غرمها أو لي غنمها، وليس لهن حق التدخل في تلك الإدارة، ورفضت معظم السيدات هذه الشروط، كما رفضت أنا أن أشتغل معهن على غيرها، وفي صباح ليلة هذا الاجتماع جاءني جماعة من أزواجهن يناقشونني في الموضوع، فقلت لهم: إن السيدات أعضاء الجمعية ليس لهن غرض مالي، وإنما غرضهن هو إحياء تعليم الفتاة في الإسكندرية، وقد اشترين هذه الأدوات البسيطة التي لا تفي في الواقع لفتح مدرسة، ولكنها تصح أن تكون نواة لفتح ذلك العمل العظيم.
وأنا لا أستطيع القيام بإدارة المدرسة ما لم يكن في يدي وحدي ماليتها؛ لأن الإدارة بلا مال لا يمكن أن تأتي بالنتيجة التي يرغبها المدير، وماذا يكون موقفي إذا طلبت من السيدات تعيين معلمة بمبلغ كذا من المال، أو تعيين عدد كذا من المعلمات فرفضن ذلك لقلة المال لديهن، فهل أستطيع في تلك الحالة أن أدير المدرسة بنجاح؟ كلا أيها السادة إنني أقبل أن أكون أنا من يتولى إدارة المالية دون تدخل أي شخص آخر، وأن تتولى السيدات إدارة المدرسة الفنية؛ لأني بالمال الذي بيدي أديرها بكل نجاح رغم كل معارضة منهن، أما أن يكون بيدهن المال وبيدي الإدارة، فأمر لا أفهمه؛ لأن إدارة بلا مال لا معنى لها، وتردد حضرات البكوات الذين تكلمت معهم في هذا الأمر في قبوله، ونظرا لإصراري على عدم الاشتراك في المدرسة إلا بهذه الشروط اضطروا إلى قبولها، وكتب عقد اتفاق بيننا أي السيدات أعضاء الجمعية على تلك الشروط، كما كتب كشف بالأدوات التي سلمت إلي، واشترطت أن أردها إليهن يوم أعجز عن الاستمرار في إدارة المدرسة.
أقمنا حفلة افتتاح باهرة حضرها كثير من أعيان الإسكندرية بفضل نفوذ السيدات أعضاء جمعية «ترقية الفتاة»، وجعلت مصروفات تلك المدرسة أكثر من مصروفات مدارس الحكومة نفسها، ومع ذلك فقد كان الإقبال عليها عظيما جدا، ونشرت الجرائد أخبار تلك الحفلة مشيرة إلى أن نبوية موسى المفتشة بوزارة المعارف هي التي تتولى وحدها إدارة المدرسة، وقرأ رجال وزارة المعارف الخبر، واندهشوا له؛ لأنه في نظر كل شخص غريب مدهش، فأرسل المرحوم المغربي باشا يستدعيني إليه، ولما حضرت عنده عرض علي مجموعة من الصحف، وقال: ما هذا الذي تفعلينه في الإسكندرية؟ قلت: أقوم هناك بما أعدتني له وزارة المعارف، فقد علمتموني أن أكون معلمة فناظرة، وأنا الآن أساعدكم على نشر التعليم ما دمتم أنتم في غنى عن جهودي في الوزارة، وإني أشعر أني أؤدي خدمة للأمة نظير المرتب العظيم الذي يصرف لي، أما قبل ذلك فكثيرا ما كان يؤنبني ضميري على أخذ مرتب من الحكومة، وأنا لا أعمل شيئا لصالح البلاد.
وها أنا اليوم قد أصلحت ذلك الخطأ فأنا آخذ مرتبي نظير عمل جليل أقوم به في تربية الناشئات، قال: إذن فادخلي إلى المستشار عسى أن تستطيعي مواجهته بهذا الكلام. قلت: إني أستطيع إقناعه أكثر مما أستطيع إقناعك أنت. قال: سنرى. ودخلت على المستر باترسون في مكتبه فقال لي قبل أن يحييني: ما هذا الذي صنعت؟ قلت: ليس لك حق في هذا السؤال، إنما هذا السؤال يستطيع أن يقوله حضرة صاحب السعادة المغربي باشا؛ لأنه لا يعلم اتفاقي معك، أما أنت فلا حق لك فيه، أبعد هذا الاتفاق تسألني ماذا صنعت؟ صنعت يا سيدي ما اتفقنا عليه، وهو أن أذهب أنى شئت، وأفعل ما شئت، ما دمت لا أكتب بقلمي في الصحف. قال: ولكني لم أكن أعلم أنك ستفتحين مدرسة. قلت: وما الذي كنت تعلمه حين قلت لك أني سأترك الوزارة لأعمل خارجها ما دمتم في غنى عن جهودي، فهل كنت تظن أني سأفتح منجما للفحم أم متجرا للخشب، وأنا لا أعرف من هذا شيئا؟!
إني معلمة يا سيدي، فإذا عملت فإنما أعمل للتعليم، وإذا كنت أنت قد جهلت ذلك فليس هذا من خطئي أنا، بل الخطأ راجع إليك. قال: وماذا نصنع الآن؟ قلت: لا شيء، فإني بناء على وعدك لي صرفت كل ما أملك من المال في فتح تلك المدرسة، ولا سبيل إلى إغلاقها. قال: أوتبرين أنت بوعدك من عدم الكتابة في الصحف؟ قلت: نعم يا سيدي إذا حفظت أنت وعدك معي، على أن عملي في تلك المدرسة محال أن يترك لي وقتا للكتابة، فاطمئن من تلك الجهة. قال: فليكن ما أراده الله. ولم يكن المغفور له مغربي باشا يعلم شيئا مما تم بيني وبين المستشار سابقا؛ ولهذا ظن أني سألقى من المستشار عنفا، فلما عدت إليه قال: كيف رأيت جناب المستشار؟ قلت: على خير ما يرى الرجال، إنه ألين من سعادتك عريكة، وأرق قلبا، وقد قابلته مقابلة الأصدقاء، وافترقنا على ذلك. قال: إنك غريبة مدهشة في تصرفك. قلت: هكذا أراد الله أن ألقى المدهشات في حياتي، وأن أقابلها بمثلها . ثم تركته وعدت إلى الإسكندرية في الحال.
أول متاعبي في المدارس الحرة
استأجرنا للمدرسة منزلا من منازل البارون منشة، ويوم استأجرناه كان معي زوج رئيسة الجمعية، وحسب العادة المتبعة في مصر من تقديم الرجال على النساء، قدم إليه العقد فأمضاه، وقد شعرت بشيء من القلق من جراء ذلك، وكان رئيس الجمعية هذا كما أحب أن أسميه باختصار قاضيا بالإسكندرية، وكان الشيء الوحيد الذي يهددني هو أنه مستأجر المنزل، وبناء على ذلك يحق له أن يدعي ملكية كل ما فيه من أثاث، ولم يكن لي في ظاهر الأمر دخل في استئجار المنزل، وإن كنت أنا ساكنته، وصاحبة الأثاثات الموضوعة فيه.
ولم نعمل أكثر من ستة شهور حتى حدث ما كنت أتوقعه، فإن أعضاء جمعية «ترقية الفتاة» فكرن أن يحولن المدرسة إلى مشغل للخياطة، ولما عارضتهن في ذلك غضبن مني، وسحبن تأييدهن لي، ولكني لم أعبأ بهذا، وسرت في طريقي، ونقل رئيس الجمعية إلى قنا أو أسيوط، لا أتذكر، ولكن الحكومة انتدبته للعمل بالإسكندرية فأصبح نقله اسما لا معنى له، ودهشنا كلنا لهذا النقل والانتداب، فلم ألبث بعد هذا أن بلغني أن البارون منشة رفع دعوى على رئيس الجمعية بصفته المستأجر يطالبه بإخلاء المنزل، وبدفع تعويض قدره مائتا جنيه؛ لأنه غير معالم منزله، وظلت الدعوى بينهما مدة طويلة دون أن أعلم بها لأنه كان يعلنه بالدعوى في منزله الخاص، ولأن رئيس الجمعية لم يخبرني بشيء من ذلك، فلما بلغني الخبر ذهبت إليه ورجوته أن يعترف بوجودي، ولو كخصم ثالث؛ لأني أنا في الواقع التي أسكن المنزل، وقد وضعت فيه كل أثاث منزلي، كما اشتريت كثيرا من الأثاثات المدرسية؛ لأن ما اشترته الجمعية لم يكن يفي بشيء من لوازم المدرسة، ولو أن البارون نجح في دعواه، وأخذ حكما على رئيس الجمعية لاستطاع بهذا الحكم أن يبيع أثاث منزلي والمدرسة في وقت واحد، وما دام رئيس الجمعية هو المستأجر للمنزل، فليس لي أن أدعي ملكية شيء من الأثاث الموجود فيه .
شرحت للرئيس كل ذلك ، ولكنه رفض أن يدخلني في الدعوى، أو أن يجعل لي أية صفة فيها، وقال إن البارون يعلم أنه هو المستأجر، ولا يجوز لرجل في مركزه أن يقول إنه إنما أمضى العقد دون أن يكون هو المستأجر الحقيقي، وما كان لي أمام إصراره هذا إلا أن أرضخ لما أراد، وأن ألاينه في القول ما استطعت، ولكني في الوقت ذاته شعرت أني قادمة على خطر فقدان كل ما أملك، وأخذت أبحث عن منزل أستطيع أن أنقل إليه أثاثات منزلي والمدرسة قبل أن تنتهي القضية، وقبل أن يحجز على تلك الأثاثات، فلم أوفق إلى استئجار منزل يسع المدرسة بأكملها، ولكني وجدت المنزل الذي أملكه الآن، وقد نزعت ملكيته، وقدم للبيع بالمزاد العلني، ودخل المنزل في البيع ثلاث مرات فهوى ثمنه من 12 ألف جنيه إلى ثمانية آلاف وسبعمائة جنيه، وخشي صاحبه أن يباع بأبخس الأثمان، وقد كان مرهونا على مبلغ أربعة آلاف جنيه، وقد أراد الراهن بيعه بالمزاد ليستولي على دينه، ولكنه لما رأى المنزل لا يقدم على شرائه أحد، وقد هوى ثمنه في بضعة شهور إلى هذا الحد خشي أن يباع بأقل من الدين، فاتفق هو والدائن على تأخير البيع لعلهما يجدان شاريا.
وذهبت أنا واتفقت مع صاحب المنزل على شرائه بالثمن الذي رسا عليه المزاد، وهو ثمانية آلاف جنيه، كما اتفقت مع الدائن أن أحل محل صاحب المنزل في الدين على أن يمهلني ثلاث سنوات، فقبل الرجل، كما قبل المالك أن يأخذ مني أربعة آلاف وسبعمائة جنيه، وأن يبيع لي المنزل تاركا لي دينه، وعاد الدائن فرفض هذا الاتفاق، وقال إنه يريد دينه فورا، وهنا طلبت منه مهلة ستة شهور ريثما أستطيع رهن المنزل في بنك من البنوك، وساعدني حسن الحظ فاستطعت الاتفاق مع البنك العقاري، واتفقت مع البائع على أن أدفع له ألف جنيه عند كتابة العقد الابتدائي للبيع، وبعد 40 يوما أدفع له ألفا أخرى، على شرط أني إذا لم أستطع دفع ذلك الألف في ذلك الميعاد أصبح البيع لاغيا، وضاعت علي الألف الأولى ... شرط قاس ولكني تحملته؛ لأن ظروفي كانت أقسى منه، وكان لي منزل بالزيتون فسعيت في بيعه حتى استطعت أخيرا أن أبيعه بألف جنيه، وكان ذلك قبل حلول الميعاد بثلاثة أيام، وتصادف أن أقمت حفلة المدرسة الثانوية في اليوم السابق لحلول ميعاد كتابة العقد الرسمي كما اتفقنا، وكلمني محامي صاحب البيت بالتليفون ينبئني أن غدا ميعاد دفع مبلغ الألف جنيه وكتابة العقد الرسمي، قلت: إني مستعدة لدفع الألف جنيه صباح باكر. فقال: وهل معك 500 جنيه لدفع رسوم العقد؟ قلت: كلا، ليس معي ذلك المبلغ. قال: لقد ضاعت عليك الألف الأولى؛ لأن اتفاقنا كان على أن تدفعي الألف جنيه، وأن تكتبي العقد الرسمي، ورسوم العقد الرسمي 500 جنيه، فإذا لم تستطيعي ذلك فقد خالفت الشروط، وقد فسخ البيع، وضاع عليك العربون.
قلت: ولكني سأعطيك الألف التي تريدها أنت، وكتابة العقد الرسمي في صالحي أكثر منها في صالحك. قال: لا فائدة من الجدال في ذلك، ولا أقبل إنهاء البيع إلا بكتابة العقد الرسمي ساعة أن تدفعي إلي الألف جنيه. واحترت في أمري ماذا أفعل، وكانت الحفلة ناجحة، وقد أعجب بها الناس، واضطررت أن أترك التليفون لأشرف على الحفلة، وأقابل الزائرين، وكنت كعادتي أضحك باسمة لنجاح الحفلة، وإن كان في قلبي ما فيه من الخراب المحدق بي في اليوم الذي بعده؛ لأنه بلغني أن البارون قد كسب القضية ضد رئيس الجمعية، وأنه ينتظر استخراج صورة الحكم ليحجز على أثاث المدرسة، وكنت أود أن أنهي عقد المنزل لأستلمه، وأنقل أثاث المدرسة إليه، فأهرب من ذلك الخراب المؤكد، والآن وقد فسخ الرجل البيع، ولا سبيل إلى مبلغ 500 جنيه في تلك الليلة، أو في صباح الغد، فقد خسرت كل شيء؛ لأن الألف جنيه الأولى التي دفعتها ضاعت كما سيضيع جميع الأثاث الذي صرفت في شرائه كل ما أملك.
وكنت مع هذا التفكير والضيق الذي كنت أشعر به أقابل الناس بثغر باسم حتى أخذوا يتهامسون قائلين لبعضهم البعض إن كثرة المال تجعلها تتمايل طربا وسرورا بما نالت حتى لا تكاد شفتاها تنقطعان عن ابتسامات خارجة من قلب مسرور، وخرج الناس في تلك الليلة، ودخلت مكتبي فاعتمدت رأسي بين يدي، وأخذت أفكر في مصيري في الغد، وكيف أقابل تلك النكبات المتوالية، وبينما أنا على تلك الحال إذا بعمدة بلدتنا قد دخل علي، وكان الرجل قد باع قطنه بسعر القنطار 40 جنيها، وكان لي وسط أرضه عشرة فدادين سبق أن طلبها مني فرفضت بيعها، فلما أسعده الحظ ببيع قطنه بذلك السعر المرتفع، جاءني وبيده عقد بيع عرفي كتبه له مأذون الناحية بثمن خمسة آلاف جنيه لتلك الأفدنة، وكان الرجل ينتظر أن أرفض، فأخذ يرجوني ألا يخيب أمله وألا أرده إلى البلدة خائبا، وما كادت عيني تقع على النقود حتى ضحكت ضحكة من القلب لا تلك التي كنت أتظاهر بها منذ ساعات، وقلت له بلهفة: إنك ضيفي، ومحال يا سيدي أن أردك خائبا. فشكرني الرجل، وأمضيت له العقد، وسلمني النقود، وفي الساعة التاسعة صباحا كلمت محامي صاحب المنزل تليفونيا، وما كاد يسمع صوتي حتى أجابني بشدة قائلا: «لا فائدة من الكلام يا مدام إن لم يكن معك ألف وخمسمائة جنيه لدفعها اليوم.»
قلت: «إني إنما أكلمك لتضرب لي موعدا لنذهب معا إلى المحكمة لدفع ما تريد.» قال: «ومن أين أتتك الخمسمائة جنيه، وقد أكدت بالأمس أنه لا يوجد معك إلا ألف فقط؟» قلت: «ليس ذلك من شأنك يا سيدي في شيء.» وتم شرائي المنزل في ذلك اليوم، وهنا صدمتني عقبة أخرى، وهي أن المنزل كان يسكنه ست أسر كلها من الأجانب، وكان من الصعب أن أضطرهم إلى الخروج منه، وكان البارون على وشك الحجز على أثاث المدرسة إن لم أنقله منها، فأخذت أعد العدة لإخراج هؤلاء السكان بأي ثمن كان.
إخراج السكان من المنزل
عرضت على كل ساكن مبلغ خمسين جنيها نظير أن يخرج من المنزل فرفضوا جميعا، وأخيرا اتفقت مع ساكن فقير كان يسكن «البدرون» على أن أعطيه ثلاثين جنيها، وأستأجر له شقة صغيرة، وأنقله إليها، فقبل مني ذلك ، وبعد أن استأجرت الشقة، وأعددتها له، وجئت لأخذ منقولاته رفض؛ لأن باقي السكان حرضوه على ذلك، وكان صاحب المنزل يشغل غرفة مع ذلك الساكن فاستلمت تلك الغرفة، وقلت للساكن: إني أريد أن أنقل منقولاتي إليها لأسكن فيها معكم، فرفض ذلك، وقال: إن صاحب البيت ما كان يدخلها إلا من الشباك الخلفي. قلت له: ولكني لا أستطيع دخول الغرفة إلا من أبوابها. وحصلت بيني وبينه مشادة، وأراد أن يغلق باب الشقة ليمنعني من الدخول إليها، فأمرت فراشي المدرسة فخلعوا الباب وألقوه جانبا، وجن جنون الرجل إذ رأى ذلك، وتصور أني قد جنيت جناية، كما ظن ذلك كل السكان، فخرج مسرعا إلى القسم، وعاد بضابط، فلما رآني الضابط حياني، وسألني عن المسألة، قلت: إني مالكة هذا البيت، وإني أسكن في غرفة مع هذا الساكن، وقد أراد أن يمنعني عن غرفتي، فخلعت الباب حتى لا يغلقه، وحتى أتمكن من استعمال غرفتي، وأمن الساكن على كلامي، ولكنه طلب أن أستعمل الغرفة من شباكها دون أن أدخل الشقة. ورأى الضابط تعقد الحل فقال: إن هذه مسألة مدنية لا شأن للقسم بها. وحياني وانصرف.
وقام السكان جميعهم، وحرضوا ذلك الساكن، وكان فرنسي التبعة، حرضوه أن يذهب إلى قنصل فرنسا، وأن يشكو أمره إليه، وكان لحسن الحظ أن سبق أن قنصل فرنسا قد زار المدرسة، وأعجب بتعليم اللغة الفرنسية فيها، وقرر لها مبلغا من المال لإعانتها، فكلمته تليفونيا قبل أن يصل الرجل إليه، وقلت له إني مضطرة أن أنقل المدرسة إلى ذلك المنزل بأسرع ما يمكن، وإني عرضت على الساكن ثلاثين جنيها، وأجرت له الشقة التي ينقل إليها، فوعدني بالمساعدة، ولما ذهب إليه الساكن أمره بالخروج من الشقة وبأخذ المبلغ، ولكن الرجل كان عنيدا فأصر على رأيه، ولم يقبل الخروج، وصممت أنا أيضا على رأيي، وملأت الغرفة التي أسكنها معه بعدد من موائد الأكل كما ملأت الصالة أيضا بتلك الموائد، وعارض الرجل، وكان يعمل في مدرسة الراهبات التي بجوار مدرستي، فشكا أمره إلى رئيستها، فأرسلت إحدى الراهبات لإصلاح ما بيننا، فوجدتني واقفة، وقد اكتظت الصالة بنحو 15 فاعلا أجرتهم خصيصا لذلك، فسألتني: من هؤلاء وكيف يبقون في المنزل؟ قلت: إنهم خدمي، ولا بد من مبيتهم في تلك الغرفة، وإذا كان هو لا يقبل البقاء معهم فما عليه إلا أن يترك الشقة، ويقبل المبلغ الذي عرضته عليه.
ولكن الرجل استمر في عناده، وصمم أن يبيت في غرفة نومه، وعادت الراهبة من حيث أتت، واشتريت لهؤلاء الفعلة عشرة أرطال من اللحم الضأن سلقتها على ثريد، وأمرتهم أن يتعشوا باللحم والثريد، وأن يقيموا حفلة ذكر لنبارك بها المنزل الجديد، ثم يناموا بعد ذلك في الغرفة، وضج المكان بصوتهم في حفلة الذكر، وانزعج السكان الأجانب جميعا؛ لأنهم لم يألفوا تلك الحالة، وأخيرا اضطر الساكن أن يأخذ زوجته، وأن يبيت بها في أحد الفنادق، وفي الصباح قبل مني المبلغ الذي عرضته عليه، وأخذ منقولاته، وما كاد يخلي الشقة حتى أحضرت فيها كل ما استطعت من أدوات المدرسة، وكان يسكن نصف البدروم البحري والشقة التي فوقه ساكن إيطالي، عرضت عليه أن يخرج من الشقة على أن يأخذ مقابل ذلك خمسين جنيها، فرفض وقال: أمامك المحاكم. وأردت مضايقته فاشتريت مترين من الجير وعشرة أمتار من الرمل، ووضعتها على ربوة كانت في الفناء أمام شبابيك الإيطالي، واستأجرت فاعلين بمهزتين، وأمرتهما أن يجلسا، فإذا رأيا أن شبابيك الإيطالي قد فتحت قاما بعملية الهز، فيضطر الرجل إلى إغلاق شبابيكه، وهي الشبابيك البحرية بالمنزل، وهكذا مكث العاملان مدة أسبوع، فتضايق الرجل، وقال لي: إني أجنبي كما تعلمين؛ أي في حماية. قلت: نعم! ولكنك لا تكون في حماية إلا إذا ضربت غيرك، أما إذا ضربت أنت، فأنت كأفراد المصريين، وأنت ترى معي من الرجال العدد الكثير الذي يستطيع أن يمزقك إربا بأظفاره من غير سلاح.
وخاف الرجل من هذا التهديد، كما ضايقه الجير والرمل اللذين أتلفا منقولاته، فقبل التعويض وترك المنزل، أما الساكن الذي كان أمامه في نفس الدور الذي يعلو البدروم، فقد كان مدينا لصاحب المنزل بمبلغ ثلاثين جنيها ، وحكم لصاحب المنزل بالمبلغ، وحجز على المنقولات حجزا تنفيذيا، فلم يكد يسمع مني تنازلي عن كل شيء في نظير خروجه من المنزل حتى أسرع بالخروج، وبذلك خلا البدروم والدور الذي فوقه مباشرة، أما الدور الثاني فكان يسكن في نصفه طبيب أجنبي، وفي النصف الثاني سيدة غنية كانت مغنية فيما مضى، وهنا استلمت الدور الأول والبدروم، وطلبت من الطبيب الخروج من المنزل فرفض، فقلت له: إني أغلق بابي الساعة السابعة مساء، فإذا تصادف وتأخر هو عن ذلك الميعاد فعليه أن يحضر معه نجارا ليكسر له الباب، وهكذا كان كلما عاد في المساء وجد باب المنزل مغلقا، وظل خارج الباب في أخذ ورد ونقاش إلى الساعة الحادية عشرة، أو ما بعد ذلك، وأخيرا اضطر أن يقبل التعويض، وأن يترك المنزل.
أما الساكنة الأخيرة، وهي السيدة المغنية، فلم أطلب منها الخروج، ولكني نقلت المدرسة، وجعلت الجرس تحت شباك غرفة نومها، وأمرت أحد الخدم أن يدق الجرس في الساعة السادسة صباحا من كل يوم دقا عنيفا يستغرق ربع ساعة، كما أمرت خادما آخر أن يستلم خطاباتها التي ترد من البوستة، وأن لا يسلمها إليها إلا في الساعة السادسة والنصف صباحا، فكانت المسكينة لا تكاد تخلص من دقات الجرس الشديدة حتى تسمع قرع باب شقتها قرعا شديدا متواليا، فلم تستطع البقاء على ذلك أكثر من أسبوع، وخرجت من المنزل دون أن تأخذ شيئا، أما الساكن الذي كان يشغل الإسطبل التابع للمدرسة، وكان هو أيضا أجنبيا، فلم أتعب في إخراجه، بل خرج على أبسط صورة بعد أن تنازلت له عن بعض الإيجار الذي كان متأخرا عليه، وهكذا أخرجت ستة من السكان في مدة شهر واحد، وابتدأت في أن أنقل باقي المدرسة لهذا المنزل، وكنت أعلم أن البارون قد كسب القضية المرفوعة، وأنه على وشك الحجز، فأخذت أنقل في السر دون أن أخبر التلميذات، حتى إذا تم نقل كل شيء في الخميس والجمعة، عادت التلميذات يوم السبت فوجدن المدرسة في بنائها الجديد، وأسرعت العيون الموضوعة علي فأخبرت أولي الشأن بما جرى، فاستعجلوا المحضر يوم السبت، ولكنه لم يستطع الحضور إلا في يوم الإثنين؛ لأن الأحد عطلة رسمية للمحاكم المختلطة.
حضر المحضر يوم الإثنين في منزل البارون فوجد الباب مغلقا، وسأل من الجيران عن المكان الذي نقلت إليه المدرسة، فدلوه علي، فجاءني في منزلي الجديد، وهنا تذكرت فجأة أن سيارات المدرسة الكبيرة كانت لا تزال في فناء منزل البارون، وخشيت أن يفطن المحضر لذلك فأجلسته في مكتبي، وقلت له: إني لا علاقة لي بمنزل البارون، ولم أكن مستأجرة له، ولكن المستأجر صديق لي، وأستطيع أن أحضر منه المفاتيح بكل سرعة، وأجلسته في مكتبي، وأغلقت باب الشقة حتى لا يستطيع الخروج، وأسرعت إلى منزل البارون، فأخرجت السيارات بكل سرعة، وأرسلتها إلى فناء المنزل الجديد، وعدت إلى المحضر، وأعطيته مفاتيح منزل البارون، فذهب إليه، ولم يجد به شيئا يحجزه، ورفع دعوى علي أنا شخصيا، وأوقع حجزا تحفظيا على منقولاتي، ولكن المحكمة المختلطة رفضت دعواه؛ لأني لم أكن مستأجرة للمنزل، ولا علاقة رسمية بيني وبين البارون، واشتد الغيظ بالبارون، وحجز على منزل زوج رئيسة الجمعية؛ لأنه هو المستأجر الرسمي، وجاءني يقول لي كيف يحجز على منزله في مشكلة تتعلق بالمدرسة التي أستغلها أنا؟ فقلت له: إني آسفة لذلك، ولو أنك أدخلتني في الدعوة كما طلبت منك لأدافع عن نفسي لما حصل شيء من هذا، ومع ذلك فإني مستعدة أن أدفع المبلغ المحكوم به، على شرط أن تبيع لي الجمعية الأدوات، وإلا فللجمعية أن تستلم أدواتها، وأن تعطيني إيصال الاستلام، وتتصرف في بيع تلك الأدوات لسداد المبلغ المحكوم به، أما هو فقد فضل أن يعطيني الإيصال الذي أخذ علي باستلام الأدوات، وأن يأخذ مني المبلغ المحكوم به، ومقداره 200 جنيه.
وهكذا انتهت تلك المشكلة.
مناورات
انتهت مشكلة المنزل، وسكنت المدرسة في منزلي الخاص، وكنت ولا أزال أعتقد أن البارون منشة، وهو صاحب المنزل القديم قد حرض على ما فعل، ولا زالت اليد المحرضة تعمل ضدي، فإني ما كدت أعمل في المنزل الجديد أربعة شهور حتى زارني أحمد بك كامل، وكان في ذلك الوقت مراقبا مساعدا لتعليم البنات، فرحبت به اعتقادا مني أنه جاء ليزورني، ولكن شد ما كان أسفي عندما أخبرني أنه جاء ليحاسبني عن مال جمعية ترقية الفتاة، فقلت باسمة: وما قرابتك يا سيدي لجمعية ترقية الفتاة؟ قال: إن وزارة المعارف مسئولة عن الأموال التي تجمع باسم التعليم. فأبنت له أن المدرسة لم تصرف من مال الجمعية شيئا، ولم يصلها من الجمعية إلا أدوات مدرسية كانت قد تركتها وديعة، وأخذت بها إيصالا، ثم عادت فأخذت مني مبلغ 200 جنيه ثمنا لتلك الأدوات، وردت لي الإيصال، أما شروطي مع الجمعية، فقد كانت تمنع الجمعية منعا باتا من التدخل في مال المدرسة. أظهرت له الشروط، قال: وكيف قبل عدد من القضاة أن يكتبوا معك شروطا كهذه؟ قلت: لأني كنت مصممة عليها، ولأن إرادتي - والحمد لله - قوية لا يقف أمامها شيء. قال: فليس لنا إذن ما نحاسبك عليه. وحياني، وانصرف.
وأخذت اليد المحرضة ضدي تحرض إنجليز وزارة المعارف على محاربتي بدعوى أني ضد الإنجليز، وإني أكرر ثانية وثالثة أن التهمة كانت باطلة، وإني أنا شخصيا لم أعمل في السياسة، بل وجهت كل جهودي إلى تعليم البنت، ولا أدري أكان الإنجليز يجهلون حقيقة الأمر التي لم يكن فيها من ريب أو شك، أم أنهم كانوا غير راضين عن طريقتي في تعليم البنت، فكانوا يحاربون المبدأ لا شخصه، وعلى كل حال فقد كانت الحرب مستمرة، والقائمون بها - ولا شك - أقوياء، ولم تكن مدرستي خاضعة لتفتيش الوزارة؛ ولهذا لم تكن وزارة المعارف تعطيني إعانة، وقد عرض على كثير من وزراء المعارف محاربة المدرسة، وكان منهم المغفور له أبو السعود باشا، وجعفر والي باشا وغيره، وكنت في ذلك الوقت قد حولت مرتبي إلى بنك مصر فرع الإسكندرية، وكنت أنتظر من يوم لآخر أن تفصلني الوزارة، وتمنع صرف المرتب، ولكن الوزارة كانت متجهة إلى إغلاق المدرسة لا إلى فصلي منها؛ ولذلك كانت تحاول إعادتي بكل الوسائل، وكنت أنا أرفض، ولكي يصل أعدائي إلى إغلاق المدرسة عرضوا على صاحب المعالي المغفور له أبو السعود باشا أنهم في حاجة إلى جهودي، وأنه يجب ردي إلى العمل بأي ثمن كان، ولم يكن المغفور له يعرف نواياهم، وكان رجلا ذكيا نزيها لا يعرف التواء، فعرض علي الأمر، وطلب مني أن أقبل العودة إلى العمل، فأفهمته ما يحاك ضدي من الدسائس، وقلت له: لا أود بحال من الأحوال إغلاق مدرستي؛ لأني غير واثقة من حسن نية رجال وزارة المعارف، خصوصا الإنجليز منهم، بعد ما تركهم المرحوم المستر دانلوب، وقلت له: إني مع ذلك لا أتأخر عن العمل بالوزارة إذا عينتني مفتشة للتعليم الأولي بالإسكندرية وضواحيها، وفي الحال صدر أمر معاليه بذلك، وأرسلت نشرة إلى المدارس بذلك التعيين، ولم أشأ ترك مدرستي فنقلت كاتب التفتيش إليها، وأخليت له غرفة منها بدون أجر طبعا، وهكذا لم تستطع الوزارة نقلي إلى مقر وظيفتي بالقاهرة، فنقلت الوظيفة إلى منزلي بالإسكندرية.
علمت المدارس الأولية بتعييني، وكانت المعلمات بالطبع يعرفن شدة حرصي على الأخلاق، فأخذن يصلحن من زيهن، ولم أزر المدارس إلا بعد 15 يوما من تعييني لأعطي لهن الوقت الكافي للاستعداد بلبس محتشم، وكنت أعلم أن الكثيرات كن يذهبن إلى مقر مفتش التعليم الأولي بلبس خارج عن الكمال والحشمة، أما أنا فلم تزرني إحداهن في مقر وظيفتي؛ لأني أظهرت لمن زارتني منهن أول مرة عدم رضائي عن تعطيل أعمال المدارس، وهكذا انقطعن عن زيارة مقر التفتيش، وانصرفن إلى أعمالهن بالمدارس، وزرت المدارس بعد ذلك فلم أجد في لبسهن إلا الحشمة والكمال، وأتذكر أني لم أؤنب واحدة منهن عن خروجها عن الكمال في ملبسها، بل كنت إذا رأيت إحداهن تلبس ما لا أريده، وجهت كلامي إلى زميلتها المحتشمة، فامتدحت حشمتها، وأطريت كمالها، وقلت إن ذلك الكمال قد زادها جمالا وهيبة، فكان ذلك يدفع زميلتها المتبرجة إلى الكمال والحشمة سعيا وراء رضائي، واقتناصا لمدحي وإطرائي، وهكذا انتظم لبس المعلمات دون أخذ ولا رد، وشعر كل أهالي الإسكندرية بذلك التغيير، فاستدعاني المغفور له أبو السعود باشا، وأثنى علي فيما وصلت إليه المعلمات من الكمال في زيهن، وضايق ذلك رؤسائي من رجال وزارة المعارف، فاستمروا في محاربتي ليظفروا بما يريدون.
انتقلت الوزارة في صيف ذلك العام إلى الإسكندرية، وكان أحد كبراء الوزارة معروفا لدى المعلمات بمسلكه وميله إلى المجون واللعب، فأخذ بعضهن يذهب إليه خفية دون علمي، وذهبت يوما فوجدت إحدى معلمات المدارس الأولية وهي جالسة أمام مكتبه، وقد تبرجت تبرجا معيبا مزريا، وما إن دخلت الغرفة حت ارتعدت الفتاة، وارتعد ذلك الكبير أيضا، وقام ليحييني فضغط على يدي، وغمز بعينه يريد أن يلفتني إلى تبرج الفتاة، وإلى أنه غير راض عن ذلك، فنظرت أنا إلى المعلمة، وقلت لها: إن سعادته يضغط على كفي مظهرا عدم رضائه عن زيك، مع أنه كان جالسا يحدثك، فكأنه يا ابنتي يغرر بك، وأنت أيها الرئيس لم تظهر عدم رضائك الآن بعد أن جلست معك مدة؟ أما كان الواجب عليك أن تظهر لها عدم الرضاء ساعة دخولها عليك؛ لترشدها إلى السبيل السوي لا أن تلاينها وتمازحها، وتدعي أمامي أنك غير راض عن تبرجها، وتركت الفتاة الغرفة مسرعة بالخروج، وبقي هو وقد تلجلج فلم يستطع أن يرد جوابا.
ودخلت على المغفور له أبو السعود باشا، وأمامه ذلك الكبير، ويظهر أنه خجل من فعلته، وأراد أن يداريها فقال لأبي السعود باشا: لقد جاءتني إحدى المعلمات اليوم، وهي متبرجة تبرجا معيبا. قلت: نعم، وهل علمت سعادتك السبب؟ إنها لا تقابلني بهذا الزي مطلقا، ولكنها اختارته لسعادتك؛ لأنها تعلم أنك تموت غراما بمثل ذلك الزي، وترقي صاحباتك، فجاءت لتولعك بها علها ترقى، أما أنا فلا تقابلني إلا كاملة محتشمة لعلمها أن في كمالها ما يحملني على ترقيتها، ولقد كان الأولى بك أن تكتم ذلك عن معالي الوزير، لا أن تذكره أمامه فيعرف ما لا يرضاه. وأقسم أن ذلك الكبير سكت فلم يجبني بشيء والحق يلجم. أما معالي الوزير فابتسم ابتسامة لها كل مغزاها، وخرجت من عند معالي الوزير، وخرج ذلك الكبير معي، وهو يقول : لقد خلقت شاذة، لا أنت بالرجل ولا بالمرأة، وكان الأحرى بك أن تعلمي أن من مستلزمات النساء تزيينهن وإلا عد ذلك خروجا على الطبيعة. قلت: إن الزمن قد تغير يا سيدي، وقد أصبحت المرأة تعمل، وأصبح من مستلزماتها الجد والكمال لتستطيع إتقان عملها، وإلا خسرت الحكومة كثيرا من توظف النساء.
خديعة
لم يكن الغرض من توظيفي بالإسكندرية أن أعمل، لكنهم أرادوا أن يخدعوني لأترك المدرسة وأعود إلى الوزارة، وكان الغرض الرئيسي في الخديعة هو إغلاق المدرسة، فلما قبلت أن أقوم بالتفتيش بالإسكندرية، وفي نفس مدرستي، أخذوا يحسنون معاملتي لأثق بهم، ثم عينوني بعد ذلك كبيرة مفتشات، وطلبوا مني ترك المدرسة، وتولي عملي بالقاهرة، ولكني مع ذلك رفضت، ولم أقبل ترك مدرستي، وأرسل إلي وكيل الوزارة إذ ذاك حضرة صاحب العزة علي بك عمر يقول لي: إن سعادة الوكيل قد علم أني ضد الإنجليز، فأقسمت له إني لم أكن يوما من الأيام ضدهم، ولم ألتفت إلى السياسة مطلقا. قال: على كل حال فقد علم سعادته أنهم هم على الأقل ضدك، وهم الذين منعوك من العمل، ولما كان سعادته وطنيا صميما كما تعلمين، فهو يريد أن يردك إلى العمل قياما بواجب الوطنية. قلت: فإذا كان الإنجليز يا سيدي ضدي، وهم أصحاب السلطة والنفوذ هنا، فكيف يستطيع سعادة الوكيل مناوأة قوم أقوياء من أجل فتاة لا يعرفها؟ لم أكن يوما من الأيام خيالية، ولست أصدق أن أحدا في مصر يستطيع قهر الإنجليز، وإني شخصيا لا أريد محاربتهم؛ لأني أعلم أني لا أستطيعها، ولا أدري كيف دفع سعادة الوكيل بنفسه إلى ذلك المأزق الحرج من أجل فتاة لا يعرفها.
فقال لي المرحوم علي بك عمر: إما أن تذهبي معي الآن، أو أن تكتبي لسعادته خطابا. ففضلت الثانية، وكتبت أقول لسعادة الوكيل: إني أشكره على وطنيته التي دفعته للانتصار لي، ولكني في الوقت ذاته أنصح له أن يتركني حيث أنا؛ لأن الإنجليز أصحاب البلاد هنا، وليس من الحكمة أن يقف هو في طريقهم من أجل فتاة لا يعرفها، ومن هي تلك الفتاة حتى يجوز لوكيل وزارة المعارف أن يزعزع مركزه من أجلها ما دامت هي نفسها لا تريد أن تقاوم الإنجليز، بل تريد أن تنفذ رغباتهم ببقائها خارج الوزارة، فجاءني من سعادته خطاب سأنشر صورته بالزنكوغراف في العدد القادم؛ لأن ذلك الخطاب كان أصل بلائي وأول شقائي.
Halaman tidak diketahui