وقد وقع عليها لومه مرا وحدا، وإن كان قد عبر عنه بأسلوب رقيق، ونطق به بصوت يشف به عن الحزن أكثر منه عن الغضب، فإنه قال لها: «لا أرتاب في أني كنت لك على المدى زوجا أمينا مخلصا، ولست أعلم ماذا أردته فوق ما فعلته لك، فقد أحببتك حبا صادقا صحيحا، وبذلت قدامك ما يتعذر وصفه من الإعزاز والإكرام، فرفعتك إلى أسمى رتبة وأعلى مقام، واتكلت عليك غير مرة في مشاركتي في الحكم وإدارة شئون المملكة، ووثقت بك فاستودعتك أهم ما تحت سلطاني، والآن هذا هو جزائي، فإنك استعملت نفس المركز والقوة والوسائط التي أقامك عليها زوجك الأمين آلة لتسليمه بأقبح الطرق، ووسيلة لمساعدة وتقوية ألد أعدائه وأشدهم».
فلم تجب متيلدا بشيء على توبيخه سوى احتجاجها عن ولدها واعتذارها بأنه فعلت ذلك إصغاء لصوت المحبة الوالدية الذي لم يمكنها سد أذنيها دونه، فقالت له: ولم يسعني احتمال ترك روبرت يعاني الضيق والألم على حين أستطيع إنقاذه؛ فهو ولدي ودائما أفتكر به، وإني لأحبه أكثر من نفسي، وهو ذا الآن أصرح على مرأى ومسمع منك بأنه لو مات وأمكنني إرجاعه إلى الحياة بأن أموت لأجله لفعلت ذلك بكل فرح وسرور، فإذا كيف تتوهم أنه يمكنني أن أعيش هنا على السعة والرحب، وأتقلب على بساط الرخاء والرغد بينما هو يجول من مكان إلى آخر في غاية الضنك ولا أجتهد في إعانته، فسواء كان يحق لي أن أشعر هكذا أو لا لست أعلم، إنما هذا أعلم وهو أنه ينبغي لي أن أشعر هكذا، فما احتيالي هو ابننا البكر ولا أستطيع أن أهجره؟».
فخرج وليم من حضرتها يتضرم غيظا وكدرا غير قادر أن يفعل معها شيئا سوى التوبيخ، لكنه عول على معاقبة الرسول سمبسون معاقبة شديدة، فأصدر أمرا إلى القلعة حيث كان مسجونا بأن تقلع عيناه، فبلغ ذلك متيلدا ، وفي الحال أرسلت له نذيرا فلم يعتم أن هرب إلى دير كان تحت حمايتها وعنايتها، ومعلوم أن الأديرة في ذلك العهد كانت كمدن الملجأ في أيام الإسرائيليين حرما لا يجسر أحد أيا كان أن يطارد فريسته إلى داخلها، أما رئيس ذلك الدير فلكي يضمن حماية سمبسون أشار عليه أن يترهب، وهذا إذ كان راضيا أن يفعل بسرور كل ما يكفل له سلامة حياته حلق في الحال وقص شعره ولبس الحلة الرهبانية، ووقف حياته على تلك الخدمة متعهدا بوفاء نذورها، متبعا طريقة إخوانه الرهبان فيما يتعلق بالأصوام والتقشفات، وعندها تركه وليم يمارس خدمته بسلام.
وبعد اكتشاف هذه المواصلات بين الابن والأم صارت الأمور إلى حال أردأ بعدما كان ينتظر لها اطراد مجرى التحسين، فإن كثيرين داخل نورماندي وخارجها مالوا إلى جانب روبرت حتى ألف حزبه جيشا كبيرا، وعقدوا لواء قيادته له، وخرجوا به لمهاجمة مدينة روان، فأوجس الملك من ذلك خوفا عظيما، وجمع كل ما كان لديه من القوات وانطلق لمحاربة ابنه العاصي الثائر وبرفقته ابنه وليم روفوس، وجلست متيلدا ضمن قصرها مثقلة بآلام الخوف والحزن، وفي حالة كحالة كل أم وزوجة يتصل بها خبر معركة دموية بين ابنها وزوجها، فكان مجرد افتكارها فقط بأن أحدهما قد قتل الآخر كافيا لأن يطبق عليها بظلام الحزن الأبدي، وبالحقيقة إن ما توقعته متيلدا من المخاطر كان على الأبواب، فإن روبرت لم يستطع في قلعة ليفل الوصول إلى أخيه والفتك به.
أما الآن فقد تمكن من أبيه في سهر أرشمبري حيث حدثت هذه المعركة، وطعنه طعنة كانت لولا قليل صرعته قتيلا، وتفصيل ذلك أنه بينما كان الفرسان يجولون في معمعة القتال يضايقون بعضهم بعضا وهم غارقون بعددهم الحربية لا يتبين الواحد منهم وجه الآخر الواقف أمامه، إذا بروبرت قد التقى بفارس طويل النجاد عظيم الجثة، فصوب سنان رمحه نحوه، وطعنه في ذراعه فسقط على الأرض يئن من شدة الألم، ومن صوته عرفه روبرت أنه أبوه، كما أن وليم عرف أيضا أن عدوه الذي طعنه كان ابنه، فانبرى يفرغ عليه كنانة السخط والغضب، ويلعنه بأعظم اللعنات، وعندها ترجل روبرت مذعورا، وخر على الأرض بجانب أبيه صارخا مستغيثا، فأشاح وليم عنه وأبى قبول أدنى مساعدة منه.
ولم ينحصر مصاب وليم وقتئذ بسقوطه عن جواده وتأثره من جرحه البليغ، بل زاد على ذلك تقهقر رجاله، وانتصار قوم روبرت، حتى إن وليم روفوس جرح أيضا كأبيه، ولا تسل عن حالة متيلدا وقتئذ، فإنها باتت غرقى في بحار الهموم تتقاذفها تيارات الكآبة والحزن، حتى لم يعد في وسعها أن تتكبد رؤية هذه المخاصمات المريعة، فتوسلت إلى زوجها بحرارة ودموع غزيرة أن يجد طريقة لحسم هذه المنازعة التي لأجلها قضت الليالي سهرا، وصرفت الأيام نائحة باكية حتى عبثت بصحتها وقوتها أيدي النحول والخوار، ومالت بظلهما إلى التقلص والانحلال، وأصبحت ضئيلة نحيلة صفراء كالخيال، بحيث صار يتراءى للناظر إليها أنه إذا طالت مدة وطأة هذا المصاب عليها تذوب بنار حزنها وقهرها، وتنحدر بقوة يأسها إلى قبرها.
على أن وليم استجاب توسلاتها وأرسل فدعا ابنه، وبعد مداولات ومباحثات عقدت بينهما صلات الصلح والسلام، وانقطعت أسباب النزاع والخصام، وعاد وليم وروبرت إلى صداقة وطيدة البنيان، وتحاب شديد الالتحام، وبعد ذلك بقليل سافر وليم لإنكلترا لإنشاء قوة عسكرية في شماليها، فاستصحب روبرت معه إلى تلك الأقطار كأحد قواده الكبار.
الفصل الثاني عشر
الخاتمة
مضى على الملك وليم نحو عشرين سنة من معركة هستن سنة 1066 إلى وقت موته سنة 1087، قضاها ملكا مرهوب الجانب، مؤيد السلطة، مرفوع المنار في جميع جهات المملكة وإن كان لم يخل له فيها جو السيادة من أكدار المخاطر والمصاعب والمناوشات المتعددة، وكان قد استصحب معه من نورماندي إلى إنكلترا عددا كثيرا من النورماند، وألقى إليهم مقاليد القوة العسكرية والملكية، وقد اعتمد على حذقه ودرايته في كيفية إدارة الشئون وتخليص رئاسة السلطة إليه.
Halaman tidak diketahui