فزحف إليها وليم برجاله وخيم حولها، وحصر العصاة ضمنها، أما الملك هنري الذي كان لا يزال باقيا على مقربة من نورماندي، فأخذ يتهيأ بجيشه ليأتي إلى نجدة الأمير أرك.
فلما أحاط وليم علما بقدومه ترك قسما من عسكره في محاصرة القلعة، وخرج في القسم الآخر لملاقاة الملك هنري، وانتهى الأمر بقتال عنيف دارت فيه الدائرة على الملك هنري، وحاز وليم الشاب انتصارا مجيدا.
وبيان ذلك أنه كان على الملك هنري أن يسير بجيشه في واد طويل ضيق مظلم إلى جهة قلعة أرك، فجر عساكره في مجاهيل ذلك المضيق وهم في غاية النظام والإحكام، وكان مقدم ذلك الجيش مؤلفا من كماة غارقين في الحديد، متسلحين بالأقواس الحربية والحراب والرماح وأنواع أخر من الأسلحة التي اشتهر استعمالها في ذلك العهد، ثم عقب هذه الفرقة حاملو الأثقال من خيام ومئونات ومهمات أخر حربية، ثم جاء بعدهم الخدام من طباخين وساقة مركبات وفعلة وغيرهم من الذين أتوا لإعداد الضروريات حلا وترحالا، وبعدهم دخلت فرقة القلب وفيها الملك يتقدمها مخفورا بحرسه الملوكي، ثم تلاها مؤخر الجيش.
ولما بلغ وليم أن الملك هنري زاحف إليه بذلك الجيش الكثيف ارتأى في الحال أن يكمن له في الطريق، ويجره إلى تيه سحيق، يعجل فيه اخترامه، ويوصل إلى كل هاتيك الأنحاء انهزامه، وعليه انتخب من رجاله النورمانديين أبطالا مجربين، وكماة بكل ضروب الأسلحة مدججين، وساقهم إلى مضيق وأمرهم بالاختباء على جانبيه بين الأدغال والغابات، وأوعز إلى فرقة أخرى أن تتقدمهم لملاقاة جيوش هنري وتفتح معها القتال، ثم تنكسر قدامها متقهقرة بترتيب، بحيث يتوهم الملك هنري أن هذه كل حامية وليم وقد ولت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، فيطمع في أنه حازها ويتأثرها وهي تنكفئ نحو ذلك المضيق، حتى إذا ما تعقبها هنري بكامل جيوشه، وأصبح هو وكل عساكره في بطن ذلك الوادي طلعت عليه تلك الأسود الكامنة في غاباتها من الوراء، وانهالت على طلائعه كالقضاء، وارتدت إليه تلك الأبطال من الأمام، بعد إذ تظاهرت بالانهزام.
وهكذا تسنى لوليم بهذه المكيدة الاستظهار على هنري والفتك به، ورده ورجاله على أعقابهم مدحورين منكوصين، فإن مقدم جيوش هنري انخدع بانكسار الفرقة النورماندية أمامه، وظنها أيضا أنها كل عسكر العدو فصغرت في عينيه، وسهلت الظفر لديه؛ ولذاك غار عليها بملء الغيرة والحمية، واتصل نبأ هذا الهجوم إلى كل أقسام جيش هنري، فهاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا وأبرقوا وأرعدوا، واندفعوا يتزاحمون نحو عدوهم الهارب أمامهم حتى سالت بهم تلك الأرض وارتجت من صخب أصواتهم بالطول والعرض، وما فتئوا بين دفاع وازدحام في ذلك المضيق على بعضهم البعض، وطفقوا يموجون فيه ويخطرون، ويطلبون الأعداء ولا ينظرون، وبينما هم كذلك انطبق عليهم الكمين من الوراء انطباق القدر، ورجع إليهم المنهزمون وانصبوا انصباب المطر، ومطرتهم سماء المنون بسهام ورماح وحراب لا تبقي ولا تذر، حتى انطرح منهم في الحال مئات، وتمنى الأحياء بينهم لو سبقوا الأموات، وما برحوا يخرون صرعى المنون في تلك الوهاد، ويرون عدد ضراغم النورمانديين الخارجة من عرنها في تكاثر وازدياد حتى زهقت من جميعهم الأرواح، وتيقنوا حلول الأجل المتاح، فأخذوا يتدافعون ويلتطمون ويزحمون بعضهم بعضا، ويدوسون بعضهم بعضا لعلهم يجدون إلى الحياة سبيلا، أو ينقعون من ماء النجاة غليلا، حتى سقطت موتاهم في تلك القفار طعاما لطيور السماء ووحوش الفلاة، وفر أحياؤهم لا يلوون إلا على الخزي والعار وهم يقولون: النجاة النجاة.
وبالجهد قدر الملك هنري أن يلم شعث رجاله الطوال الأعمال الذين تفرقوا تحت كل كوكب في هاتيك الأنحاء، فظل أكثر من يومين ينشدهم بين النجاد والوهاد، حتى جمعهم شرذمة قليلة العدد، وخيم بهم في بقعة صغيرة.
ومهما يكن في نبأ هذا الانتصار من العجب والانذهال، فهو دون الطفيف في جانب النظر إلى اتضاع وليم وكرم أخلاقه وصدق عاطفته؛ لأنه وهو معدي عليه أولا، وظافر قاهر آخرا بادر في الحال وقدم لملكه هنري رقيم الطاعة، يفصح فيه عن أسفه على ما جرى، ويبين له استمراره على الرضوخ له، وحسبانه ملكه وسلطانه، واستعداده للقيام بكل ما يندبه إليه من المهام والأعمال إصلاحية كانت أو دفاعية، واتكاله عليه في شق عصا العصاة، وإرغام أنوف البغاة العتاة، على أن وليم وإن أقر باحتياجه إلى إمداد سلطانه، فقد تعلم منذ نعومة أظفاره أن يعول على ذاته، ويحك جلده بظفره؛ ولهذا ما عتم بعد أن خبت نيران الحرب بينه وبين هنري أن زحف على قلعة أرك، وحالا افتتحها عنوة، وعفا عن أميرها. وتلك كانت خاتمة الثورات، وأرك آخر الثورة.
وعندها ركب وليم راجعا لفاليس منتصرا مظفرا تخفق فوق رأسه أعلام النصر والغلبة، وتسير أمامه مواكب العز والاحتفاء، وهكذا جلس على عرش الإمارة يدبر الأحكام بالسلام، وطائر الأمن والمسرة يشدو فوق الربوع النورماندية بأطرب الأنغام.
الفصل الرابع
ملك وليم في نورماندي
Halaman tidak diketahui