تاريخ الأسرة التيمورية‏

تاريخ الأسرة التيمورية‏

تاريخ الأسرة التيمورية

تاريخ الأسرة التيمورية

تأليف

أحمد تيمور باشا

تاريخ الأسرة التيمورية

(1) السيد محمد تيمور كاشف

هو من أسرة كردية كانت تسكن «بقره جولان»، وهي بلدة بكردستان من ولاية الموصل، اتصل بها الخراب في القرن الماضي بعد بناء السليمانية. ولا يعرف عن هذه الأسرة شيء بالتفصيل سوى أن أحد أفرادها - وهو المترجم - فارقها إثر خصام وقع بينه وبين أخيه، والتحق بالجيش العثماني.

ولأفراد هذه الأسرة نعرة وتفاخر بأصلهم العربي اعتمادا على ما أثبته مؤرخو العرب في أصل الكرد، وجزم به محققوهم كابن الكلبي وابن خلكان وغيرهما من اتصال نسبهم بقحطان، وأنهم من نسل «عمرو مزيقياء» ابن عامر ماء السماء، أو أنهم عدنانيون في قول آخرين على ما هو مفصل في موضعه من كتب اللغة والتاريخ.

على أن هذه الأسرة تمت إلى العروبة بسبب آخر من جهة الشرف على ما ينقله خلفهم عن السلف وهو علة ورود أسماء أفرادها في الأوراق والصكوك القديمة مقرونة بلفظ «السيد» حتى بنى المترجم داره بدرب سعادة سنة 1230 نقش على رخامة ببابها «السيد محمد تيمور». ومن تلك الأوراق علمنا أنه محمد بن إسماعيل بن علي كرد، والله سبحانه أعلم.

وكان وصول المترجم إلى مصر مع الجنود المرسلين إليها بعد نزوح الفرنسيين، فوقع بينه وبين محمد علي - أحد مقدميهم - تآلف غريب وصداقة أكيدة ظهر أثرها بعد ولايته على مصر؛ فإنه لم يكد يرتقي حتى أخذ بيد المترجم معه وتدرج به في الارتقاء حتى جعله من كبار قواده، واعتمد عليه في كثير من شئونه، كحادثة الفتك بأمراء الجراكسة بالقلعة، وغيرها مما كان يقدم عليه أو يقوم في وجهه من النوازل والفتن، ولم يقصره على الجندية بل ولاه عدة أعمال من أعمال البلاد المصرية المسماة إذ ذاك «الكشوفية»، ومنها لزمه لقب الكاشف الذي كان يلقب به حتى بعد تركه تلك الأعمال.

ولما جرد جيشا لمحاربة الوهابية بقيادة ولده طوسون باشا اختار جماعة من قواده المحنكين، وكان فيهم المترجم، فقدر الله لهذا الجيش الهزيمة والتشتت، وذهب المترجم مع من ذهب إلى المويلح، ثم رجعوا إلى طوسون باشا بينبع البحر، وغضب عليهم محمد علي غضبا شديدا من جراء ذلك، ثم عاد وصفح عنهم تأليفا لقلوبهم وقلوب عسكرهم وأذن لهم بالحضور إلى مصر، فوصلوا إليها في شهر ربيع الآخر سنة 1227. ولما مهدت أمور الحجاز ولي المترجم إمارة مدينة الرسول، وبقي بها خمس سنوات، ثم فصل عنها ولم يعد للمناصب المصرية، وكان أعجزه الهرم فوظفت له الحكومة مرتبا كافيا، وأقام بداره مقبلا على العبادة إلى أن توفاه الله سنة 1264، وقد ناهز الثمانين من عمره، ودفن في مرقده الذي أعده لنفسه ولأسرته بالقرب من مقام الإمام الشافعي.

ولم يكن يتعاطى شيئا من أمور الحكومة في تلك الفترة إلا ما كان يستشيره فيه عزيز مصر، وكثيرا ما كان يفعل فيدعوه إلى قصره بشبرا أو يركبه معه في عجلته عند ذهابه إليه. وبلغ من بره أنه كان لا يخاطبه إلا بلفظ «أرقداش» أي الأخ أو الرفيق. وقد تعدت هذه المحبة من الوالد إلى الولد فاتصلت بينه وبين إبراهيم باشا نجل العزيز؛ فكان كثيرا ما يدعوه للسمر معه أو يمر عليه بداره بدرب سعادة ويصحبه إلى حيث يريد. (1-1) حليته وأخلاقه

كان ربعة إلى القصر، أبيض الوجه، كبير اللحية أشيبها، لباسه السراويل الواسعة والجبة، والعمامة الكبيرة ولم يغيرها إلى مماته. وكان على جانب كبير من التقوى، كثير البكاء والاستغفار عقب كل صلاة، عادلا في حكومته مع شيء من الشدة الغالبة على حكام ذلك الزمن. (1-2) أولاده

ولد له عدة بنين وبنات، لم يعش منهم غير ولده إسماعيل المرزوق له من السيدة عائشة الصديقية بنت عبد الرحمن أفندي، أحد كتاب الديوان السلطاني (وسيأتي خبر ذلك فيما يلي). (1-3) لقبه

لفظ «تيمور» الملقبة به هذه الأسرة لفظ تركي معناه الحديد، والأتراك يقولون فيه أيضا «دمير ودمور»، ولم يذكره العلامة أبو حيان النحوي في كتابه «الإدراك للسان الأتراك»، بل دمر وتمر.

والدائر على الألسنة اليوم فتح أوله. ولم نقف على نص في ضبطه في المعاجم التركية التي بأيدينا، إلا أن بعض أهل العلم زعم أن الصواب فيه كسر الأول، وهو مطابق للمعروف عند أفراد هذه الأسرة، وبه ضبطه أيضا العلامة محمد عبد الحي اللكنوي في تعليقاته على كتابه «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» المسماة ب «التعليقات السنية»؛ فقال فيما علقه على ترجمة السيد الشريف الجرجاني ذاكرا تيمورلنك الشهير ما نصه: «هو بكسر التاء المثناة الفوقية وسكون الياء المثناة التحتية وواو ساكنة بين ميم مضمومة وراء.» إلى أن قال: «والعرب يقولون في اسمه تمور تارة وتمرلنك تارة أخرى» ا.ه.

قلت: ولعل القول الثاني منشأ قول الإفرنج فيه

Tamerlan

على أننا رأيناهم قالوا فيه أيضا:

Timour-leng

أي بكسر أوله على ما قدمنا وإثبات الكاف الفارسية في آخره التي ينطق بها كالجيم المصرية، لكن المولى محمد حفيد نص في «الدرر المنتخبات المنثورة» على أنه بفتح الأول. وهو ثقة في لسانه.

والعامة في مصر لا يكادون ينطقون بتيمور، بل يقولون فيه «تمر» بفتح فكسر، وربما أشبعوا الكسرة فقالوا تمير. وتارة يقولون: تمور. وتارة أخرى: تامر؛ وبه عبر الجبرتي عن المترجم في تاريخه، فقال في حوادث ذي الحجة سنة 1226:

فأما الذين ذهبوا إلى المويلح فهم تامر كاشف، وحسين بيك والي باشا، وآخرون؛ فأقاموا في انتظار إذن الباشا في رجعوهم إلى مصر أو عدم رجوعهم.

وقال في حوادث ربيع الآخر سنة 1227:

وفي عاشره حضر تامر كاشف ومحو بيك وعبد الله أغا؛ وهم الذين كانوا حضروا إلى المويلح بعد الهزيمة، فأقاموا به مدة، ثم ذهبوا إلى ينبع البحر عند طوسون باشا، ثم حضروا في هذه الأيام بدعوة الباشا.

وقال في حوادث جمادى الأولى سنة 1235:

وفيه خرج الباشا إلى ناحية القليوبية حيث الخيول في الربيع، وخرج محو بيك لضيافته بقلقشندة، وأخرج خياما وجمالا كثيرة محملة بالفرش والنحاس وآلات الطبخ والأرز والسمن والعسل والزيت والحطب والسكر وغير ذلك، وأضافه ثلاثة أيام. وكذلك تامر كاشف الناحية وغيره، وكذلك أحضر له ضيافة ابن شديد شيخ الحويطات وابن الشواربي كبير قليوب وابن عسر، وكان صحبة الباشا ولداه إبراهيم باشا وإسماعيل باشا وحسن باشا.

وكذلك صاحب الخطط التوفيقية علي مبارك باشا تابع فيه المشهور على الألسنة، فقال عن والد المترجم عند كلامه على الدور في شارع درب سعادة: «ودار الأمير إسماعيل باشا تمر الكاشف بها جنينة كبيرة.» ولقبه في موضع آخر تيمور، وهما لغتان فيه على ما تقدم، ولا حرج من استعمالهما، ولكن كان الأجدر به في مثل هذا المقام ذكره بما هو معروف به في الحكومة وعند الخاصة، ولا سيما المؤلف الذي كان أحد أصدقائه ومريديه.

ونشرت الوقائع المصرية بتاريخ 8 ربيع الأول سنة 1245 أنه صدر أمر محمد علي باشا بجمع مجلس من أدباء المناصب والعلماء بالقاهرة، ومن مأموري الأقاليم المصرية ومشايخ البلاد للمشاورة في أمور الحكومة. واجتمع في 3 ربيع المذكور وبعده، وورد فيه أن من أعضائه تيمور أغا مأمور نصف الشرقية.

وفي عدد الوقائع الصادر في 2 ربيع الآخر سنة 1245 ما نصه:

تيمور أغا مأمور القسم الرابع في الشرقية قدم تقريرا إلى مجلس المشورة قال فيه: إنه سابقا حكم في المجلس بأن ترفع الصيارف من المأموريات من طايفة الأرمن والروم ويؤتى بصيارفة آخرين بدلهم من المسلمين واليهود. وبهذا الحكم نشرت خلاصة واستخدموا بموجبها، فكم يصرف الآن لكل منهم شهريته، ولدى المذاكرة قالوا إن الصيارفة الذين ذكرهم الأغا المشار إليه حكم بأن يكون لكل منهم مائتان وخمسون قرشا شهرية على السوية، وبموجب ذلك نشرت خلاصة، فينبغي إذا أن تصرف شهريتهم على موجب ما حكم، ويحرر أمر من حضرة الأفندي مأمور الديوان الخديو إلى الأغا المومى إليه إخبارا له بذلك، كما استقر الرأي في المجلس المنعقد في القصر العالي في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول.

ثم جاء في هذا العدد ما نصه:

تيمور أغا مأمور نصف الشرقية قرر في المجلس العالي شفاها قائلا: نصبت صيارفة الأقسام واستخدمت بكفالة المباشرين، فإن أخذ المباشرون من القرى الصغيرة مبلغا خفية وارتكبوا مطية الاختلاس فيخفى ذلك الفعل؛ لأنه ما دامت الصيارفة مستخدمة بكفالة المباشرين فلا يظهرون ذلك، وهذا ليس ببعيد عن الملاحظة، فما المناسب لإزالة هذه الشبهة إن صدرت منهم؟ ولدى المذاكرة، قالوا ملاحظة تيمور أغا صائبة؛ لأن المباشرين جانحون إلى هذه الطريق، فينبغي للمأمور ولنظار الأقسام أن ينبهوا على الصيارف بكل تأكيد؛ كيلا يعطوا المباشرين شيئا من المبالغ التي ترد إلى خزائن المأموريات ويبحثوا عن ذلك بعد انقطاع، ويحرر أمر من حضرة الأفندي مأمور الديوان الخديو إلى حضرات المأمورين الكرام؛ إشعارا لهم بذلك كما استقر الرأي في المجلس المنعقد في القصر العالي في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول.

ونشر في الوقائع في عددها الصادر يوم السبت 11 جمادى الأولى سنة 1245 ما نصه:

ورد جرنال من ناظر قسم أبو كبير في ناحية القصاصين إلى مجلس المشورة، مضمونه أن أحمد عمر أخا عبد الرحمن من أهالي هذه الناحية ضرب بالرصاص بين شجر النخل ومات متأثرا به، ولدى المذاكرة رسموا بأن دعوى المدعى عليه ترى بمعرفة تيمور أغا مأمورهما على نهج الشرع الشريف في محكمة ذلك القسم، ويحقق على الوجه الحق؛ حتى يسكت الطرفان به، ويحرر أمر من الديوان الخديو إلى الأغا المومى إليه إشعارا بذلك، كما استقر الرأي في اليوم الحادي عشر من شهر ربيع الآخر. (2) محمود بك توفيق

ابن السيدة عائشة التيمورية، توفي إلى رحمة الله في الساعة الرابعة بعد نصف الليل في ليلة الخميس 14 من رمضان 1332 الموافق 6 أغسطس 1914، ودفن في قبر جده محمد تيمور كاشف بقرافة الإمام الشافعي. (3) السيد عبد الرحمن أفندي الإستانبولي

شريف معروف بصحة نسبه، وكاتب كبير من كتاب الديوان السلطاني أيام السلطان سليم الثالث، رأى فيه مولاه ميلا للإصلاح الذي كان آخذا فيه فقربه وعول عليه. فلما وقعت كائنة هذا السلطان من الخلع ثم القتل اختفى المترجم واشتد عليه الطلب فلم ير بدا من الهرب، واختار مصر فسافر إليها عليلا من هول ما لقيه، وأكرم عزيز مصر محمد علي وفادته، وأنزله في أحد قصور القلعة وقام بضيافته خير قيام. ولم يطل به المقام حتى خلع السلطان مصطفى وتولى السلطان محمود، وعادت دولة أعوان سليم، فأرسل السلطان يدعو المترجم من مصر ليتولى منصبه في الديوان كما كان، فلم يستطع لتفاقم علته وموافقة جو مصر له، فأعفاه وأمر بتوظيف مرتب له ينقده من ولاية مصر.

ولما رأى العزيز عزم المترجم على الاستقرار بمصر عرض عليه بعض المناصب المصرية فاعتذر بالمرض، وبأن ذلك لا يحسن بعد ما كان منه مع السلطان تأدبا معه، ولكنه التمس إحضار أهله من دار السلطنة، وهم ولده قدري بك وابنته السيدة عائشة وأمهما؛ وأفهمه أن إسعافه بملتمسه خير مكرمة يكرمه بها. وكان العزيز أرسل أيضا في طلب أهله من «قوله» فأمر بإحضارهم معهم، فحضروا في سفينة واحدة وأنزلوا بالقلعة، وكان وصولهم في شهر ربيع الثاني سنة 1224.

ثم ورد أمر سلطاني للعزيز بالزيادة في إكرام المترجم وتزويج ابنته بمن يختاره من رجاله وتجهيزها على نفقة الدولة (وكان هذا الأمر مقرونا بالأمر بتزويج السيدة فاطمة خانم بنت حسين باشا والي الجزائر؛ لأن هذه الأسرة هاجرت إلى مصر بعد استيلاء الفرنسيين على الجزائر، فأنزلها العزيز بقصر ولده إبراهيم باشا بالإسكندرية)، فصدع بالأمر ووقع اختياره على محمد تيمور كاشف، ولكن أباها مات قبل زفافها، فأمر العزيز بدفنه بالقلعة بجوار المقام المنسوب لسيدي سارية. (4) إسماعيل تيمور باشا (الكبير)

ابن محمد تيمور كاشف، ولد في الساعة التاسعة من يوم 7 ذي الحجة سنة 1230 كما قيده والده على ظهر نسخة من قصيدة البردة كان يقيد عليها تواريخ من يولد له، ولقبه يوم ولادته برشدي، ولكن لقب الأسرة غلب عليه، وعرف قديما في الحكومة بتيمور زاده؛ أي ابن تيمور.

نشأ في بلهنية من العيش، ومال من صغره إلى الاشتغال بالعلوم والآداب؛ فتأدب في العربية والعلوم الإسلامية على من اختارهم له والده من المؤدبين، وتخرج في التركية والفارسية على عبد الرحمن سامي باشا (الذي صار بعد ذلك من وزراء الدولة العثمانية ومات سنة 1298؛ أي بعد وفاة تلميذه بنحو تسع سنوات)، وأتقن أنواع الخط على «إبراهيم أفندي مؤنس» أبي محمد أفندي مؤنس الشهير، وبرع في الإنشاء التركي براعة لم يدانه فيها أحد من أقرانه، فأعجب به العزيز محمد علي واتخذه كاتبا خاصا يعرض عليه ما يحتاج للعرض من الأوراق، ويبلغ أوامره فيها إلى رؤساء الديوان، ثم جعله وكيلا لمديرية الشرقية فمديرا لبعض مديريات كان آخرها الغربية أكبر ولايات القطر، ولكنه كان مع هذا شديد الكلف بالقاهرة والعود إلى مناصب الديوان، وقد عز سبيلها عليه حتى عزم العزيز على التجوال في بلاده للإشراف على أعمالها فترقب حلوله بطندتا قاعدة مديريته، وكان مع العزيز صهره كامل باشا الشاعر المشهور فكاشفه المترجم بمراده واستنجد بصداقته لوالده؛ فكان منه أن نظم أبياتا تركية تشبه الموشح ضمنها قصة مضحكة يفهم منها الغرض، ثم أنشدها العزيز في وقت آنس منه فيه تبسطا وانشراحا، فضحك منها وعلم ما في نفس المترجم، فأمر بنقله إلى الديوان.

ثم حدث ما حدث من تخلي العزيز محمد علي عن الحكم، وتولي ولده إبراهيم باشا، فرأى تزايد المشاكل وتراكم القضايا على الجمعية (الجمعية الحقانية) التي كانت أنشئت سنة 1258 كمجلس عال للأحكام، فأمر بتأليف مجلس آخر سماه «الجمعية الحقانية الثانية» وجعل المترجم رئيسا له. وهاك ما جاء بصدده في الوقائع المصرية بعدد يوم الاثنين 26 ذي القعدة سنة 1264:

لما كان الجناب الداوري ملتزما براحة العباد، وكان جل قصده فصل القضايا وحل ما يقع من المشاكل والدعاوى واستحصال جميع راحة الخلق؛ حصل تنظيم مجلس في مصر المحروسة معنون بجمعية الحقانية الثانية، وجعل رئيسه حضرة إسماعيل بيك تيمور زاده؛ وأعضاؤه كل من: إبراهيم أفندي رأفت القائمقام الذي كان وكيل ديوان المدارس، وحسن أفندي كامي القائمقام وكيل ديوان الجفالك سابقا، ومحمد أفندي سعيد البيكباشي الذي كان ناظر قلم القضايا بديوان المالية، وحسن أفندي سري البيكباشي الذي كان وكيل جفالك الشرقية، وواحد من الأفندية الذين حصلوا فن الإدارة الملكية.

ثم رقي بعد ولاية عباس باشا إلى وكالة «ديوان كتخدا» وهو أكبر ديوان إذ ذاك، ورئيسه المعبر عنه بالكتخدا أو الأفندي أو مأمور الديوان الخديو أكبر رجال الحكومة بعد الوالي، وله الإشراف على كافة فروعها؛ فهو يشبه رئيس النظار (رئيس الوزراء الآن).

ثم عزل عن وكالة الديوان بوشاية بعض مناظريه، وبقي أياما في داره ريثما تبين للوالي كذب الواشي، فدعاه وأظهر له الرضاء وأقامه ناظرا على خاصته المسماة ب «الدائرة الآصفية» فقبلها، وإن تكن دون منصبه الأول، وبقي فيها إلى وفاة عباس باشا.

وفي ولاية سعيد باشا ولاه رئاسة ديوانه سنة 1275 وهي المعبر عن متوليها ب «ديوان أفندي»، وهنأه شاعر الأسرة السعيدية الشيخ مصطفى سلامة النجاري بقصيدة طويلة مطلعها:

سعود الدهر جاء بكل قصد

ووافى بالمنى من غير وعد

وبيت تاريخها وفيه تاريخان:

سما إسماعيل بك تيمور فردا

لرتبة ازدهى ديوان أفندي

ثم حدث ما أغضب الوالي - وكان سريع الغضب - فاشتد على رجال ديوانه، كبيرهم وصغيرهم، وبدرت منه كلمات على مرأى ومسمع منهم لم يتحملها المترجم، فخرج من بينهم متأثرا وأرسل يستعفيه من منصبه فلم يعفه، ولكنه أصر، وبقي أياما والوالي يرسل إليه وهو يرد الرسول مستعفيا حتى أعفاه.

حدث بعض من كان معه في الديوان أن أصدقاءه فيه لما رأوا وقوفه تلك الوقفة خشوا عليه البطش، فزاروه ليلا وأشاروا عليه بالامتثال، وذكروه بمغبة المعاندة، فلم يجد نصحهم فيه وخرجوا كما أتوا، ولكن واحدا منهم تأثر فوقف وقال: إنما نصحناك أيها الأخ إشفاقا على مهجتك، وكلنا مستحسنون لعملك، فوالله لو كان فينا عشرة مثلك لما ديست أقدارنا، ولكان لهذه المناصب شأن غير هذا.

ولم يكن للمترجم حظ في دولة الخديو إسماعيل باشا، فبقي شطرا من حكمه بعيدا عن مشاغل الحكومة، متنقلا بين كتبه وضياعه معتذرا عن الاستخدام كلما طلب له؛ تفضيلا لما هو أهم في نظره، ولشيء كان يعلمه في نفس الخديو منه حتى صادفه مرة في متنزه الجزيرة، فسلم كما يسلم على الناس ثم تنبه له، فالتفت وأشار إليه بالسلام مرارا فلم يسعه إلا اتباع موكبه إلى قصره والتماس مقابلته لشكره على صنيعه، فلما مثل بين يديه أقبل عليه إقبالا غير منتظر، ثم دخل إسماعيل باشا صديق المفتش المشهور في تاريخ مصر وكأنه جهل المترجم أو تجاهله، ولحظ الخديو منه ذلك، فقال له ممازحا: «يشاع على الألسنة الآن أنه إذا اجتمع اثنان متفقان في الاسم لا يدخل بينهما شيطان، فكيف إذا كانوا ثلاثة؟!» ثم عرفه به فاعتذر إليه بدهشة القدوم وطول العهد به.

وبعد أن خرج من حضرته أنعم عليه برتبة باشا، ثم اختاره ناظرا لخاصة ولي العهد محمد توفيق باشا فقبلها متورطا؛ لأن نفسه كانت سئمت الاستخدام بعد أن ذاقت حلاوة العزلة ومنادمة الكتب.

وما أشيع من أنه قال عندما بلغه الأمر: «أبعد خدمتي للحكومة ورئاستي على الديوان أجعل في آخر عمري مربيا للأطفال؟!» فليس بصحيح.

وقدر الله أنه لم يمض عليه فيها ستة أشهر حتى فاجأه أجله بين غروب يوم الخميس 25 شوال سنة 1289 وهو يصلي الركعة الأخيرة من المغرب بقصر ولي العهد بالقبة، فنقل من ساعته إلى داره، ودفن في اليوم التالي بجوار والده. ورثته ابنته السيدة عائشة بقصيدة مثبتة في ديوانها مطلعها:

عز العزاء على بني الغبراء

لما توارى البدر في الظلماء

هذا مجمل خبره في مناصبه التي تولاها، وقد تركنا منها ما لم نتحقق من زمنه، كالعضوية في مجلس الأحكام، ووكالة الداخلية، ورئاسة مجلس التجارة؛ كما أننا لم نهتد إلى تفصيل في تواريخ ما ذكرنا إلا أننا وقفنا على قصيدة في مدحه في ديوان الشيخ علي الدرويش شاعر الأسرة العلوية يقول في مطلعها:

ذات عليها للإمارة رونق

وعليه من حسن الثناء دليل

ومنها:

فخر يقول السعد فيه أرخوا

نجل تيمور رقى إسماعيل

ولا ريب في أنه أراد تهنئته برتبة أو منصب، كما يؤخذ من شطر البيت الثاني. (4-1) حليته وأخلاقه

كان ربعة أبيض الوجه، مستدير اللحية وقد وخطها الشيب في أواخر أيامه، جهوري الصوت مع فصاحة في العبارة وطلاقة في اللسان، ولهذا انتدب عدة مرات لقراءة التقاليد والعهود السلطانية التي كانت ترد بولاية وال أو تقرير أمر جديد، ويحتفل بتلاوتها على ملأ من الكبراء والأعيان. وكان شغوفا بالعلم والعلماء لا يخلو مجلسه منهم، مولعا بالمطالعة، يرى أسعد أوقاته الساعة التي يقضيها في قراءة كتاب أو تحقيق مسألة، مع المغالاة في اقتناء الكتب النفيسة ، شراء واستنساخا، والإقبال عليها بالمطالعة، حتى روي عنه أنه كان يقول: «إني لأستحي أن يقع في يدي كتاب ولا أطالعه.» هذا مع ما هو مشغول به من أمور الدولة ومشاقها؛ فكانت أيام عزله أبرك الأيام عليه وأوفقها لما تنزع إليه نفسه، ولو لم يشغل بالاستخدام لكان له شأن في العلم غير ما كان. ومن الغريب أن ما تعب في جمعه من الكتب تشتت وتفرق بعد موته ولم يبق منه إلا فهرس الأسماء فقط، حتى كتابه الذي عني بتأليفه وأودعه خلاصة مطالعاته محاكيا به سفينة راغب باشا، ذهب مع ما ذهب من أوراقه.

أما خلقه: فالحلم والتواضع مع الشدة والمضاء عند الاقتضاء، ألف الخمول، وحببت إليه العزلة والبعد عن الناس خصوصا في أواخر أيامه، ولم يكن يبهره بهرج المناصب والرتب، ولا يرى لغير الحق سلطانا على نفسه، حتى حمله إخلاصه في النصح على وقفات وقفها لبعض حكام عصره كادت تودي به، وكانت سببا في تأخره عن أقرانه ومرءوسيه. (4-2) أولاده

مات عن ابن واحد وابنتين كبراهما السيدة عائشة التيمورية. (5) عائشة عصمت التيمورية

والمرحومة السيدة عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور ابن محمد كاشف تيمور ولدت سنة 1256 هجرية بمدينة القاهرة من والدة جركسية الأصل، وقد بدأت حياتها بتعلم فن التطريز، فاستحضرت لها والدتها أدوات لتعليم هذا الفن، ولكنها كانت تميل بفطرتها إلى تعلم القراءة والكتابة، وقد آنس منها والدها هذا الميل فأحضر لها اثنين من الأساتذة، أحدهما إبراهيم أفندي مؤنس وكان يعلمها القرآن والخط والفقه، والآخر يدعى خليل أفندي رجائي وكان يعلمها علم الصرف واللغة الفارسية.

وبعدما أتمت حفظ القرآن الكريم تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية، وفي مقدمتها الدواوين الشعرية، حتى تربت عندها ملكة التصورات لمعاني التشبيهات الغزلية وسواها. ولما أصبحت قريحتها تجود بمعان مبتكرة لم يسبقها إليها سواها؛ رأى والدها أن يستحضر لها أساتذة من فضليات السيدات اللاتي ضربن بسهم وافر في العروض، ولكن الظروف لم تسعفه لزواجها من السيد الشريف محمد توفيق بك نجل محمود بك الإسلامبولي ابن السيد عبد الله أفندي الإسلامبولي كاتب ديوان همايوني بالآستانة سابقا، وكان ذلك في سنة 1271 هجرية فتفرغت للشئون الزوجية وتدبير البيت، ولا سيما بعدما رزقها الله بذرية صالحة من بنين وبنات، وبقيت على ذلك الحال حتى كبرت لها بنت كان اسمها توحيدة، فألقت إليها بزمام منزلها.

وكان والدها وزوجها قد قضيا إلى رحمة الله، فأحضرت لنفسها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض إحداهما تدعى «فاطمة الأزهرية»، والثانية «ستيتة الطبلاوية»، وصارت تأخذ عنهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر، وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجال المنوعة والموشحات البديعة التي لم يسبقها أحد على معانيها.

وقد جمعت ثلاثة دواوين بثلاث لغات هي العربية والتركية والفارسية. وحين شرعت في طبع هذه الدواوين توفيت كريمتها توحيدة المشار إليها وهي في الثامنة عشرة من عمرها فاستولى عليها الحزن، وتركت الشعر والعروض والعلوم نحو سبع سنين حتى أصابها رمد عينيها، وأخيرا سمعت قول الناصحين وخففت من بكائها ونوحها حتى شفاها الله من مرض العيون، فجمعت ما عثرت عليه من أشعارها في ديوان باللغة التركية سمته «كشوفة» طبعته في الآستانة، وفي ديوان آخر باللغة العربية سمته «حلية الطراز».

ثم رأت نفسها قادرة على التأليف، فألفت كتابا سمته «نتائج الأحوال»، ثم تابعت نشر مؤلفاتها نثرا وشعرا بعد ذلك، وقد لقيت جميعها الإقبال والانتشار.

ومن قصائدها المعروفة المشهورة القصيدة التي جاء في مطلعها:

بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسمو على أترابي

وقولها في التغني بمدح الرسول الأعظم - صلوات الله عليه وسلامه:

أعن وميض سرى في حندس الظلم

أم نسمة هاجت الأشواق من أضم

فجددت لي عهدا بالغرام مضى

وشاقني نحو أحبابي بذي سلم

ومنها:

إني رددت عناني عن غوايته

وقلت يا نفس خلي باعث الندم

ولذت بالمصطفى رب الشفاعة إذ

يدعو المنادي فتحيا الناس من رمم

طه الذي قد كسا إشراق بعثته

وجه الوجود سناء الرشد والكرم

وجاء في ختام هذه القصيدة الرائعة:

محمد المصطفى مشكاة رحمتنا

مصباح حجتنا في بعثة الأمم

يا من به أقتدي يوم الزحام إذا

أبديت ناصية مفجومة الوسم

أقول حين أوافي الحشر في خجل

إن الكبائر أنست ذكرة اللمم

يا خير من أرتجي إن لم تكن مددي

وا زلتي يوم وضع القسط وا لدمي

فاشفع بحب الذي أنت الحبيب له

لولاك ما أبرز الدنيا من العدم

عليك أزكى صلاة الله ما افتتحت

أدوار دهر وما ولت بمختتم

وقد قضت إلى رحمة الله بعد مرض طويل في يوم الأحد 17 من شهر صفر 1320ه / يونيو سنة 1902م. (6) أحمد تيمور

ابن إسماعيل باشا تيمور، ولد في 22 شعبان سنة 1288 وسماه والده يوم ولادته بأحمد توفيق؛ ولهذا قالت أخته في تاريخه من أبيات:

قالت لوالده الشقيقة حبذا

حيا مصابيح البنات شقيقي

فاهنأ بمولود بدا تاريخه

وجه المنى بشراك بالتوفيق

وقالت عند ابتدائه في القراءة:

لاح السعود وأسفر التوفيق

وتلا لنا سور العلا توفيق

ولكن لقب الأسرة غلب عليه كما غلب على لقب أبيه من قبل، ولم يمض على ولادته سنة وشهران حتى مات أبوه فنشأ يتيما. وبدأ دراسته في داره فتلقى بها مبادئ العربية والفرنسية والتركية وشيئا من الفارسية، ثم دخل المدارس فتلقى بها العلوم الحديثة وتوسع في الفرنسية. ولما أتم دراسته لم تتوجه نفسه إلى الاستخدام وانصرفت عنه جملة، فاكتفى بمشارفة ضياعه ومسامرة كتبه وإعادة النظر فيما بدأ فيه من العلوم العربية والفنون الأدبية؛ فتوسع فيها على أستاذه الأول الشيخ رضوان محمد المخللاتي، أحد أفاضل العصر، ثم صحب علامة المنقول والمعقول الشيخ حسن الطويل، فأعاد عليه الصرف والمنطق والبلاغة وغيرها، وقرأ عليه طرفا من الفلسفة القديمة، ولم يزل معه كتلميذ خاص إلى أن توفاه الله سنة 1317، فصحب بعده إمام اللغة الشيخ محمد محمود الشنقيطي الشهير، فقرأ عليه المعلقات السبع رواية ودراية وكثيرا من دواوين العرب التي كان يرويها وبعض الرسائل اللغوية، واستفاد منه فوائد جمة صرفته إلى الاشتغال باللغة بعد أن كان مقتصرا على الأدب والتاريخ، ولم يزل مصاحبا له حتى توفي قبل غروب يوم الجمعة 23 شوال سنة 1322.

وفي سنة 1307 صاهر صديق والده الحميم أحمد رشيد باشا ناظر الداخلية على ابنته، ورزق بثلاثة بنين: إسماعيل، ومحمد، ومحمود.

وفي 2 صفر سنة 1315 أنعم عليه الجناب العباسي بالرتبة الثانية، ثم اهتمت الحكومة بإنشاء مجلس عال يرأسه ناظر المعارف للنظر في شئون دار الكتب الخديوية والإشراف على إحياء الآداب العربية، وأقر مجلس النظار في أول يوليو سنة 1911 على انتخابه عضوا فيه، ولكنه استقال منه يوم الأربعاء 26 ذي القعدة سنة1330 / نوفمبر 1912 لوفرة أشغاله وجنوحه إلى العزلة، وكأنه ورث هذه السجية من والده كما ورث عنه المغالاة في اقتناء الكتب؛ فتراه يقضي غالب أوقاته منفردا بكتبه في ضيعته التي بقويسنا لا يخالط كبيرا ولا صغيرا، ولا يفضل عليها سميرا.

وفي يوم الأربعاء 13 محرم سنة 1338 / 8 أكتوبر سنة 1919 عقد مجلس النظار بالإسكندرية برئاسة صاحب العظمة السلطان فؤاد وأقر على منحه رتبة الباشاوية وصدرت الإرادة بذلك في هذا اليوم.

وفي يوم السبت 18 رجب سنة 1342 / 23 فبراير سنة 1924 صدر مرسوم ملكي بتعيينه عضوا بمجلس الشيوخ، ولم يدم طويلا في هذا المنصب؛ إذ استقال من المجلس بعد ذلك.

وفي يوم الأحد 11 فبراير 1924 / 5 رجب 1342 قرر مجلس الوزراء المنعقد بقصر عابدين العامر برئاسة جلالة فؤاد الأول ملك مصر تعيينه عضوا بمجلس دار الكتب الأعلى مرة ثانية. (6-1) خزانته

فطر الفقيد العلامة المغفور له أحمد تيمور باشا على الولوع بالكتب؛ فجمع منها خزانة صغيرة بما كان يصل إلى يده من المال، ثم توسع فيها مع السن والزمن حتى أصبحت أكبر خزانة بمصر من حيث العدد بعد داري الكتب الخديوية والأزهرية، وأما من حيث النفاسة والغرابة فقد وجد فيها ما ليس فيهما. وهاك وصفا مجملا لها:

بلغ ما فيها إلى آخر شوال 1331 / سبتمبر سنة 1913، 7068 كتابا تقع في أكثر من ثمانية آلاف مجلد، المخطوط منها 3505، وبينها من المخطوطات القديمة التي كتبت قبل الألف الهجري 527 كتابا، أقدمها الجزء الأول من شرح أبي الحسن علي بن محمد الفارسي على الغاية في القراءات العشر وعللها لأبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران المتوفى سنة 381؛ فإنه كتب سنة 413، ويليه إعراب القرآن لمكي بن حموش المتوفى سنة 437 فإن تاريخ كتابته سنة 490، ونيف وسبعة عشر كتابا كتبت بين الخمسمائة وثلاث وثلاثين من الستمائة، والباقي بعد ذلك أي سنة 999. وبينها أيضا 116 كتابا بخطوط بعض العلماء والأمراء المشهورين أو عليها خطوطهم، و114 بخطوط المؤلفين.

وفي ربيع الأول 1332 / فبراير سنة 1914 كان قد بلغ مجموع ما في خزانته 7134 مجلدا، بينها 3561 كتابا مخطوطا، وقد ضمت تلك المكتبة إلى دار الكتب الملكية وأفرد لها مكان خاص في المكتبة الفاروقية الجديدة التي أنشئت أخيرا في القلعة. (7) إسماعيل تيمور باشا

ولد المرحوم إسماعيل تيمور باشا في يوم الأحد الموافق 3 من شهر رمضان المكرم سنة 1308ه/12 من شهر مايو سنة 1891م، وقد شب وترعرع في بيت العلم والمعرفة والكتابة والتأليف، وكان لكل ذلك أثره البارز خلال دراسته الابتدائية والثانوية والعالية، حتى فاز بإجازة الليسانس من القسم الفرنسي بمدرسة الحقوق الملكية سنة 1917 وكان نجاحه باهرا وتفوقه عظيما مما دعا إلى تعيينه مساعدا للنيابة في نيابة بنها في 17 فبراير سنة 1918. وفي 21 من شهر يوليو سنة 1919 صدر أمر «صاحب العظمة (المغفور له) السلطان فؤاد الأول» بنقله من نيابة بنها إلى ديوان التشريفات السلطانية بالسراي العامرة وألحق تشريفاتيا، وأنعم عليه في 30 يوليو من سنة 1919 برتبة البكوية وسلمه «عظمة السلطان» بيده الكريمة براءة تلك الرتبة. ولما أبلغ نبأ الإنعام عليه بوسام النيل من الطبقة الرابعة في آخر شهر فبراير من سنة 1920، التمس - رحمه الله - المثول بين يدي «(المغفور له) السلطان فؤاد» فأذن له. وبعدما لثم يده الكريمة رفع للأعتاب السلطانية شكره مقرونا بالدعاء على هذا العطف السلطاني.

وفي 27 من شهر فبراير سنة 1929 تعطف حضرة صاحب الجلالة (المغفور له) الملك فؤاد فمنحه لقب الأمين الرابع، ثم فاز على التوالي بالنياشين التالية تقديرا لفضله وعلمه وأدبه وهي: الطبقة الثالثة من نيشان إسماعيل، وبهذه الطبقة من نيشان النيل، وبالطبقة الثانية من نيشان أسطور (الأفغان)، وبها من نيشان تاج إيطاليا، وبالطبقة الثالثة من نيشان بلجيكا، وبها من نيشان نجمة أثيوبيا (الحبشة)، وبالطبقة الرابعة من نيشان ليوبولد (بلجيكا)، وبالطبقة الخامسة من نيشان لوجيون دونور (فرنسا).

وفي 20 من شهر يناير سنة 1944 أنعم عليه برتبة الباشاوية وعين أمينا أول للقصر الملكي العامر، وظل كذلك وفيا في عمله في خدمة القصر أمينا على ولائه لصاحب العرش المفدى.

وكان - رحمه الله - على هدى من ربه، واسع العلم خبيرا بشئون الناس وأحوالهم وميولهم وعاداتهم وأخلاقهم، علاوة على ما اتصف به من حسن الخلق وكريم السجايا وحلو الحديث ولين العريكة، فكان كل ذلك سببا في احترام رأيه ورفع شأنه وتقديره حق قدره.

وقضى إلى رحمة الله في يوم أول أبريل سنة 1947 مذكورا بحسناته وجميل خصاله ورقة جانبه ووداعته. (8) محمد بك تيمور

ولد المرحوم محمد تيمور بك في القاهرة عام 1892م، وتوفي بها في فبراير سنة 1921م، وأتم علومه الابتدائية والثانوية بالمدارس المصرية والأميرية، ثم قصد إلى أوروبا لإتمام علومه، فصرف فيها ثلاثة أعوام. ولما أعلنت الحرب سنة 1914م عندما كان الفقيد في مصر يمضي إجازة الصيف لم يستطع العودة لإتمام دروسه، فدخل مدرسة الزراعة العليا ثم تركها؛ لأنها لم توافق ميوله الأدبية، وكذا لم يستطع أن يتم دروسه بالحقوق الفرنسية، فاتجه اتجاها أدبيا محضا إلى ناحية المسرح والتمثيل والتأليف لهما. (8-1) أطوار حياته

الطور الأول: طور المنزل والمدرسة

يمتاز هذا الطور بظهور ميوله الأدبية التي ورثها عن أبيه، وكيف أثرت بيئته المنزلية في ازدهار هذه الميول.

وقد تكونت مواهبه ونمت في هذا الدور. وكان شغفه كبيرا بالأدب والمسرح منذ الصغر، فاستطاع أن ينظم الشعر وهو في سن العاشرة، وقد ظهرت له مقالات في الصحف وهو لم يغادر المدرسة الابتدائية، وكان محبا للصحافة فصرف أوقات العطلة في تحرير الجرائد المنزلية.

وكان مشغوفا بالشعر فقرأ كثيرا من دواوين الشعراء المتقدمين كالمتنبي والمعري وأبي نواس فارتقى شعره، وبدت قصائده طلية رشيقة في الترحيب بلاعبي الكرة من المدارس؛ فقد كان لاعب كرة بالمدرسة، وفي تكريمه المدرسين والاحتفال بهم آخر العام، وقد سموه في ذلك الحين بشاعر المدرسة الخديوية.

أما علاقته بالتمثيل فكانت قوية منذ الصغر؛ فقد ملك عليه هذا الفن جوارحه واستهوى قلبه، وساعد ميله هذا نموا وازدهارا تردده على «جوق» الشيخ سلامة حجازي لمشاهدة رواياته، وبلغ من شدة تعلقه بهذا الفن أن ألف فرقة تمثيلية عائلية كان هو بطلها ومؤلفها التمثيلي.

وكان نثره في هذه المرحلة من حياته حسن الأسلوب يتضمن موضوعات اجتماعية وأخلاقية تنبئ بمستقبل باهر في عالم الكتابة والتحرير، ولا ننسى في هذا المقام سلسلة مقالاته في الوطنية، وكذا مقالاته الانتقادية لعوائدنا السيئة، أما شعره فكان يتبع فيه أسلوب المتقدمين.

الطور الثاني: طور الانتقال (حياته في أوروبا)

قصد الفقيد «برلين» بعد التعليم الثانوي لتعلم الطب، ولكنه تركه لظروف خاصة، ثم سافر إلى فرنسا يدرس القانون متنقلا سنين بين باريس وليون. وكانت دراسته للقانون لا توافق مشاربه وأمياله؛ فكان يقضي جل وقته في المطالعات الأدبية الفرنسية نثرا ونظما.

وهذه السنون القليلة التي قضاها تيمور في أوروبا أثرت في تكوينه النفسي واتجاهه الأدبي؛ فقد كان عيشه في بيئة الحرية والديمقراطية والمساواة، في بيئة الاستقلال في الرأي والعمل والاعتماد على النفس، في بيئة الثورة الفكرية والعلم والنقد الصحيح ممزوجة بتلك المناظر الرائعة التي لم يألفها من قبل. وقد ظهر هذا التأثير في كتاباته نثرا ونظما. ومما ساعده على قيام ثورته الفكرية انصرافه بشغف شديد إلى المطالعة في آداب اللغة الفرنسية، وقد كان قلبه في ذلك الوقت غيورا على إصلاح المسرح المصري والأدب المصري؛ حيث رأى في فرنسا ما أعجبه وجعله يحس النقص الهائل والفرق العظيم بين أدبنا المصري والأدب الغربي؛ ولذا فقد غير كثيرا من مذاهبه القديمة التي أيقن بخطئها، وهذا أكبر داع جعله يهمل كتاباته في طوره الأول؛ لأن ما فيها من آراء قديمة يخالف مذهبه الجديد في طور انتقاله، ولأنها ليست في مستوى تفكيره الناضج الجديد.

وأهم ما كان يحلم بتحقيقه «تمصير الآداب» وجعلها تفيض بالصبغة المصرية والألوان المحلية، ودليلنا على ذلك ما نراه في رواياته المسرحية وقطعه النثرية من ظهور الروح المصرية بينة واضحة.

الطور الثالث

وبينما كان الفقيد بمصر يمضي بها إجازة الصيف؛ إذ أعلنت الحرب العظمى فلم يستطع العودة ليتم دروسه.

وقد بدأ مجهوده في التمثيل بانضمامه إلى جمعية أنصار التمثيل مع المرحوم الأستاذ عبد الرحيم، وقد ترأس هذه الجمعية بعد وفاة رئيسها ومؤسسها المذكور. وكانت حفلات السمر التي يقيمها النادي الأهلي في بدئها، فظهر فيها بإلقاء منولوجات تمثيلية من نظمه، فكان هذا بدء عمله كممثل.

بعد ذلك بدأ ينظم مقطوعات نظمية رقيقة، ولكن غرامه كان يملأ قلبه؛ فكان التفاته إليه أكبر وعنايته بنظم منولوجاته التمثيلية أهم. وكثرت حفلات السمر في النادي الأهلي ونادي الموسيقى ونادي موظفي الحكومة؛ فكانت لا تخلو حفلة منها من منولوج أو ديالوج للفقيد من نظمه وإلقائه. وقد طرق في صياغتها - عدا اختيار اللفظ السهل والموضوع المؤثر - المنهج الرومانسي في مفاجآته ومقالاته. وله العذر في ترسم هذا المذهب؛ لأنه يوافق أميال الجماهير المصرية في ذلك الحين؛ فلو اختط منهج الدراما (المأساة) أو «الكوميديا الحقة» (أي الهزل اللابس ثوب الحقيقة) لأسقط في يده ولم يفلح؛ لذا نراه يساير الجمهور لأنه كان لا يود أن يحول أميالهم فجأة إلى تيار جارف أمام مشاربهم الراسخة فيهم منذ القدم.

وكان أن اشتهر بين هواة التمثيل والقائمين به، وقد تجلت إذ ذاك ديمقراطيته العظيمة التي بدأت في المدارس الثانوية ونمت في فرنسا، ولقد كان كل شيء حوله يسهل له الاندفاع في تيار المسرح: الثراء والشغف والحرية الشخصية. ولكن والده كان غير راض عن هوية ولده، وطالما قضى محمد ليالي أليمة بسبب يعلمه من معارضة والده له في ميله إلى المسرح.

وكانت النهضة التمثيلية الأخيرة أكبر دافع لتيمور على ارتقاء المسرح؛ إذ كانت عظيمة جذابة في دورها الأول، وساعد على ذلك انضمام كثير من الطبقات المتعلمة الراقية إلى المسرح. ولم ينزل تيمور الميدان كمحترف يؤلف فرقة ويكون على رأسها؛ لأنه يرى في ذلك خروجا عن طاعة والده، فضحى بمجد أدبي خالد ومستقبل للفن التمثيلي زاهر على يديه في سبيل الطاعة الأبوية.

ولقد اعتلى خشبة المسرح ممثلا في روايتين:

الأولى: رواية «عزة بنت الخليفة» لإبراهيم رمزي. والثانية: «العرائس» لبيير ولف، وترجمة الأستاذ إسماعيل بك وهبي المحامي.

وكان موفقا في تمثيله أكبر توفيق .

ومما يدعو إلى الإعجاب مجهوده المتواصل المكلل بالنجاح في سبيل إيجاد آداب مصرية بحتة بألوان محلية صحيحة، آداب تعبر عن أخلاقنا وعوائدنا وترسم لنا صورة صحيحة عن بيئتنا بما في هذه البيئة من فضائل ونقائص. وما رواياته المسرحية وقطعه القصصية «ما تراه العيون» إلا برهان ساطع على هذا المجهود الكبير الذي وضع به أول دعامة في أدبنا المصري الجديد ومسرحنا الوطني الحديث.

توفي المرحوم محمد تيمور في شهر فبراير سنة 1921 ولم يبلغ الثلاثين من عمره، ولكنه ترك من بعده تراثا فنيا صالحا غنيا بما فيه من آراء ناضجة وأفكار حية جريئة، وطرق لم يعهدها أدبنا في النقد، وأسلوب فكاهي سلس أخاذ يدل على مقدرة فنية اختصت به دون سواه. وكان يمتاز بملاحظته الدقيقة، وهذا يفسر لنا براعته في تصوير النفوس البشرية ومناظر الحياة على اختلاف مناحيها ومشاربها. (8-2) مؤلفاته

ألف جميع مؤلفاته في ستة أعوام، وهي:

الجزء الأول:

واسمه «وميض الروح» ويحتوي على: (1)

ديوان تيمور، وهو مجموعة منظوماته. (2)

كتاب الوجدان، وهو مجموعة قطعه الأدبية من الشعر المنثور. (3)

الأدب والاجتماع، وهو مجموعة مقالاته الأدبية والاجتماعية. (4)

ما تراه العيون، وهو مجموعة أقاصيصه المصرية. (5)

خواطر. (6)

مذكرات باريس.

الجزء الثاني:

وهو كتاب «حياتنا التمثيلية»، ويشمل الكتب الآتية: (1)

تاريخ التمثيل في فرنسا ومصر. (2)

التمثيل الفني واللافني. (3)

محاكمة مؤلفي الروايات التمثيلية. (4)

نقد الممثلين. (5)

مقالات عامة عن التمثيل. (6)

القصائد التمثيلية (المنولوجات والديالوجات). (7)

رواية «الهاربة»، كوميدي دراماتيك مصرية أخلاقية في ثلاثة فصول.

الجزء الثالث:

وهو كتاب «المسرح المصري»، ويحتوي على الروايات الآتية: (1)

العصفور في القفص: كوميدي مصرية أخلاقية في أربعة فصول. (2)

عبد الستار أفندي: كوميدي مصرية أخلاقية في أربعة فصول. (9) محمود بك تيمور

ولد بالقاهرة سنة 1894 ميلادية، وتعلم بالمدارس الأميرية. وقد كان للعوامل الآتية تأثير كبير في تكوينه كاتبا:

فوالده أورثه حب الأدب، وحببه في المطالعة والتأليف. وشقيقه محمد هذب فيه ذلك الحب وأذكاه. وبعض الحوادث التي وقعت له. ثم مطالعاته الخاصة هي التي وجهته في الحياة تلك الوجهة التي ينتهجها الآن في حياته الأدبية.

ورث محمود حب الأدب والمطالعة عن والده، وكذا الغرام بجمع الكتب. ولما توفيت والدته انتقل والده إلى «عين شمس» فقضى بها محمود أطيب أيام صباه. وكان لوالده هناك مجالس علم عظيمة مع الشيخ محمد عبده، والشيخ الشنقيطي الكبير وغيرهما من كبار العلماء؛ فعاش في ذلك الجو وقتا غير قليل، مستمتعا بأحاديث الإمام، معجبا بفصاحة الشنقيطي.

ولقد أدرك عمته السيدة عائشة التيمورية الشاعرة في أخريات حياتها، فلما اشتد عوده واستطاع أن يتذوق الشعر ويتفهمه قرأ الكثير من شعرها وحفظ مرثيتها لابنتها، وكان إعجابه بشعرها كبيرا.

وقد زكا ميله إلى المطالعة؛ فأقبل على الروايات يشبع منها رغبته، وخصوصا «ألف ليلة وليلة» التي قد تكون من أهم البواعث في اتجاهه القصصي فيما بعد.

وقد كان العصر الذي يعيش فيه إذ ذاك تتسلط عليه المحافظة فاتبع الكتاب طرائق السلف الصالح في الفكرة وأسلوبهم في التعبير، ولم تكن الكتابة غالبا إلا مدحا للخلافة وتعلقا بها؛ فلم يكن من أحد يفكر في قومية أو وطنية إلا ما يقال أحيانا عن الإمبراطورية العربية القديمة.

ولما اتسعت البعثات إلى أوروبا وجدت نهضة جديدة تدعو إلى التجديد في اللغة والأدب والاجتماع والسياسة والدين، ولكنها قوبلت بالاستنكار؛ فكان زعماؤها سعد ومحمد عبده وقاسم أمين ثم لطفي السيد وتلاميذه.

ولما تهذب ذوقه في المطالعة أقبل بشغف على قراءة مؤلفات المنفلوطي؛ فكانت نزعته «الرومانتيكية» الحلوة تملك عليه مشاعره، وأسلوبه السلس يسحره. وتفرغ للمطالعة وأشبع ميله إليها؛ حيث إن أخاه «إسماعيل» قد اضطلع بزعامة الأسرة وما يتبع ذلك من اتجاه إلى المحافظة على التقاليد العائلية وما تستلزمه من رسميات. وكان نصيب الشعر كثيرا في مطالعاته - الشعر بنوعيه العربي والإفرنجي وخاصة شعر المعاصرين - وكان يفضل ما هو خيالي مغرق في الخيال.

وقد استهوته المدرسة الأميركية التي تزعمها «جبران» ورفاقه بالمهجر؛ فقرأ «الأجنحة المتكسرة»، وتأثرت به أولى كتاباته، وجلها من الشعر المنثور ذي النزعة «الرومانتيكية». وقد قرأ «محمود» في مجلة «الفنون» لجبران وجماعته لونا جديدا من الأدب خارجا عن نطاق التقليد في الفكرة والقالب. وقد كان للقصة نصيب كبير في هذا الأدب «المتأمرك»، وهي حتى ذلك العهد بضاعة تكاد تكون غريبة عنا.

ولما ازداد بعث البعوث إلى أوروبا ضعف نفوذ هذه المدرسة، ونشر المبعوثون آراء جديدة للتجديد في كل شيء حتى الأدب، وكان ذلك إبان الحرب. وكان أخوه «محمد تيمور» من المبعوثين، فقابل «محمود» آراء أخيه في شيء كبير من الإعجاب والحذر معا.

وقد عرف من أخيه رغبته في إقامة أدب مصري يستوحي مادته من صميم نفوسنا وبيئتنا.

وحدث أن مرض «محمود» وهو في العشرين من عمره بمرض «التيفوئيد» ولزمه ثلاثة شهور، فعطله عن إتمام دراسته العليا التي كان قد بدأها.

وقد كان هذا الحادث بداية طور جديد في حياته الأدبية؛ فنقله من دور التردد إلى اليقين، ومن دور الهوادة في التحصيل إلى دور الإغراق فيه، وقد شعر بازدياد ميله إلى الأدب بعد شفائه، فخصص له دراسة منظمة.

وكان يستهدي في ذلك الوقت في مطالعته بهدي شقيقه «محمد»، فأرشده إلى «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، ورواية «زينب» للدكتور هيكل، فرأى فيهما لونا جديدا من الأدب الواقعي يخالف اللون الرمزي والرومانتيكي الذي كان غارقا فيه.

وامتدح له أخوه «موباسان» الشاعر الأقصوصي الفرنسي فقرأ له وتأثر به كثيرا، واتسعت مطالعاته بعد ذلك في القصص الأوروبي. ثم انتقل إلى القصص الروسي فقرأ لتشيخوف وتورجنيف، فتأثر من هذه الناحية بعناصر الصدق والبساطة والإنسانية، وهي بارزة في الأدب الروسي وبها يتسم أدب تيمور وكتابته.

ولما وضعت الحرب أوزارها، وثارت في المصريين نزعة القومية اصطبغ الأدب باللون المحلي الصارخ، واتجه المصريون نحو الواقع؛ فأصبحنا عمليين بعد أن كان الكتاب شعراء خياليين. وقد شاع المسرح المحلي، وخاصة الهزلي منه، وانتشر الاقتباس، وبدأ الابتكار، وتضاءلت الترجمة. وألف «محمد تيمور» أقاصيصه «ما تراه العيون» نحا فيها نحو المذهب الواقعي، فأعجب بها محمود، وألف على غرارها قطعته الأولى القصصية «الشيخ جمعة»، وأتبعها بقطعة «يحفظ في البوسطة»، وسار متبعا المذهب الواقعي في كتابته متأثرا بالجو الجديد تاركا الشعر المنثور، ولم يكن يحفل بالأسلوب احتفاله بتصوير الواقع.

ولما توفي أخوه «محمد تيمور» أحس دافعا يدفع به إلى استكمال ما كانت تصبو إليه نفس شقيقه؛ فتقدم إلى ميدان التأليف وبدأ يكتب، فتجمع عنده حتى سنة 1925 مادة من القصص طبعها في كتاب تحت عنوان «الشيخ جمعة وقصص أخرى»، ثم أردفه بغيره.

ولما هدأت نزعة المصرية الحادة واستقرت الأمور في نصابها؛ بدأ ينظر إلى الأدب نظرة أوسع وأشمل؛ فسافر وقتئذ إلى أوروبا وقضى بها أكثر من عامين تفرغ فيهما للقراءة، واتصل بالأدب الأوروبي الحديث اتصالا مباشرا؛ فطالعته هناك مرئيات هزت نفسه ومشاعره وازدادت خبرته بالحياة ومعرفته لها، ودرس نظريات الأدب الرفيع فترك اللون المحلي واتجه نحو النفس البشرية يصور منازعها مطلقا روحه على سجيتها، غير متمذهب بمذهب، معتقدا أن المذاهب الأدبية ما هي إلا مقاييس منطقية وضعها النقاد، فلا يجب أن يتقيد بها الأدباء.

هذا موجز يصور الدور الأول من حياة المترجم له.

وقد قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية تتويج جميع الإنتاج القصصي باللغة الفصيحة لمحمود تيمور بك ومنحه جائزة القصة لسنة 1947م.

وأعلن المجمع قراره هذا في حفل أقامه يوم 5 أبريل سنة 1947م بدار الجمعية الجغرافية، وكان المقرر هو حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد فريد بك أبو حديد عضو المجمع، فألقى بحثا جاء فيه ما يأتي:

اختار المجمع اللغوي في هذا العام من بين المبرزين في القصة الأستاذ الكبير محمود بك تيمور، فأهداه جائزة القصة إشارة منه إلى هذا المعنى، ثم اعترافا بما للأستاذ الكبير من أثر محمود في القصة في أدبنا الحديث.

فقد ألف الأستاذ محمود تيمور بك نحو خمسة وعشرين كتابا، بعضها مجموعات من قصص قصيرة، وبعضها قصص تمثيلية، والبعض روايات قصصية مطولة، ومنها كتاب في الرحلات على نحو مستحدث في الأدب العربي، ومنها كذلك كتاب مقالات ساخرة في نقد المجتمع، وآخر في أصول فن القصص ودقائقه. وألف كذلك قصصا «سينمائية» مثلت منها على اللوحة الفضية روايته «رابحة»، فكانت مسرحية موفقة في عالم الخيالة.

فأكثر جهود الأستاذ تيمور بك متجهة كما يظهر إلى نوعين من القصة: التمثيلية، والقصة القصيرة ...

وقد كانت القصة التمثيلية عنده أسلوبا في الكتابة لا يقصد بها الاتجاه إلى التمثيل على المسارح؛ فتمثيليات «تيمور» أقرب إلى أن تكون نوعا آخر من القصة القصيرة.

والفرق بين النوعين أن التمثيلية تعتمد في تصوير الأشخاص على محاورات أحاديثهم وحركاتهم، على حين أن القصة تعتمد على الأكثر في تصوير الأشخاص على وصف هيئاتهم ووصف مواقفهم وما يبدو من أعمالهم.

ولم يخرج من تمثيليات «تيمور» على المسرح إلا عدد محدود، وكان آخرها تمثيلية «حواء الخالدة» التي كان لها أكبر حظ من التوفيق.

ولسنا هنا في سبيل التعرض لطريقة «تيمور بك» في فنه، ولا التحدث تفصيلا عن مذهبه في القصة، وحسبنا أن نشير إلى أنه في كل آثاره يتجه نحو إبراز الفكرة الواحدة يعرضها في إطار محدود. ومن ثم يمكن أن نقول: إن فن القصة القصيرة وما يتصل بها من المسرحيات القصيرة؛ هو الجانب الذي خص به فنه إلى الآن؛ فهو في أدبنا الحديث يشبه «تشيكوف» و«مكسيم جوركي» في الأدب الروسي، و«موباسان» في الأدب الفرنسي.

ولا يملك المتتبع لآثار «تيمور» إلا أن يرى الفرق واضحا بين آثاره الأولى وآثاره الأخيرة.

ولعل مجموعة قصصه «فرعون الصغير» هي التي تمثل لنا روح فنه في العصر الأول، وهو يسير فيها - على عادته - يرسم الأشخاص في براعة حتى يكاد القارئ يلمح فيهم بعض من عرف من جيرانه، ولكن حماسة الشباب تبدو واضحة في أسلوبه؛ ففيه يعلو صوته، وتشتد حركته حتى لقد تبلغ ما يشبه العنف، ثم هو يعمد أحيانا إلى شيء من المفاجأة، وقد يظهر ما ينم عن الحنق أو الأحكام الخلقية.

ولكن آثاره الأخيرة تنم عن تغير محسوس في أسلوب التعبير؛ فهو يرسم الأشخاص كما اعتاد أن يرسمهم في براعة، ولكنه يتحدث هادئا مترفقا منخفض الصوت رقيق الحركة، تحس في كل عباراته أن قلبه مملوء عطفا على الإنسان.

وإنا نستطيع أن نقول في ثقة، إنه قد بلغ في بعض قصصه الأخيرة مرتبة عالية حق لنا أن نفاخر بها؛ فهو في قصته «ولي الله» من مجموعة «شفاه غليظة» يصور أسمى جانب من القلب الإنساني عندما يصور لنا أن هناك ما هو أعلى من عدالة القوانين. وفي قصة «كلب أسعد بك» يرسم لنا في وداعة صورة اجتماع السمو والإسفاف في الحطام البشري. وفي قصة «البديل» يصور لنا كيف تنطوي أسمى العواطف في كلب الإنسان وإن كان في عرف المجتمع الجامد موضعا للزراية؛ ففي مثل هذه القصص يظهر فن «تيمور» رائعا إذا قيس بأعلى آثار القصص في الأدب العالمي.

وإذا كان الأستاذ «تيمور بك» قد اتجه في بعض قصصه نحو مجاراته الكتابة الدارجة، فالظاهر أنه قد وجد اللغة العربية الصحيحة أولى بفنه فنحا أخيرا في أسلوبه منحى يجمع الصحة والسلامة والسهولة، ولعل هذا اعتراف منه بما تنتظر اللغة العربية من فنه.

فإذا أردنا أن نجمل ما تمتاز به طريقة الأستاذ «تيمور بك» في قصصه كان لنا أن نقول على طريقة القدماء في وصف الأدباء، إنه يمتاز بثلاث:

أنه يرسم الأشخاص حتى إنك لتحس أنفاسهم، وتلمح الحياة في سهولة حركاتهم.

وأنه يكتب في لغة سلسة لا تحجب شيئا من معانيه.

وأن فنه يشيع فيه روح وديع من الإنسانية لا تحس معه حرارة في وصف حتى ليكاد يحبب إليك الضعف الإنساني.

إن «تيمور» إذ يتحدث عن الناس في ضعفهم يتحدث عاطفا كأنما هو يحبهم لما فيهم من العيوب، ويصور سموهم معجبا بغير أن يجعل الإعجاب يخدعه عن الحب.

ولهذا نعتقد أنه أبرع ما يكون وأحلى إذا تحدث عن الناس كما يراهم في لمحات قصيرة كأنه عابر طريق، وهو في ذلك يخدم الأدب من ناحيتين:

الأولى:

أنه يشير إلى مثله الأعلى الإنساني ويصوره لنا في صوره البارعة.

والثانية:

أنه يعرفنا بالجانب الذي يعرفه من مجتمعنا المصري؛ فهو معلم من معلمي هذا الجيل، وهو عامل من العوامل القوية على تعريفنا بأنفسنا.

وإذا كان للقصص الرمزي والأسطوري فنه وفنانوه، وإذا كان للقصص الطويل فنه وفنانوه، وإذا كان للنقد الثائر فنه وفنانوه؛ فإن فن «تيمور» هو القصص القصير الواقعي الإنساني المملوء محبة للإنسان .

ولا يزال الأستاذ تيمور بك يتحف الأدب بروائع قصصه وتمثيلياته المسرحية والسينمائية.

وله في ميدان الصحافة مجهود مشكور؛ فما من مجلة أو صحيفة أسبوعية أو يومية إلا تلمح فيها آثاره القصصية ومقالاته الاجتماعية على نحو مبتكر يفيض إصلاحا، ويخالط الجد فيه روح ساخر من المداعبة والنقد الأصيل في ثوب يشيع الفن في جنباته ونواحيه.

وإنه ليشرفني أن أنوب عن المجمع اللغوي في توجيه الثناء إليه، راجيا له اطراد التوفيق والسمو، سائلا الله أن يمده بروح من عنده حتى تتكون للعربية الشريفة ثروة من ثمار إنتاجه وإنتاج أنداده من المبرزين في فن القصة الذين تعتز بهم العروبة.

Halaman tidak diketahui