تاريخ الأمم العربية
1 - العراق في القرن السابع للهجرة
2 - العراق في القرن الثامن للهجرة
3 - العراق والكارثة التيمورية
4 - العراق في القرن الثامن
5 - العراق من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر
6 - الشام منذ القرن السابع للهجرة
7 - الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
8 - الشام منذ فتح الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
9 - مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية
10 - مصر في عهد المماليك الشراكسة
11 - مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
12 - الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
13 - المغرب العربي في شمال إفريقية منذ القرن الثامن للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
عصر الانحدار
1 - الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد
2 - الحالة الثقافية في العراق بعد سقوط بغداد
3 - الحالة الإدارية في العراق بعد سقوط بغداد
4 - الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
5 - الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية
6 - الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد
7 - الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
8 - الحالة الإدارية في المغرب العربي
تاريخ الأمم العربية
1 - العراق في القرن السابع للهجرة
2 - العراق في القرن الثامن للهجرة
3 - العراق والكارثة التيمورية
4 - العراق في القرن الثامن
5 - العراق من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر
6 - الشام منذ القرن السابع للهجرة
7 - الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
8 - الشام منذ فتح الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
9 - مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية
10 - مصر في عهد المماليك الشراكسة
11 - مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
12 - الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
13 - المغرب العربي في شمال إفريقية منذ القرن الثامن للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
عصر الانحدار
1 - الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد
2 - الحالة الثقافية في العراق بعد سقوط بغداد
3 - الحالة الإدارية في العراق بعد سقوط بغداد
4 - الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
5 - الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية
6 - الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد
7 - الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
8 - الحالة الإدارية في المغرب العربي
عصر الانحدار
عصر الانحدار
تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
تأليف
محمد أسعد طلس
تاريخ الأمم العربية
توطئة
كان العالم العربي عامة، والعراق خاصة، في فجر القرن السابع للهجرة، على حالة مزعجة من الاضطراب والفوضى، والسر في ذلك يرجع إلى أن الخلفاء الذين أضحوا ألعوبة في يد الأعاجم من الأتراك والسلاجقة، يتصرفون بالبلاد كما يشاءون، ويقضون على القومية العربية بما يريدون. ولما آلت الخلافة إلى المستنصر بالله ثم إلى المستعصم بالله، ازدادت الفوضى، واضطرب حبل الأمن، وبخاصة في عهد المستعصم، فقد كان ضعيف الرأي، لا يسمع له قول، منصرفا إلى اللهو وسفاسف الأمور، ولم يكن حاشيته ورجال بلاطه أفضل منه.
ولما أخذ خطر التتر يقوى وشرعت أخبارهم تصل إلى بغداد، حاول بعض العقلاء من رجال الدولة تقويم اعوجاج الخليفة، وإصلاح حال الحاشية، والدعوة إلى الأخذ بأسباب النهوض بالبلاد، والدفاع عنها من الخطر الداهم، ولكن الخليفة الأخرق وحاشيته الخبيثة ظلوا سادرين في غيهم، لا يسمعون لنصح المخلصين، ولا يعملون على إصلاح حال البلاد، وإنقاذها مما هي فيه من الاضطراب والفساد، واختلال الإدارة، ونظام المصادرة، والتعدي على الناس، والقضاء على الحريات، ومحو العدل والمساواة.
ولم تكن حال الشعب أفضل من حال الخليفة ورجالات قصره، فقد كان عامة الناس على جانب عظيم من التفسخ الخلقي والفساد الاجتماعي؛ لأن العناصر الدخيلة قد دخلت بينهم وأعملت فسادا وتمزيقا، حتى انقسموا على أنفسهم شيعا، كل شيعة تناصر إحدى الدول الأجنبية المجاورة أو الأحزاب والفرق الداخلية المتناصرة، حتى فقدت العصبية العربية تماما، وكان لدسائس الفرس والترك أثر كبير في هذا التفرق والفساد، وبخاصة ملاحدة الباطنيين، وأتابكة الترك، ومفسدي المغول والتركمان، أضف إلى هذا انتشار طائفة من المفاسد والأمراض الاجتماعية التي ما دخلت أمة إلا أهلكتها، وسلبت عنها عزتها وكرامتها القومية من الخلاعة البالغة، والشرف العجيب، واستيلاء الخصيان والمماليك والجواري على زمام الأمور، هذا إلى طائفة من الأمراض والأوبئة المادية التي استوطنت العراق كالحميات والطواعين والأوبئة، التي لا يكاد العراق يخلو منها في كل سنة من سني القرون الأخيرة.
وإذا كانت هذه حال العراق - وهو مهد الخلافة العباسية ومحط رجال العالم الإسلامي - فكيف تكون حالة سائر ممالك الخلافة التابعة لها، والحق أنها كانت في حالة مزعجة، سواء من حيث من التفكك أو الجهل أو الفساد أو الاضطراب على سنراه فيما بعده.
ولقد بلغت هذه الأمور مسامع عظيم التتار «مفكو» أخي هولاكو، فتاقت نفسه إلى السيطرة على القطر العراقي وما إليه، وعزم على أن يبعث بجيش كبير يحتل هذه الديار بعد أن احتل فارس وفتك بأهلها أشد الفتك، وهكذا كان، فقد أرسل أخاه هولاكو في سنة 655ه إلى البلاد العراقية، بعد أن استولى على فارس كلها كما سنفصله.
ولما أن تم السلطان لهؤلاء التتار على العراق، وقضوا على الدولة العباسية، أخذت النكبات تترى على العالم العربي ودوله واحدة تلو الأخرى، ولم تعرف البلاد طعم الحرية والعزة القومية خلال سبعة قرون ذاقت فيها كئوس الذل ألوانا وأشكالا، وحكم فيها المغولي والتركماني والتركي والفارسي حكما أمات الروح العربية، وحاول أن يقضي على كل ما فيها من كرامة قومية، ولولا نفحات كانت تهب في الفينة بين الفينة فتبعث بعض العزة والكرامة العربيتين الأصيلتين من شعر شاعر مكلوم، أو نفثة أديب مصدور، أو خطبة خطيب متألم، لانمحت روح العروبة، ودرست آثارها - لا قدر الله.
إن في النهضة العربية التي نراها اليوم بين صفوف الشعوب العربية من مراكش إلى العراق لبشارة طيبة تؤكد أن الله سبحانه قد أذن لهذه الأمة الكريمة أن تستعيد مجدها، وتعمل في سبيل عزها وكرامتها، حقق الله ذلك، وسلك بنا مسالك الخير والفلاح، والوحدة والسداد.
الفصل الأول
العراق في القرن السابع للهجرة
اضطربت الحالة العامة في العراق اضطرابا شديدا منذ فجر القرن السابق، واستمر هذا الاضطراب إلى هذا القرن ، ففي القرن الماضي كان الأمر كله بيد الأعاجم من الفرس والأتابكة والترك، ولكنهم كانوا على شيء من معرفة الإدارة والاطلاع على السياسة وخشية الجانب العربي، أما في هذا القرن فقد ساءت حالة أولي الأمر، وبخاصة الخلفاء، إلى درجة أصبح معها من المستحيل بقاء الحكم في أيديهم ولو اسميا؛ لأنهم استسلموا للمماليك والخصيان والجواري الذين سيطروا على قصورهم، وتحكموا فيهم كل تحكم، حتى أصبح الخليفة ووزيره ورجال قصره كالدمى يتلاعب بها المستبدون من الأعاجم. وإن من البديهي أن يكون الخلفاء العباسيون قد أحسوا بالخطر الذي سيجلبه عليهم تسلط الفرس على أمور الدولة؛ ولذلك حاولوا التخلص منهم فجاءوا بالترك وسلطوهم عليهم، وكان هذا بلاء جديدا ومرضا أفتك من المرض الأول دخل جسم الأمة العربية؛ لأن الفرس كانوا قوما ذوي حضارة قديمة وعلم موروث، فلما توطدت أركانهم في الدولة العربية نشروا علمهم، وبعثوا حضارتهم، أما الترك فقوم لم يعرفوا بحضارة، ولا روي عنهم علم موروث، فلما استولوا على زمام أمر الدولة العربية سيطر عليها الجهل، وعمت الفوضى، وفشا الفساد، وأصبح من الطبيعي أن تصل الدولة العربية إلى حالة مزعجة من الفساد.
لقد كان لهولاكو عيون يراقبون وضع الدولة العربية في البلاد ويقدمون إليه الرسائل والتقارير، فيحيط علما بكل دقيقة وجليلة، كما أنه كان من المعقول جدا أن يكون بعض الأمراء والحكام يأتمرون بأمره، وينفذون خططه، كما كان نفر منهم يأتمر بأمره وهو في الظاهر يعمل باسم الخليفة أو وزيره، ولعل أكبر دواعي تمكن المغول في البلاد العراقية بهذه السرعة العجيبة أن الترك المنبثين في كافة الأقطار كانوا يعملون للقضاء على السلطان العباسي، وتوطيد ملك المغول. •••
ذكر جمهور المؤرخين أن المغول قد ظهر أمرهم في أوائل القرن السابع للهجرة حينما استولوا بقيادة زعيمهم «جنكيز خان» على بخارى، وسمرقند، وبلخ، وفتكوا بأهلها المسلمين شر فتك، وكان ذلك في سنة 616-617ه، وقد فعلوا بالأهلين أفاعيل فظيعة من حرق مدنهم، وبقر بطونهم، وهتك أعراض نسائهم، والتمثيل بأطفالهم وشيوخهم، ثم انساحوا إلى إيران فتملكوها بعد أن خربوا العواصم والمدن الكبرى كمدينة «الري» و«أصفهان»، وكثير من مدن إقليمي أذربيجان وخراسان، ثم أخذوا يعدون العدة لغزو العراق، ففي سنة 633ه/1236م هاجموا مدينة «إربل»، وساروا إلى «نينوى»، ولكنهم ردوا على أعقابهم، ثم عادوا في السنة التي بعدها فهاجموا مدينة «إربل» ثانية وحاصروها مدة حتى افتدى أهلها أنفسهم بالمال، ثم عادوا إليها ثالثة في سنة 635ه، ففتكوا بالسكان واحتلوا المدينة ثم ساروا حتى بلغوا تخوم بغداد، فخرج إليهم الجند العباسي وعلى رأسه الأميران شرف الدين إقبال الشرابي ومجاهد الدين الدوبدار فهزماهم، ولكنهما خافا من عودتهم؛ فنصبا المنجنيقات على سور بغداد، وفي أواخر هذه السنة عادت جيوش المغول إلى العراق فوصلت «خانقين»، فلقيها الجيش العباسي وحمي الوطيس، ثم دارت الدائرة على الجيش العباسي، ورجعت فلوله إلى العاصمة بعد أن قتل منه مقتلة عظيمة، وغنم المغول غنائم جمة في كل هذه المعارك، وبخاصة معركة «خانقين»، فقد روى المؤرخان «ابن الغوطي» و«ابن العبري» أنهم قد رجعوا بغنائم كبيرة وأسلاب وفيرة، وأن الأهلين لاقوا منهم بلاء عظيما.
1
وقد استمر المغول في هجماتهم هذه نحو خمس عشرة سنة كاملة يغيرون على البلاد في كل سنة فيفتكون بالأهلين، ويبثون العيون، ويثيرون الذعر، ويعملون على الفت في عضد الدولة، وتخويف أهلها، وإيجاد الشغب بين الناس، ويرجعون بالغنائم والأسلاب، إلى أن تولى أمرهم «مفكوقان» أخو «هولاكوقان» في سنة 648ه/1251م وكان ذا آمال كبيرة، وطموح عظيم، فعزم على القضاء على الخلافة العباسية، والاستيلاء على ممتلكاتها، وأخذ يرتب أموره ترتيبا قويا، وينظم جنده تنظيما عسكريا، ويعمل على تأسيس دولة كبرى بالمعنى الصحيح بعد أن كان الأمراء المغول قبله يسيرون سيرة رؤساء العشائر، وقد تفرس في أخيه «هولاكوقان» أنه يستطيع مساعدته في تدويل قبائله، ونشر سلطانها على العالم، وهكذا كان؛ ففي سنة 651ه/1523م بعث بأخيه هولاكو لفتح إيران والعراق وبلاد الروم، فدخل إيران، وخرب قلعة آلوت حصن الإسماعليين، وقضى على آخر ملوكهم، والمؤرخون يذكرون أنه بينما كان يحارب الإسماعليين بعث رسولا إلى الخليفة يطلب إليه أن يساعده على الإسماعليين، وقد أراد الخليفة إنفاذ جيش لمعونته، ولكن رجال الدولة حالوا دون ذلك، فغضب هولاكو غضبا شديدا، وقال: ما لهذا يدعي أنه خليفة المسلمين ولا يتقدم لحماية عقيدة الإسلام من هؤلاء الملاحدة؟! وعزم منذ ذلك الحين على الفتك بالخليفة، ولما تم له القضاء على الإسماعيليين سار بقواه إلى بغداد في أوائل عام 655ه/1257م، وكان قد أرسل إلى الخليفة المستعصم بالله قبل زحفه على بغداد رسالة يتوعده فيها، ويهدده ويستنكر عدم مناصرته وتسيير جيوشه لمعونته في حرب الملاحدة أعداء الإسلام، فلما وصلت الرسالة إلى الخليفة اضطرب وجمع رجاله، وأخذ يشاورهم فيما يفعل، فاختلف أمرهم، والخليفة متحير لعلمه بفساد بطانته واختلال جنده وتفرق قادته، وعلمه بأن أكثرهم منطو على الغدر والخيانة، وقد تأكدت ظنونه هذه لما بلغه أن حاكم مقاطعة «درتنك»
2
على الحدود الإيرانية، الأمير حسام الدين، قد ذهب إلى هولاكو، وعرض عليه ولاءه، فأعاده إلى مقاطعته، وولاه إياها مع أعمال أخرى، ولما عزم هولاكو الزحف على بغداد تهيب الأمر، ولكنه صمم على ذلك وتوجه إليها، كما بعث إلى قادة الجيوش التي كان بعث بها إلى بلاد الروم أن تغير وجهتها وتسير إلى بلاد الموصل وتحاصرها في الوقت الذي يكون فيه قد حاصر بغداد، وحدد لهم مواعد يلتقون معه فيها حول بغداد، ثم بعث إلى بعض الفرق المرابطة في إيران أن تسير إليه أيضا حتى تجعل بغداد محاطة ب «كماشة» من ميمنتها ومن ميسرتها، وكان ذلك في أواخر المحرم سنة 655ه، ثم إنه سار نحو العراق فدخله من طريق قرميسين (كرمنشاه) في جمهرة كبيرة من القواد والعلماء والأفاضل، وفيهم نصير الدين الطوسي العالم الشهير، والصاحب عطا ملك الجوني العالم الكاتب المعروف.
ولما وصل إلى حدود «حلوان» علم أن الجيوش العباسية قد خرجت للقائه في «بعقوبا»، و«باجسرى» بقيادة الأمير مجاهد الدين أيبك الدواتدار، والأمير فتح الدين بن كر، والأمير قراسنقر القبجاقي، ولما التقى الجيشان حمل المغول حملة صادقة، فتفرق الجند العباسي، وقتل قراسنقر وفتح الدين، وتفرقت الجنود، وهلك قسم كبير منهم غرقا في دجلة، أما ابن الدواتدار فإنه استطاع الرجوع إلى بغداد منهزما ، وأحاط المغول ببغداد في منتصف المحرم سنة 656ه/1258م، وأخذوا يضربونها بالمجانيق حتى ضاق الناس ذرعا بالحصار واشتدت الحالة، وخاف القائد ابن الدواتدار مغبة الأمر فحاول الفرار من دجلة، ولكن المغول أخذوا يقذفونه بقوارير النفط الملتهب حتى اضطروه إلى العودة فعاد إلى بغداد، وأحس الخليفة بسوء العاقبة، فبعث في أواخر المحرم من تلك السنة بابنه الأمير أبي الفضل عبد الرحمن ومعه الوزير، وجمع من عظماء المدينة مع هدايا كثيرة إلى هولاكو، ولكن هذا رفض استقبالهم، وطلب إليهم أن يبعثوا إليه بالخليفة نفسه ليفاوضه، وأمر جنده بالكف عن القتال حتى يسمع من الخليفة، ولكن الخليفة لم يذهب وبعث إليه بابن الدواتدار ومعه سليمان شاه بن برجم وهو من كبار القادة فقتلهما هولاكو، وأخذ الرعب يدب في قلوب البغداديين، وسادت الفوضى في المدينة الجميلة، وعزم الخليفة على أن يخرج هو وأولاده الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن، وأبو العباس أحمد، وأبو المناقب المبارك، في عدد كبير من الأمراء العباسيين والعلويين إلى لقاء هولاكو، وعرض الخضوع عليه، فلما وصلوا إليه أحسن استقبالهم أول الأمر وطيب خواطرهم، ثم طلب إليهم أن يبعثوا إلى الخليفة بأن يأمر الجند بإلقاء السلاح والتسليم، فأمرهم بذلك واستسلمت المدينة، فدخل هولاكو وجنده إليها، وتولوا زمام الأمر فيها، ثم إن هولاكو أمر بوضع الخليفة والأمراء والأشراف في مكان خاص محجورا عليهم، ثم شرعت سيول الجنود تنحدر نحو المدينة، ولما ملئوا شوارعها وأسواقها أمرهم هولاكو بالفتك وقتل الناس، وسلب أموالهم، وهدم بيوتهم.
وقد اختلف قول المؤرخين في عدد قتلى أهل بغداد، فروى ابن الغوطي أن عددهم بلغ ثمانمائة ألف نسمة عدا من ألقى نفسه في الأنهار، وعدا من هلك من الأطفال، ومن هلك بالقنوات والآبار والسراديب فمات جوعا وخوفا.
3
وروى الجلال السيوطي أنهم بلغوا ألف ألف نسمة، وقال آخر: بل إنهم قاربوا ثلاثة آلاف ألف،
4
ولم يسلم أحد من الناس إلا من كان مختبئا في الآبار والقنوات والسراديب، وإلا من كان لاجئا إلى إحدى الدور الثلاث التي قال هولاكو: إن من دخلها كان آمنا ، وهي دار مؤيد الدين بن العلقمي الوزير، ودار فخر الدين بن الدامغاني صاحب الديوان، ودار تاج الدين بن الدوامي صاحب الباب. ويظهر أن هؤلاء الثلاثة كانوا متآمرين مع هولاكو على الخليفة، وقد نودي بعد ذلك بالأمان، فخرج المختبئون ووجوههم مصفرة، وحلومهم طائشة، لما شاهدوا من الأهوال والويلات التي يعجز القلم عن وصفها، والفكر عن وعيها.
وفي اليوم الجمعة تاسع صفر سنة 656ه دخل هولاكو المدينة وقصد دار الخلافة واستدعى إليه الخليفة، فقدم عليه وهو مندهش ذاهل، فقال له هولاكو: طب نفسا ولا تضطرب. ثم طلب إليه أن يظهر ما لديه من الثياب والأموال والرياش والكنوز، ففعل، وكانت أشياء لا يقدر ثمنها نفاسة مما كان الخلفاء الأقدمون قد ادخروه منذ تأسيس الخلافة العباسية، فاستولى هولاكو على ذلك كله، وأمر بحمله إلى ركابه.
وترك بغداد لفساد هوائها من كثرة الجيف وانتشار الأوبئة والأمراض، وطلب إلى بعض رجاله أن يتولوا الإشراف على الخليفة ويسيئوا معاملته هو وأهل بيته، ثم يقتلوهم جميعا ويقضوا على البيت العباسي، وهكذا فعلوا حتى إذا كان يوم 14 صفر سنة 656ه قتل الخليفة وأولاده الثلاثة، ثم في اليوم التالي قتل جميع الأمراء العباسيين والعلويين حتى لم تبق منهم باقية.
وهكذا زالت الخلافة العباسية التي استمرت من يوم 12 ربيع الأول سنة 132ه/749م إلى أوائل صفر سنة 656ه/1258م، وبزوالها زال الحكم العربي وانقرضت الخلافة العباسية، ونتج من هذا نتائج جد خطيرة لا في العراق وحسب، بل في العالمين الإسلامي والعربي كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
ولما استقر المغول في بغداد خضعت لهم كافة الديار العراقية، وعهد هولاكو إلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي آخر وزراء الدولة العباسية بأن يهتم بشئون بغداد وما إليها، وقد استعان مؤيد الدين بطائفة من رجالات الإدارة في العهد العباسي، فأعاد فخر الدين بن الدامغاني صاحب الديوان السابق إلى وظيفته، وعهد للأمير علي بهادر بوظيفة الشحنة، وللأمير نجم الدين أحمد بن عمران بكافة الأعمال الشرقية، ولتاج الدين علي بن الدوامي بالأعمال الفراتية، وللقاضي نظام الدين عبد المنعم بالقضاء، ولعز الدين بن أبي الحديد بالكتابة، ولطائفة أخرى من رجالات العهد الماضي بالوظائف الكبرى الأخرى، فأخذت الطمأنينة تعود شيئا فشيئا إلى البلاد، واستطاع من بقي من الناس أن يفتشوا عن أموالهم وأعمالهم، وشرع الموظفون ورجال الإدارة الجدد بترميم ما يمكن ترميمه من المساجد والمدارس والربط والقصور والدور والجسور والشوارع والأسواق.
وصفوة القول: أن المحتل لم يبدل نظام الحكم - كما هي السنة - بل استبقى الحالة على ما هي عليه، وحفظ التراتيب الإدارية على سابق عهدها، إلا أنه جعل رئاسة الأمور مربوطة دائما برؤساء من المغول يرجع إليهم الوزير ممن دونه، ويتصرفون بالبلاد كما يوحي إليهم، واستمر الوزير ابن العلقمي في عمله وسيطا بين المغول وأهل البلاد حتى هلك في جمادى الأولى من السنة نفسها، فخلفه ابنه عز الدين أبو الفضل في منصب الوزارة، وسار بالناس سيرة أبيه، ولم يأت بشيء جديد سوى أنه طلب إليه أن يحصي أهل بغداد فأحصاهم، وجعل عليهم أمراء ألوف، وأمراء مئات، وأمراء عشرات، وقرر على كل إنسان - ما خلا الأطفال والشيوخ - مبلغا مسمى من المال يدفعه في كل سنة، واستمرت هذه الضريبة حتى أزالها الوزير الذي جاء من بعده، ولم يطل عهد ابن العلقمي فهلك وله من العمر أربعون عاما في سنة 657ه، فخلفه الوزير علاء الدين عطاء ملك الجوني في ذي الحجة سنة 657ه، وجعل علاء الدين عمر بن محمد القزويني معاونا له، وقاسى الناس في هذه الفترة ويلات من تأدية الضرائب الكثيرة التي كانت تفرض عليهم، وتؤخذ منهم بالقوة.
وفي هذه الفترة جاء العراق موفدا من قبل هولاكو العالم نصير الدين الطوسي للتفتيش على أحوالها، والبحث عن أمور أوقافها وأحوال أجنادها ومماليكها، وقد جمع في أثناء رحلته هذه كثيرا من الكتب العلمية وأخذها من العراق، وكان أكثر هذه الكتب متعلقا بعلوم الفلك والرياضيات لعزمه على إقامة رصد في مدينة «مراغة» تنفيذا لأمر هولاكو، وقد أقام في العراق مدة وهو يفتش مصالحها، ثم رحل إلى «مراغة» حيث يقيم هولاكو، ولما عاد نصير الدين من رحلته هذه قدم تقريرا مفصلا عن أحوال البلاد العراقية، وبين لهولاكو سوء الحالة وفساد السياسة الخرقاء التي تسير عليها الولاة، فوعده بعد تلاوته بإصلاح الحالة، ولكنه فوجئ بالمرض وهلك في ربيع الآخر سنة 663ه، ولم يقم بأي إصلاح، واستمرت الفوضى حين ولي ابنه إباقا خان، فعهد بالعراق إلى الصاحب علاء الدين عطاء ملك الجوني، وأوصاه بحسن السيرة، والعمل على تعمير البلاد، وإحياء المدارس والربط، وإصلاح شئون الحج، ففعل الجوني ذلك كله، واطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم بعض الاطمئنان، وفي سنة 667ه/1268م زار إباقا خان بغداد لمراقبة الحالة عن كثب، ثم خرج منها وقد رتب الأمور، ثم عاد إليها ثانية في سنة 672ه/1273م ومعه جمهرة من القواد والعلماء، وعلى رأسهم النصير الطوسي، ففتش المصالح الديوانية، وأمر بالإصلاح والإحسان وتخفيف الضرائب عن كاهل الناس، وكتب ذلك على حيطان المدرسة المستنصرية الكبرى، وطلب إلى النصير الطوسي أن يتصفح أحوال الأوقاف وشئون طلاب العلوم والمتصوفة، ثم زارها للمرة الثالثة في سنة 680ه/1281م ليكون قريبا من الشام، حيث بعث بأخيه الأمير «منكوتمر» مع جيش عظيم لفتح الشام ومصر، وقد بلغه أن صاحب دمشق الأمير «سنقر الأشقر» قد فتك بجيشه فتكا ذريعا، فطلب إلى الباقية أن تعود من الشام إلى العراق، ولما وصلوا العراق ودخلوا بغداد لقيت الأهالي منهم بلاء عظيما إلى أن رحلوا عن بغداد في أواخر هذه السنة قاصدين إيران، ولما وصلوا إلى «همدان» مرض هناك إباقا خان وأحس بدنو أجله، فعهد بالأمر بعده لابنه أرغون، ولكن الأمراء اجتمعوا على تسليم الأمر إلى الأمير تكودار بن هولاكو، وقد كان أول من أسلم من أولاد هولاكو وتسمى باسم أحمد، فقام بالأمر أحسن قيام، ونظم حالة العراق وكتب إلى السلطان الملك المنصور الألفي صاحب الشام ومصر رسالة يقول له فيها: «إن الله سبحانه حبانا بالأبلخانية، وأمرنا بالعدل وحقن الدماء، فإن أردت الموادعة فنحن نكف عسكرنا عن قصد بلادك، ونفسح للتجار في السفر كيف شاءوا، فإن فعلت ذلك، وإلا فعين للقتال موضعا، واعلم أن الله سبحانه يطالبك بما يسفك بيننا من الدماء.»
5
وقد لقيت هذه الرسالة أذنا صاغية من الملك المنصور، فكتب إليه أن يوادعه، وهكذا استتب الأمن في الشام وعادت التجارة إلى سابق عهدها فترة غير قصيرة، وعاد الأمن والسلام إلى العراق في هذه الفترة التي كان يتولى أموره فيها حاكم عالم عاقل هو الصاحب علاء الدين عطاء ملك الجوني،
6
ثم من بعده ابن أخيه الصاحب شرف الدين هارون بن الصاحب شمس الدين الجوني، فقد كان كل منهما على جانب من العلم عظيم، كما كان بارعا بالإدارة وحسن التصرف، ولولا الفتنة التي وقعت بين السلطان أحمد وبين أرغون خان لاستراح الناس قليلا، ولكن هذه الفتنة أزعجت الناس إلى أن قضي على السلطان أحمد، وتم الأمر لأرغون خان، فأول ما قام به هو أنه عهد في 10 جمادى الأولى سنة 683ه/1284م إلى أخيه أروق بإدارة شئون العراق، فسار إليه وقبض على الصاحب شرف الدين هارون وجماعته وقتلهم بعد أن عاملهم شر معاملة واستخلص أموالهم، ثم رحل عن العراق وأناب عنه فيه الأميرين عز الدين الإربلي ومجد الدين إسماعيل بن إلياس، وطلب إليهما أن يهتما بجمع الضرائب وإدارة الأمور وتصريفها، وقد قاسى أهل العراق وبغداد خاصة ويلات شدادا من كثرة غلاء القوت وانتشار الأمراض، ومن جراء تحكم سعد الدولة بن الصفي اليهودي الحكيم، الذي كان يتولى أمور الإشراف على ديوان العراق، وكان يهوديا خبيثا داهية استطاع ببراعته في علم الطب أن يتوصل إلى هذه الوظيفة السامية ويتحكم في رقاب الناس، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن تولى أمور العراق «قطلغ شاه» في سنة 686ه/1287م، فأول عمل قام به هو أنه طلب من السلطان إبعاد هذا اليهودي الخبيث عن عمله، فأبعد عنه، ولكنه رحل إلى «الأردو» حيث يقيم السلطان وسعى للتقرب منه والخلوة به، فكان له ما أراد، ثم أرسله السلطان إلى بغداد، فلما وصلها أراد أن يتقرب من الناس، ويستعيد مكانته، فكتب إلى السلطان يقول له: إن «قطلغ شاه» قد فرض على الناس أموالا على سبيل الاقتراض، وثقل عليهم في استيفائها، وإن الناس قد ضاقوا ذرعا به، فأمره السلطان بإسقاط ما قرره على الناس من القروض، وحمد الناس لصفي الدين هذه المنقبة، ثم توصل على استعادة وظيفته وهي الإشراف على ديوان العراق، ثم زادت مكانته حتى سمي «صاحب ديوان الممالك العراقية»، وسمى أخاه فخر الدولة، ومهذب الدولة نصر بن الماشيري اليهودي ليقوما بأعمال الديوان، وأمر بالقبض على زين الدين الحظائري ضامن التمغات، وعلى مجد الدين إسماعيل بن إلياس ضامن أعمال «الحلة» ونائب الديوان ببغداد، بعد أن اتهمهما بالاختلاس، وصادر أموالهما، وشهرهما في السوق ثم قتلهما، وكان الزين الحظائري من محاسن الزمان، عالما فاضلا أديبا جوادا،
7
ولكن هذا المجرم اليهودي حنق عليه فقتله أشنع قتلة.
وقد ظل نجم سعد الدولة اليهودي في صعود حتى إنه بعث بأخيه أمين الدولة حاكما للموصل وما إليها، وكان شريرا فأساء إلى الناس، وضاقوا به وبأخيه ذرعا حتى إنهم اجتمعوا في المساجد يحملون على اليهود ويدعون عليهم، واجتمع نفر من أعيان الناس وكتبوا محضرا يتضمن طعنا في سعد الدولة وأهل بيته وأعوانه من اليهود، وضمنوا هذا المحضر طرفا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنص على أن اليهود قوم أذلهم الله، وأن من يحاول إعزازهم أذله الله، ورفعوا ذلك إلى السلطان أرغون، فبعث السلطان بالمحضر إلى سعد الدولة، وحكمه في الذين وقعوا في أدناه، ولكنه خاف مغبة الفتك بهم فلم يؤاخذ واحدا منهم، سوى أنه صلب جمال الدين بن الحلاوي ضامن تمغات بغداد، واضطرب الناس لهذه الحادثة وسكنوا فترة حتى إذا أجمعوا أمرهم قاموا بثورة عنيفة أحرقوا فيها دور اليهود، ونهبوا أملاكهم، ولم تسلم من هذا العمل مدينة من مدن العراق، وفتك الناس بسعد الدولة وإخوته، وكثير من أعيان اليهود وأوباشهم؛ لأنهم أساءوا التصرف، وعاملوا الناس شر معاملة، وبخاصة سعد الدولة فإنه أضر بالمسلمين وبنفقات جوامعهم وأوقافهم، فتألم الكل منه، ومما قيل من التألم منه ومن توقع زواله:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
مرتبة لا ينالها فلك
الملك فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا معشر الناس قد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
فانتظروا صيحة العذاب لهم
فعن قليل ترونهم هلكوا
وقد جرى على اليهود من المصاب عند قتله والوقيعة بهم ما لا يحصيه قلم أو يسعه كتاب.
8
كل هذه النكبات حلت بالعراق من جراء تساهل السلطان أرغون وواليه على العراق قطلغ شاه، وقد ظلت هذه الفظائع تحل بالشعب المسكين حتى هلك سعد الدولة اليهودي، وقتل قطلغ شاه، ومات السلطان أرغون في سنة 690ه.
ففي تلك السنة مات أو سم أرغون خان وجلس كيخاتو خان على سرير المغول، وكان صاحب أهواء وفسق عجيبين، كما أنه كان مسرفا شديد الإسراف، وقد لقيت البلاد منه شرا مستطيرا فقلت الأموال وانعدم النضار واللجين من أيدي الناس حتى إنه اضطر إلى أن يصدر عملة ورقية عرفت باسم «الجاو»، فقد ذكر المؤرخ وصاف في تاريخه أن في هذه السنة 693ه وضع صدر الدين صاحب ديوان الممالك بتبريز، عاصمة الإمبراطورية المغولية، «الجاو» وهو كاغد مستطيل الشكل عليه ختم السلطان (تمغة) عوض السكة على الدنانير والدراهم، وفي أعلاه كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأمر الناس أن يتعاملوا به، وقد حبب بعض الشعراء هذه العملة للناس، وجعلها فاتحة خير ويسر، واتخذوا الصنعة دار سك، كما سموا بعض الموظفين لطبعه وتمغه،
9
وقد كانت هذه العملة الورقية الجديدة متنوعة القيم من العشرة دنانير إلى الدرهم ونصف الدرهم وربع الدرهم، وقد لقي الناس كثيرا من المصائب بسببها واضطربت أحوالهم بها جدا، حتى كان الرجل يضع الدرهم في يده تحت «الجاو» ويعطيه الخياط أو اللحام، ويأخذ حاجته خوفا من أعوان السلطان.
وفي عهد كيخاتو تولى العراق الأمير جمال الدين الدستجرداني، فكان أول عمل قام به هو أنه جمع أموالا جمة من الأهلين، كما أنه أخذ كثيرا من السلاح والكراع منهم وتوجه به إلى مقر السلطان، فاستحسن السلطان ذلك منه، وأقره على ولايته، وأعاده إلى العراق مع أمير مغولي يدعى ينطاق ليتولى إدارة الأمور معه.
وفي سنة 694ه، عزل كيخاتو الأمير جمال الدين وولى محله شمس الدين محمد السكورجي التركستاني، وكان رجلا حازما عاقلا مدبرا، فأحسن تصريف الأمور وأزال عن الناس بلواهم، وصرف عن أهل العراق ما كان حدده عليهم جمال الدين الدستجرداني من الضرائب الظالمة، والمكوس الكبيرة، ولما هلك السلطان كيخاتو في سنة 694ه، وتولى بايدو خان عزل السكورجي عن العمل وأعاد الدستجرداني إلى العراق، فكان أول ما صنعه هو أنه عمد إلى جمع أموال الناس واستصفائها، وأخذ الضرائب الديوانية، كما طلب من التجار بعض أموالهم على وجه المساعدة، وسار بما جمعه من الأموال إلى السلطان بايدو خان فأكرمه هذا غاية التكريم، وأنعم عليه بلقب «مدبر الملك»، وكان بايدو خان عاتيا ظالما فتآمر عليه أمراؤه وشتتوا شمله وولوا محله السلطان محمود غازان بن أرغون في سنة 694ه، وكان رجلا مسلما حازما داعية للإسلام بين المغول، ذا سيرة طيبة، فلقي العراق في عهده شيئا من الهناء والراحة والأمن، وخصوصا حينما زار بغداد في المحرم من سنة 696ه/1297م، فقد روى المؤرخون أنه توجه إلى العراق بجيش كبير، وأنه لم يؤذ أحدا من الأهلين، كالعادة حين يدخل المغول العراق، بل كان هو وجنده لا يأخذون من أحد شيئا من ماله إلا بالابتياع الشرعي، والكرامة واللطف، وما ذلك إلا لأن السلطان غازان كان شديد المراقبة لجنده، ولما دخلوا بغداد لم يجلوا أحدا عن داره بالقوة، كما كان يفعل السلاطين السابقون، بل أحسنوا معاملة الناس، وأول ما قام به السلطان حين دخوله بغداد هو زيارته للمدرسة المستنصرية الكبرى، وإكرامه لطلابها وأساتذتها، وكان لا يصدر في جميع أعماله إلا عن فكر صائب ورأي حازم على صغر سنه، ولم يؤخذ عليه شيء من العنف والطيش والبطش خلال سلطانه الذي دام عشر سنوات سوى شدته في حرب بلاد الشام، فقد كانت حروبا طاحنة لقيت الشام منها ويلات على ما سنبينه بعد.
أما أعماله العمرانية فكانت كثيرة في العراق وإيران من حفر للترع والأقنية والأنهار، وبناء للحدائق والربط والمدارس، وإشادة لدور العلم والحديث والقرآن، والجوامع، ومكاتب الأيتام، قال الأستاذ عباس العزاوي: «وعلى كل حال كانت خيراته عميمة، وعماراته في العراق والخارج كثيرة، واتخذ له مدفنا في ظاهر تبريز، وهو ما تعجز العبارة عن بيانه، وجعل فيه من أبواب البر ما لا يوصف من مدرسة، وخانقاه، ودار الحديث، ودار القرآن، ومستشفى، ومكتب للأيتام، وله عمارات أخرى منها رباط سبيل في حدود همذان، ومن أهم إصلاحاته أن لا يصدر «برليغ» أو «بايزه»
10
إلا بنظام خاص، وأصدر «برليغا» في إصلاح المرافعات، وانتخاب القضاة، والاعتناء بالعدل، وتثبيت ما يجب أن تسير عليه المحاكم، ومراعاة مرور الزمان في القضايا وفي ملكية العقارات، وتوحيد الموازين والمكاييل، وقرر العقوبات على من يظهر في حالة السكر في المحال العامة، ومنع التعديات على التجار والمارة باسم «تسيير» أو «أجرة محافظة طرق»، إلى آخر ما هنالك من المآثر الجميلة النافعة.»
11
ومن أعظم مآثره حسن ترتيبه الأعمال الإدارية في العراق، فقد كانت البلاد في عهد أسلافه من السلاطين المغول طعمة لمن يختارونه من الرؤساء والولاة والنواب والقضاة، وكان الأهالي يلقون من جراء ذلك تعديا فادحا، وقد كان السلطان «يضمن» البلاد إلى الوالي أو الرئيس أو النائب على مبالغ معينة يؤديها إليه، فإذا جاء هذا الوالي أو الرئيس أو النائب إلى البلاد عسف وظلم، وجمع من الضرائب أضعاف المبلغ المطلوب، فيبعث ما يبعث ويستبقي لنفسه ما يريد، ويلقى الأهلون في ذلك من الويلات أشدها، فلما جاء غازان منع ذلك كله وفرض على الناس ضرائب محددة ضمن القواعد الشرعية، وأوجب على واليه أن يأخذها من الناس على أقساط، وفي مواعيد معينة،
12
وفي عهد غازان قضي على البدو الذين كانوا يعيشون في البوادي والديار العراقية، ولا تكاد تخلو سنة من سني تاريخ العراق في هذه الحقبة من ثورة يقومون بها أو غارة يغيرونها، وقد كانت الفتكة التي فتكها بهم في سنة 698ه درسا قاسيا ومؤدبا.
هذا موجز ما مر على العراق من حوادث في القرن السابع للهجرة بعد سقوط الخلافة العباسية، ويرى المتأمل أن العراق كان في حالة فاسدة، ولم يكن هذا الفساد منحصرا في النواحي السياسية والإدارية وحسب، بل كان عاما في كافة مرافق الحياة من اجتماعية ودينية وأدبية وعلمية، وسنرى تفصيل هذا في الفصل الخاص به.
وإذا كان العراق قد فقد الخلافة ومظاهرها وما تستتبعه من تكاليف، فإن الولاة والحكام - وأكثرهم من الفرس أو المغول - كانوا يحاولون التشبه بهذه المظاهر ويفرضون على الناس من سوقة وعامة وخاصة أن يلبوا طلباتهم، ويعطوا عن يد وهم صاغرون. أما حالة الشعب العامة فقد كانت - كما رأينا - جد سيئة في الغالب، ولم تكن حال أهل الذمة - من نصارى ويهود - أحسن حالا من المسلمين، بل كان الكل سواسية في تحمل ظلم هذا السلطان العاتي، غير أن اليهود بدهائهم وخبثهم وحيلهم كانوا يستطيعون - على قلة عددهم - التسلط على نفوس الحكام، والوصول إلى قلوبهم، ويستتبع هذا جر المغانم إليهم، وفرض نفوذهم على الآخرين.
الفصل الثاني
العراق في القرن الثامن للهجرة
أطل القرن الثامن على العراق ومحمود غازان هو سلطان على إيران والعراق، وهو طامع في السيطرة على الديار الشامية، وطرد المماليك المصريين منها، وقد تم له فتح قسم من بلاد الشام، وكان يطمع في فتحها كلها وضمها إلى مملكته، ولكن جيشه كسر في سنة 702ه/1302م، وقتل منهم مقتلة عظيمة، كما أسر منهم جماعات، وقد اهتم غازان لهذه الحادثة كثيرا فلحقته من ذلك حمى حادة، ومات مكمودا،
1
وكان قد أوصى بالملك من بعده لأخيه السلطان ألجايتو، فتولى الأمر في الثاني من ذي الحجة سنة 703ه، وكان أول عمل قام به هو أنه أعلن إسلامه وتسمى محمدا وتلقب بغياث الدين خدابنده ومعناها «عبد الله»، ثم انصرف إلى ترتيب أمور ممالكه وخاصة العراق، فإنها قد كانت مضطربة بعد الكسرة التي مني بها الجيش المغولي في الديار الشامية.
ولم يمض وقت طويل حتى عادت المياه إلى مجاريها، وانتظم حبل الأمن وخمدت الثورات واستقرت له الحالة في كافة الولايات؛ لأنه أعلن أن من تحدثه نفسه بشق عصا الطاعة فسينال أقصى العقوبة، ثم أرجع الأمور إلى ما كانت عليه أيام أخيه، فانتظمت الأحوال واستقرت، لولا أنه قام بعمل ضاق الناس به ذرعا ولم يتحملوه وثاروا عليه من أجله، وهو أنه في سنة 707ه/1307م أظهر التشيع ودعا الناس إليه بعنف، وكان قبل هذا التاريخ جاريا على منهج أهل السنة، أما في هذه السنة فإنه أمر بحمل الناس على التشيع وكتب بذلك إلى العراقين، وفارس، وأذربيجان، وأصفهان، وكرمان، وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها ذلك بغداد وشيراز وأصفهان، فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم، وهم أهل السنة - وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - وقالوا: لا سمع ولا طاعة، وأتوا المسجد الجامع يوم الجمعة في السلاح، وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قالوا له: نحن اثنا عشر ألفا في سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها، فحلفوا له أنه إن غير الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص منها فإنهم قاتلوه، وقاتلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاء الله. وكان السلطان قد أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة، ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنه، فخاف الخطيب من القتل وخطب الخطبة المعتادة.
2
ولما رأى الرسول شدة حصاة العراقيين رجع وأخبر السلطان بما رأى، فتساهل معهم ولم يقسرهم على شيء، إلا أنه ظل يفضل آل البيت عليهم السلام ويكرمهم، وكانت سيرته في الغالب سيرة حسنة، وقد سعى في نشر الدين بين قبائل التتار حتى دخلوا فيه أفواجا، وقد كان شديد التعصب لإسلاميته، مضيقا على أهل الذمة، وقد احتال اليهود في عهده كثيرا وقاموا بأعمال إجرامية، وتستر بعضهم بستار الإسلام وهو يبطن اليهودية، ومن أخبث اليهود الذين لعبوا دورا هاما في هذه الفترة امرأة أظهرت الإسلام وتزوجت الخواجة سعد الدين الوزير، واتفقت هي والطبيب اليهودي نجيب الدولة الذي أظهر الإسلام أيضا، وأخذا يلعبان أدوارا أقضت مضجع الأهلين، وفتكا بطائفة كبيرة من الأعيان والأشراف، وقد كانت هذه العصابة المجرمة، وعلى رأسها نجيب الدولة وتلك المرأة الخبيثة، سبب نكبة طائفة من الأغنياء والوجوه.
ومن يلاحظ في عهد السلطان محمد أن الأعراب وسكان البادية قد قوي أمرهم، وأضحوا أصحاب نفوذ، وتدخلوا في شئون الحاضرة، ومن العشائر الكبيرة التي كان لها نفوذ في سورية والعراق هذه الفترة آل الفضل، ورئيسهم مهنا بن عيسى، وزميله أحمد بن عميرة، وهذه العشيرة كان لها نفوذ كبير، وهي من أفخاذ بني طي، وقد تملكت رحبة مالك بن طوق وما إليها، وربما تملكت الموصل، فقد روى المؤرخون أن أحمد بن عميرة ذهب إلى السلطان في تبريز، وطلب إليه أن يوليه على الموصل وما إليها فولاه إياها، وكان مهنا بن عيسى يلقب ملك العرب، وقد لعب دورا خطيرا لما وقعت الفتنة في العراق وسورية بين الملك الناصر وبين أمرائه في سورية قراسنقر المضوري وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي، فإن هؤلاء كانوا شقوا عصا الطاعة على الملك الناصر، وتركوا ولاياتهم في الشام، وذهبوا إلى مهنا بن عيسى طالبين إليه أن يعينهم بعشيرته، فوافقهم على ذلك وسار الجميع إلى ملك المغول خدابنده وأطمعوه في السيطرة على الديار الشامية والمصرية والقضاء على دولة المماليك، وأنهم سيساعدونه على الوصول إلى ذلك، فاقتنع بفكرتهم، وتوجه بنفسه على رأس جيش كبير إلى رحبة مالك، وكان ذلك في شعبان سنة 712ه.
ولما طال حصاره للمدينة، وتعذر عليه فتحها، ووقع المرض في جنده، وقلت المواد الغذائية عنده؛ اضطر إلى أن يرجع إلى بلاده بعد أن حاصرها شهرا. أما قراسنقر وعيسى بن مهنا وجماعتهم فقد اضطروا إلى أن يرجعوا معه إلى العراق، ولما وصلوا العراق أقطعهم بعض الولايات، فكان نصيب عيسى مدينة الحلة وما إليها، ثم إنه عاد إلى خدمة الملك الناصر بعد أن أخذ مواثيق، فأذن له في أن يستمر في إقطاعه ببلاد الشام وهو مدينة سرمين وما إليها من أعمال حلب، وهكذا استطاع أن يمتلك إقطاعين أحدهما في العراق والآخر في الشام، فأقام ولده سليمان نائبا عنه في مدينة الحلة، وأقام ولده الثاني موسى نائبا عنه في مدينة سرمين، وظل هو يتردد بين البلدين وينال الخلع والعطايا من الجانبين. وكان يحرك أولاده وعشيرته فيثورون إذا ما تأخر ملوك الشام أو العراق عن تقديم العطايا والمنح إليه، وكانت أعظم هذه الثورات الثورة التي قام بها ابنه سليمان في سنة 715ه/1315م، فقد أغار مع عشيرته في أواخر ذي الحجة من تلك السنة مع جماعات من المغول على القبائل العربية المرابطة في تدمر، وفتكوا بهم وخربوا بيوتهم وغنموا منهم مغانم كثيرة، ثم قفلوا إلى العراق، وقد شجعهم السلطان خدابنده كثيرا على ذلك، كما شجع عرب الحجاز على الثورة حينما قصد إليه أميرهم الشريف حميضة بن أبي نمي مستنصرا إياه على أخيه الشريف رميثة أمير مكة، وقد أرسل خدابنده مع حميضة حاكم البصرة مع عدد كبير من المغول وبني خفاجة للسيطرة على الحجاز وإقصاء رميثة التابع لنفوذ مماليك مصر، وقد وقعت بين الجانبين مواقع كثيرة، ولولا أن جاء الخبر بموت خدابنده لما قضي على هذه الفتنة.
ولما مات خدابنده في سنة 717ه/1317م، تولى الأمر من بعده ابنه بهادر خان وهو طفل لم يتجاوز العاشرة، فقام بالأمر جوبان وكان أميرا داهية ذا سيرة سيئة، سلك مسلك السلطان خدابنده وتمم مشاريعه. وفي سنة 718ه حضر إليه الأمير فضل بن عيسى بن مهنا، وقدم إليه تقدمة من الخيول العربية والهدايا النفيسة، فعهد إليه بإمارة البصرة وما حولها، واستمرت له إقطاعاته التي كانت بالشام، ويظهر أن سلطان مصر المملوكي قد أحس بالدور الخطير الذي يلعبه هؤلاء الأعراب، فأراد أن يسلط عليهم بعض العشائر البدوية، وعمل على إغراء بني عقيل عليهم، كما أثار أعراب الأحساء والقطيف ضدهم، ولقيت مدينة البصرة منهم جميعا ويلات ومحنا شدادا، حتى قيل إن بني عقيل أخذوا من بني مهنا ومن أهل البصرة ما يزيد على العشرة آلاف بعير.
3
ولولا أن فتنة وقعت بين أمراء المغول أنفسهم، لاستمر جوبان على إغرائه بين العرب. وتفصيل أمر هذه الفتنة أن أمراء المغول كرهوا انفراد جوبان بالأمر من دونهم، وخصوصا بعد أن وزع نيابة السلطنة في الممالك العراقية والإيرانية بين أولاده.
فلما رأوا ذلك عزموا على الثورة عليه، ووقعت الفتنة بين الجانبين، وقتل منهما قرابة ثلاثين ألفا،
4
حتى كاد أن يزول ملك المغول لولا أن جوبان أظهر براعة عظيمة فقضى على خصومه، واستتب له الأمر.
5
ثم إنه رأى أن أول ما يجب عليه عمله هو أن يهادن سلطان مصر الملك الناصر ويتقرب إليه، ففي سنة 720ه/1320م بعث رسلا من قبله ومن قبل بهادر خان، ومن قبل الوزير علي شاه إلى سلطان مصر الناصر، وهم يحملون الهدايا والتحف والجواري والمماليك مما قيمته خمسون تومانا، وكانت قيمة التومان وقتئذ عشرة آلاف درهم،
6
ولما وصلوا إلى مصر أكرمهم السلطان الناصر، ومما قاله له رئيس الوفد: «إن أخاك الملك أبا سعيد يسلم عليك ويقول إن أباه خدابنده كان يقول: أنا والسلطان الملك الناصر شيء واحد، والمسلمون جيش واحد، ونسكن الفتن القديمة، ونقيم الملة الإسلامية.» وقد أجابه الملك الناصر جوابا لطيفا دل على استحسانه واستجابته، ثم عقد بين الجانبين عهد صلح تضمن النقاط الآتية: (1)
أن يمنع ملك المغول حضور الفداوية من بلاده، فلا يدخل أحد منهم. (2)
أن من حضر من مصر إلى بلاد ملك المغول يكون لاجئا ولا يطلب، وأن من حضر من بلاد المغول إلى بلاد مصر فلا يعود إلا أن يكون ذلك برضاه. (3)
ألا يدخل بلاد ملك المغول مغير من العرب أو التركمان. (4)
أن تكون الطريق بين البلادين مفتوحة يدخل فيها التاجر وغيره، فلا يعارض. (5)
أن يكون لملك المغول سنجق سلطاني يحمل في الركب الذي يخرج إلى مكة أثناء موسم الحج. (6)
ألا يطلب قراسنقر ولا يذكر بشر؛ لأنه لاجئ إلى ملك المغول، ونزيل عنده فوجبت عليه حرمته. (7)
أن يبعث السلطان الملك الناصر إلى الملك المغولي رجلا معروفا بالجودة والأمانة ممن يوثق به في الأمور، وتكون معه نسخة يمين من السلطان، وأن الملك المغولي يحلف على ذلك، ويستمر هذا الصلح، ويصير الإقليمان إقليما واحدا.
وهكذا تم الاتفاق بين الطرفين وعاد الوفد من مصر بعد أن أنعم عليهم السلطان بالهدايا والخلع، وكتب كتابا إلى ملك المغول بإقرار العقد، وأن العرب من آل مهنا قد كثر فسادهم في البلاد وأنهم خارجون عن طاعة السلطان المصري، فيجب على السلطان المغولي ألا يمكنهم من بلاده أيضا، ومما جاء في الجواب: «وإن العرب آل عيسى بن مهنا قد كثر فسادهم في البلاد وخرجوا عن طاعتي، وقد أخرجتهم من بلادي وأريد أنا أيضا ألا تمكنوهم من الدخول إلى بلادكم وتمنعوهم، وأنا أخرج عسكرا من عندي وأنتم أخرجوا عسكرا من عندكم، فنشيل سائر العرب.»
7
ويظهر أن الجانبين كانا يلاقيان ضروبا من الفتن بسبب هؤلاء الأعراب المنتشرين في بادية الشام، وعلى سيف الصحراء، وعلى الحدود الشامية العراقية، وقد مر بنا قبلا ما كان نصيبهم في الفتنة التي وقعت بين سلطاني مصر والعراق، ومما يلاحظ أيضا في عهد الصلح السابق أن الفداوية (الفدائية) كانوا يحتمون في مصر ويقومون بأعمال العنف المزعجة في الديار العراقية؛ ولذلك كان أول شرط شرطه أبو سعيد ملك المغول والأمير جوبان هو منع هؤلاء من الإقامة بأرض مصر، وأن يفرق شملهم، ويظهر أن المصريين كانوا قد شجعوا نفرا منهم لاغتيال بعض أمراء المغول أو قتل نفر من المماليك المصريين الذين لجئوا إلى العراق بعد حصول الفتنة بين سنقر وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي.
وقد استمرت مكاتبات الصلح هذه حتى سنة 723ه/1323م، فقد ذكر أبو الفداء أن في هذه السنة ذهبت رسل السلطان أبي سعيد ورسل نائبه الأمير جوبان وتوجهوا إلى سلطان مصر بالقاهرة ثم عادوا إلى بلادهم،
8
وهدأ العراقان وبلاد الشرق ومصر بعد فترة طويلة من الفوضى والاضطراب، وقد زار العراق في هذا الوقت الرحالة العربي ابن بطوطة، وكان السلطان أبو سعيد هناك، فوصفه وتحدث عن بعض مجالسه ولهوه وأحواله وأحوال صاحب دولة جوبان وأحوال ابنه دمشق خواجه، وكيف كانت نهاية جوبان وأولاده جميعا مما سنراه مفصلا بعد.
إن من المؤكد أن العراق وجميع البلاد الخاضعة لحكم المغول كانت في الربع الأول من هذا القرن تحت سيطرة جوبان وأولاده يتحكمون فيها كما يشاءون، وليس للسلطان أبي سعيد إلا الاسم والمظاهر السلطانية، وقد ضاق السلطان بهذا الأمر ذرعا فعمل على التخلص من دمشق خواجه فقتله، ثم أراد الفتك بأبيه فالتجأ إلى ملك هراة غياث الدين شاه فأكرمه أول الأمر ثم دبر قتله وبعث برأسه إلى أبي سعيد، وتفرقت بقية أولاده في البلاد، ثم ألقي القبض عليهم وقتلوا جميعا،
9
وقد تولى الوزارة بعده غياث الدين محمد بن الخواجة رشيد الدين، وكان رجلا عاقلا اعتمده السلطان فأحسن سياسة الأمور، وأبطل كثيرا من المكوس والضرائب الظالمة، وحسنت أحوال الناس في عهده، وقويت تجارة العراق مع البلاد المجاورة وخاصة الشام وإيران والروم، وكانت البلاد العراقية على حالة حسنة؛ لأن واليها علي باش كان على جانب من الكياسة والدين، وظلت أحوال البلاد حسنة طول عهد السلطان إلى أن فتك به داء الصرعة في ربيع الآخر سنة 736ه/1335م وله من العمر بضع وثلاثون سنة،
10
فلما مات وقعت الفتنة في البلاد؛ لأنه لم يكن له ولد، وطمع في الملك بعده خصومه وأمراء مملكته، فقد كان علي باش أمير بغداد طامعا في ذلك، وكان الأمير أربا خان - وهو من كبار رجال الدولة - يحلم بذلك، وهو امرؤ قوي النفوذ والشكيمة، فنادى بنفسه ملكا على البلاد، واستولى على إيران والعراق واشتعلت نار الفتن في البلاد جميعها، وخصوصا حين غلب علي باش على أمره، وذهب إلى السيدة دل شاو زوجة السلطان أبي سعيد وطلب إليها أن تذهب معه إلى بغداد وكانت حاملا، فذهبت معه وأعلن للناس أن الملك ينبغي أن يكون لمن ستلده هذه السيدة، وبعث الدعاة بذلك إلى البلاد، ثم إنه أخذ يضيق على البغداديين وسائر العراقيين، ويطلب إليهم أن يدفعوا إليه الأموال للدفاع عنهم من غارات «أربا خان»، فجمع أموالا جساما، حتى قيل إنه لم يبق مع الأعيان والأغنياء شيئا، ثم سير جيشه إلى مدينة سلطانية عاصمة المغول، وعمت الفوضى في البلاد، وتحكم فيها الفساد والمتمردون، وقطعت الدروب وعمت الفتن ، ثم وردت الأخبار بقتل أربا خان في سنة 736ه، وتسلطن بعده موسى خان، فلم تطل مدته سوى شهرين، وكانت مملوءة بالشرور والثورات.
ويمكننا أن نعتبر أن سلطان المغول قد انقرض بتولي هذا السلطان، وكان ذلك على يد الشيخ حسن الكبير الأبلخاني أمير بلاد الروم، فقد زحف على البلاد العراقية، ووقعت بينه وبين موسى خان وعلي باش معركة كبيرة في تبريز، انتهت بتفرق جند علي باش، وهروب موسى خان، وأسر علي باش وقتله.
11
وهكذا انقرضت الدولة المغولية في العراق والمشرق كله سنة 738ه/1336م، على الرغم من بقاء بعض الأمراء المتغلبة المغول الذين أخذوا يعلنون سلطنتهم واستيلاءهم على بعض بقاع الدولة مثل: سلطان محمد، وطفا تيمور، وصاتي بك، وسليمان خان، وجيهان تيمور، وغيرهم من الأمراء الذين كان لا يدوم ملك أحدهم أكثر من شهرين أو ثلاثة، وقد لقي العراق منهم في هذا القرن فتنا وويلات عظيمة، كما مرت به سنوات قحط شديدات إلى أن توطدت الأمور للدولة الأبلخانية الجلايرية الجديدة على يد رئيسها الشيخ حسن الكبير.
انتظمت أمور هذه الدولة الجديدة بعد القضاء على المغول واستقرار الشيخ حسن الكبير في بغداد وتنصيبه ابنه السلطان أويس حاكما على العراق، ولكن الأمور لم تستتب إلا في سنة 740ه/1339م، فقد استولت الدولة الجلايرية على الحلة وكانت تحت نفوذ الشريف أحمد بن رميثة بن أبي نمي صاحب الحجاز، سلمه إياها السلطان أبو سعيد كما سلمه أمر عرب العراق، فأحسن الشريف أحمد الإدارة فترة من الزمن، ولكنه فوجئ بمجيء الشيخ حسن الجلايري واضطر أن يستسلم إليه، ولكن هذا قتله بعد أن أمنه، وكانت زوجته «دل شاه» بنت دمشق خواجه ملكة العراق، وصاحبة الحل والعقد فيه، وكان أمرها نافذا في الممالك العراقية كلها، وكانت امرأة ذكية تحب فعل الخيرات، وتعطف على أهل العلم والأدب والصلاح، وتعنى بإشادة العمارات، وهي والدة السلاطين: أويس، وقاسم، وزاهد، ودوندي، وقد لعب كل واحد من هؤلاء أدوارا هامة في تاريخ العراق خلال هذه الفترة، وفي عهدهم رجع إلى بغداد بعض رونقها الذي كان لها أيام الدولة العباسية، فقامت العمائر الضخمة وشيدت المدارس الجليلة، وكثر الأدباء والعلماء والشعراء، ومن أشهرهم الخواجة سليمان الساوجي، وكان شاعرا مجيدا بالفارسية والعربية، وقد مدح السلطان أويس واختص به؛ لأنه رباه وعلمه الشعر، وفي ديوان الساوجي هذا كثير من وصف حالة بغداد وأخبار فتوحات السلطان أويس الذي تولى الملك بعد أبيه في رجب سنة 757ه/1356م، وأقام في الملك ثلاث سنوات عمرت فيها البلاد بالمدارس والربط والقصور الفخمة، لولا الطوفان الكبير الذي غرقها في سنة 757ه، وأهلك نحو أربعين ألفا من أهلها.
ومن الأمراء الكبار في هذا العهد الخواجة مرجان بن عبد الله الأولجاني أمير بغداد، وقد كان من أهل الفضل، وقف وقوفا جليلة على أهل العلم، وشاد مدرسة على غرار المدرسة النظامية الكبرى التي بناها الوزير الأعظم السلجوقي نظام الملك، ولا تزال مدرسة مرجان ماثلة إلى يومنا هذا شاهدة بما بلغته في العهد الجلايري من العظمة والرقي، ومن آثار مرجان أيضا دار الشفاء التي شادها لتكون معهدا ومستشفى، كما بنى كثيرا من الخانات والأسواق الضخمة، وقد استمر مرجان هذا في ولايته حتى عصى على السلطان في سنة 765ه، وحاول الاستقلال ببغداد فبعث إليه السلطان من أخضعه فاستسلم وسلم المدينة، ثم عزله السلطان وعهد إلى سلطان شاه بولاية بغداد في سنة 766ه، فدخلها هذا وبعث جنده إلى الموصل فأخضعها، واستمر في بغداد إلى أن مات في سنة 769ه، فطلب مرجان من السلطان أن يعيده إلى ولاية بغداد بعد أن حلف له على الطاعة، فقبل منه وأعاده عليها للمرة الثانية، فسار بالناس سيرة حسنة وأتم ما كان شرع فيه من الأعمال والمشاريع العامة، وحمد الناس له سيرته، وكمل في ولايته الثانية هذه ست سنوات ومات في سنة 774ه/1372م، فوليها بعده الخواجة سرور، ولم يقم فيها إلا أشهرا قليلة حتى أصيبت بالغرق العظيم، فطفا الماء على بغداد وما حولها، وتهدمت أكثر قصورها وآثارها، كما تهدمت الآلاف من دورها، ومات جمع غفير من أهلها، وكانت الخسارة عظيمة، فلما بلغت أخبارها إلى السلطان وهو بتبريز تأثر جدا فسأل أمراءه عمن يريد أن يتولى إيالة بغداد وينقذها من الخراب الذي أحاط بها، ويكون مدة خمس سنوات مطلق اليد في خراجها، على أن يعمرها فقبل الأمير إسماعيل بن زكريا الدامغاني بذلك، ودخلها في سنة 775ه/1373م، وحدب عليها وعطف على أهلها، وحفر الأنهار، ونظم المجاري، واعتنى بالزراعة، ونظم شئون البلاد حتى ازدهرت، وفي هذه الفترة مات السلطان أويس وولي ابنه جلال الدين حسين مكانه في سنة 776ه/1374م، فأقر الأوضاع كما كانت في عهد أبيه، ومرت الممالك العراقية بفترة استقرار لولا حادثتان، أولاهما أن الخواجة بيرام بك ثار في الموصل وتغلب عليها في سنة 777ه/1375م كما تملك بلاد سنجار، وقوي أمره، واشتد بطشه؛ والثانية وقوع فتنة في بغداد في سنة 780ه/1378م ذهب بسببها الأمير الدامغاني قتيلا بسبب ثورة الجند عليه، وقد أسف الناس لمقتله لما كان عليه من الصفات النبيلة والعدل، وإعادة السكينة والرخاء إلى بغداد خاصة، والبلاد العراقية عامة.
ولما قتل الأمير إسماعيل الدامغاني اضطربت الأحوال ووقعت فتن كثيرة بين السلطان حسين وإخوته الطامعين في الملك والسيطرة على بغداد، إلى أن كانت سنة 782ه/1380م فتمت فيها الغلبة للشيخ علي أخي السلطان حسين، وتولى على بغداد قسرا بمعاونة نفر من أهلها؛ لأنه كان أميرا عادلا صالحا على عكس ما كان أخوه السلطان حسين.
وفي هذه الفترة أحب السلطان حسين التقرب من سلطان مصر والشام وأن يقوي نفوذه عنده، فبعث إليه بالقاضي زين الدين علي بن العبايقي الآمدي قاضي بغداد وتبريز، وبالصاحب شرف الدين بن عز الدين الواسطي وزير السلطان، ومعهما نفر من الوجوه والأعيان، ولما وصلوا إلى الديار الشامية أكرمهم أهلها إكراما كثيرا، ولما وصلوا إلى الديار المصرية تلقاهم السلطان برقوق أحسن تلق، وقد قوت هذه الوفادة أواصر المودة بين العراق وبين الشام ومصر وحكامهما. ويذكر المؤرخون أن القاضي زين الدين لما رجع إلى العراق كان يكثر من الثناء على أهل الشام ومصر، ويظهر أن السلطان حسينا لم يفد كثيرا من هذه الوفادة؛ فإن النزاع قد قوي بينه وبين إخوته، فإنهم غاروا من ذلك، وأخذوا يفسدون عليه خططه التي هدف إليها من وراء هذه الوفادة، وفي سنة 784ه/1382م تغلب عليه الأمير أحمد وقتله واستقل بالأمر بعده، ثم انصرف أحمد لقتال سائر إخوته، وابتدأ بقتال الشيخ علي صاحب بغداد الذي نادى بنفسه سلطانا عليها بعد مقتل أخيه السلطان حسين، ووقعت بين الطرفين معارك عديدة قتل فيها الشيخ علي واضطربت حالة بغداد، وتسلط الأوباش والسوقة على المدينة، واجتمع وجوهها وبعثوا إلى أمير يسمى «عادل آغا» وصاحب نفوذ كبير في مدينة تبريز طالبين إليه أن يبعث إليهم واليا يضبط أحوال المدينة وينظم فوضاها، فبعث إليهم بالأمير طورسن ليتولى بغداد، وبقوام الدين النجفي ليتولى وزارة بغداد، فلما وصلا إلى المدينة لم يستطيعا وضع الأمور في نصابها، ولم تتبدل الحالة بل ازدادت سوءا على سوء؛ لأنهما شرعا في جمع الأموال ومصادرة الأهلين، وخصوصا حين بلغ الناس خوف السلطان أحمد من تيمورلنك الذي أخذ نجمه يظهر في هذه السنة، 786ه/1384م، والذي سيطر على المشرق كله من تركستان إلى بخارى وسائر بلاد ما وراء النهر، وأنه متجه الآن لفتح الأراضي الغربية في خراسان وسائر المماليك الإيرانية والعراقية والشامية والمصرية.
وفي سنة 786ه/1384م زحفت جيوش تيمورلنك على تبريز وأذربيجان فاستولى عليهما وفتك بأهلهما، وفر السلطان أحمد إلى بغداد فتخاوف الناس، وتذكروا أيام هولاكو وجنكيز خان، وبينما كان تيمورلنك يريد الزحف على العراق، إذا بالأخبار ترد إليه أن بعض الثوار ظهروا في بلاده، وخرجوا عليه، فرجع إليهم من حيث أتى واستقر هنالك فترة وطد فيها أركانه، وقضى عليهم، ثم عاد إلى العراق فلقيه جيش العراق على ما سنفصله فيما يلي.
الفصل الثالث
العراق والكارثة التيمورية
ظهر تيمورلنك عام 773ه/1371م في بلاد سمرقند فاستولى عليها، ثم استولى على بلاد بخارى جميعها، ثم قصد بلاد هراة وما إليها فضمها إلى مملكته، ولم تأت سنة 777ه حتى كان مستوليا على جميع بلاد ما وراء النهر وتركستان وخوارزم ، وفي سنة 784ه قوي نفوذه جدا، وخرج بجموع كثيرة من المغول والتتار ودخل بلاد خراسان ففتحها، ثم اتجه إلى بلاد أذربيجان فخربها، واستولى على أموالها وفعل الأفاعيل بأهلها؛ لأنهم حاولوا مقاومته، ثم سار نحو أصفهان فأخضعها، واتجه نحو تبريز فاجتاحها، واضطر السلطان أحمد بن أويس أن يهرب بنفسه على ما بيناه في الفصل الثاني.
وبلغت أخبار تيمورلنك إلى العراق فخاف أهله خوفا شديدا، وأخذ كل واحد يعد العدة للهروب بنفسه والنجاة بأولاده وماله. أما السلطان أحمد فإنه رأى أن يكتب إلى صديقه سلطان مصر مستنجدا، ومحذرا من فتك هذا الطاغية الجبار ، وأخذ السلطان أحمد يجهز نفسه فأعد عسكرا عظيما وتلاقى جيش العراق بجيش تيمورلنك عند مدينة سلطانية، ولكن الجيش العراقي العربي لم يستطع الوقوف طويلا أمام الجيش التيموري، وتفرق جنده، وعمت الفوضى بين رؤسائه وقادته، ثم اتجه الجيش التيموري صوب بغداد، وأخذ جنده يفتكون بالقرى والمدن التي تعترض طريقهم، وكانوا يستخلصون الأموال ويعذبون الأهلين، ويقتلون كل حي حتى النساء والأطفال والشيوخ، ويهدمون الدور والقصور ويحرقون الزرع والشجر، ويسبون الغلمان والفتيات. أما السلطان أحمد، فإنه جمع أمواله ونفائس قصوره وكنوزه وأهل بيته، وأرسلهم في صحبة ابنه الأمير ظاهر إلى قلعة جد حصينة يقال لها «قلعة النجاء» في بلاد شروان، ثم فر هو وبعض قادته وأمرائه إلى بلاد الشام في يوم 20 شوال سنة 795ه، ودخل تيمورلنك مدينة بغداد وبعث جنده إثر السلطان أحمد، فساروا إلى «الحلة» وفتكوا بأهلها، وكادوا يلحقون بالسلطان أحمد ويفتكون به، ولكنه استطاع أن ينجو بنفسه بعد أن سبى المغول حريمه واستولوا على جنده، وركض هو مسرعا ناجيا بنفسه حتى دخل مدينة «الرحبة» واستجار بأميرها نصير أمير عرب الفضل فأكرمه، ثم نصحه أن يتجه نحو حلب فسار إليها وأكرمه نائبها، ثم كتب إلى السلطان في مصر يعلمه بمقدمه ويخبره أن السلطان أحمد راغب في السفر إلى مصر، فجاءه الجواب بالموافقة وسار السلطان إلى مصر.
أما تيمورلنك فإنه بعد أن استولى على بغداد وفتك بأهلها أفظع الفتك، وأتلف تحفها وذخائرها ودورها وقصورها ومكاتبها ومرافقها ومدارسها وجوامعها وحماماتها، واستولى على كنوزها وتحفها وغالي أثاثها ورياشها، بعث جنوده فاستولوا على سائر النواحي المحيطة بالعاصمة، وقد لقي الناس منهم أشد الويلات حتى أقفرت المدن، وأضحى جميع أهلها فقراء أو كالفقراء، ومات ناس كثيرون من التعذيب والجوع والأوبئة.
وفي سنة 796ه/1393م توجه نحو ديار بكر وتكريت فاستولى عليهما وفتك بأهلها فتكا ذريعا، حتى قيل إنه بنى من رءوس القتلى من أهلهما مئذنتين وثلاث قباب عاليات، وجعل مدينة تكريت خرابا يبابا، ثم اتجه نحو «إربل» فحاصرها أشد حصار حتى جعل صاحبها الشيخ علي يخضع له فقبل خضوعه، وأبقاه أميرا على المدينة على أن يقدم له في كل سنة جعلا مسمى، ثم بعث بولده على رأس جيش كبير من المغول والتتار إلى بلاد البصرة وجزائر البحرين، فالتقى بأميرها صالح بن صيلان، فقاومه صالح أشد المقاومة، وفتك بالجيش التتاري، وأسر ابن تيمورلنك، ولما سمع تيمورلنك بذلك غضب أشد الغضب، وغادر بغداد بعد أن ولى عليها الخواجة مسعود الخراساني، ولما وصل إلى البصرة دحر أميرها وفتك بأهلها واستنقذ ولده، ثم اتجه صوب «رأس العين» فدخلها وانساح جنوده في الجزيرة والموصل فسيطر على كل تلك الأقاليم، وكان في عزمه أن يتجه صوب حلب فعدل عن ذلك؛ لأن الأخبار جاءته معلنة أن الأمير «طقتمش خان» صاحب بلاد الدشت والقفجاق قد مشى من بلاده يريد غزو بلاد تيمورلنك، فرجع هذا إلى تبريز، ثم اتجه لقتال الأمير طقتمش خان، فالتقيا ودام القتال مدة ثم انهزم طقتمش خان وأخذ تيمورلنك ينظم أمور بلاده، ويوزع إدارتها على أولاده وقادته، ولما أتم ذلك كله كتب إلى السلطان الملك الظاهر برقوق صاحب مصر والشام يطلب إليه أن يسلمه السلطان أحمد بن أويس، وبعث إليه بكتاب طويل أرغى فيه وأزبد، وهدد وأوعد،
1
فأجابه السلطان برقوق بكتاب أطول أنشأه الكاتب الأشهر ابن فضل الله العمري، وقد رد فيه على تيمورلنك توعده وإنذاره.
ثم إن السلطان برقوق جهز السلطان أحمد بجيش كبير، فسار إلى دمشق وأقام فيها مدة أتم فيها استعداداته، ثم توجه إلى العراق سنة 797ه/1394م مع طائفة من القواد والأمراء، فبلغ بغداد وأميرها حينئذ الخواجة مسعود الخراساني، فحاربه حتى اضطره إلى الهرب، وتسلم المدينة في مطلع عام 800ه/1397م، ثم أخذ ينظم أمور المدينة حتى أعادها إلى رونقها وسالف مجدها، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع تيمورلنك غضب أشد الغضب ونظم حيلة لاغتيال السلطان أحمد، فبعث الأمير شروان إلى بغداد طالبا إليه أن يتظاهر بالالتجاء إلى السلطان أحمد، ولما دخل هذا إلى بغداد أكرمه السلطان أحمد، ثم أخذ الأمير شروان يعمل في الخفاء على إثارة الفتنة، ويوزع الأموال على الأمراء والأعيان، وأحس السلطان أحمد بالحيلة ففتك به وبطائفة كبيرة من الأمراء والأعيان المتآمرين معه، ولكنه ظل على الرغم من ذلك خائفا من دسائس تيمورلنك وعيونه. وفي سنة 802ه/1399م عزم على ترك العراق والذهاب إلى بلاد الروم والالتجاء إلى ملوكها الأتراك العثمانيين، فقد بلغه أن تيمورلنك عازم على الإغارة على بغداد بجيش كبير، فاتجه السلطان أحمد نحو بلاد الروم والتجأ إلى السلطان بايزيد العثماني، بعد أن أبقى في بغداد حاكما عليها يدعى الأمير فرج، ولما بلغ ذلك تيمورلنك توجه إلى بغداد فدخلها في سنة 803ه، وفتحها للمرة الثانية، وأعمل في أهلها سيفه حتى لم يكد يبقى من أهلها إنسان، ولا من بنائها آثار، وأحرق الزرع والشجر، وأهلك كل ما لم يستطع جنوده على سرقته وحمله.
قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»: «سار على بغداد وحاصرها أيضا حتى أخذها عنوة يوم عيد النحر من هذه السنة 803ه، ووضع السيف في أهلها وألزم جميع من معه أن يأتي كل واحد برأسين من رءوس أهلها، فوقع القتل حتى سالت الدماء أنهارا، وقد أتوه بما التزموه، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، ثم جمع أموالها وأمتعتها، وسار إلى قراباغ فجعلها خرابا بلقعا.»
2
وقال الرحالة ابن بطوطة في رحلته: «أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات بن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول : لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتار بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.»
3
ولما أتم الطاغية تيمورلنك فعلته النكراء هذه ترك بغداد بعد أن ولى عليها أبا بكر بن ميران شاه، ثم توجه إلى بلاد الروم، ووقعت بينه وبين السلطان بايزيد حروب طال أمرها، أما السلطان أحمد فإنه حاول الرجوع إلى بغداد فرجع إليها، ووقعت بينه وبين أبي بكر واليها حرب شديدة، ثم وقعت بينه وبين ابنه الأمير طاهر حرب، وانتهت كل هذه الفتن بسيطرة السلطان أحمد من جديد على بغداد في مطلع عام 806ه بعد موت تيمورلنك، ولما هلك تيمورلنك استراحت الدنيا من شروره وتدميره ومزعجاته، وعادت السكينة بعض الشيء إلى الديار العراقية، ولكن السلطان أحمد عاد إلى سيرته الأولى، فأخذ يزعج الناس ويصادر أغنياءهم، ثم طمع في استرداد تبريز فجهز جيشا كبيرا استرد به مدينة تبريز عام 809ه/1406م، ولما دخلها فرح الناس بدخوله وظنوا أنه مقلع عن غيه وظلمه لما ناله من التشريد والبؤس وصروف الدهر، ولكنه خيب آمالهم ورجع إلى ضلاله القديم، فلما ضاق الناس ذرعا به ثاروا عليه وسعوا لدى الميرزا أبي بكر أن يعلن ثورته عليه وأطمعوه في التغلب على السلطان، فقدم إلى تبريز وأخرج السلطان منها واستولى عليها، فرجع السلطان إلى بغداد واتخذها مقرا له، ثم وقعت بينه وبين الأمير قرا يوسف صاحب التركماني مشاحنات وحروب انتهت بوقوع السلطان أسيرا بيد قرا يوسف، فطلب إليه أن يتنازل له عن السلطنة وأن يفوض إيالة أذربيجان إلى ابنه الأمير بير بوداق، وإيالة بغداد إلى الشاه محمد، فقبل ووقع له المراسيم المتعلقة بذلك، ولكن هذا لم يمنعه من الاغتيال، وكان ذلك في سنة 813ه، وبموته قضي على ملك من أكبر ملوك العراق في هذه الحقبة، فقد عاش قرابة ثلاثين سنة وهو ملك على العراق يحاول بسط نفوذه على إيران والعراقين وأذربيجان، وكان لا يعرف الكلال ولا الملل، وهو بحق آخر الملوك الجلايرية العظام، وسنرى فيما بعد أن من خلفه لم يكونوا شيئا مذكورا، ولم تمض على وفاته إلا فترة حتى انقرضت هذه الدولة تماما كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
الفصل الرابع
العراق في القرن الثامن
الدولة البارانية - والدولة البايندرية
رأينا في الفصل السابق أن تيمورلنك قد اجتاح العراق في العشر الأخير من القرن الماضي، وأن حكمه قد استمر طوال حياته، وأن السلطان أحمد الجلايري صاحب العراق وآخر ملوك الدولة الجلايرية قد لقي منه ويلات شدادا، وأنه حاول القضاء عليه فلم يتمكن منه، ولما مات تيمورلنك واضمحل أمر مملكته وعاد السلطان أحمد إلى العراق كما بيناه في الفصل الماضي، وتلقاه أهل العراق بالفرح الشديد والابتهاج مؤملين للبلاد على يديه كل خير، راجين أن يكون قد أقلع عن غيه القديم وعسفه، فقدموا له الأموال، وتفانوا في خدمته، ولكنه ظل سادرا في لهوه ولعبه، مسترسلا في غيه وضلاله حتى قتل في سنة 813ه، كما ذكرناه قبلا.
فلما قتل بعد أن تنازل عن الملك للأمير محمد شاه بن قرا يوسف الباراني رحل محمد شاه هذا إلى العراق للاستيلاء عليه في سنة 814ه، ولما وصل بغداد قاومه واليها من قبل السلطان أحمد كما قاومته زوجة السلطان أحمد، وكانت امرأة ذات دهاء وخبث فأذاعت في المدينة أن السلطان أحمد ما يزال حيا، وأنه عما قريب عائد إلى مقر ملكه، ثم عمدت إلى الوالي فقتلته، وأخذت تعمل على الانفراد بالأمر والاستيلاء على الحكم، ولكنها خذلت، واضطرت أن تنهزم، أما الشاه محمد فدخل هذا إلى بغداد في أوائل سنة 814ه/1411م واستقرت الأمور له فيها.
وبانقضاء عهد السلطان أحمد وزوجته انقضى عهد الدولة الجلايرية الحقيقي، على أنه قد بقي هناك بعض الأمراء الجلايريين ظلوا يتحكمون في بعض المناطق العراقية والإيرانية مثل السلطان محمود بن شاه ولد، فقد حكم مدينة تستر وما إليها مدة سنتين، ومثل أخيه أويس الثاني الذي حكم تستر وخوزستان نحوا من خمس سنوات، ومثل أخيه السلطان محمد الذي حكم خوزستان ثلاث سنوات، ومثل ابن عمهم السلطان حسين الذي تولى الأهواز إلى سنة 835ه، وفي هذه السنة انتهى الحكم الجلايري تماما، وتمكن الأمراء البارانية من توطيد أركان الدولة الجديدة البارانية المعروفة باسم دولة «قرا قويونلو». (1) الدولة البارانية
تنتسب هذه الدولة - المعروفة أيضا «بالدولة القرا قويونلية» ومعنى «قرا قويونلو»: الأغنام السود؛ لأنها كانت شعارهم - إلى باران أحد رؤساء التركمان الذين هاجروا من بلاد تركستان إلى خراسان، ثم تفرقوا في جميع الأراضي الفارسية والعراقية، وقد كانوا قوما أشداء استعان بهم السلطان أويس الجلايري على قهر خصومه، وتوطيد أركان مملكته، وقرب رئيسهم بيرام خجا بن تورمش، وعهد إليه ببعض أموره الحربية، وأخذ أمره يقوى يوما فيوما حتى مات السلطان أويس فطمع بيرام خجا في السيطرة، ثم تم له ما أراد واستولى على ديار الموصل وسنجار في سنة 776ه/1374م، وأخذ أمره يقوى منذ ذلك الحين إلى أن مات في سنة 782ه، فتولى الأمر من بعده أخوه مراد خجا فلم يبق إلا مدة حتى هلك، فتولى الأمر من بعده قرا محمد بن تورمش بن مراد خجا، وكان شابا ذا قوة ودهاء، وسع ملك أسلافه وامتد سلطانه إلى ماردين، وعظم نفوذه في كافة هاتيك الأصقاع حتى إن السلطان أحمد الجلايري تزوج ابنته، ولما هلك في سنة 791ه/1390م تولى الأمر من بعده الأمير قرا يوسف الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وكان من الرجال الأذكياء الأقوياء، وقد استطاع بذكائه وقوة إرادته التسلط على المملكة العراقية بكاملها وطرد الجلايريين منها، واستخلاصها لنفسه، ولما استقل قرا يوسف بالأمر بعث ابنه شاه محمد إلى بغداد فقضى على بقايا الجلايريين، أما هو فإنه اتخذ تبريز عاصمة له، وعادت بغداد من جديد تابعة لتبريز، ثم شرع في توطيد أركان مملكته وتوسيعها في البلاد الإيرانية والتركية، ففي سنة 818ه بعث ابنه شاه محمد صاحب بغداد إلى بلاد «سيس» ففتحها وضمها إلى مملكته، وظل يعمل على توسيع رقعة مملكته إلى أن هلك في سنة 823ه/1420م، وقد امتد سلطانه إلى الشرق والغرب، ولقيت البلاد العراقية منه ومن ابنه شدة وويلات حتى قال صاحب «المنهل الصافي»: «ومات في ذي الحجة ... وأراح الله الناس منه، نسأل الله أن يلحق به من بقي من ذريته؛ فإنه هو وأولاده الزنادقة الكفرة كانوا سببا لخراب بغداد وغيرها من العراق، وهم شر عصبة، لا زالت الفتن في أيامهم ثائرة والحروب قائمة إلى يومنا هذا، وطالت مدتهم بتلك البلاد التي كانت كرسي الإسلام ومنبع العلم ومدفن الأئمة الأعلام»،
1
وبعد موت قرا يوسف وقعت الاختلافات بين أولاده وتقارعوا بالسيوف، فاستولى أحدهم وهو «شاه رخ» على «تبريز»، واستقل الإسكندر بمدينة كركوك، واستولى «أسبهان» على بغداد، ثم تلاقى «شاه رخ» والإسكندر في ميادين القتال، وانهزم «شاه رخ» فارا إلى أرض الفرات، أما الإسكندر فإنه رجع إلى خراسان، واستقل بها وببلاد تبريز، وأما «أسبهان» فإنه استولى على بغداد، ووقعت بينه وبين أخيه محمد شاه اختلافات طويلة حتى أقام هو في الجانب الغربي من المدينة في عمارة السلطان أحمد، وأقام أخوه محمد شاه في الجانب الشرقي، واستمرت الحالة على ذلك مدة، والناس يقاسون ويلات من الأميرين حتى اضطر «أسبهان» إلى أن ينسحب ويستقل بلواءي دبالى، والحلة، وما إليهما.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء الجلايرية قد طمعوا في استعادة سلطانهم بعد موت قرا يوسف ورؤيتهم اختلاف أولاده، ففي سنة 824ه هاجم الأمير أويس الثاني بغداد، ولكنه رد عنها خائبا، وفي سنة 825ه عاد إليها ثانية فهاجمها ورد عنها خائبا، ولكنه استطاع الاستيلاء على الحلة، وفي سنة 827ه هاجم الأمير علاء الدين ابن السلطان أحمد مدينة الحلة، واستولى عليها وطرد الأمير أويس، وفي سنة 830ه عاد السلطان أويس فطرده واستولى على الحلة، وحارب محمد شاه ببغداد وفيها قتل. •••
إلى هذا الأمر صار حال العراق بعد موت قرا يوسف، ولم تمض سنوات قليلة حتى توسعت الأمور اضطرابا، وزادت الانقسامات والفتن بين أولاد قرا يوسف حتى تفانوا، ولم يبق منهم إلا الأمير «أسبهان»، فإنه استولى على أكثر البلاد، ولكنه لم يكن حسن السيرة، وقد لقي العراق منه مثل ما لقي من أخويه، وقد رووا أنه كان مهملا للبلاد، معذبا للناس، مستوليا على أموالهم، ولم تكد البلاد تستعيد شيئا من نضارتها بسبب جودة المواسم حتى أقبل عليها بخيله ورجله ففتك بأهلها، وصادر تجارها في سنة 842ه، وشرع في هذا العام يجمع الأموال ويصادر الرجال ليتوجه بهم إلى قتال الأمير حمزة سلطان البايندرية المعروفين باسم «آق قويونلو»، ولما تم له ما أراد توجه إلى بلاد سنجار لقتال الأمير حمزة فقهره هذا، وفرق جنده، واضطره إلى أن يعود إلى بغداد ليستعد من جديد لقتال البايندرية، فأقام سنة يستعد لهم، ولما تمت له أسباب القوة ذهب إلى بلاد «ماردين» و«إربل» للانتقام من البايندرية ففتك بطائفة منهم، وأنزل بإربل شر البلاء ثم رجع إلى بغداد، وفي هذه الفترة ذاع أمر ظهور المهدي المشعشع في سنة 844ه/1440م في أرض واسط، وكان هذا رجلا يعرف شيئا من السحر وعلم المخاريق، فالتف الأعراب حوله في واسط والخوزستان والحويزة وجزائر البحرين، ولما رأى كثرة تابعيه طمع في التملك وجهز جيشا حارب به حاكم الحويزة وقهره، وتسلط على كافة هاتيك الأصقاع، ثم استولى على البصرة، وانتشرت جماعته التي عرفت بالمشعشعين تنشر دعوتها في العراق كله، حتى خاف الأمير «أسبهان» منه ووجه إليه جيشا تغلب على المشعشع، واستمرت دعوته في الانتشار، ولما مات الأمير «أسبهان» في سنة 848ه/1444م خلا له الجو فازداد نفوذه، وخصوصا حين وقعت الفتنة بين خلفاء «أسبهان» وأمرائه؛ لأن كلا منهم كان يطمع في التملك، كما أن أخاه جهان شاه أراد الاستيلاء على بغداد فوقعت الحروب والفتن بينهم جميعا، وانتشر أمر المشعشع وابنه علي انتشارا عظيما، ووقعت حرب كبيرة بين المشعشع وبين جهان شاه الذي استولى على بغداد في سنة 850ه، ثم استولى على البصرة وطرد المشعشع، وبعد أن وطد جهان شاه ملكه في هاتين العاصمتين رجع إلى تبريز بعد أن أقام في العاصمتين نائبين عنه، وفي سنة 857ه/1454م هاجم علي بن المشعشع بغداد، بعد أن حاصر واسطا والحلة، وقطع نخلهما، وضيق الأمر على أهلهما، وهدم المشاهد والأضرحة، وفي سنة 860ه توجه علي بن المشعشع إلى «مهروز» و«بعقوبا» فنهبهما، وقتل أهلهما، وأسر عددا كبيرا، ثم رجع إلى الحويزة فأقام فيها قليلا، ثم توجه إلى «بهبهان»، فحاصرها وقتل في أثناء الحصار سنة 861ه.
أما أبوه المشعشع، فقد كان يزعم للناس أنه على خلاف مع ابنه وأنه لا يقره على أعمال العنف التي يقوم بها، وأنه يحمد الله على موته؛ لأن دعوته يجب أن تقوم بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالسيف والعنف، وقد استمر المشعشع في دعوته إلى سنة 866ه وفيها مات فخلفه ابنه المحسن، وكان رجلا حازما مدبرا تمكن من الاستيلاء على جزائر البحرين كلها، وعلى أكثر أنحاء بغداد وبلاد البختيارية في فارس.
أما الأمير «أسبهان» فإنه أخذ يقوي نفسه ويعمل على القضاء على المشعشعين حتى اكتسح أكثر نواحي بغداد ، ثم انحدر إلى واسط وهي من معاقلهم فاستولى عليها، ثم عاد ثانية إلى بغداد فحاصرها وفيها أخوه شاه محمد فتغلب عليه، ودخل المدينة وفر أخوه إلى الموصل، وقد لقيت بغداد ما اعتادت عليه من المآسي في مثل هذه المحن المتكررة عليها، ولما وصل شاه محمد إلى الموصل تسلطن فيها وامتد سلطانه إلى بلاد «إربل» وكركوك، ثم طمع في استعادة بغداد من أخيه فتوجه إليها، وقتل في أثناء المعركة، وقد دام ملكه نحوا من ثلاث وعشرين سنة لم يعمل خلالها عملا صالحا، بل خرب البلاد وبخاصة بغداد، قال صاحب «المنهل الصافي»: «كان فاسقا زنديقا، لا يتدين بدين، وأبطل بتلك الممالك شعائر الإسلام، وقتل العلماء، وكان سماطه في رمضان يمد في ضحوة النهار، كما يمد في الإفطار، على رءوس الأشهاد، والويل لمن كان لا يأكل منه، وأبطل صلاة الجمعة والجماعة، وفسدت السابلة، ورحلت الناس عن بغداد فوجا فوجا، وانقطع ركب الحاج من بغداد سنين، ونفرت القلوب، إلى أن غلبه أخوه «أسبهان»، وكان أكفر من أخيه شاه محمد وأظلم، وأولاد قرا يوسف بأجمعهم هم أوحش خلق الله، وفي أيامهم خربت ممالك العراق، وأطراف العجم، ودار السلام، وهدمت تلك المساجد والمعاهد الجليلة، فالله تعالى يلحق بهم من بقي من آخرتهم وأقاربهم؛ فإنهم عار على بني آدم لما اجتمع فيهم من المساوئ والقبائح.»
2
والحق أن صاحب «المنهل الصافي» لم يبالغ في أقواله؛ فقد كان هؤلاء من شرار الحكام، وبخاصة شاه محمد؛ فقد لقيت البلاد منه في عهده كل شر وسوء، كما لقيت من إخوته مثل ذلك، فقد رأينا سوء أعمالهم قبل موت شاه محمد، أما بعد وفاته فإن الأمير «أسبهان» زحف على «إربل» بعد موت أخيه فقاتل صاحبها وهو ابن أخيه علي شاه، وهدم المدينة، ولم يتركها إلا بعد أن ألقى السم في مياهها، ومات من أهلها خلق كثير، ثم إنه رحل إلى الموصل فاستولى عليها في سنة 839ه/1345م، ثم قصد بغداد واستولى عليها، وأخذ ينظم أموره فيها، ومما هو جدير بالذكر أنه أهمل حالة المدينة فعمت فيها الأمراض والأوبئة، حتى قيل: إنه حصل وباء في سنة 841ه/1347م هلك بسببه ناس كثيرون، وكان العمل الوحيد الذي قام به هو تركه المدينة ونجاته بنفسه وبجنده، ولم يرجع إليها إلا بعد أن قضى الوباء على أكثر سكانها، قال المقريزي في السلوك: «وخربت المدينة، ولم يبق بها جمعة ولا جماعة، ولا أذان ولا سوق وجف معظم نخلها، وانقطع أكثر أنهارها بحيث لا يطلق اسم مدينة بعد أن كانت سوق العالم.»
3
وأما الأمير جهان شاه فإنه لم يكن أحسن حالا من «أسبهان»، وقد وقعت الفتنة بينه وبين ابنه بير بوداق «بير بضغ» صاحب بغداد لما بلغه أنه يقسو على الناس، ويجمع أهل الفسق والإلحاد ويقربهم، فكتب إليه ينصحه أن يقلع عن فساده فسخر بالكتاب وبأبيه أمام الرسول، فلما علم الأب بذلك جهز جيشا كبيرا، وزحف على بغداد في سنة 869ه لتأديب ابنه ووقعت بين الاثنين معركة عنيفة قاست بغداد من جرائها ويلات، ولقي سكانها شرا عظيما؛ لأن الحصار دام نحوا من سنة ونصف السنة إلى أن قتل «بير بوداق»، ودخل أبوه المدينة سنة 870ه، ففتك جنده بأهلها، ولم يكن حالهم مع الأب أحسن من حالهم من الابن.
4
ولما استتبت الأمور لجهان شاه أقام في بغداد نائبا عنه اسمه بير محمد الطواشي ورجع هو إلى تبريز، وما بقي فيها قليلا حتى توجه عزمه على قتال السلطان حسن الطويل البايندري صاحب ديار بكر، فسار إليه في جمع من الجنود، ولكن الدائرة دارت عليه وعلى كثير من جنوده فقتل في سنة 872ه/1467م كما قتل عدد من الأمراء والقادة البارانية أمثال محمد ميرزا، وأبي يوسف ميرزا ولدي جهان شاه وبير زادة، ولما أصيب الجيش الباراني بهذه النكبة تفرقت فلوله في البلاد، وفكر بعض قادتهم في لم الشمل، وقر رأيهم على أن يذهب الأميران شاه علي وشاه إبراهيم، ويعملا على إنقاذ أحد أولاد جهان شاه واسمه حسن علي من قلعة كان محبوسا فيها، فأنقذوه وساروا به إلى تبريز فدخلوها، وأخذوا يهيئون أنفسهم للانتقام من السلطان حسن الطويل والتقى جمعاهما عند تبريز في سنة 873ه/1468م، فانكسر الأمير حسن وجماعته وتفرق جنده واستولى السلطان حسن الطويل على تبريز، فلما بلغت هذه الأخبار مسامع والي بغداد بير محمد الطواشي أخذ يستعد للقاء السلطان حسن الطويل، ولكنه فوجئ بمرض هلك على إثره، فعمد الأمراء في بغداد إلى تسليم المدينة إلى أحدهم واسمه حسن علي بن زينل، وكان أميرا حسن السيرة رقيق القلب، ولكنه لم يلبث في حكمه طويلا حتى مات، فتسلم الأمر من بعده أخوه منصور بن زينل وكان جبارا فاتكا فكره الناس عهده وعملوا على التخلص منه فقتلوه وبموته انتهت الدولة البارانية، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 874ه/1369م، وقد حكمت الأسرة البارانية العراق وما إليه قرابة نصف قرن، لقي العراق فيها أشد الويلات على الرغم من أنه كان مستقلا شبه استقلال عن العاصمة تبريز، فقد كان والي بغداد يتولى أمرها مستقلا بنفسه، وخصوصا في عهد شاه محمد وأسبهان وبير بوداق، ولكن حالة بغداد وسائر المدن العراقية كانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وخصوصا حين ازداد الطنبور نغمة بظهور المشعشع الذي اتخذ الدين شعارا، ولحقه عدد من الغوغاء والأعراب، وأخذوا يفتكون بالناس من أهل الحاضرة، ويدكون القصور، ويخربون المساجد والمعاهد والأماكن العامة، ويعملون على تقطيع أوصال البلاد. (2) الدولة البايندرية
تنتسب هذه الدولة إلى «بايندر بن كون» أحد زعماء التركمان الذين جاءوا لمعاونة أمراء الدولة البارانية من بلاد التركستان إلى البلاد الإيرانية، على ما أسلفناه، ثم ما زال أمرهم يقوى إلى أن ظهر تيمورلنك، فذاع صيت أحدهم واسمه قرا عثمان فقربه تيمورلنك لشجاعته وفتكه، وظهرت منه بطولات نادرة في حروب تيمورلنك فقربه هذا إليه، ولما هلك تيمورلنك طمع بايندر في السلطان، وفي تأسيس دولة كدولة بني جلدته البارانيين، وطمع في القضاء عليهم واستصفاء أراضيهم، وأخذ يعمل لذلك حتى تم له ما أراد وأسس دولته بعد أن تملك ديار بكر وبلاد «إربل» والموصل وماردين، واتخذ مدينة آمد عاصمة له، وأطلق اسم «آمد قويونلو» على دولته؛ لأنها اتخذت الأغنام البيض شعارا لها بمقابلة «قرا قويونلو» الذين كانوا يتخذون الأغنام السود شعارا لهم، وظل قرا عثمان يعمل طوال حياته على تقوية أمر دولته، وتوسيع رقعتها إلى أن مات.
فلما مات وقع الاختلاف بين أولاده وأحفاده فتفرقوا شيعا، ولكن أحدهم وهو حفيد جهان كير بن علي بيك، كان فتى هماما داهية أحبه أبناء جلدته، والتفوا حوله، واتخذ آمد مقرا منذ عام 848ه، ثم أخذ سلطانه يقوى إلى أن مات فخلفه أخوه السلطان حسن الملقب بالطويل، وكان رجلا قويا استطاع ترتيب أمور الدولة وتنظيم جيش كبير لها، وفي سنة 871ه جمع جهان شاه ملك الدولة البارانية جيشا أراد به القضاء على السلطان حسن الطويل، فاستعد هذا للقائه، ولما التقى الجمعان تغلب جيش السلطان حسن وتفرق جند جهان شاه في البلاد، وخاف هذا سوء العاقبة ففر بنفسه، ولكن أحد جنود السلطان حسن استطاع اللحاق به وقتله في سنة 872ه كما أسلفنا تفصيل ذلك.
ولما قتل جهان شاه ذهب جنده شذر مذر، أما حسن الطويل فإنه جمع جموعه وتوجه إلى الموصل ففتحها ثم سار إلى تبريز ، وبعث بجنوده ليفتحوا له الحصون والقلاع المحيطة بها ففتحوها، ولما وصل إلى تبريز علم أن السلطان أبا سعيد ميرزا صاحب خراسان قد تجهز للمسير إلى العراق فجمع سراياه وبعوثه وأرسل موفدا إلى السلطان أبي سعيد يستعطفه، فرد السلطان رسوله، ولما نشب القتال انتصرت جنود السلطان حسن وجمعت من الأسلاب والغنائم ما لا يقدر، وكانت هذه المعركة في سنة 877ه، وتم له الاستيلاء على إيران جميعها، وبعد أن وطد أقدامه وزع البلاد بين أولاده ورجع إلى العراق وحاصر بغداد ودخلها كما مر في كلامنا عن الدولة البارانية.
ولما استولت جيوش السلطان حسن الطويل على بغداد خاف أهلها خوفا عظيما لما قد بلغهم من عسف البايندرية وقتلهم للنساء والأطفال والأبرياء، ولكن الأمير مقصود بيك ابن السلطان حسن الطويل طمأنهم، وأعلن للملأ أنه نصب نفسه واليا على بغداد، وهكذا توطدت أركان الدولة البايندرية في إيران وكرجستان والعراق.
وفي سنة 878ه/1473م بعث المحمل العراقي إلى الحجاز ودخل المدينة المنورة وفيه جمهرة كبيرة من أهل الدين والعلم والقضاء، فلما وصلوها طلبوا من خطباء مساجدها أن يخطبوا للسلطان «الملك العادل حسن الطويل»، وأنه خدم الحرمين الشريفين، وبلغت هذه الأخبار مسامع سلطان مصر، فغضب لهذا أشد الغضب، وكادت أن تقع فتنة بين الطرفين، ولكن وسطاء السلام توسطوا بينهما فانتهت الأزمة بسلام.
5
وفي هذه السنة أيضا وقيل بل في السنة التي تلتها وقعت بين السلطانين العثماني والبايندري حرب في مدينة قيسارية انهزم البايندري على أثرها، وكانت إحدى الحروب العظيمة التي قام بها السلطان حسن، وكان انكساره فيها انكسارا قويا جعله يقلع تماما عن التفكير في محاربة العثمانيين.
وفي سنة 882ه/1477م مرض السلطان حسن مرض الموت، وهلك بعد أن حكم العراق مدة غير قصيرة كان فيها ملكا خيرا محبا للرعية رءوفا بها، وكان يحب العلم وأهله، كما كان يحب إشادة المساجد والمدارس والمرافق العامة، ولما شاع خبر موته طمع محسن المشعشع في الاستيلاء على بغداد، ولكن السلطان البايندري الجديد خليل بيك بعث إليه من وقف في سبيله ورده، ولم تمض فترة طويلة حتى ثار يعقوب بيك أخو خليل بيك على أخيه، ووقعت فتنة بين الأخوين، قتل على أثرها السلطان خليل بيك وتولى الملك بعده أخوه يعقوب بيك في سنة 883ه، وساس البلاد سياسة لا بأس بها، وعم الأمن في الديار العراقية وانتشر العدل بين الناس، ولكنهم لم يكادوا يستريحون من الفتن والحروب حتى فاجأهم محسن المشعشع بغارة شعواء، ووصل إلى حدود العاصمة ونهب وأسر، واضطر الجيش البايندري إلى التقهقر، ولكن السطان يعقوب عاد فنظم جنده، وطرد المشعشع، وأخذت الأمور تستقر له، وفي سنة 888ه شرع في بناء عمارته المشهورة بالجنات الثمان «هشت بهشت» فجاءت آية في روعتها وعظمتها، وفيما احتوت عليه من ضروب اللذات، وروائع الجنات، وكان يقضي فيها معظم أوقاته يستمع إلى الشعراء، ويشجع العلماء، وظل على هذا إلى أن هلك في سنة 896ه.
اضطربت الأحوال العامة في البلاد بعد موته ووقعت الفتن من جديد بين أمراء التركمان، حتى استطاع ابنه الأمير بايسنقر أن يستولي على زمام الأمر، وهدأت الفتن قليلا، ثم عادت إلى الاضطراب ثانية، وصار الأمراء شيعا وأحزابا، واختل حبل الأمن، وثار الأمراء عليه، واضطروه إلى الهرب، وسلطنوا الأمير رستم بيك، وكان ذلك في سنة 897ه، وكان رستم رجلا خيرا، استطاع أن ينظم الأمور ويوطد دعائم المملكة بعد القضاء على خصمه بايسنقر، وقتله في سنة 898ه، ولم يكد يستقر قليلا حتى فوجئ بالسلطان علي بن حيدر الصفوي صاحب بلاد أربيل يهاجمه، ووقعت بين الجانبين معركة قتل فيها السلطان علي وأولاده إلا الشاه إسماعيل الصفوي فإنه استطاع أن يهرب ويلجأ إلى بلاد كيلان عند أميرها الميرزا علي، فكتب هذا إلى السلطان رستم بيك يطلب الأمان له والصفح، ثم استقرت الأمور في بلاد العراقين وفارس لرستم بيك إلا أنه لم يكن ملكا صالحا، فانصرف إلى اللهو والعبث؛ واختل نظام البلاد في عهده، وتحكمت النساء في تصريف أمور الدولة؛ لأنه كان هو وأكثر قادته منصرفين إلى الفساد، حتى ضاق الناس بهم وكاتبوا الأمير أحمد ميرزا بن محمد بن حسن الطويل الذي كان لاجئا إلى السلطان «بايزيد» العثماني أن يجيء إليهم وينقذهم، فجاء على رأس جيش، والتقى الجمعان عند نهر أرس، وقتل رستم بيك في سنة 902ه، واستولى الأمير أحمد ميرزا على زمام السلطنة، وشرع في ترتيب الدولة، ورام أن يجري في هذه البلاد نظام نواب وساسة الملك على ما شاهده في بلاد العثمانيين، فلم يرق ذلك أمراءه المطبوعين على الظلم، وثقل عليهم أمره، فاتفقوا على خلعه، وكاتبوا مراد بيك بن شاه يعقوب، وتآمروا معه على قتل السلطان أحمد ميرزا، فتم لهم ما أرادوا، وقتل أحمد في سنة 903ه ولم تطل مدته إلا نحوا من سنة،
6
والحق أن أحمد كان على سنن صالح، محبا للخير، ساهرا على شئون الرعية، عاملا على نشر العلم والفضيلة والتنظيم على غرار ما شاهده في بلاد الدولة العثمانية الفتية الناشئة، ولكن الأشرار من أمراء دولته الذين طاب لهم أن يستمروا في العبث بحرية الشعب، وابتزاز أمواله قضوا عليه.
وحين قضي على السلطان أحمد ميرزا التفت الأمراء فلم يجدوا من نسل السلطان حسن الطويل مؤسس الدولة البايندرية سوى ثلاثة أطفال هم مراد بن يعقوب، وكان في شروان، وألوند بن يوسف، وكان في أذربيجان، وأخوه محمدي، وكان في يزد، فانقسم الأمراء ثلاثة أقسام كل يريد تنصيب واحد، ولم تنته الحالة إلا حين تغلب جماعة محمدي فسلطنوه، وكان ذلك في سنة 904ه، ولكن لم يمض عليه عهد طويل حتى عادت الفتن بين أنصار ألوند ومراد، واضطربت الأمور وقتل محمدي في سنة 905ه، وانقسم الأمراء قسمين: قسم مع ألوند، وقسم مع مراد، وانتهوا بعدئذ إلى تقسيم البلاد بينهما، فاستقل أنصار ألوند بأذربيجان، واستقل أنصار مراد بالعراق وفارس، وأخذ نجم الدولة يخبو منذ ذلك الحين حتى كانت سنة 914ه، وتغلب الشيخ إسماعيل الصفوي عليهم جميعا كما سنراه في الفصل الآتي.
الفصل الخامس
العراق من القرن العاشر حتى القرن
الثالث عشر
رأيت في آخر الفصل الرابع كيف أن الدولة البايندرية قد اضمحلت في أخريات القرن الماضي، وبخاصة في أيام رستم بيك 898-902ه، روى المؤرخ القرماني أن في أوائل شهور سنة 898ه أطلق السلطان رستم بيك أولاد الشيخ حيدر الصفوي من السجن على شريطة أن يقاتلوا معه خصمه بايسنقر، ولما قضى على بايسنقر تنمر الصفويون لرستم بيك، فحاول أن يفتك بزعيمهم الشيخ علي الصفوي الذي تحصن بأردبيل واتخذها دار ملك له، فبعث رستم بيك إليه من قتله وشرد إخوته، فلجأ أحدهم - واسمه شاه إسماعيل - إلى صاحب بلاد كيلان الميرزا علي، ولما بلغت أخباره إلى رستم بيك بعث إلى الميرزا علي يطلب إليه أن يسلمه الشاه إسماعيل فاعتذر عن ذلك، وضاق السلطان رستم بيك وعزم على أن يتوجه لقتاله بنفسه، ولكنه فوجئ بثورة بعض أمرائه عليه وعلمه بأنهم كاتبوا الأمير أحمد بن محمد حسن الطويل أن يحضر إليهم وينقذهم من ظلم رستم بيك، وكان الأمير أحمد مقيما لدى السلطان «بايزيد» العثماني، وقد حضر الأمير أحمد فعلا على رأس فرقة كبيرة، والتقى الجمعان، ووقع رستم بيك أسيرا بيده فقتله واستولى على البلاد، وكان الأمير أحمد رجلا حازما مصلحا فأراد أن ينقذ البلاد مما كانت عليه من الفوضى وسوء الإدارة، وأن يطبق النظام الذي وجده في المملكة العثمانية الفتية، ولكن الأمراء لم يعجبهم ذلك فثاروا عليه وقتلوه، وانقسموا فيما بينهم على من سيولونه كما بيناه في آخر الفصل الماضي.
وانتهى أمر العراق إلى أن استولى عليه مراد بيك في سنة 904ه/1498م، وأخذت نيران الفتن والاضطرابات تشتعل في العراق لسوء إدارة القائمين بالأمر، فرأى الشاه إسماعيل الصفوي أن الفرصة سانحة له، فجمع جموعه وسار إلى العراق في سنة 907ه/1501م، فلاقى جماعة ألوند بيك في بلاد النخجوان، ففرق شملهم ثم استولى على بلاد أذربيجان، وفرح الناس بمقدمه لتخليصهم من ظلم البايندرية، ثم سار نحو العراق في سنة 914ه/1508م للقضاء على مراد بيك وجماعته، وفر مراد بيك إلى ديار بكر، وكان ببغداد وال يسمى باريك بيك، فلما سمع بزحف قوة الشاه إسماعيل عليه بعث إليه يسترضيه بالهدايا، وعرض عليه خضوعه في الظاهر، وأخذ يستعد للقائه في الباطن فمتن قلاعه، وحصن عاصمته، وجمع الذخائر والميرة وفرض على الأهلين ضرائب باهظة، وحصر الأقوات كلها تحت تصرفه ليقوى على تحمل الحصار، وألقى القبض على نقيب الأشراف السيد محمد بن كمونة الذي كان هواه مع الشاه الصفوي فسجنه، وبينما هو كذلك إذ بلغه أن الشاه إسماعيل قد بعث في مقدمة جيشه فرقة على رأسها حسين بك لاله، وكان مشهورا ببطشه، فلما سمع باريك بيك اضطرب أشد الاضطراب وخاف مغبة الأمر؛ فجمع ذخائره ونفائسه وأهله، وفر إلى بلاد الشام، ودخل حلب لاجئا إلى صاحبها، أما أهل بغداد فإنهم لما عرفوا بهروبه أطلقوا النقيب ابن كمونة من سجنه، وسلموا إليه مقاليد أمورهم، ولما وصلت طلائع الجيش الصفوي الإيراني خرج ابن كمونة لاستقباله ومعه وجوه المدينة مرحبين.
وكان أول عمل قام به الشاه في بغداد زيارته مراقد آل البيت وترتيبه لشئون المدينة وتسميته الأمير خادم بيك أميرا على المدينة بعد أن لقبه بلقب «خليفة الخلفاء»، وأوصاه برعاية أهل الخير، ثم رجع الشاه إلى الجنوب، فحارب المشعشع وجماعته وفرق جنده واستولى على خوزستان والحويزة، وعمل على محو مذهب المشعشعين، ونشر مذهب الجعفريين والطريقة الصفوية،
1
ويظهر أن الأتراك العثمانيين قد أحسوا بخطر الشاه إسماعيل وقوته، واعتبروا ظهوره منافسة قوية تحول دون امتداد سلطانهم إلى العراق بعد أن كانوا ينتظرون انحلال الدولة البايندرية، ويعملون على تفكيك أوصالها، ولما اعتلى عرشهم السلطان ياوز سليم أحس بقوة الشاه إسماعيل فعزم على أن يفاجئه بالمهاجمة في عقر داره، وأخذ يهيئ للأمر عدته، وعلم الشاه إسماعيل بالأمر فأخذ يهيئ نفسه أيضا للقائه، ولا شك في أن العراق المسكين سيكون ميدان هذا العراك، وهكذا كان، فلاقى العراق ويلات شديدات فترة طويلة من الزمن كما سنرى.
رأينا أن الشاه إسماعيل قد سمى الأمير حازم بيك خليفة الخلفاء، واليا على بغداد، وثبت ابن كمونة من نقابة الأشراف، فأخذ الاثنان يعملان بنشاط على تثبيت أقدام الدولة الصفوية في العراق، وكان السلطان ياوز سليم العثماني يعمل على نشر نفوذه في العراق، فبث عيونه وهيأ نفسه لقتال الصفويين، وكان التقاء الطرفين عام 920ه/1514م في تبريز وفي الموقع المعروف باسم «جالديران»، وكان في الجيش الإيراني الصفوي حاكم بغداد ونقيب أشرافها وعدد من الأعيان، ولم تطل الموقعة حتى تم النصر فيها للعثمانيين وقتل حاكم بغداد والنقيب، وبضعة آلاف من العراقيين، وكانت هذه الكسرة مبدأ تفوق الجيش العثماني، وانتشار فتوحاته في العالم الإسلامي، وكان من نتائج هذه المعركة أن أهل آمد كتبوا إلى السلطان سليم يخبروه أنهم طردوا واليهم الإيراني الصفوي، وأنهم يسلمونه مدينتهم ويرجونه أن يبعث إليهم واليا عثمانيا، فبعث إليهم ببقلو محمد بيك، وجعله أميرا على كل هاتيك الأصقاع، فجاءها وفتح بلاد ماردين والموصل وسنجار حتى بلغ جزيرة ابن عجر،
2
وكان ذلك في عام 921ه، ولما اطمأن السلطان سليم العثماني إلى بسط نفوذه في هاتيك الديار عزم على المسير إلى الشام ومصر لفتحهما، ومحاربة «قانصوه الغوري» سلطانهما المملوكي، الذي بلغه أنه يتآمر عليه مع الشاه إسماعيل الصفوي، فتم له ما أراد وكان ذلك في مطلع عام 922ه كما سنفصله فيما بعد في الفصل الخاص بسورية ومصر.
ولما تم للسلطان سليم فتح الديار الشامية والمصرية، قويت في نفسه آمال السيطرة على العراق العربي والعراق العجمي، وخصوصا بعد أن أعلن نفسه خليفة للمسلمين، وشرع في الاستعداد للقضاء على الصفويين، وأخذ يبعث الدعاة إلى العراق يطعنون في عقيدة الصفويين، ويهدمون طريقتهم الصوفية، ويقولون إن هذه الطريقة «القزل باشية» ليست سوى طريقة أهل الضلال والمارقين عن الإسلام، حتى أصبحنا نجد على الشاه إسماعيل في كتب معاصريه من الأتراك والشاميين والمصريين حملات جد عنيفة، ونضرب على ذلك مثلا بما ذكره ابن العماد الحنبلي المؤرخ الكبير في كتابه «شذرات الذهب» حيث يقول: «وفي أيامه - أي أيام السلطان سليم العثماني - ظهر إسماعيل شاه، واستولى على سائر ملوك العجم، وملوك خراسان، وأذربيجان، وتبريز، وبغداد، وعراق العجم، وقهر ملوكهم، وقتل عساكرهم بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف، وكان عسكره يسجدون له، ويأتمرون بأمره، وكان يدعي الربوبية، وقتل العلماء وأحرق كتبهم ومصاحفهم ، ونبش قبور المشايخ من أهل السنة وأخرج عظامهم وأحرقها، وكان إذا قتل أميرا أباح زوجته وأمواله لشخص آخر، فلما بلغ السلطان سليم ذلك تحركت همته لقتاله، وعد ذلك من أفضل الجهاد، فالتقى معه بقرب تبريز بعسكر جرار، وكانت وقعة عظيمة فانهزم جيش شاه إسماعيل»،
3
ويقول المؤرخ قطب الدين صاحب: «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» عن الشاه إسماعيل: «قتل خلقا لا يحصون ... وقتل عدة من أعاظم العلماء بحيث لم يبق أحدا من أهل العلم في بلاد العجم، وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم ... وكلما مر بقبور المشايخ نبشها وأخرج عظامها وأحرقها، وإذا قتل أميرا، أباح زوجته وأمواله لشخص آخر.»
4
فأنت تحس من هذه العبارات أن السلطان سليما قد أحسن نشر الدعاوة ضد الصفويين، وعمل على تنفير الناس منهم، مع أنهم لم يكونوا على الشكل الفظيع الذي وصفهم به ابن العماد والقطب، ولكنها السياسة ما دخلت شيئا إلا أفسدته.
أما الشاه إسماعيل فإنه بعد أن تلقى تلك الصفعة القوية في معركة جالديران رجع إلى بلاده، وأخذ يعد نفسه للانتقام، ولكنه لم يلبث قليلا حتى مات في سنة 930ه/1523م، فخلفه ابنه طهماسب الأول 930-984ه، وكان شجاعا داهية، خلف له أبوه مملكة واسعة فأحسن تصريف أمورها، ووقعت بينه وبين العثمانيين عدة حروب لقي العراق العزيز منها، وبسبب هاتين الأسرتين الحاكمتين، ويلات وضوائق، وخلاصة ذلك أن العراق بعد أن هلك الشاه إسماعيل تسلط عليه أمير من أمراء الأكراد اسمه ذو الفقار، فطرد الأمراء الصفويين واستقل به لنفسه، وكان رجلا داهية شجاعا جوادا فأحبه العراقيون وأذعنوا له، وحين أحس بأن طهماسب الصفوي يريد مبادهته كتب إلى السلطان سليمان بن سليم العثماني يعرض عليه خضوعه، وأنه يضرب الدراهم باسمه، ويخطب له على المنابر، فلما بلغت هذه الأخبار أسماع الشاه طهماسب جهز جيشا قويا، وأم العراق في سنة 936ه وحاصر بغداد، وكانت مقاومة ذي الفقار أميرها شديدة، حتى تم له النصر على الجيش الفارسي، ولكن الشاه طهماسب استطاع أن يخدع أخوي ذي الفقار، ويغريهما على الوقوف في وجه أخيهما وقتله فقتلاه، ودخلت الجيوش الفارسية إلى بغداد من جديد بعد أن انقطعت صلتها بهم فترة قصيرة، ولم يخرج طهماسب من العراق حتى أعاد ترتيب إدارة البلاد إلى نظامها الفارسي القديم، وسمى حكاما في كل مقاطعة، وجعل في بغداد الأمير محمد خان تقلو آل شرف الدين واليا، فظل هذا في ولايته إلى أن دخلت جيوش السلطان سليمان القانوني العثماني في سنة 941ه/1534م.
وهكذا قضي على النفوذ الفارسي في العراق، وكان عهد الدولة الصفوية - على الأغلب - عهدا أسود مظلما، تركوا فيه لولاتهم الحبل على الغارب، يفعلون فيه ما يشاءون، ويسخرون الأهلين في سبيل مصالحهم الخاصة ومطامعهم الشخصية، حتى ضاقوا بهم، وتمنوا نصرة العثمانيين عليهم، وأعانوهم على ذلك.
ولما استولى الأتراك العثمانيون على العراق عمدوا إلى تنظيمه، والعناية بشئونه واستقرت أحواله طوال قرن تتعاقب عليه الولاة، الذين كان فيهم الصالح، ومنهم الطالح، ولم ينس الملوك الفرس العراق، بل ظلوا يطمحون إلى السيطرة عليه؛ لأن فيه العتبات المقدسة التي تضم رفاة الأئمة، والمشاهد المقدسة في النجف والكوفة وكربلاء وبغداد، وظل النفوذ التركي، والنفوذ الفارسي يسيطران على العراق إلى أن كانت سنة 1032ه/1623م، فاستطاع شاه فارس الصفوي أن يحتل بغداد بسبب خيانة أحد العصاة الانكشارية، وخضع العراق كله من جديد للنفوذ الفارسي الصفوي خمس عشرة سنة، ثم استرده العثمانيون، وطردوا الفرس، وقاسى الأهلون ويلات وشدائد بهذه الفتن،
5
ولم يصف جو البلاد إلا في عهد نفر من الولاة المصلحين، وفي طليعتهم حسن باشا الأيوبي الذي تولى العراق سنة 1116ه/1704م، وكان مصلحا عمرانيا محبا للعلم وأهله رءوفا بالناس، وخلفه من بعده ابنه أحمد باشا بعد وفاة أبيه في سنة 1136ه/1723م على بغداد، ودام حصار العاصمة سبعة أشهر لقي الناس أثناءها بلاء عظيما، وتم الاتفاق بين نادر شاه وبين أحمد باشا على المصالحة وعقد معاهدة تقضي بجعل منطقة حرام بين العراق وفارس، ورأت الدولة العثمانية نقل واليها أحمد باشا من بغداد، فبعثت به إلى حلب وأرسلت إلى العراق في سنة 1147ه/1734م إسماعيل باشا والي طرابزون، فتأسف الناس لسفر أحمد باشا؛ لما كان عليه من حسن الإدارة والإصلاح، وعملوا لدى الباب العالي على إعادته إليهم، وتم لهم ما أرادوا في سنة 1149ه/1736م فسار بهم سيرة حميدة، وعمل للقضاء على النفوذ الفارسي والفساد الانكشاري والثورات البدوية إلى أن توفي سنة 1160ه/1747م، وتعاقب على العراق بعده ولاة قساة إلى أن كانت سنة 1182ه/1773م وجرت الحرب بين الدولتين العثمانية والإيرانية، واستولى الإيرانيون على العراق ولقي الأهلون منهم مآسي فظيعة، ثم استعاد العثمانيون البلاد وتعاقب عليها ولاة لم يكن في أعمالهم ولا في تصرفاتهم ما يستحق الذكر إلى أن أطل القرن الثالث عشر للهجرة.
الفصل السادس
الشام منذ القرن السابع للهجرة
من العسير جدا على المؤرخ أن يفرق في هذه الفترة بين تاريخ الشام وتاريخ مصر؛ فإن القطرين كانا في الحقيقة يكونان وحدة سياسية، كما سنفصله في المباحث المتعلقة بمصر، ولكن هناك حوادث ذات بال، وذات طابع مخصوص جرت في الشام، فلا بد لنا من الإشارة إليها والوقوف عندها طويلا، وبخاصة فيما يتعلق بحملات الصليبيين.
أطل القرن السابع للهجرة وبعض بلاد الشام خاضعة للسلطان الأيوبي وبعضها الآخر خاضع للنفوذ الصليبي وبخاصة السواحل الشامية، وكانت الحرب تكون دوما سجالا بين الملك العادل وبين الصليبيين، ومن أعظم المعارك التي جرت في سنة 603ه هجوم الملك العادل على عكا وقبول حاكمها وأهلها بمصالحته، وإطلاق من في أيديهم من أسرى المسلمين، وفي سنة 604ه كثرت غارات الصليبيين من طرابلس، وحصن الأكراد على المدن الداخلية الشامية، وبخاصة مدينة حمص وما إليها، وقد حصل في سنة 607ه حادث اضطربت له بلاد الشام جميعا، وخلاصته أن نساء دمشق قصص شعورهن وضفرن منها حبالا تستعمل في حبال المنجنيق وعدد الجهاد ضد الصليبيين، وكن قد بعثن بهذه الحبال إلى علامة الشام ومصلحها وواعظها في ذلك الحين سبط ابن الجوزي،
1
فلما رآها هاجت دموعه وبكى، ولما صعد على المنبر يوم الجمعة ليخطب ويعظ الناس في جامع بني أمية أمر بإحضار تلك الشعور المجزوزة فحملت على الأعناق، وكانت ثلاثمائة شكال - وهو الحبل الغليظ الذي تشد به قوائم الدابة - فلما رآها الناس تصايحوا، وضجوا ضجة عظيمة، وتقاسموا أن يقاتلوا الصليبيين صفا واحدا أو يهلكوا عن آخرهم، ثم أخذت الجيوش تستعد للقتال بقيادة الأمراء الأيوبيين وتتعاهد على الجهاد وقطع دابر الصليبيين الذين يعيثون في الديار الإسلامية فسادا، وبخاصة في فلسطين المقدسة، وسارت جموعهم من دمشق إلى نابلس حيث كان يقيم الملك المعظم، والتقى الجمعان، وكتب الله النصر للمسلمين، فخربوا ديار الفرنجة، وأسروا جماعات من ملوكهم وأمرائهم وقادتهم حتى اضطروهم إلى الاحتماء بحصون عكا، والكتابة إلى الملك العادل يرجونه أن يعقد معهم كتاب صلح ويهادنهم ففعل، وأمنهم إلى حين.
وأخذ الصليبيون في الخفاء يعدون أنفسهم للقاء المسلمين في دمشق، ويهيئون للقيام بحملة شديدة إلى أن كانت سنة 614ه فهاجم الصليبيون سورية بحملة قاسية، وهي الحملة الخامسة من حملاتهم، وتم لهم النصر وتوغلوا في البلاد إفسادا ونهبا وقتلا حتى وصلوا بلاد بيسان ونابلس، وكادوا يستولون على دمشق، ومما قوى عزائمهم في ذلك وفاة الملك العادل في سنة 615ه، وبوفاته تضعضعت أركان البيت الأيوبي، فقد كان رحمه الله حازما متيقظا غزير الفهم حسن السياسة، وكاد الصليبيون أن يسيطروا على سائر مدن الشام لولا أن اتفق أولاد الملك العادل وتراصوا «فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم ، ولعمري أنهم نعم الملوك، وفيهم الحلم والجهاد، والذب عن الإسلام.»
2
وفي سنة 626ه/1228م حمل الصليبيون حملتهم السادسة على الشام بزعامة الأنيرور فريدريك الثاني ملك صقلية، وكان سياسيا داهية، استطاع بمكره أن يقنع الملك الكامل الأيوبي بالتفاوض مهه، وتسليم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة لمدة عشر سنوات، على أن لا يتعرض هو وسائر ملوك الصليبيين لقبة الصخرة والمسجد الأقصى بأي أذى، فقبل الملك الكامل منه ذلك، واضطربت بلاد الإسلام لهذه النكبة العظمى، وكانت هذه القصة سببا في إيغار صدور أهل دمشق على الملك الكامل ومن معه، وخصوصا حين ازدادت قوة الصليبيين، وحاربوا دمشق وحاصروها، وكادوا أن يدخلوها لولا وقفة أهل دمشق الجبارة، وردهم عنها أشنع رد، ثم زاد الأمر اضطرابا وقوع الوحشة بين الملك الكامل وبين إخوته وسائر أمراء البيت الأيوبي، ولقيت البلاد من هذه الوحشة عنتا كبيرا، وبلاء عظيما إلى أن هلك الكامل في سنة 635ه.
وقد ازدادت أمور الفوضى بين أمراء البيت الأيوبي فانقسموا على أنفسهم وتحاربوا وتجالدوا وقسموا البلاد بينهم، وخربت الدور والقصور والمعاهد والمدارس والمساجد بسبب ذلك في أكثر مدن الشام العزيز، وانتهز الملوك والقادة الصليبيون هذا الانقسام فأغاروا على المدن وشتتوا أهلها، وخصوصا حين التجأ بعض الملوك والأمراء الأيوبيين إلى الصليبيين يستعينون بهم على إخوتهم أو أبناء عمومتهم، وتفصيل ذلك أن الملك الجواد بن مورود بن الملك العادل الأيوبي ذهب إلى مدينة عكا لاجئا إلى صاحبها الصليبي، وحافزا إياه على قتال ابن عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر وقتال الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وقد وعد الملك الجواد صاحب عكا بأن يقره على جميع ما في يده من البلاد إن هو نصره على صاحبي مصر ودمشق، ولكن الملك الصالح صاحب دمشق كان أكثر دهاء من الملك الجواد فإنه بعث رسولا من قبله إلى صاحب عكا الصليبي ومعه هدايا وتحف ثمينة وكتاب يطلب فيه تسليم الملك الجواد، فما كان من الصليبي إلا أن أخذ الهدايا، وسلم الملك الجواد إلى رسل الملك الصالح إسماعيل، فلما وصل إلى دمشق اعتقله، ثم خنقه في سجنه في سنة 638ه، ولما تخلص الملك الصالح إسماعيل من الملك الجواد، أراد التخلص من ابن أخيه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، فاتفق هو وصاحب عكا الصليبي على أن يسلمه صفد والشقيف إذا هو أعانه على قتال الملك الصالح أيوب صاحب مصر.
واضطربت دمشق لهذا العمل الإجرامي الذي قام به الملك الصالح إسماعيل كما اضطربت له سائر المدن الشامية والمصرية، وقام القاضيان الشافعي والمالكي في دمشق - وهذان أكبر رجال الدين في البلد منصبا - يلعنان من أقدم على هذا الأمر، ويعلنان سخطهما على هذا العمل الحاط من شرف العروبة والإسلام، فما كان من الملك الصالح إسماعيل إلا أن عزلهما وسجنهما في قلعة دمشق، فسكنت المدينة على مضض، وتم الاتفاق بين إسماعيل والصليبيين على تنفيذ ما وعدهم به، وسلم إليهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية، ثم التقت جيوش الملك الصالح أيوب بجيوش الملك الصالح إسماعيل ومن معه من الصليبيين، ولكن الله كتب للجيش المصري نصره، وتأييده وانخذل الملك الصالح إسماعيل ومن معه من الفرنجة حتى قال ابن أبي أسامة: «وكسرت الفرنج ومن انضم إليهم من منافقي المسلمين، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ثم أرسل باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر مصر والخوارزمية وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، ولما ضاق صاحب دمشق ذرعا بحصار صاحب مصر له سير الملك الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة على العراق مستشفعا بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وتسلم عسكر الملك الصالح أيوب دمشق من الصالح إسماعيل على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد، وتستقر حمص وما هو مضاف إليها بيد صاحبها، ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الصالح أيوب، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خواطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا عن طاعة الملك أيوب، وصاروا مع الملك الصالح إسماعيل وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحاصروها فقاسى أهلها شدة عظيمة»،
3
والحق أن دمشق لقيت من هذه الفئة عناء كبيرا، كما لقيت من هذا الحصار بلاء عظيما، وقد احترقت محلات العقيبة وقصر حجاج والشاغور وحكر السماق، وهي من أعظم محلات دمشق، وأكثرها آثارا وقصورا، وقد دام الحصار نصف سنة حتى هلك فيه الناس جوعا، وأكلوا الموتى والأطفال ولم ينكشف البلاء عنهم ولم ينجوا من بلاء الخوارزمية والملك الصالح إسماعيل إلا بعد أن استنجدوا بالحلبيين، فقدموا إليهم، وأعانوهم على طرد الخوارزمية عن دمشق، وشتتوا شملهم في سنة 644ه.
وفي سنة 647ه مات الملك الصالح أيوب صاحب بلاد مصر وأكثر بلاد الشام، وكان قد استكثر في حياته من المماليك الترك والصقالبة لحراسته، وتقوية نفوذه، فلما مات قوي أمرهم واشتد سلطانهم حتى تملكوا البلاد من بعده على ما سنفصله، والحق أن هؤلاء المماليك قد استغلوا سلطانهم أيام الملك الصالح أيوب، ولما هلك ولم يكن له ولد تولت الأمر بعده زوجته شجرة الدر، وأعانها على ذلك نفر من المماليك، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام، فأبى هؤلاء أن يخضعوا لامرأة، وولوا عليهم الملك الناصر يوسف بن أيوب صاحب، وتمت له السيطرة على سورية من حلب إلى دمشق إلى بعلبك فعجلون.
ولما اتفق المماليك في مصر على خلع شجرة الدر وتولية أحدهم وهو المملوك أيبك الجاشنكير، كتبوا بذلك إلى أهل الشام، فرفض هؤلاء ذلك إلا أن يولوا أحد الأمراء الأيوبيين، ثم جمعوا جموعهم، وتوجهوا إلى مصر لقتال هؤلاء المماليك، والتقى الجيشان الشامي والمصري عند مدينة العباسة، وبعد قتال مرير بينهما تم الاتفاق على عقد صلح بين الملك الناصر يوسف بن أيوب صاحب دمشق وبين المماليك البحرية على أن يكون للمماليك ما وراء حدود نهر الأردن وللناصر ما بعد ذلك، ولكن هذا الصلح لم يدم طويلا؛ فإن بعض المماليك انشقوا عن إخوانهم في مصر وجاءوا إلى الملك الناصر في دمشق يطمعونه في السيطرة على مصر، فسار معهم بجيوشه حتى إذا وصل إلى غور الأردن وقعت فتنة بينه وبين المماليك اضطر الناصر بعدها أن يرجع إلى دمشق، ولم يكد يستقر فيها حتى جاءته الأخبار بأن جيوش هولاكو تزحف نحو الشام.
ولما بلغته أخبار زحف هولاكو اضطرب لها، ولكنه أخذ يهيئ نفسه، وفي سنة 657ه قدم هولاكو إلى مشارف الفرات واستولى على الجزيرة الفراتية، ثم توجه إلى حلب وفتك بالقرى المجاورة لها فتكا عظيما، ولما بلغت أخباره إلى دمشق جمع الملك الناصر جموعه في مطلع عام 658ه للتوجه إلى حلب، ولكن جماعة من مماليكه أرادوا اغتياله فاشتعلت نار الفتنة، واضطربت البلاد، ودخل هولاكو مدينة حلب وذبح من أهلها مذبحة عظيمة حتى قيل: إن عدد من قتل بها من الناس كان أكثر ممن قتلوا في بغداد،
4
وقال ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»: «وإن هولاكو حاصر حلب ستة أيام، ثم أوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص فأكرمه هولاكو، وأعاد إليه حمص، ثم رحل هولاكو إلى حارم، فقتل أهلها عن آخرهم، وسبى النساء، وأمر بخراب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها، وأمر الأشرف موسى صاحب حمص بإخراب سور قلعة حماه فخربت وأحرقت زردخانتها ... وأما دمشق فإن نائب هولاكو قدم إلى أهلها بالفرمان والأمان فتلقاه كبراء المدينة وأنفذت مفاتيح دمشق إلى هولاكو.»
5
وعلى الرغم من ذلك هدم التتار أسوار مدينة دمشق والقلعة، وخربوا ما فيها من مصانع السلاح والزردخانات، ثم توجهوا إلى فلسطين ففتحوا قلاعها في نابلس وعجلون والصلت وصلخد وبصرى وسائر بلاد حوران وجنوبي فلسطين حتى بلغوا غزة هاشم، وقد كانوا يودون الزحف على مصر، ولكنهم انشغلوا بالملك الناصر يوسف الذي حاول تفريق جمعهم فتغلبوا عليه، وقتلوه، وفرقوا جنده، ولقد لقيت الديار الشامية من التتار بلاء عظيما وفر بقايا الأيوبيين ومماليكهم إلى مصر يستنجدون بأهلها وبأمرائها، فجمع المصريون جموعهم لنصرتهم وقدموا إلى الشام بقيادة الملك المظفر قطز، والتقوا بالتتار عند غور الأردن، وجرت معركة كبيرة عند عين الجالوت، وهزم الله التتار على الوجه الذي سنبينه في الفصل الخاص بمصر.
ولما رجع الملك المظفر قطز إلى مصر لم تستقم له الأمور بل فوجئ بثورة عنيفة قام بها عليه المماليك، وقتلوه وولوا على سلطنة مصر محله الملك الظاهر بيبرس البندقداري، ولما بلغ هذا الخبر إلى نائب السلطنة المصرية في الشام الأمير سنجر جمع الناس، وطلب إليهم أن يبايعوه بالسلطنة على الشام، فأجابوه إلى ما أراد، وهكذا استقلت الديار الشامية عن الإدارة المصرية، ولم يخرج عن طاعة الأمير سنجر من ولاة الشام ونوابه إلا الملك المنصور صاحب حماه، وبينما كان سنجر يهيئ نفسه للذهاب إليه وإخضاعه علم أن جيوش التتار زاحفة من جديد نحو الشام، وقد علم بذلك الملك الظاهر بيبرس فاهتبل هذه الفرصة وبعث جيشا من مصر في سنة 659ه لقتال سنجر، فقهره وأعاد سلطانه على الشام ووحد القطرين، وعبأ البلاد للقاء التتار، ولما علم التتار بذلك توقف زحفهم، ولكن خطرا آخر داهم البلاد وهو خطر الصليبيين المقيمين في السواحل الشامية وأنطاكية، فإنهم نقضوا العهود، وحاولوا الإغارة على دمشق وما إليها، فهب للقائهم، وتم له النصر عليهم، وفتح الله على المسلمين كثيرا من المدن والقرى، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى أنطاكية فرجعوا إلى حلب وهم ينوون الزحف مجددا على أنطاكية، وفي هذه الفترة بعث الملك الظاهر جيشا قويا أغار على الصليبيين في مدينة الناصرة وما إليها، ثم سار هو بنفسه في سنة 663ه فأغار على عكا، ثم نازل قيسارية وفتحها، وأمر بهدم أسوارها وأسواقها، ثم سار في سنة 664ه إلى صفد فاستردها من الصليبيين، ثم أغار في سنة 666ه على يافا ففتحها وهدم قلعتها، وسار نحو طرابلس فهدم كثيرا من القرى الصليبية، وطهر الديار منهم، ثم جمع جموعه واتجه نحو أنطاكية فأيده الله بفتحها، وفتك بالصليبيين وملوكهم شر فتكة، وأخذ يطهر كافة الديار الشامية من بقاياهم، وكان هذا أعظم فتح بعد الفتح الأيوبي.
ولما أتم الله له هذا النصر عزم على الجهاد، فجهز جيشا كبيرا في سنة 673ه توجه به إلى بلاد الأرمن، وتوغل في ديارهم، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، ثم رجع إلى دمشق، ووطد الأمن في هذه الديار وفي الديار المصرية حتى وافاه أجله في سنة 676ه بعد أن فتك بالصليبيين، وطهر الأرض من أوضارهم، وقضى على آمال التتار في الاستيلاء على الشام ومصر.
ولما مات تولى الأمر بعده السلطان قلاوون، ولكنه فوجئ بثورة تقوم في الشام بقيادة أميرها سنقر الأشقر الذي أعلن انفصاله، فبعث إليه قلاوون من قهر جنده واضطره إلى الفرار ومكاتبة التتار يغريهم في الحضور إلى الشام، فلبى التتار دعوته وزحفوا على حلب في مطلع عام 679ه فعاثوا فيها فسادا، وأحرقوا الجوامع والمدارس والدور، ثم رأى السلطان أن يصالح سنقر الأشقر لعله يفل من عضد التتار، وتم الاتفاق بينه وبين سنقر الأشقر على أن يستقر سنقر في بلاد الشفر من أرض حلب، وتخلى عن معاونة التتار، وانضم بجنده إلى السلطان قلاوون، ثم وقعت الواقعة بين العرب والتتار في ظاهر حمص، ونكب التتار نكبة شديدة، وتفرقت جموعهم، فهربوا من البلاد، واستراح الناس من جرائمهم.
وفي سنة 684ه علم الشاميون بأن التتار يريدون الاستيلاء على بلادهم وأنهم قادمون إليهم بجيوش كثيرة فاستعدوا لهم، والتقى الجمعان في وادي التيم، وأظهر العرب بطولة نادرة تمكنوا بها من طرد التتار، وكانت هذه الأعمال هي أجل الأعمال العسكرية التي قام بها الملك قلاوون منذ توليه السلطنة إلى أن مات.
ولما تولى الأمر من بعده ابنه السطان الأشرف خليل سار على خطى أبيه في الحزم والضرب على أيدي التتار والصليبيين، وأول أعمال قام بها في الديار الشامية توجهه بنفسه في سنة 689ه على رأس حملة لفتح مدينة عكا بعد أن حاصرها بشدة ففتحت أبوابها المنيعة أمام إرادته وأعمل في الصليبيين قتلا وفتكا، ولما فتحت عكا اضطرب الصليبيون وأخلوا مدينة صيدا فاستولى عليها، ثم سار نحو بيروت، فهدم أسوارها، وكانت جد منيعة، وبالسيطرة عليها تمت له السيطرة على الساحل الشامي كله من الإسكندرونة حتى الإسكندرية بعد أن بقي حقبا طويلة تحت يد الصليبيين، ولم ير الصليبيون حملة شديدة بعد حملة صلاح الدين - رحمه الله - إلا حملة الظاهر بيبرس، وحملة الأشرف خليل.
ولما رأى الصليبيون في أوروبة سوء حالة إخوانهم في ديار الشام جهزوا حملة جديدة لنصرتهم وهي الحملة الصليبية السابعة والأخيرة، وقد كانت بقيادة القديس لويس ملك فرنسة، وانتهت بأسره وتشتيت شمل حملته على الشكل الذي سنبينه فيما بعد، أما الصليبيون فقد ذهب قسم منهم بحرا إلى حيث أتوا، وبقي قسم منهم في بلاد الشام لاجئين إلى الجبال في سورية ولبنان، وكان هذا القسم سببا في قيام عدة حملات على أهل السهول والمدن المجاورة، فكانوا يقومون بأعمالهم الإجرامية ويهربون إلى قمم الجبال، ولو لم يقم المماليك وعلى رأسهم الملك الأشرف خليل بتأديبهم للقيت جميع ديار الشام منهم شرا عظيما.
وفي سنة 693ه قتل الملك الأشرف واضطربت بلاد الشام لاختلاف المماليك فيمن يولونه، وكان من مصائب الشام العظيمة في هذه الفترة هجوم التتار بقيادة غازان، ودخولهم إلى دمشق في سنة 696ه، وفتكهم الذريع بأهل البلد حتى إنهم كانوا يريدون القضاء على السكان جميعهم لولا أنهم افتدوا أنفسهم بأموالهم، وقد ظل التتار القساة يعيثون في الشام فسادا إلى أن كانت سنة 699ه، فرجع غازان عن دمشق ودخل حماه وحلب، وفعل بأهلهما ما فعله بدمشق، وقد احترقت في هذه الفتنة مساجد وجوامع ومدارس ودور عبادة كثيرة كدار الحديث الأشرفية، والمدرسة العادلية الصغرى، والمدرسة العادلية الكبرى، ودار السعادة وغيرها من معاهد دمشق العلمية، ولما علم السطان بخروج غازان، وجماعته من دمشق، وأنه قصد الشمال بعث بجيش كبير إلى الشام، ولكن جيوش غازان فتكت به، ودخلت حلب في سنة 700ه، واضطر نائب السطان فيها أن ينجو بنفسه، وعاث المغول فسادا كبيرا، وانتهز الفرنج الصليبيون المقيمون في أعالي جبال لبنان ومنطقة الكسروان هذه الفرصة، فأخذوا يغيرون على المدن الداخلية ويفتكون بأهلها، وبخاصة أهل صيدا وصور وبيروت، الذين استغاثوا بصاحب دمشق الأمير آقوش الأفرم، فبعث إليهم من أعانهم عليهم وجرت بين الطرفين معركة تاريخية عند مدينة جبيل، ولكنهم استطاعوا التغلب على الجيش الشامي واغتنموا كافة أسلحته وأمتعته، قال المؤرخ صالح بن يحيى صاحب «تاريخ بيروت»: «وإن السبب في قتالهم أن الهاربين من وجه التتار من العسكر تفرقوا سنة 699ه، فحصل لهم أذية من المفسدين، وخصوصا من أهل كسروان وجزين للهاربين، أما أهل كسروان فإنهم بلغوا أن أمسكوا بعضا منهم وباعوهم للفرنج، وأما السلب والقتل فكان كثيرا.»
6
ولما بلغت الأعمال الفظيعة التي قام بها الفرنجة والكسروانيون إلى مسامع السطان الناصر جهز جيشا قويا في سنة 703ه لقتالهم والفتك بهم، وقد أعانه عليهم الأمراء التنوخيون أصحاب غربي لبنان، وفي سنة 704ه رأى الأمير آقوش الأفرم صاحب دمشق أن يبعث إلى الكسروانيين وأهل الجبال جماعة تدعوهم إلى الصلح والاستسلام، وعلى رأسهم الشريف زين الدين عدنان، ثم بعث إليهم الإمام المصلح الشيخ ابن تيمية ولكنهم أبوا إلا الاستمرار في إعلان العصيان، فجهز عليهم حملة عنيفة، انتهى أمرها بفتح بلاد كسروان، وخضد شوكة الفرنجة، وهدأت البلاد حتى كانت سنة 708ه، ففيها خلع السلطان الناصر ابن قلاوون نفسه من السلطنة؛ لما رأى من قيام بيبرس الجاشنيكر، وثورته عليه، فأحب أن لا تسفك الدماء بسببه وأوى إلى مدينة الكرك، ولكن أهل الشام وكثيرا من أهل مصر ثاروا على السلطان الجديد بيبرس الجاشنيكر، وطلبوا إلى السلطان الناصر أن يعود وألحوا عليه بذلك، فقبل وتوجه إلى دمشق، وجمع جموعه وسار بهم إلى غزة، ولم يصلها حتى قدمت عليه جيوش مصر خاضعة مبايعة، وعادت السكينة من جديد إلى البلاد، وهدأ الناس فترة طويلة إلى أن وقعت حادثة اضطربت لها البلاد جميعها، وهي الفتنة بين اليمنيين والقيسيين سنة 709ه في حوران التي قتل فيها قرابة ألف رجل، وكادت هذه الحرب الأهلية الجاهلية تعصف بالبلاد لولا تدخل أهل الحكمة والدين، فعادت السكينة إلى البلاد وعم الخير، وبخاصة في منطقة حماه وما إليها، وهي التي كان عليها السلطان العالم الصالح الملك المؤيد أبو الفداء إسماعيل، وقد دام ملكه نحوا من ربع قرن، استكان له الناس لعدله ورحمته وعلمه، وحب نشر الفضيلة بين الناس إلى أن مات سنة 632ه.
ومن الأعمال الجليلة الجديرة بالذكر في هذه الفترة قيام الجيوش الشامية والمصرية لفتح بلاد الأرمن في آسية الصغرى، والاستيلاء على عدة مدن وقلاع كالمصيصة والهارونية وباناس والنقير وآذنة وطرسوس، وقد عادت الجيوش العربية من رحلاتها هذه ظافرة موفقة، وفرح الناس بنشوة النصر، وعم الخبر، وارتفع شأن الحكام الصالحين، وانتشر الأمن، لولا الأزمات التي سببها اضطراب حبل السلطنة في مصر، وعصيان بعض المماليك في بعض الجهات على سلطان مصر كعصيان نواب حلب وحماه وطرابلس وصفد، مما سبب اضطراب الأمن اضطرابا لم يهدأ إلا بقدوم سلطان مصر الملك الصالح صلاح الدين ومعه الخليفة وبعض الأمراء والقضاة الأربعة.
وفي سنة 770ه تولى نيابة السلطنة المصرية في الشام الأمير سيف الدين منجك، وكان رجلا حازما شديدا على إقامة الأحكام الشرعية، وقطع دابر المفسدين، وعمارة البلاد، وإزالة أماكن اللهو والمنكرات، قال ابن طولون: «فعل الخيرات وبنى المحطات في الدروب، وبنى زاوية بالكسوة، وعمل لها سماطا، وعزل الطرقات، وعدل في الرعايا.»
7
واستقامت أحوال البلاد في أيامه، وكان محبا للعلم وأهله، فأحيا كثيرا من دارس المدارس، وعمل على الإكثار من حلقات التدريس في جامع بني أمية.
وفي سنة 779ه تولى نيابة الشام بيدمر الخوارزمي وكان ظالما كثير الاستبداد والأطماع حاول فصل الشام عن مصر، حتى تم له ما أراد في سنة 780ه فخرج عن طاعة السلطان، ولكن هذا بعث إليه فرقة من الجيش المصري ردته عن غرضه، وحاول الهرب إلى بلاد التركمان فلم يستطع وألقي القبض عليه، فأرسل إلى مصر، ثم أعلن توبته، فأعيد إلى منصبه، وانتهز الفرنجة هذه الفرصة فأغاروا على الشام وبخاصة جهات ساحل طرابلس، ولكنهم ردوا عنها خائبين، فعادوا إليها ثانية في سنة 784ه وهاجموا ساحل بيروت في عشرين مركبا حربيا، وتقاعس نائب السلطنة في دمشق عن قتالهم فقام بعض الغزاة في سبيل الله وعلى رأسهم الأمير الصالح إينال اليوسفي وتوجه لرد الفرنجة فشتت جموعهم، واحتجز ستة عشر مركبا وفرح الناس بذلك، ولكن هذا الفرح لم يدم طويلا حتى ظهرت بوادر الانشاق في صفوف أمراء الشام من جديد، وأخذ بعضهم يعلنون استقلالهم عن مصر، واستمرت هذه الفوضى إلى أن تبدلت الدولة، وحلت دولة المماليك الشراكسة محل دولة المماليك البحرية، على ما سنفصله في الفصل الخاص بتاريخ مصر.
الفصل السابع
الشام من ابتداء دولة المماليك الشراكسة إلى الفتح العثماني
784-922ه/ 1382-1516م
منذ أن استولى السلطان برقوق على السلطة في مصر والشام أخذ يسعى لتوطيد أركان الدولة المضطربة، والحق أنه كان ملكا قويا ذا دهاء وسياسة، فإنه بعد أن تم له الأمر في مصر وجه نظره إلى الشام؛ لتثبيت أقدامه فيها، والضرب على أيدي مناوئيه من ولاتها الذين طمعوا في الاستقلال وإقصاء نفوذ مصر وحكامها عن بلادهم، ولكن برقوقا كان ذا إدارة حازمة استطاع بها إعادة نفوذ مصر على الشام، ورأى أن الواجب يقضي عليه بأن يوجه نواب الشام إلى غزو بلاد آسية الصغرى؛ ليأمن شرهم من جهة، ويكسب بلاده قوة وهيبة من جهة ثانية.
وقد تم له ما أراد حتى وفد عليه رسول ملك بلاد «سيس» ومعه كتاب يعلن فيه خضوعه، ويخبره أن ملك بلاد الأرمن قد مات، وأن رؤساء هاتيك الديار يطلبون من السلطان برقوق أن يختار هو لهم من يولونه عليهم، فبعث إليهم السلطان أحد الأرمن اللاجئين إليه ليتولى أمورهم، ثم جاءته في سنة 785ه رسل من صاحب بلاد سنجار وصاحب بلاد قيصرية، وصاحب تكريت، يعرضون عليه خضوعهم، ويعلنون له أنهم سيخطبون باسمه على المنابر، ويسكون العملة باسمه، ويدفعون له مبالغ سموها، فهذا يدل على القوة التي بلغتها دولة المماليك الشراكسة في عهده، ومن الأمور الجليلة الدالة على قوة هذه الدولة: قيام الجيوش الشامية في ذلك الحين بحملة شديدة ضد الغزاة الفرنجة الذين حاولوا احتلال الموانئ الشامية في بيروت وصيدا وصور، ومن ذلك عزم السلطان على قتال التركمان؛ فإنه جهز جيشا في سنة 787ه وبعث به إلى بلاد آذنه لقتال الأمير سولي بن ذلغادر ومن معه من التركمان، وقد التقت الجيوش الشامية بسولي وفرقت شمله وقتلت أخاه، ثم تمكنت منه فقتلته أيضا، وتم للسلطان برقوق الاستيلاء على أكثر بلاد آسية الصغرى، واتسعت رقعة الدولة وعظمت مواردها، واستقرت البلاد حقبة من الزمن لولا الفتن العارمة التي كانت تقع بين القيسية واليمانية، ولولا تآمر بعض المماليك على برقوق لقتله على ما سنفصله فيما بعد، وقد ظل سلطان برقوق قويا ودولته مرهوبة إلى أن هلك في سنة 801ه حين كان يعد العدة للقاء جيوش تيمورلنك.
ولما مات تسلطن بعده ابنه السلطان فرج، فلم يخضع له أمراء الشام ونوابه، وجرت حوادث وفتن مزعجة، وانتهزت جيوش تيمورلنك ذلك، فزحفت على الديار الشامية وأذاقتها الشرور والفتك، حتى قال المرحوم المؤرخ أستاذنا الشيخ كامل الغزي: إن جيش تيمورلنك لما دخل حلب نهب وأحرق وسبى وقتل، وصاروا يأخذون المرأة ومعها ولدها على يدها فيلقونه من يدها ويفعلون بها ما لا يليق، فلجأ النساء عند ذلك إلى جامعها ظنا منهن أن هذا يقيهن من أيدي الغزاة الكفرة، وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها، فيأتي عدو الله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع، وحكى بعض من حضر الوقائع بأن تيمورلنك عرض الأسرى من بلاد الشام ونواحيها، فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير،
1
واستولى على الكنوز والذخائر التي كانت في قلعة حلب، ولما تم له الاستيلاء التام توجه نحو حماه وسلمية وفعل بأهلهما ما فعل بأهل حلب من القتل والسلب والإحراق حتى لم يبق من مدينة حماه إلا شيء قليل، ولما سار إلى حمص استسلم له أهلها فلم يفعل بهم شيئا، وقال: إنه يهبهم إلى خالد بن الوليد، ثم سار إلى دمشق وأصر نائبها على مناجزته، وجرت بين الطرفين معركة كبيرة، ولكن الدماشقة أحسوا بضعفهم فبعثوا في الخفاء قاضيهم تقي الدين بن مفلح الحنبلي إلى تيمورلنك؛ ليفاوضه في الصلح فقبل، ولكن نائب السلطنة أصر على القتال، وحمي وطيسه بين الجانبين، ثم تم النصر لتيمورلنك؛ فدخل المدينة، وفرض على أهلها مبالغ جسيمة، وأعمل جنده فيها السلب والإحراق، وحل بها ما حل بأختها حلب، وبخاصة ما لقي مسجدها وقصورها وحماماتها، فإنها ذهبت طعمة للنيران، وكانت دمشق قبل هذه النكبة من أجمل مدن الدنيا وأفخمها، وقد أكثر الشعراء والكتاب من رثائها ووصف هذه النكبة، فمن ذلك قول بهاء الدين البهائي:
لهفي على تلك البروج وحسنها
صفت بهن طوارق الحدثان
لهفي على وادي دمشق ولطفه
وتبدل الغزلان بالثيران
جناتها في الماء منها أضرمت
فعجبت للجنات في النيران
كانت معاصم نهرها فضية
فتخضبت منها بأحمر قان
لو عاينت عيناك جامع تنكز
والبركتين بحسنها الفتان
وتعطش المرجين من أورادها
وتهدم المحراب والإيوان
لأتت جفونك بالدموع ملونا
دمعا حكى اللولو على المرجان
لهفي على تلك العلوم ودرسها
صارت مغانيها بغير بيان
أعروسنا لك أسوة بحماتنا
في ذا المصاب فأنتما أختان
غابت بدور الحسن عن هالاتها
فاستبدلت من عزها بهوان
ناحت نواعير الرياض لفقدها
فكأنها الأفلاك في الدوران
وقال بعض أدباء الشهباء يرثيها، ويصف ما حل بها:
يا عين جودي بدمع منك منسكب
طول الزمان على ما حل في حلب
من العدو الذي قد أم ساحتها
ناح الغراب على ذاك الحمى الحرب
ويلاه ويلاه يا شهبا عليك وقد
كسوتني ثوب عز غير منسلب
من بعد ذاك العلا والعز قد حكمت
بالذل فيك يد الأغيار والنوب
وأصبح المغل حكاما عليك ولم
يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب
وفرقوا أهلك السادات وانتشروا
في كل قطر من الأقطار بالحوب
وخربوا ربعك المعمور حين غدوا
يسعون في كل نحو منك بالنكب
وخربوا من بيوت الله معظمها
وحرقوا ما بها من أشرف الكتب
لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت
سبي الحريم ذوات الستر والحجب
يأتي إليها عدو الله يفضحها
ويجتليها على لاه ومرتقب
2
وقال المؤرخ ابن عربشاه: «وبينا كان رجال تيمورلنك يحاصرون قلعة دمشق أخذ هو يتطلب الأفاضل وأصحاب الحرف والصنائع وأرباب الفضائل، واستمر نهب عسكر تيمورلنك لدمشق ثلاثة أيام، وارتحل هو وجماعته، وقد أخذوا من نفائس الأموال فوق طاقتهم، وتحملوا من ذلك ما عجزت عنه قوى استطاعتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل ... وأصبحت القفار والبراري والجبال والصحاري من الأمتعة والأقمشة كأنها سوق الدهشة
3 ... وأخذ تيمورلنك معه من الدماشقة أكثر أهل الفضل وأرباب الصنائع، وكل ماهر في فن من الفنون أو صناعة من الصناعات من النساجين والخياطين والنجارين والأقباعية والبياطرة والخيمية والنقاشين والقواسين والباز دارية، وبالجملة فإنه أخذ أهل كل فن، كما أخذ جملة من العلماء وربما أخذ ناسا من الأعيان والسادة النبلاء، وكذلك فعل كل أمير من أمرائه وزعيم من زعمائه.»
4
ولم يرحل عن دمشق إلا بعد أن تركها أطلالا، ثم رجع ثانية إلى حلب فأتم إحراق ما لم يحرق من قصورها ودورها وأسواقها ومساجدها، وهدم أبراج قلعتها، وقتل من بقي من أهليها، وأخذ معه من أرباب الصناعات والحرف والعلم من بقي حيا، قال المرحوم محمد كرد علي: «خرجت حلب وحماه ودمشق خصوصا من بين مدن الشام بعد فتنة تيمور كالهيكل العظمى لا لحم ولا دم، وأصيبت بنقص في الأنفس وخراب في العمران يبكي لها كل من عرف ما كانت عليه قبل تلك الحقبة المشئومة من العمران وكثرة السكان، ولم يقيض للبلاد سلطان عاقل قوي يداوي جراحاتها، فبقيت نافرة نفارة.»
5
ولما غادر تيمور وأجناده ديار الشام رجع إليها المماليك يحاولون أن يعيدوا إليها شيئا من نضارتها، ويحاولون أن تدب الحياة من جديد في جسمها على الرغم من سوء إدارة السلطان الملك الناصر، ولكن وجود هذا الرأس الفاسد كان يحول دون كل تقدم، ولذلك عمل عقلاء الأمراء المماليك إلى خلعه على الشكل الذي سنفصله في القسم الخاص بتاريخ مصر، ولم تتحسن الأمور بعد خلعه؛ بل مرت بفترات سوداء وأحداث مزعجات انتهت بسلطنة الملك المؤيد شيخ، ثم بهلاكه وتولية ابنه وهو طفل في المهد، ثم خلعوه وولوا مكانه الأمير ططر، ولم يكن أفضل حالا من سابقيه، وعاشت البلاد حقبة كلها بلاء ومصائب إلى أن تولى عرش البلاد في الشام ومصر رجل عاقل عامل مصلح هو الأشرف برسباي؛ فاستقامت أحوال البلاد، وانتعش العباد.
تسلطن الملك الأشرف برسباي في سنة 825ه وظل في الملك إلى سنة 841ه فعادت البلاد إلى شيء من الرخاء والحضارة، ولما توفي تملك ابنه الملك العزيز يوسف فعادت الفوضى إلى البلاد إلى تملك الملك «قايتباي» 872-901ه وكان من أحزم السلاطين وأميلهم إلى العمران، وفي أيامه تحرك السلطان حسن الطويل صاحب العراقين وسار نحو حلب، فانتدب «قايتباي» الأمير يشيك الدوادار نائب السلطنة في حلب للقائه فرده شر رد، وفي عهد «قايتباي» أيضا تحرش الأتراك العثمانيون بالشام لأول مرة في سنة 889ه ولكنهم ردوا على أعقابهم، ولما مات «قايتباي» عادت الفوضى، وتولى على العرش ملوك ضعفاء سخفاء حتى كان الملك الأشرف «قانصوه» الغوري 906-922ه، وكانت الديار الشامية كلها قد وصلت إلى حالة مزرية من الفوضى، على عكس ما صارت إليه بلاد آسية الصغرى العثمانية، فإن الأتراك العثمانيين كانوا قد سيطروا على أرجائها، ونظموا أمورها، وقضوا على مملكة دلغادر «ذي القدرية» وسيطروا على المدن الخاضعة له مثل مرعش والبستان وملاطية، ولما رأى سلطانهم السلطان سليم العثماني ضعف نواب السلطنة المصرية في الشام، وعدم قدرتهم على الدفاع عنها، والوقوف في وجه جيوشه، عزم في سنة 922ه على الاستيلاء عليها، ونفذ عزمه بعد أن شتت الدولة الصفوية على ما بيناه آنفا.
الفصل الثامن
الشام منذ فتح الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
لما أحس السلطان المملوكي «قانصوه الغوري» صاحب الشام ومصر بضعف نوابه في الشام عن لقاء السلطان سليم العثماني جمع جموعه، وسار من مصر إلى حلب، ونزل في مرج دابق، وأخذ يستعد للقاء الجيش التركي العثماني، ثم ترددت الرسل بين السلطانين، وأوعز سليم إلى رسله أن يتظاهروا بطلب السلامة والصلح، فانخدع قانصوه، وبينما كانت جموعه مطمئنة إذا هم بالجيش العثماني يحدق بهم ويفتك فتكته القوية، وقد أعان سليما على التغلب على «قانصوه» خيانة بعض أمراء «قانصوه» وانضمامهم إلى سليم مثل الأمير خاير بك صاحب حلب، وجان بردي الغزالي صاحب دمشق، وقد استطاع سليم أن يقضي على الجيش المصري في مرج دابق، ثم دخل إلى حلب.
واضطربت المدن السورية لذلك أشد الاضطراب، وهرب المماليك، ووثب أهل دمشق بعضهم على بعض، وتسلط الغوغاء والسوقة على الأشراف والأعيان، واضطربت المدن فترة من الزمن إلى أن تم للعثمانيين أمر السيطرة على البلاد كلها، ودخل سليم حماه وحمص ودمشق في مستهل رمضان سنة 922ه وظل في الشام حتى شهر ذي القعدة، ثم سار نحو القاهرة ففتحها كما سنفصله، وبعد أن بقي في القاهرة نحو سنة رجع إلى الشام في رجب سنة 923ه فولى جان بردي الغزالي على دمشق، وأبقى النظام الذي كانت عليه البلاد أيام المماليك، ثم رجع إلى بلاده حيث هلك في شوال سنة 926ه فتولى بعده ابنه سليمان القانوني، ويظهر أن جان بردي أحس باضطراب الأحوال في الدولة العثمانية بعد موت سليم، فعزم على الانفصال، وقد أعانه على ذلك أمراء لبنان وبدو الشام، فتسلطن وسمى نفسه الملك الأشرف، وخطب له على منابر دمشق، وضربت العملة باسمه، وكتب إلى خاير بك في حلب أن يفعل مثله ويعلن انفصاله فلم يقبل، ثم جاءت الجيوش العثمانية ففتكت به وأخضعت أهل دمشق، قال محمد بن جمعة المقار يصف هذه الفتنة: «وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شبان الصالحية - إحدى محلات دمشق - نحو الخمسين، ومن كل حارة نحو المائة، وكذا من القرى، وقيل إن عدة القتلى سبعة آلاف وسبعين، وغط العسكر على الصالحية وجميع الحارات والقرى التي على مسيرة يوم وليلة، فكسروا الأبواب وحواصلها، وعروا النساء فضلا عن الرجال، وأخذوا بعض نساء وجواري وعبيد وصبيان، وعدوا هذه الكائنة على دمشق ككائنة التمرلنك بل كيوم القيامة.»
1
وبعد هذه الحملة العنيفة رأى العثمانيون وجوب تغيير سياستهم في بلاد الشام فولوا رجلا حازما عاقلا هو أياس باشا في دمشق، كما ولوا فرحات بك على طرابلس، وقره موسى على غزة، وأمروهم بحسن السيرة والأخذ بالقوة.
وفي سنة 930ه تولى دمشق خرم باشا وكان جبارا ظالما، وقد صرف همته إلى قتال الدروز في بلاد الشوف، وأحرق ثلاثة وأربعين قرية من قراهم، كما بعث أربعة أحمال من رءوسهم؛ لتعليقها على قلعة دمشق، ورجع من هناك ومعه مجلدات من كتبهم،
2
ثم أخذ الولاة العثمانيون يسيئون السيرة، فتسرع الحكومة العثمانية في نقلهم، حتى لم يبق وال أكثر من سنة، وربما بقي شهرا أو شهرين، فكان هم الواحد منهم سلب الناس، وتفريق كلمتهم، والقضاء على الدروز والموارنة، وإيقاع الفتن بين سكان البلاد، وتمنى الناس رجوع عهد المماليك على ما كان عليه من الفساد لما صاروا يلاقونه من ظلم الولاة العثمانيين وعسفهم، واستلابهم أموال الناس بالباطل، وأخذهم الرشى، وخصوصا حين مات السلطان سليمان القانوني وتولى سليم الثاني، وفي أواخر عهده سنة 980ه وزع القشلق - أي العساكر المشتية على بلاد الشام - ونهب عسكر الدولة بلاد لبنان وما إليها ، وسلبوا سائمتها، وأسرفوا في الظلم حتى كادت الناس تسأل الموت لنفوسها، وأقفرت في لبنان قرى كثيرة، وقتل من الموارنة في تلك المعمعة نحو ثلاثين ألفا،
3
وفي سنة 991ه تولى السلطنة مراد الثالث وعهد بسورية إلى حسن باشا، فكان أول أعماله أن وجه جيشا كبيرا إلى لبنان لحرب موارنته والفتك بهم، وفي سنة 993ه وقعت حادثة سرقة الخزنة السلطانية المصرية في عكا أثناء الذهاب بها إلى الأستانة، فسار حاكم طرابلس جعفر باشا إلى هاتيك الديار، وأعلن الحرب عليها، وأحرق بلاد عكا جميعها، وشتت شمل أمرائها ووجوهها كبني معن وبني عساف وبني سيف، كما فتك بالدروز، وقد لاقى أهل الشام في هذا القرن من الولاة العثمانيين أشد أنواع العسف.
فلما دخل القرن العاشر ازدادت نكباتهم، وكثر تعاقب الولاة عليهم، وكل واحد منهم يسرق وينهب ثم يترك البلاد أو يخلع عنها، وقد بلغ عدد ولاة دمشق خلال هذا القرن واحدا وثمانين واليا، كما بلغ ولاة حلب تسعة وأربعين، وازداد الاضطراب في البلاد حتى أصبحت رتبة الولاية تباع وتشرى كالسلع، وأصبح الوالي جابيا لا غير، والوالي الأفضل عند السلطان العثماني والصدر الأعظم العثماني - أي رئيس الوزراء - هو الذي يزيد في جمع الأموال عن سابقه، يكثر تقديم الهدايا والتقاديم، وقد ازداد البلاء على الأهلين حينما اشتدت حملة العساكر العثمانية المعروفة باسم «الانكشارية» الذين انساحوا في البلاد يفسدونها، ويظهر أن الأعيان والأهالي المساكين الذين ضاقوا ذرعا بالعساكر العثمانية أخذوا يفكرون في التخلص منهم، فنظموا أمورهم، وعزموا على الإفلات من ربقة الأتراك، وكان أول هؤلاء هو أمير بني معن فخر الدين الثاني، فإنه رأى ما تلاقيه بلاده من ظلم الأتراك؛ فشرع في إعداد حملة للتخلص منهم، وقد أحس الولاة العثمانيون بذلك فراقبوا أعماله وحركاته، وأخذوا يضيقون عليه خوفا من امتداد سلطته ونفوذه من جبل لبنان إلى سائر أصقاع الشام، إلى أن كانت سنة 1020ه فطلبت الدولة العثمانية إلى والي دمشق أحمد حافظ باشا أن يتوجه للقضاء على الأمير المعني، كما طلبت إلى ولاة ديار بكر حلب وطرابلس أن يؤازروا والي دمشق، فتوجه الجميع لقتاله في جيش يبلغ ثلاثين ألفا، واستطاع الأمير المعني أن يصمد أمامهم نحوا من تسعة أشهر، ثم رأي أن يترك البلاد مؤقتا ويذهب إلى إيطاليا، فأقام فيها نحوا من خمس سنوات تعرف خلالها إلى النهضة الأوروبية الحديثة، ثم عاد إلى بلاده، وقد أحضر معه بعض المهندسين الحربيين وكثيرا من أهل الصناعات الحربية، وشرع يعد العدة للقضاء على نفوذ الولاة العثمانيين الذين اشتدت مخاوفهم منه بعد أن خضعت له كافة قبائل الدروز والنصيرية والموارنة في الساحل والداخل، وامتد سلطانه من أنطاكية إلى بلاد صفد وبعلبك،
4
وقد حاولت الدولة العثمانية مرات القضاء عليه فلم توفق إلى أن كانت سنة 1043ه فبعثت الدولة والي دمشق أحمد باشا الأرناءوط لقتاله فظفر به وقتل ابنه وأخاه، وسيره أسيرا إلى الباب العالي في الأستانة، فاعتذر للسلطان وعفا عنه وأبقاه عنده، ولكن لما ثار الأمير ملحم في لبنان وكسر الجيش العثماني صدر أمر السلطان بقتل الأمير فخر الدين، وبقتله قضي على فكرة الاستقلال والتخلص من النفوذ التركي، وقد كان هذا الأمير من محاسن الدهر؛ لحسن سياسته وكياسته، وحبه للسير في مواكب الحضارة والتطور.
وفي سنة 1071ه عهدت الدولة العثمانية بولاية سورية إلى أحمد باشا الكوبرلي ابن الصدر الأعظم محمد باشا الكوبرلي، فقدمها، وكان شابا شديد الحماسة، فأغار على بقايا المعنيين وآل شهاب فشردهم من ديارهم، وهدم قصورهم في حاصبيا وراشيا، وقطع نحوا من خمسين ألف شجرة توت كانت مصدر ثروة للبلاد؛ لاستعمالها في إنتاج الحرير الطبيعي، فكسدت الأسواق وفسدت أحوال البلاد، ويظهر أن الدولة العثمانية قد أحست بالفساد وسوء حالة البلاد لسوء إدارة الولاة، وللإقطاعات التي كان يسيطر عليها كثير من الأمراء المحليين، مثل آل شهاب، وآل معن، وآل الحرفوش، وآل سيفا، وآل سرحان، وآل حيمور، فحاوت التخلص منهم، إما بمحاربتهم والقضاء عليهم أو بإيقاع الشر فيما بينهم، وقد استمرت هذه الأحوال القلقة حتى نهاية القرن الحادي عشر للهجرة، فلما جاء القرن الثاني عشر وتولى عرش السلطنة العثمانية الملك مصطفى الثاني 1106-1115ه، وكان رجلا كيسا، رأى سوء الحالة التي صارت إليها الإمبراطورية العثمانية، فأمر بالقيام بإصلاحات واسعة في سائر أنحائها، ولكن ولاته في الشام لم يبدلوا خطتهم، وظلت البلاد على حالتها السيئة، وفي هذه الفترة لمع في الشام نجم أمير من بني شهاب هو بشير الشهابي، وكان على جانب عظيم من الدهاء والذكاء والسياسة، فولاه قبلان باشا والي الشام في سنة 1110ه على إيالة صيدا، فسار بالبلاد سيرة حسنة، وسعى في تقوية السلطان العربي، وامتد سلطانه من حدود بلاد صفد إلى حدود المعاملتين حتى أصبح السيد المطاع في الديار الشامية كلها، ويعتبر عهده من أزهى العصور في هذه الفترة، إلى أن مات في سنة 1119ه.
وفي سنة 1120 تولى الشام نصوح باشا، وكان شديد الفتك والعنف، وظل في ولايته إلى سنة 1126ه، وفي هذه الفترة كثر اللصوص في البلاد، وعمت الفوضى، واضطرب حبل الأمن في أكثر مدن الشام، وخصوصا في لبنان؛ للفتن التي وقعت بين مشايخ المتاولة والأمراء الشهابيين والانكشارية، إلى أن تولى الشام إسماعيل باشا العظم في سنة 1137ه وكان حاكما عادلا فأحبه الناس، وتولى إمرة الحج عدة مرات، وانتهى به الأمر أن غضب عليه الباب العالي في سنة 1143ه فحبس في قلعة دمشق، واستأصلت الدولة العثمانية أمواله وأموال أهله، ثم أفرج عنه فاستقر في دمشق، وأعقب الباشوات أسعد وسعد الدين ومصطفى، وكلهم تولى الوزارة أو الولاية في دمشق أو حماه أو صيدا أو طرابلس، حتى جاء زمن صاروا فيه وحدهم حكام الديار الشامية جميعها، قال المرحوم الأستاذ محمد كرد علي: «عظمت دولتهم؛ لأنهم أخلصوا في الغالب للدولة كل الإخلاص، حتى أمنتهم ووسدت إليهم الأحكام في الشام، وتركتهم يعملون ما يشاءون، وجاء دور وهم حكامها من أقصاها إلى أقصاها، وكان بنو العظم كسائر الأسر القديمة التي تغلبت على بعض أصقاع الشام أمثال بني معن، وبني شهاب، وبني الحرفوش، وبني سيفا، وبني طرابيه، ومنهم الصالح والطالح، وهل هم إلا نموذج من عصرهم، ولا شك أنهم جمعوا أموالا كثيرة؛ لأن حكوماتهم طالت أيامها ، والولاية بالالتزام، فكان الوالي منهم كسائر الولاة يرضي الأستانة بمبلغ ويبقي له بعد كل إسراف مبلغ كبير، وهو الحاكم المتحكم في ثروة البلاد والأفراد.»
5
وفي سنة 1174ه قتل أسعد باشا العظم، وضبطت الدولة العثمانية داره وأمواله، وأخبر مولاه عثمان آغا الكرجي عن ذخائره المخبوءة، فأنعمت الدولة عليه برتبة الباشوية وبتولي دمشق، فتولاها إحدى عشرة سنة، وسار بالناس سيرة حسنة، وفي هذه الفترة ظهر في ديار الشام رجل قوي ذو مطامع وهو الشيخ ظاهر العمر، عهد إليه والي صيدا بجمع الضرائب؛ فقسا على الناس في جمعها، وهابوه فقوي نفوذه، فجمع شيوخ المتاولة والأعراب من حوله، وأغدق عليهم المال فأحبوه، وعظم سلطانه فسمت نفسه إلى الولاية، وطرد والي عكا، ثم والي صيدا، وأخذ يسعى سرا للاتصال بالدولة الروسية، فاتصل بها وحالفته ضد الدولة العثمانية، وأغرته على الاستقلال بالشام كله، وطرد بقايا الولاة العثمانيين، فأخذ يعد لذلك عدته، ويعمل على طردهم من الشام، وضاق عثمان باشا الكرجي والي دمشق به ذرعا، واستنجد بأمير مصر علي بك، وجرت بين الطرفين معارك عنيفة استمرت إلى سنة 1185ه واستولى الجيش المصري بقيادة أبي الذهب على جميع البلاد الشامية من الجنوب حتى حلب، وعظم نفوذ الشيخ ظاهر إلى أن وقع الخلاف بينه وبين المصريين، واضطر أبو الذهب أن يرجع إلى مصر، فاغتنم عثمان باشا الكرجي هذه الفرصة، وأعاد الكرة على الشيخ ظاهر فكسره وكاد أن يفتح عكا، ولكن الشيخ ظاهر وجماعته استطاعوا أن يطردوه عن مدينتهم، ولما استقرت الأمور للشيخ ظاهر كتب إلى علي بك صاحب مصر يخبره بسوء حالة أبي الذهب وخيانته، ثم كتب إلى الإمبراطورة كاترينة ملكة روسية يطلب إليها أن تنجده بأسطول يحارب به الأسطول العثماني، فبعثت إليه بمراكب عسكرية استطاع الشيخ ظاهر أن يحاصر بها الأسطول العثماني، فكسره شر كسرة، وفتكت المراكب الروسية بمدينتي بيروت وصيدا، وأحرقت قسما من الساحل السوري، وهدمت كثيرا من أبراجه بمدافعها الثقيلة حتى ضاق الناس بما حل ببلادهم، واستسلموا للمراكب الروسية، وترك كثير من أهالي بيروت بيوتهم هربا إلى الداخل.
وما زال أمر الشيخ ظاهر العمر منذ ذلك الحين في صعود حتى بعثت الدولة العثمانية بأسطول بحري بقيادة حسن باشا الجزائري في سنة 1189ه، وكتبت إلى كل من محمد باشا العظم والي صيدا وأحمد باشا الجزار أمير السواحل السورية بقتال الشيخ ظاهر العمر، وحين أحس بالخطر أراد أن ينجو بنفسه فلم يستطع، وقتله أحد عبيده المغاربة، وتسلم أحمد باشا الجزار ولاية عكا وصيدا وما إليهما، وأخذ يفتك بآل العمر وأولاده وأنصاره حتى شردهم، وامتد سلطانه من بلاد صفد وأربد ونابلس إلى حيفا ويافا وصيدا وعكا، ولما تم له تطهير البلاد منهم ومن أنصارهم شرع في ترتيب أمور دولته، ثم سيطر على بيروت وبعلبك في سنة 1181ه، ثم عهدت إليه الدولة بولاية دمشق في سنة 1189ه حتى سيطر على الشام كله إلى أن جاء نابليون الفرنسي بحملته على مصر - كما سنفصله في موضعه - وأحس نابليون باجتماع الجيوش العثمانية عليه في الشام وعزمها على محاربته، وقرر أن يفاجئها؛ فاحتل مدينتي حيفا ويافا، ثم قصد عكا وكانت كسرته المشهورة عندها، ورجع خاسرا إلى مصر، ولم يبق فيها طويلا حتى اضطرته الأحوال القلقة في فرنسة إلى العودة من حيث أتى.
وظل أحمد باشا الجزار في ولاية دمشق والجنوب، أما الشمال فكان مستقلا بولاته، وقد تعاقب على حلب في هذا القرن سبعون واليا تركيا قضى أكثرهم في الولاية أشهرا معدودة، ولم يتجاوز بعضهم الخمس سنوات، وكان ولاة دمشق ستة وأربعين واليا في هذا القرن، كان منها نحو نصف قرن تحت حكم آل العظم، وكان لبنان يعيش تحت حكم المتغلبين من الأمراء، وقلما استطاعت الدولة العثمانية القضاء على سلطتهم، أو تمكنت من فرض هيبتها بشكل بارز، وإنما كانت تستعين بإثارة الجار على جاره، وابن العم على ابن عمه ، وكان الولاة في الأغلب يتمتعون بسلطان استقلالي.
الفصل التاسع
مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية
أطل القرن السابع الهجري على الديار المصرية والديار الشامية، وهما في أشد حالات الاضطراب والفوضى كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الخاص بتاريخ الشام في ذلك الحين؛ وذلك لأن الأسرة الأيوبية الحاكمة في القطرين قد فقدت بأسها بعد أن هلك الملك العادل 596-615ه/1200-1218م الذي استطاع أن يعيد مملكة أخيه الملك صلاح الدين إلى وحدة أجزائها بعد أن تقاسمها أبناؤه وإخوته، ومزقوا شملها، فانتهز الصليبيون هذا التفرق، وجمعوا جموعهم في عكا، وساروا نحو مصر، وحاصروا مدينة دمياط، وفتكوا بأهلها فتكة مات الملك العادل على أثرها مكمودا مكبودا، وعادت الفوضى من جديد إلى صفوف الأيوبيين بعد وفاته، فقد تملك بعده ابنه الملك الكامل في مصر، وتملك كل من إخوته الفائز والمعظم والأشرف في الشام والجزيرة، والصليبيون ما زالوا محاصرين دمياط.
وقد عم البلاء كافة الديار المصرية، والملك الكامل يراسل إخوته وأعمامه، ويستحث أمراء الإسلام طرا لمعاونته على طرد الصليبيين الذين ضيقوا عليه الخناق فلم ينصره أحد، وسقطت دمياط بعد حصار ستة عشر شهرا هلك به من أهلها خلق كثير، وغنم الصليبيون ما لا يقدر من الأموال والذخائر، وقد ظل الصليبيون يحتلون ذلك الجزء من القطر المصري ثلاث سنوات وأربعة أشهر، ثم عقد الملك الكامل معهم معاهدة صلح ظهر فيها بمظهر المستخزي الضعيف، وزاد في استخزائه أنه طلب إليهم أن يعاونوه على الفتك بأخويه الملك الأشرف والملك المعظم، وأغرى الإمبراطور فريدريك الثاني ملك الصليبيين على اغتيال أخيه الملك المعظم وإخراج دمشق من سلطانه، فتم له ما أراد، ورجع - أي فريدريك - إلى فلسطين، وسيطر على القدس وما حولها، ثم توجه إلى عكا وصور فاستولى عليهما، واستقر في ملك فلسطين خمسة عشر عاما وهو السيد المطاع في كافة أرجائها.
أما الملك الكامل فإنه رضي بخزيه، وظل في مصر إلى أن هلك في رجب سنة 635ه/1238م فتولى الأمر بعده ابنه الملك العادل الثاني، ولم يطل عهده أكثر من سنتين لم يأت فيهما بعمل صالح ذي قيمة، ثم تآمر عليه أخوه الملك الصالح في سنة 637ه/1240م فخلعه عن العرش، واستولى على الشام ومصر، وحاول توطيد أركان دولته، والقضاء على من يناوئونه من الأمراء، ففر الملك الجواد يونس صاحب ما بين النهرين لاجئا إلى الصليبيين في عكا، وسعى في التوفيق بينهم وبين الملك إسماعيل صاحب دمشق والملك إبراهيم صاحب حمص، وألف الجميع جبهة واحدة ضد الملك الصالح صاحب مصر، والتقت الجيوش المصرية بالجيوش الصليبية ومن معهم، ودارت الدائرة على الصليبيين فردوا على أعقابهم خاسرين، وبلغت أخبار هذا الانكسار إلى أوروبة؛ فخجلت من انكسارات جيوشها الصليبية المتواصلة، وعزم ملوكها وأمراؤها ورجال الكنيسة فيها أن يغسلوا عار هذه الانكسارات بحملة قوية يرأسها الملك القديس لويس التاسع صاحب فرنسة، فجمعوا جيشا كبيرا قوامه خمسون ألف مقاتل مزودين بشيء كثير من الذخيرة والعدد والمراكب، فلما علم الملك الصالح بذلك حصن مدينة دمياط، وأعد أسطولا كبيرا قويا للقائهم، والتقى الفريقان، وانتصرت الجيوش العربية، وأسرت الملك لويس التاسع، ومات الملك الصالح ولم يكن له من البنين إلا ابنه طوران شاه، ولم يكن حازما فلم تطل مدته وقتله الأمراء، وتولت الأمر من بعده شجرة الدر زوجة الملك الصالح، وكانت سيدة ذكية سياسية، فنظمت الجيوش المصرية خير تنظيم، وقاتلت الصليبيين، وكسرت جموعهم عند مدينة فارسكور وانخذل الصليبيون تماما، وكانت هذه الحملة آخر حملاتهم على بلاد الإسلام، وكفى الله المؤمنين شرهم. •••
كان الملك طوران شاه ابن الملك الصالح آخر الملوك الأيوبيين، فتولى الملك سنة 647ه/1249م بعد أن مات أبوه وهو ببلاد الشام، فلما علم بوفاته قدم إلى «المنصورة» حيث كانت ترابط الجيوش المصرية الظافرة، وتقدم الصليبيون يطلبون المصالحة وفداء الملك لويس، فقبل طوران شاه بفدائه مقابل مبلغ عظيم من الذهب، ولكن الأمراء المماليك غضبوا لهذه العملة وثاروا عليه ثم قتلوه في سنة 648ه/1250م واختلفوا فيمن يولونه، ثم اتفقوا على تولية شجرة الدر، واتفقت مع المملوك عز الدين أيبك أن يعينها في مهمتها فتم لها ما أرادت، وتلقبت بعصمة الدين أم خليل المستعصمية، وكان ذلك في صفر سنة 648ه وخطب باسمها على المنابر، وسمت المملوك عز الدين أيبك أتابكا أي مربيا لولي العهد الطفل، ولم ينكر أحد عليها أن تتولى عرش الأيوبيين؛ لما كانت عليه من الحزم والكرم والسياسة إلا أن نقطة واحدة كانت تزعجهم وهي كونها امرأة، ومن هنا قام بعض الأمراء يستفتون خليفة بغداد في هذا الأمر، فأجابهم بكتاب فيه: «... أعلمونا إن كانت الرجال عدمت عندكم حتى نسير إليكم رجلا يصلح للسلطنة، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ...» ولما بلغت هذه الرسالة القاهرة اضطربت شجرة الدر، وأخذت فكرة التملك تخامر نفوس نفر من كبار المماليك، كما عزم قوم منهم على تولية بعض بقايا الأيوبيين، فاختاروا الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك واستطاع جماعة الأمير عز الدين أيبك أن يكرهوا شجرة الدر على التنازل لأيبك، فتنازلت له على أن يتزوجها، وكان لها ما أرادت، ونودي بالأمير عز الدين أيبك الجاشنيكر المملوك التركماني الأصل ملكا على البلاد في آخر ربيع الثاني سنة 648ه، ويظهر أن هذا الحل لم يرق سائر المماليك؛ فاجتمع رؤساؤهم أمثال: فارس الدين آق طاي، وركن الدين بيبرس، وسنقر الرومي، وعزموا على أن يولى الأمر إلى أحد الأمراء الأيوبيين على أن يكون أيبك «أتابكا» للمملكة، واختاروا لذلك الملك الأشرف الأيوبي، وكان فتى لم يتجاوز العشرين من عمره، فخطب لهما على المنابر معا، هذا سلطان وذاك أتابك، والحل والربط لا لهذا ولا لذاك؛ بل لشخص ثالث هو السيدة شجرة الدر.
هذا ما كان من أمر السلطنة في ديار مصر، أما في الشام فإن الملك الناصر صاحب حلب أخذ يعد نفسه للاستيلاء على الشام، فزحف إلى دمشق واستولى عليها، وجمع حوله من بقي من أمراء الأيوبيين؛ لمعاونته في استعادة ملك مصر، وكتب إلى الملك لويس التاسع المقيم في عكا يستمده العون على المصريين، ويعده أن يسلمه بيت المقدس إذا ما تم لهما النصر ، فانتهز لويس هذه الفرصة، وكتب إلى مصر يهدد مماليكها بأنه سينضم إلى الملك الناصر إذا لم يجيبوه إلى عقد معاهدة صلح جديدة تتضمن البنود الستة الآتية: (1)
إلغاء معاهدة «المنصورة» التي أطلق بموجبها الملك لويس من أسره. (2)
إعادة الأطفال الفرنسيين والنصارى الذين أكرهوا على اعتناق الإسلام إلى دينهم. (3)
إعادة رءوس النصارى الصليبيين التي كانت مطمورة في متاريس القاهرة. (4)
إلغاء مبلغ المائتي ألف دينار التي يتعهد الملك لويس بدفعها بعد فكاك أسره كل سنة. (5)
أن تعاد إليه مدينة القدس. (6)
اتفاق الجيشين الصليبي والمملوكي ضد الملك الناصر.
ولما وصل رسوله بكتابه إلى القاهرة وجد المماليك فيها أن لا مندوحة لهم من قبول هذه البنود وعقد هذا العقد فقبلوه، ويظهر أن أمر هذه المراسلة بين المماليك وبين لويس قد علم بها الناصر؛ فبعث بجيش كبير حال دون التقاء الجيش الصليبي بالجيش المملوكي، ثم توجه لقتال المماليك، فالتقى بهم في غزة، ثم في بلبيس، وكادت الدائرة تدور على المماليك، ولكنهم ظفروا أخيرا على الملك الناصر وأصحابه، واضطر أن يخضع لهم، وأن يعود إلى بلاد الشام، وألا يتعدى حدود الأردن، وصفا الملك بعدئذ لمعز الدين أيبك، فخلع الملك الأشرف موسى، واستأثر بالملك دون سائر المماليك، وأخذت نفسه تتعاظم وتستعلي حتى على شجرة الدر، فلم تطق احتمال ذلك، وأمرت بعض جواريها ومماليكها فقتلوه وهو في الحمام، وبلغ خبر اغتياله إلى أصدقائه وزملائه من المماليك، فاحتالوا على شجرة الدر وعملوا على قتلها وتولية الأمير علي بن معز الدين أيبك ولما يبلغ الخامسة عشرة في سنة 655ه/1257م وسموا الأمير قطز «أتابكا» عليه ونائبا للسلطنة، وكان قطز داهية؛ فساس البلاد خير سياسة، وفي عهده كان الهجوم التتري على بغداد، ولما بلغت مصر أخبار التتار وأعمال هولاكو وما فعله بالخليفة وبالعاصمة الإسلامية، وما يبيته لمصر والشام رأى الأمراء المماليك وجوب تمليك رجل قوي على العرش؛ فاختاروا قطزا، والتفوا من حوله.
تولى الملك المظفر سيف الدين قطز عرش مصر والشام؛ فعمل على توطيد أركان الأمن في البلاد، والقضاء على الفوضى ومسببيها، ورأى أن العدو الأول الذي يجب القضاء عليه هو أولئك الشذاذ من الصليبيين الأوروبيين الذين أزعجوا البلاد، وتبين له أن أول ما يجب عمله هو أن يردم مصب النيل من جهة دمياط؛ ليعيق مراكبهم من العبور في مياهه التي كانوا يحتلون الشواطئ المصرية عن طريقها، ثم إنه أتم تخريب أسوار المدينة التي كان المماليك قد هدموها في أيام الملك أيبك سنة 648ه خوفا من مسير الإفرنج إليها، ومحيت بروج المدينة وأسوارها وما فيها، ولم يبق منها إلا جامع يعرف بجامع الفتح وبعض غرف للفقراء، ثم انصرف إلى تحصين القاهرة، وترتيب أمورها، والعناية بحالة البلاد عامة، وبينا هو منشغل بهذا العمل جاءه رسول هولاكو بكتاب ينذره فيه بزحفه، ويحذر الذين يخالفون أمره أن يصيبهم ما أصاب أهل بغداد، ومما قال فيه: ... ويا أهل مصر أنتم قوم ضعاف، فصونوا أنفسكم ودماءكم مني، ولا تقاتلوني فتندموا.
ولما قرأ قطز كتاب هولاكو غضب بشدة، وقتل رسول هولاكو، ورد عليه بكتاب يتوعده فيه، فلما بلغ الرسول إلى سورية رأى أن هولاكو قد رحل عنها إلى بلاده، وسلم أمر الجيش إلى قائده كتبغا، ولم يلبث قطز أن جمع زعماء المماليك ورجالات البلاد، وخطب فيهم مبينا لهم سوء معاملة المغول وقسوتهم، ومعددا لهم سوء أحوالهم وأعمالهم الوحشية التي ارتكبوها في دار الخلافة وعواصم الشام، وذكر لهم أن الخطر محدق بهم إذا ما تهاونوا في قتال عدوهم، فعاهدوه على الاستماتة في سبيل البلاد والذود عن حياضها، ثم أخذ ينظم جيشه، ويعد عدته، وسار نحو فلسطين حيث التقى الجيشان في عين جالوت، ودارت الدائرة على المغول، وقتل قائدهم كتبغا، وأسر ابنه، وتفرق جنده، وغنم المصريون غنائم عظيمة، وعاد الجيش المصري وعلى رأسه الملك قطز إلى مصر وهو مرفوع الرأس، ولكن لم يتم له الفرح؛ فقد تآمر عليه بعض مماليكه وقتلوه وهو في الطريق، ولم يدم حكمه إلا نحوا من سنة، وولوا مكانه المملوك بيبرس البندقداري 658-676ه/1260-1272م وكان رجلا حازما بطلا سار بالناس خير سيرة؛ ففرحوا به، وأول عمل قام به هو أنه اتخذ الأمير الصالح بلباي الخارتدار نائبا للسلطنة؛ لما يعرفه عنه من الإقدام والإخلاص والدهاء، وسلمه إدارة شئون البلاد، فأطلق من كان في السجون من المماليك، ووزع عليهم الأموال والهدايا، وأحسن إليهم فأحبوه، ودعاهم إلى الالتفاف حوله للدفاع عن بلادهم من غارات الصليبيين والمغول، ثم التفت إلى العامة فأزال عنهم كثيرا من الضرائب والمكوس الظالمة، وأخذ أموال الزكاة بحسب الفريضة الشرعية، وفتح باب قصره لاستماع شكاوى الناس، وأرسل كتبا ورسلا إلى عمال الولايات والممالك يوصيهم بأن يسيروا بسيرته، ويحذرهم من الظلم، فعم الخير وانتشرت الطمأنينة.
ولما رأى التتار في الديار الشامية هذه السياسة الجديدة التي يتبعها الملك بيبرس خافوا مغبتها، وسعوا إلى إيقاع الفتنة بينه وبين عماله، وتمكنوا من إثارة الأمير سنجر صاحب الديار الشامية ضده، فشق عصا الطاعة ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك المجاهد، فسار إليه بيبرس، ولكن جيوش التتار تلقت بيبرس، فتغلب عليهم وسار نحو سنجر، وعلم بذلك سنجر فاعتصم بدمشق التي قنطت من فوزه، ففتحت أبوابها لبيبرس، ونال المماليك الموالون لسنجر ما يستحقون، ورجع بيبرس إلى مصر وقد انتظمت له أمور الشام ومصر، وهدأت البلاد؛ فعكف على الإصلاح وإشادة المدارس العظيمة والمدارس الضخمة التي ما تزال آثارها ماثلة إلى أيامنا.
وفي السنة الثانية لولايته 659ه فكر في إعادة الخلافة الإسلامية العباسية إلى سابق مكانتها؛ ليقوي عرشه، ويرفع من شأن مصر في العالم الإسلامي، وكان قد علم أن أحدا من بني العباس قد نجا من مذبحة هولاكو، واسمه الإمام أحمد، وهو ابن الخليفة الظاهر ابن الخليفة الناصر ابن الخليفة المستنصر، فكتب إليه يدعوه إلى مصر، وخرج للقائه بنفسه من المطرية في كوكب مهيب، ثم توجها إلى القاهرة معا، ودخلاها من باب النصر، واستقبلا استقبالا لم يسمع بمثله، ولما وصلا القلعة حيتهما أمراؤها ووجوه البلدة، وبعد أيام أراد بيبرس أن يثبت نسب الإمام أحمد، فعقد لذلك مجلسا شرعيا أثبتت فيه صحة نسبه، ثم بايعه بالخلافة، وتلقب بالخليفة المستنصر بالله، ولم يكن لهذا الخليفة أي نفوذ سياسي أو عسكري، وإنما كان سلطانه دينيا ، وهذا ما كان يهدف إليه بيبرس.
ولما استقرت الأمور لبيبرس في مصر والشام، رغب في العراق وجهز جيشا أنفذه مع الخليفة لإخراج التتار من بغداد، وقد بلغت أخبار هذا الجيش إلى العراق، فجمع التتار جموعهم، والتقوا بالجيش المصري ففرقوه وقتلوا الخليفة، فتولى الخلافة من بعده أحد بنيه، وتلقب بالحاكم لأمر الله، وما أن بلغ الصليبيين خبر انكسار الجيش المصري طمعوا في مصر من جديد، وعلم بهذا عيون بيبرس في الشام فكتبوا إليه، فاستعد لهم، وكتب إلى صاحب بلاد القفجاق عدو أبقا خان ملك التتار يطلب إليه أن يحالفه ضدهم، كما كتب إلى القيصر صاحب القسطنطينية يحالفه ضد الصليبيين والبابا خصم القيصر، فقويت أواصر المودة بين القيصر وبيبرس حتى شاد القيصر في القسطنطينية مسجدا للمسلمين في حاضرته، واستحصل من بيبرس على إذن بالسماح لبطريك الطائفة الملكانية في دولته،
1
ولم تقتصر مساعي بيبرس على هذا؛ بل إنه قوى صلاته بالعالم وعظماء ملوكه كملك إسبانيا، وملك نابولي، وسلاجقة آسيا الصغرى فحالفوه ضد التتار الطغاة الذين طبقت قساوتهم الآفاق.
ولما رتب بيبرس أموره الداخلية والخارجية عزم على قتال الصليبيين الذين لا يزالون يتحكمون في بعض بقاع فلسطين؛ فهاجم مدينة قيصرية، وهدم أسوارها المنيعة، واشترك هو بالمعارك، وهدم الأسوار، وتحمس الجنود المصريون، وأعملوا سيوفهم في بقايا الصليبيين فأثاروا في قلوبهم الرعب، ثم توجهوا إلى دمشق ففتحت لهم أبوابها، ولم يجدوا فيها عدوا؛ لأن هولاكو كان قد مات؛ فتشتت شمل جنوده المغول، ثم رجعوا إلى القاهرة فاستقبلهم أهلها أجل استقبال، ولم يستقر بيبرس في القاهرة حتى وجه حملة قوية إلى أرمينية ففتح بلادها وهدم عاصمتها «سيس» واستولى على غنائم كثيرة، وفي سنة 666ه استأنف حروبه مع بقايا الصليبيين؛ فاستولى على يافا وأنطاكية وصافيتا ومرقب، ثم جهز أسطولا قويا لفتح جزيرة قبرص التي كان الصليبيون يستعملونها قاعدة لهم ولتموينهم، ولكنه لم يوفق في حملته فقد تحطم الأسطول بعواصف شديدة لاقته في طريقه، ولم يفل هذا من عزمه في القضاء على الصليبيين في سورية وما جاورها، فقد جمع جيوشه واتجه من جديد نحو قلاع الصليبيين في سورية؛ فحطمها حصنا حصنا، وبعد أن تم له الاستيلاء على كافة قلاعهم في الساحل السوري، وفي سنة 670ه سار لمحاربة الباطنيين الملاحدة في شمال سورية والعراق؛ فقضى عليهم، ثم توجه لقتال التتار الذين حاولوا غزو سورية من جديد، والتقى الجيشان عند مدينة البيرة، وانكسر التتار، ثم توجه إلى أرمينية ففتحها من جديد بعد أن نقض الأرمن عهدهم.
وفي سنة 674ه قام بحملة على بلاد النوبة الذين شرعوا في مهاجمة جنوب مصر فأدبهم، وتعهدوا له بدفع الجزية مع عدد من الفيلة والزراف والتحف، وفي سنة 675ه وافته الأخبار بأن التتار أغاروا على آسية الصغرى وشمالي الشام، فتوجه إلى حلب والتقى بجمعهم، وكان له النصر، ولحق بسلطانهم الفار أباقا خان عند الأبلستين، وكانت معركة هلك فيها من الطرفين عدد كبير وانكسر التتار، وفي سنة 676ه سار نحو أنطاكية لزيارة جنده المرابطين في الثغور، وبينا هو في رحلته هذه إذ شعر بالحمى، فقصد دمشق، وأدركه الأجل وهو في طريقه إليها، فكتم الأمراء خبره إلى أن وصلوا إلى دمشق فدفنوه في الثامن عشر من المحرم سنة 676ه تحت قبة المدرسة الظاهرية الكبرى، وبموته انطوت صفحة خالدة فيها كثير من أنباء البطولة والصلاح وحب الخير وحماية الإسلام والعروبة ونشر الفضل والعلم، وقد امتد نفوذه من جنوبي بلاد مصر إلى أقاصي الفراتين، ومن تخوم آسية إلى سيف البحر الأحمر، وقد شاد في عواصم هذا الملك كثيرا من القصور والمساجد والمدارس والبيمارستانات والخوانق والربط والخانات التي ما يزال أكثرها مزدهيا بجماله العمراني وحسن ريازته، ومن أجمل هذه الآثار دار الكتب الظاهرية التي تضم رفاته في دمشق.
ولما توفي الظاهر بيبرس اتفق الأمراء جميعا على مبايعة ابنه الأمير محمد بركة خان في سنة 676ه/1277م وتلقب بالملك السعيد في حفلة جد فخمة، وكان الملك السعيد فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة، وكان فيه كثير من نزق الشباب وطيشه، ولكنه ورث عن أبيه شيئا من الشدة والحزم، وما أن اعتلى أريكة الملك حتى أقصى الأمراء والمماليك الذين كانوا مقربين في عهد أبيه، وقرب إليه طائفة من المماليك الشباب الأغرار؛ فتباعدت عنه رجالات الحل والعقد والحكمة والكياسة، وتألم زعماء البلاد من هذا التصرف الأخرق، وعزموا على التخلص منه، ولكن فتنة وقعت في دمشق جعلتهم يغضون النظر عن الملك السعيد وتصرفاته، فقد وردت أخبار من بلاد الشام بأن الأمير سنجر الأشقر صاحب دمشق قد أعلن عصيانه على مصر وسمى نفسه سلطانا وتلقب بالملك الكامل كما أسلفنا، واضطر الملك السعيد أن يسير إليه، وبينا كان يحاصره في دمشق وجد أحد أمرائه أن الجند أخذوا يتسللون هربا فأعلمه بذلك، وعلم أن جنده سيخذلونه فرجع إلى القاهرة، ولكن جنده منعوه من دخولها، فلجأ إلى قلعة الجبل، ولكن الجند حاصروه، فاضطر أن يسلم نفسه، وكادوا أن يقتلوه لولا أن الخليفة الحاكم بأمر الله منعهم من ذلك، فخلعوه في ربيع الأول سنة 678ه/1279م ونفوه إلى قلعة الكرك، ولم يطل عمره بعد ذلك إلا فترة قصيرة، ثم ولوا أخاه الأمير بدر الدين سلامس، ولم يكن له من العمر إلا سبع سنوات وأشهرا، وأقاموا الأمير سيف الدين قلاوون الألفي أكبر الأمراء «أتابكا» عليه، فلم يلبث قلاوون أن خلع سلامس، ونادى بنفسه سلطانا في أواخر سنة 678ه وتلقب بالملك المنصور، ولم يلبث قليلا حتى داهمت جيوش المغول بلاد الشام، وأخذت تفتك بالأهلين وتحرق المدن، وقد لقيت الديار الحلبية وحلب نفسها من فظائعها ما يضيق القلم عن ذكره، ولما بلغت أخبارهم دمشق هاج أهلها، وسار قلاوون على رأس جيش إلى الشام فالتقى الجيشان، وتشتت شمل المغول وقتل أميرهم منكو تمر، ومما هو جدير بالذكر في هذه الفترة أن فلول الصليبيين الذين كانوا في بعض ثغور الشام انتهزوا فرصة هجوم التتار فأغاروا على البلاد، وفتكوا ببعض المدن والقرى، فلما انتهى السلطان قلاوون من تشتيت المغول زحف على أولئك الصليبيين فأخضعهم، وعقد معه البرنس بومنت ملك طرابلس هدنة أعلن فيها خضوعه، ثم رجع السلطان إلى مصر، وأخذ ينظم أمور البلاد الداخلية، وعهد بولاية عهده إلى ابنه علي الصالح، ولكن عليا قضى في سنة 687ه، فحزن عليه أبوه أشد الحزن، وآلى على نفسه أن يخرج في حملة قوية ضد الصليبيين يفرج بها عن كرهه، فزحف على رأس جيش كبير إلى طرابلس الشام، وكانت تحت نفوذ الصليبيين منذ أكثر من قرن ونصف قرن فافتتحها، وذبح من الصليبيين مذبحة عظيمة ثم رجع إلى مصر، ولكن حرقته على ابنه ما زالت مسيطرة عليه إلى أن أدركه أجله في سنة 685ه/1290م فحزن الناس لموته، ودفن في البيمارستان العظيم الذي شاده في القاهرة، وكان قلاوون ملكا عادلا شجاعا مقداما، وطد الأمن في البلاد الشامية والمصرية والحجازية، وأذاق الصليبيين والمغول مر العذاب، وله آثار عمرانية جليلة أهمها: البيمارستان القلاووني، والمدرستان في القاهرة، وكثير من الخانات والربط والجوامع، كما أنه كان مغرما بالاستكثار من المماليك حتى قيل إنه كان يملك اثني عشر ألف مملوك جركسي ومغولي، وقد أسكن نحوا من أربعة آلاف واحد منهم في بروج القلعة، وقد عرفوا بالمماليك البرجية تمييزا لهم عن المماليك البحرية، وقد لعبوا بعد وفاته دورا هاما في تاريخ مصر والشام.
ولما مات قلاوون تولى الملك بعده ابنه السلطان صلاح الدين خليل 689ه/1290م وتلقب بالملك الأشرف، وكان سلطانا حازما جهز في سنة 690ه . حملة بقيادته على الصليبيين في عكا التي كانت الحصن الحصين الوحيد الذي بقي بيد الصليبيين، فدكه وشرد جموعهم على الرغم من نجدة أهالي جزيرة قبرص لهم،
2
وعلى أثر سقوط عكا خاف الصليبيون من المسلمين على أنفسهم؛ فتركوا سائر قلاعهم وحصونهم في بيروت وصيدا وصور، وفر قسم كبير منهم من البلاد، وعاد السلطان إلى القاهرة ظافرا وبين يديه آلاف من الأسري الصليبيين، وبسيفه البتار قضى عليهم قضاء مبرما، ولم ترتفع لهم عقيرة بعدئذ.
ثم وجه السلطان خليل همته إلى قتال المغول؛ ففي سنة 692ه اتجه نحو حلب ومنها إلى آسية الصغرى حيث أعمل السيف فيهم وفيمن معهم من الأرمن، وفتح بلاد أرزن الروم، وذاع صيته في البلاد الشمالية والشرقية كلها وهابه الناس، ثم رجع إلى القاهرة، ولم يلبث طويلا حتى فاجأه أحد المماليك بضربة خنجر أردته قتيلا في سنة 693ه/1293م ونادى هذا القاتل - وكان اسمه بيدار - بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك القاهر، فلم يلبث إلا يوما واحدا حتى قتله أحد مماليك السلطان خليل، وبايعوا أخاه محمد بن قلاوون ملكا ولقبوه بالملك الناصر، وكان هذا فتى لم يتجاوز التاسعة من سنيه، فأقاموا الأمير زين الدين كتبغا قيما عليه و«أتابكا»، وكان من مماليك أبيه، ولكنه لم يلبث أن خلع الناصر ونفاه إلى الكرك، ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك العادل في سنة 694ه/1294م، وفي عهده أصابت الديار المصرية مصائب عظام من طاعون وقحط وبؤس، وهلك من أهلها خلق كثير لسوء إدارته، وكانت ثالثة الأثافي في عهده حادثة العويراتية وهم قبيلة من المغول فرت من بلادها لاجئة إلى الديار الشامية، فلما بلغ خبرها إلى كتبغا استقدم أكابرها إلى مصر؛ لأنهم من جنسه، وكانوا نحوا من ثلاثمائة رجل، فأنعم على رئيسهم طرغاي برتبة عالية وعليهم، ومكنهم من وظائف الدولة فعاثوا فيها فسادا حتى قال محمد بن دينار الشاعر يصف حالة البلاد بسببهم: ربنا اكشف العذاب عنا فإنا
قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانسلقنا
وانطبخنا في الدولة المغلية
ولكن السلطان سكت عنهم وشجعهم على الرغم من كل أعمالهم الظالمة، فغضب أهالي مصر وكثير من أمراء المماليك، وثاروا على السلطان وجماعته المغول، فاضطر إلى الهرب والنجاة بنفسه، وذهب إلى دمشق، ولكنه فوجئ بأن نائبه فيها الأمير حسام الدين لاجين قد خلع طاعته، ونادى بنفسه سلطانا، فأذعن له، وأشهد على خلع نفسه، ثم إن لاجين نادى بنفسه سلطانا على مصر والشام في سنة 696ه/1296م وتلقب بالملك المنصور، وسمح لكتبغا أن يقيم في صلخد، وأمسك طرغاي وكثيرا من أمراء العويراتية وسجنهم في الإسكندرية، ثم انصرف إلى تنظيم شئون البلاد، ومحو كثير من الضرائب الظالمة، وتقوية الجيش حتى تمكن من تسيير حملة قوية إلى آسية الصغرى فتحت بلاد «سيس» وآدنة.
وفي سنة 698ه/1299م بعث الأمير قفجاق على رأس فرقة عسكرية إلى حلب، فقد بلغه أن المغول ينوون مهاجمتها، وسارت الحملة إلى حلب، ولكن الأمير قفجاق تآمر مع المغول، وانضم إلى ملكهم غازان ، فغضب السلطان من مقلته اللئيمة هذه، وعزم على التوجه بنفسه إلى حلب، ولكن بعض أنصار الأمير قفجاق انقض عليه وقتله وهو يلعب بالشطرنج في أواخر تلك السنة، ثم تولى الأمير سيف الدين طقجي على السلطنة، وتلقب بالملك القاهر، ولم يلبث إلا يوما واحدا؛ إذ قتله أنصار الملك الناصر بن قلاوون، وأعادوا صاحبهم من منفاه في قلعة الكرك تلك السنة 698ه وكان عمره خمس عشرة سنة فسلطنوه، وأقاموا أحدهم الأمير سلار المنصوري نائبا للسلطنة، كما أقاموا الأمير بيبرس الجاشنيكر رئيسا للقصر، واشتد التنافس بين هذين، وكادت الفتنة أن تقع بينهما لولا أن الخطر المغولي داهم البلاد، فإن غازان عاد من جديد يريد الاستيلاء على الشام فلاقته جيوش مصر سنة 698ه عند مدينة سلمية، وكان عدد المغول نحوا من مائة ألف مقاتل، والجيش المصري يبلغ ثلث هذا العدد، فدحر الجيش المصري بعد أن أبلى بلاء حسنا.
ونكبت البلاد من جديد بالمغول؛ فتهدمت مدنها، واحترقت زروعها، وأخذ الناس يهجرونها، ولما قارب وصول غازان إلى دمشق خرجت إليه وفود من أهلها تعلن خضوعها، فأمنهم على أنفسهم وأهليهم، ثم دخل المدينة، وأعلن من على منبر جامع بني أمية أنه لن يؤذي أحدا مسالما، وأنه يكفل للناس جميعا من مسلمين وأهل ذمة حقوقهم ما داموا مسالمين، ثم إنه سمى نائبا عنه في المدينة وغادرها، ولما بلغت أخبار دخوله إلى الملك الشاب ثارت ثائرته، وجمع جمعه وسار نحو الشام، والتقى بالمغول فشتت شملهم، ودخل دمشق، وطهر البلاد من المغول، ثم قفل راجعا إلى مصر، ثم علم أن بعض أعراب الصعيد في مصر السفلى قد عصوا، فبعث إليهم من أخضعهم، وهدأت له البلاد، وأخذ نجمه يعلو على الرغم من حداثة سنه، وبينا كان منصرفا إلى تنظيم أمور الدولة جاءته أخبار من عيونه في الشام أن غازان المغولي قادم إلى سورية من جديد، وأنه كتب إلى الصليبيين في إيطالية وإنكلترة يستنفرهم على قتاله، فكتب إليه منذرا موبخا على استنصاره بالكفار مع أنه مسلم،
3
ويظهر أن غازان قد استحى من عمله، فكتب إلى السلطان الناصر يعتذر ويهادن، واستراحت البلاد فترة ما، فانتهز السلطان الفرصة وجهز حملة بحرية على الصليبيين في جزيرة أرواد ففتحها، واستولى على بعض القلاع التي كانت باقية في أيديهم.
وفي سنة 703ه/1303م زحف المغول من جديد على الشام بجيش فيه نحو مائة ألف مقاتل وعلى رأسهم قطلو شاه، فلاقاه السلطان، وكادت الدائرة تدور على الجيش المصري لولا أن السلطان الشاب سار في الطليعة فنصره الله، وجهز في سنتي 704-705ه حملتين إلى آسية الصغرى التي كان أهلوها من الأرمن لا يفتئون يعبثون بمن حولهم من المسلمين، وكانت هاتان الحملتان درسين قويين للأرمن، ووقع صاحب مدينة «سيس» عاصمة الأرمن في حصار شديد، واضطر أن يدفع كل ما كان متأخرا عليه من الجزية للملك الشاب.
وفي سنة 708ه شجر خلاف قوي بين الأمير سلار نائب السلطنة وبين الأمير بيبرس رئيس القصر، وانقسمت البلاد قسمين، فأراد الملك الناصر التخلص منهما جميعا، واتفق هو وأمير القلعة على قتلهما، ولكنهما أحسا بالأمر فاتفقا عليه، وأرادا الفتك به، فاستطاع أن يفلت من حبالتهما، وتوجه يريد الحجاز، فلما بلغ الكرك، وكان له فيها أموال وعقار، فاستولى عليه وهيأ نفسه للقائهما، ويظهر أنه لم ير بدا من التخلي عن الملك مؤقتا، فأعلن تنازله عنه، وبعث بالختم السلطاني إلى أهل مصر، واجتمع أهل الحل والعقد فيها سنة 708ه وأجمعوا أمرهم على انتخاب بيبرس سلطانا عليهم ولقبوه بالملك المظفر، وكان رجلا كيسا صالحا، فجمع حوله الأمراء والمماليك، وأبان لهم الخطر المحدق بالبلاد، واقترح عليهم إقامة جسر من القاهرة إلى دمياط خوفا من قدوم الصليبيين بحرا في أيام الفيضان فيتعذر الوصول إلى دمياط فوافقوه على ذلك، واشترك في العمل أكثر من 30 ألف رجل و600 رأس بقر، وتم ذلك في قرابة شهر، وكان طوله من دمياط إلى قليون، وعرضه أربع قصبات من أعلاه وست من أسفله، تمشي عليه ستة رءوس من الخيل صفا واحدا،
4
ثم انصرف إلى إدارة البلاد بحزم وكياسة ، وشيد بعض المساجد والقصور، ولكنه فوجئ بتحرك أنصار الملك السلطان الناصر بن قلاوون وعملهم على إقصائه وإعادة زعيمهم، وزاد نشاطهم حينما بلغهم أن الناصر قد غادر الكرك إلى دمشق، وأن أمراءها بايعوه ونبذوا عهد بيبرس، وأنه عما قريب قادم إليهم في مصر، فثاروا على بيبرس واضطروه إلى أن يخلع نفسه ويفر إلى الصعيد في سنة 709ه/1309م ولم يمض غير فترة حتى دخل الناصر مصر فرحب به أهلها، وبايعوه للمرة الثانية على عرش مصر، فلم يلبث طويلا حتى قتل الأمير سلار، وصادر أمواله وكنوزه،
5
ثم انصرف إلى تهيئة جيش لمحاربة الأعداء التقليديين في آسية الصغرى، وبلغ الجيش ملاطية وفتك بأهلها، ثم كتب إلى السلطان أبي سعيد ملك المغول فعقد صلحا على ما بيناه في أخبار العراق، وعاشت البلاد الشامية والمصرية في هدوء ومأمن من المغول إلى أن كانت نكبة تيمورلنك.
وفي عهد الملك الناصر عمرت بلاد الحجاز، واستتب فيها الأمن، وبعثت البعوث إلى جنوب وادي النيل حتى بلغت سواكن، وفي عهده بلغت دولة المماليك أوجها، واستكثر هو من المماليك حتى قيل إنه كان يقدم لهم كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل دقيق، وأن عددهم كان اثني عشر ألف مملوك،
6
وظل هو في الملك ثلاثا وثلاثين سنة، ومات سنة 741ه/1341م فتولى الأمر من بعده ابنه سيف الدين أبو بكر وتلقب بالملك المنصور، ولكنه لم يلبث طويلا حتى عزله المماليك ونفوه إلى «قوص» في مصر العليا إلى أن مات في سنة 742ه/1342م وولوا أخاه علاء الدين كجك، فتلقب بالملك الأشرف، وله من العمر ست سنوات، ولم يبقوه إلا خمسة أشهر حبسوه بعدها في القلعة ثم قتلوه، وبايعوا أخاه شهاب الدين أحمد الملك الناصر، الذي كان منفيا في الكرك، ولم يبقوه كثيرا حتى أعادوه إلى منفاه في سنة 743ه ثم بايعوا أخاه عماد الدين أبا الفداء إسماعيل الملك الصالح، فظل في الملك ثلاث سنوات، قتل خلالها أخاه الملك الناصر، وفي سنة 746ه بايعوا أخاه الخامس زين الدين شعبان الملك الكامل، ولم يبق أكثر من سنة وبضعة أشهر عزلوه بعدها وولوا أخاه السادس زين الدين حاجي الملك المظفر، وكان سفاحا شريرا، ولم يبق أكثر من سنة وبضعة أشهر ذبحوه بعدها في سنة 748ه، وبايعوا أخاه السابع ناصر الدين حسن الملك الناصر، فحكم ثلاث سنوات وعشرة أشهر خلعوه بعدها وسجنوه، وولوا في سنة 752ه أخاه الثامن صلاح الدين الملك الصالح فحكم ثلاث سنوات وثلاثة أشهر خلعوه بعدها في شوال سنة 755ه، ثم أطلقوا سراح الملك الناصر من سجنه وأعادوه إلى العرش فبقي ست سنوات وسبعة أشهر ثم قتلوه في سنة 762ه، وله آثار عمرانية منها: مسجده العظيم المعروف في القاهرة بجامع السلطان حسن، ثم بايعوا ابن أخيه محمد ابن الملك المظفر وله أربع عشرة سنة ولقبوه بالملك المنصور في سنة 764ه/1362م، ولم يبق طويلا حتى اضطروه إلى أن يتنازل لابن عمه شعبان بن حسن وله من العمر سنوات عشر ولقبوه بالملك الأشرف، وجعلوا الأمير يلبغا العمري نائبا للسلطنة، وكان رجلا حازما مدبرا، وكانت أيامه أيام سكينة لولا أن سنة 764ه كانت سنة قحط اضطر الناس فيها إلى أكل لحوم الكلاب والقطط، وفي سنة 776ه وقعت فتنة أهلية؛ فقد قتل بعض المماليك الأمير يلبغا العمري، وكادوا أن يقتلوا السلطان نفسه، ولكن أنصاره تمكنوا من إنقاذه، ووقعت البلاد في هرج ومرج عظيمين، ولم تنته هذه الفتنة حتى تمكن المماليك خصومه من قتله خنقا في سنة 778ه، وولوا ابنه علي علاء الدين ولقبوه بالملك المنصور، وأقاموا عليه الأمير سيف الدين برقوق وصيا إلى أن مات علي في سنة 783ه فبايعوا أخاه زين الدين حاجي الملك الصالح وكان طفلا له ست سنوات، واستمر برقوق في وصايته، ولكنه عزم أخيرا القضاء على هذه الأسرة من المماليك البحرية أو التركمانية، ونصب نفسه ملكا لأسرة من المماليك جديدة هي أسرة المماليك الشراكسة المعروفة بالبرجية.
الفصل العاشر
مصر في عهد المماليك الشراكسة
رأينا أن سيف الدين برقوق الوصي على العرش المصري في آخر عهد المماليك البحرية كان قد ضاق ذرعا بما هي عليه الحالة في مصر من اضطراب وقلق في أواخر عهد البحريين، وأنه عزم على خلع الملك الطفل حاجي، وتغيير الوضع جذريا؛ لأن البلاد أصبحت في حالة يرثى لها من ثورة الأهلين، واضطراب أمر المماليك، وسوء الحالة الإدارية العامة؛ فلذلك جمع في آخر عام 784ه مجلسا ضم الأمراء والوجوه والشيوخ في حضرة الخليفة العباس المتوكل على الله، وأعلن لهم أنه يجب وضع حد لهذه المهازل، وأن يتولى أمر مصر رجل قوي يستطيع حفظ البلاد وسد ثغورها، ويستقر أمنها وسلامها في الداخل، وترتفع رايتها في الخارج، فوافقوه على ذلك، وقبلوا به هو ليكون سلطانا عليهم، وأقر الخليفة هذا القبول فبايعه، ثم تعاقبوا على مبايعته بالسلطنة، ولقبوه بالملك الظاهر، ولم يلبث طويلا حتى اكتشف في سنة 787ه أن الخليفة يحاول خلعه وتولية أحد المماليك على عرش مصر؛ فتمكن من الخليفة، وأقصاه عن الخلافة، وسمى أخاه الواثق بالله في مكانه، ولم يلبث الواثق بالله أن مات في سنة 788ه فخلفه ابنه زكريا.
وعمد الملك الظاهر إلى أنصار الخليفة المتوكل عليه من الشيوخ والمماليك ففتك بهم حتى ضاق الناس به، ووقعت في البلاد عدة فتن؛ فمن ذلك أن الأمير يلبغا الناصري صاحب حلب والأمير منطاش صاحب ملاطية هاجما دمشق، ودحرا صاحبها الموالي للسلطان الملك الظاهر، واستوليا على المدينة، ثم زحفا على القاهرة، واضطر الملك الظاهر إلى الهرب واللجوء إلى الكرك، ودخل يلبغا القاهرة، وأعاد السلطان حاجي آخر المماليك البحرية إلى السلطنة في سنة 791ه وأصبح هو صاحب الحول، أما منطاش فإنه لم يلبث أن ثار على يلبغا، والتف حوله أتباع السلطان برقوق، ونشب قتال عنيف بين الطرفين انتهى بفوز أنصار منطاش، فسيطر هذا على الديار المصرية، وسعى في تنصيب نفسه سلطانا، ولم يمنعه من ذلك إلا ما بلغه من أن برقوقا ترك الكرك والتفت حوله جماهير من أهل الشام، فسار منطاش إلى الشام والتقى ببرقوق وجيوشه قرب غزة، وكانت الغلبة لبرقوق، ثم رجع إلى مصر وأحسن سياسته مع الرعية، وأعاد المتوكل على الله إلى الخلافة، وفي سنة 794ه كتب إليه السلطان قره يوسف صاحب العراقين أنه يقدم إليه مدينة تبريز، ففرح بذلك برقوق، وفوض إليه أن يفتتح ما يستطيع من البلاد الفارسية باسمه على أن يكون هو المتصرف بها، وفي سنة 795ه قدم قره يوسف إلى مصر فارا من غزو تيمورلنك، ثم قدمت إليه رسل تيمورلنك تحمل رسائل التهديد والوعيد، فأخذ برقوق يعد العدة للقائه، ولكنه مرض في تلك الأثناء ومات في شوال سنة 801ه/1399م، وكان قبل موته قد عهد لابنه فرج، وأقام الأمير تغري بردي وصيا و«أتابكا»، فلما مات اجتمع الأمراء ونصبوا فرجا سلطانا ولقبوه بالملك الناصر، ولكنه لم يستقر طويلا حتى هاجم الأتراك العثمانيون بقيادة سلطانهم «بايزيد» مدينة ملاطية وما إليها من حدود المملكة الشمالية فاضطربت، وزاد من اضطرابها تلك الثورة الداخلية التي وقعت في دمشق وسائر المدن السورية، وأدت إلى خلع طاعة هذا الملك الفتى، ولكن الملك سار نحوهم بجيش قوي من مصر وفتك بزعماء الثورة، وفتك بصاحب دمشق، وأعاد البلاد إلى سلطنته، ولم يكد يستريح حتى فاجأته جماهير المغول بقيادة تيمورلنك زاحفة عليه بعد أن دمرت بغداد وسائر المشرق، ولقيت حلب وسائر المدن الشمالية من الويلات ما ذكرناه، وسار هو لإنقاذ الشام، والتقى الجيشان المصري والمغولي قرب دمشق، وانتهت المعركة باندحار الجيش المصري، ولقيت دمشق من الفظائع والحرائق ما تشيب لهوله الأطفال، ولم يتركها المغول حتى أضحت كومة رماد وجيف على ما بيناه آنفا.
ثم توجه تيمورلنك إلى آسية الصغرى لقتال الأتراك العثمانيين؛ فأسر السلطان «بايزيد» في سنة 804ه في وقعة أنقرة، وبلغت أخبار هذه المعارك مسامع السلطان فرج فاضطرب لها جدا، ولم يلبث أن جاءه كتاب من تيمورلنك يطلب إليه فيه خضوعه، كما يطلب إليه تسليم أحمد بن أويس وقره يوسف، فرد على كتابه هذا بكتاب لطيف وبهدية جزيلة وأعلن خضوعه، ولكنه لم يقبل بتسليم أحمد بن أويس وقره يوسف باعتبارهما لاجئين سياسيين، ولكنه وعد بأن يسجنهما، فقبل تيمورلنك، وكف بلاءه عن مصر، وهكذا استطاع فرج أن ينقذ القطر المصري من زحف الطاغية عليه وتهديمه كما فعل في العراق والشام.
وفي سنة 806ه هلك تيمورلنك وتخاصم أبناؤه، فاستطاع السلطان فرج أن ينجو من الخطر المغولي تماما، ثم أخذ يستعد لإنقاذ الشام منه، لكنه فوجئ بقيام المصريين عليه، وإعلانهم عدم رضاهم عن تصرفاته، وعمت البلاد ثورة عارمة انتهت بخلعه، وتنصيب أخيه عبد العزيز سلطانا في سنة 808ه/1405م، ولكن فرجا استطاع أن يتغلب على خصومه، ويعود إلى الملك ثانية في أوائل سنة 809ه فسار بالناس سيرة حسنة، ولما أراد استرجاع الديار الشامية أعانوه على ذلك وتم له ما أراد، ولكن لم يلبث مماليك الشام أن أعلنوا عصيانهم وعلى رأسهم جم، فأعلن عصيانه على الشكل الذي أسلفنا تفصيله في القسم الماضي بتاريخ الشام.
وفي سنة 813ه اتفق المملوك أبو النصر شيخ المحمودي مع الخليفة المستعين بالله على خلع السلطان فرج وإقامة الخليفة سلطانا أيضا، وأيدت العامة هذا الخلع لسوء سيرة فرج، وأذاع الخليفة بذلك منشورا قال فيه: «من الإمام أبي الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين إلى أهل مصر، اعلموا أننا قد خلعنا فرج بن برقوق عن سلطنة مصر والشام؛ لأن سيدهما الحقيقي إنما هو الخليفة خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فويل لمن خالفه»، وأذيع هذا المنشور بين أنصار فرج وجنوده فتخلوا عنه، وحاول هو أن ينجو بنفسه فقبض عليه، واقتيد إلى مجلس الخلافة، فحوكم وحكم عليه بالقتل في سنة 815ه/1412م، ثم أجمع القواد والأمراء والأعيان على تسمية الخليفة المستعين بالله سلطانا وخليفة، فسار بالناس سيرة حسنة، وعمل على إصلاح الأحوال واكتساب قلوب الأمراء، واستبشر الناس به خيرا؛ لأنهم أملوا الخلاص من حكم المماليك الأجانب، وعودة الخلافة الإسلامية إلى عهدها، فسلم العرب زمام الأمر، ولكن المماليك أحسوا بالخطر وبخاصة الأمير شيخ المحمودي، فإنه أدرك مغبة هذا الأمر، وأخذ يسعى في الخفاء لإيقاع الخليفة في أشراك دسائسه مستعينا على ذلك بالدس وفض المماليك عن الخليفة، ولما تم له ذلك جهر بفكرته، ودعا الخليفة إلى أن يخلع نفسه ، ولم يكن له في الملك إلا نحوا من سنة، فرأى نفسه لا يستطيع المقاومة، واضطر إلى أن يقبل، ونودي بشيخ المحمودي سلطانا في أوائل عام 815ه/1412م وتلقب بالملك المؤيد أبي النصر، ولم يزل حانقا على الخليفة حتى تمكن أن ينفيه إلى الإسكندرية سنة 818ه وأقام أخاه داود مكانه فلقب بالإمام المعتضد بالله ، ولما بلغت هذه الأنباء أهالي الشام ثاروا على شيخ المحمودي بزعامة الأمير نوروز، وأعلنوا الحرب على شيخ وجماعته، والتقى الجيشان المصري بقيادة شيخ نفسه والشامي بقيادة نوروز، وكانت الحرب سجالا، وهزم نوروز أخيرا، ودخل شيخ إلى دمشق، واقتيد نوروز أسيرا إلى القاهرة، وحاول شيخ أن يهدئ دمشق فسكنت، ولكنها لم تلبث أن أعلنت عصيانها من جديد بعد أن غادرها شيخ، فاضطر إلى العودة إليها ثانية، وفتك بعدد كبير من أمرائها وأعيانها، ولم تهدأ حتى استعمل الشدة، ولما هدأت أخذ يهيئ حملة على آسية الصغرى التي انتهز أصحابها العثمانيون وقوع الحوادث في سورية فأخذوا يعبثون بالحدود الشمالية، وزحف السلطان من مصر في حملة قوية ربيع عام 817ه/1414م على طرطوس وما إليها، واستردها ونصب فيها حاكما من قبله، ثم زار بيت المقدس، ودخل القاهرة دخول الظافرين، ولكنه لم يلبث طويلا أن جاءته الأخبار بأن التركمان قد هاجموا الشام، وأن أهالي حلب اضطروا إلى تركها خوفا من فتك هؤلاء القساة، فبعث السلطان بابنه إبراهيم لاسترجاع ما أخذ التركمان من شمالي الشام فاسترجعه في غزوة موفقة، ثم توغل في فتوحاته حتى بلغ مدينة قيسارية، ثم رجع الجيش المصري إلى القاهرة ظافرا، وأمامه مئات من الأسرى.
وفي سنة 824ه/1421م مرض السلطان وهلك بعد أن شاد عدة أبنية ضخمة، من أجلها مسجده في القاهرة المعروف بمسجد المؤيد قرب باب زويلة، ولما مات خلفه ابنه أحمد الملك المظفر، ولم يكن عمره يزيد على سنة ونصف، وتولى الوصاية عليه الأمير ططر، فلم يلبث أن خلع أحمد، وأعلن نفسه سلطانا، ولكنه لم يلبث طويلا حتى مات فخلفه ابنه محمد في الملك، ولم يلبث إلا بضعة أشهر حتى خلعه وصيه برسباي، ونادى بنفسه سلطانا في مطلع عام 825ه/1422م وتلقب بالملك الأشرف وكان عهده عهد خير، وفاض النيل في أول سنة تولاها فيضانا عظيما، واستبشر الناس به، وشبع الفقراء والمعوزون، وكان رجلا حكيما محبا للعمران ونشر الفضل، فشاد عددا من الدور والقصور والأبنية العامة، ومن أجمل آثاره التي خلفها: جامعه، وقد عمت الخيرات في عهده أنحاء القطرين، ومن أعماله الخالدة: تجهيزه أسطولا ضخما لفتح جزيرة قبرص التي كانت موطنا للقراصنة الذين لا يفتئون يغيرون على سواحل الديار الشامية والمصرية، وقد توجه هذا الأسطول القوي واستولى على فيماغوسطة ولارناقة وليما صول من مدن الجزيرة، وعاد بعدد كبير من الغنائم والأسرى، ومن بينهم الملك جان لوسينيان الثالث ملك الجزيرة، ولما وصل الأسطول الإسكندرية دخلها بأبهة واحتفال مهيب، وكانت الغنائم محملة على الجمال، ومن بينها تاج ملك قبرص من ورائه جواده وأعلامه منكسة، ومن ورائهم الملك نفسه وهو راسف في الأغلال، فلما بلغ حضرة السلطان قبل الأرض وخر مغشيا عليه، فحمل إلى القلعة وتوسطه قنصل مملكة البندقية لفدائه وإطلاق سراحه، فقبل السلطان، وأنعم عليه بثوب ملكي وجواد، وسمح له بمغادرة البلاد إلى جزيرته بعد أن دفع مقدار الفدية وقدره ثلاثمائة ألف دينار، وتعهد بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألفا، وكان المؤرخ المصري أبو المحاسن بن تغري بردي من شهود هذا الاحتفال العظيم.
1
وقد عقد السلطان عدة معاهدات سياسية مع بعض ملوك الصليبيين والعثمانيين، كما أنه حارب التركمان ملوك العراق، وقضى على هجماتهم المتعاقبة على الشام، والحق أنه كان من أعظم ملوك المماليك عامة، قال بعض المؤرخين: «إن الملك الأشرف برسباي أحد الملوك الشراكسة، وأجدرهم بالمدح؛ لأنه كان أعلاهم همة، وأشدهم عزيمة، وأكثرهم تدربا في الأحكام»،
2
وقد استمر في حكمه نحوا من ثمانية عشر سنة كان أكثرها عهد يمن وخير، وفي سنة 841ه/1437م مات وخلفه ابنه أبو المحاسن يوسف الملك العزيز، وله من العمر خمسة عشر عاما، ولم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى ثار عليه المماليك بزعامة سيف الدين جقمق «أتابك» الجيش، وخلعوه وولوا زعيم الجيش جقمق في سنة 842ه/1438م فكان أول عمل قام به بعد أن أخضع الثوار المماليك في الشام أنه بعث بحملة قوية على القرصان الفرنجة الذين كانوا يهاجمون السواحل الشامية والمصرية، كما لقيت جزيرة رودس من الأسطول المصري في عهده ما لقيته جزيرة قبرص في عهد برسباي، وكانت صلات جقمق حسنة مع سائر الممالك الإسلامية المجاورة في فارس والعراق وآسية الصغرى، كما أنه كان محبا للعلم وأهله ولإشادة دوره ومعاهده، وقد ازدهرت التجارة في عهده، ولما أحس بالشيخوخة طلب من الخليفة والأمراء المماليك أن يعفوه من السلطنة ويقبلوا تنازله لابنه عثمان فقبلوا، ونودي بعثمان سلطانا على مصر والشام في سنة 857ه/1453م ولم يلبث سوى أيام مات بعدها.
ولما تولى عثمان تلقب بالملك المنصور، وقد ابتدأ عهده بالقسوة وسلط مماليكه على الناس فلقوا منه بلاء عظيما، وثار الخليفة عليه فخلعه وولى الأمير إينال قائد الأسطول، ولقبه بالملك الأشرف، وكان رجلا مدربا حاذقا، فشرع منذ تولي السلطنة بترتيب أمور المماليك وتنظيم شئون البلاد، ولكنه فوجئ بثورة أهلية دبرها الخليفة القائم بأمر الله الذي كان يطمع في السلطنة، ولكنه استطاع أن يقضي على الثورة وينفي الخليفة، وساءت حالة البلاد وتدهورت، وظلت على ذلك إلى أن مات في سنة 865ه/1460م فخلفه ابنه الشهاب أحمد الملك المؤيد، واستبشر الناس به خيرا؛ لأنه كان فتى قويا حازما تمرس بالملك والإدارة في عهد أبيه، وكان له من العمر ثلاثون سنة، فقام بالإصلاح، وقضى على المماليك المفسدين، فتكاتفوا ضده بزعامة أميرهم خوش قدم الرومي صاحب دمشق، وحاصروه في قصره، واضطروه إلى أن يخلع نفسه بعد أربعة أشهر من سلطنته ونفوه إلى الإسكندرية سجينا، وتسلطن خوش قدم، وتلقب بالملك الظاهر، وكان قويا فانصرف إلى ترتيب شئون الإدارة، وإقصاء العناصر الفاسدة عن الدواوين، وتخليص الدولة من المماليك المشاغبين وفي طليعتهم المماليك الظاهرية الذين كانوا قد ملئوا البلاد فوضى، وعلى رأسهم جاني بك، ثم استطاع أن يلقي القبض على جاني بك وقتله ظانا أن البلاد ستصفو من الدسائس، ولكن شيئا من ذلك لم يقع، واستمر الفساد لوجود زمر أخرى من المماليك كانوا ينشرون الفوضى والرعب في البلاد.
وهكذا فسدت الأحوال الإدارية وتبعتها الأحوال الاقتصادية، فرأى أن يجهز بعض الحملات العسكرية لعله يشغل المماليك بها ويقصيهم عن البلاد؛ فبعث عدة حملات إلى جزيرة قبرص، ولكن ذلك لم يفد، إلى أن وافاه أجله في سنة 872ه، فلما مات عمد كبار المماليك وزعماؤهم إلى تولية الأمير أبي سعيد بلباي ولقبوه بالملك الظاهر في سنة 872ه/1467م فاستبد بالناس والمماليك، وحاولوا خلعه بعد شهرين فلم يستطيعوا أول الأمر، ثم تمكنوا من تولية الأمير أبي سعيد تمربغا الظاهري، ولقبوه بالملك الأشرف أيضا، ولم يبقوه إلا نحوا من شهرين أيضا لسوء سيرته، فخلعوه، وولوا الأمير «قايتباي» الظاهري، وكان هذا رجلا حازما قويا يملك عددا كبيرا من المماليك استطاع بهم أن يقضي على نفوذ منافسيه ويخضد شوكة الأحزاب المتناحرة حتى استتب له الأمر فشرع في تقوية الجيش، فقد بلغه أن السلطان محمد الثاني العثماني قد قهر الملك السلطان حسن الطويل صاحب فارس، وكان بين المصريين وبين الفرس اتفاق وتحالف، وتأكد أن العثمانيين لا بد أن يفاجئوه ويهاجموا الشام، فبعث بحملة قوية رابطت في الحدود الشامية الشمالية، وحدث في تلك الأثناء أن اختلف ابنا محمد الثاني العثماني على السلطنة وهما «بايزيد الثاني» و«جم»، واضطر «جم» إلى أن يلتجئ إلى «قايتباي»، فأكرم وفادته، وأرسل إلى قائد الحملة المصرية المرابطة على الحدود الشامية أن يناجز الجيش العثماني، فاستولى على طرسوس وآذنة وما حولهما، وانكسر الأتراك العثمانيون أمام الجيش المصري، وأسر المصريون قائد الأتراك أحمد خان صهر السلطان «بايزيد» أسيرا إلى القاهرة، فاستشاط «بايزيد» غضبا، وجند جندا كثيرا بقيادة علي باشا للزحف على المصريين، وتم له ذلك في سنة 893ه، فلما علم «قايتباي» بذلك خاف مغبة الأمر فأطلق سراح الأمير أحمد خان، وبعث به على رأس بعثة لعقد هدنة بينه وبين السلطان العثماني، فرفض «بايزيد»، وصمم على محاربة «قايتباي» فاسترد مدينتي طرسوس وآذنة، ولكن المصريين عادوا فاستطاعوا أخذ المدينتين ثانية بعد حرب طاحنة، وخشي «قايتباي» أن تتأزم الحالة بينه وبين العثمانيين، فترك المدينتين، وكتب إلى «بايزيد» يطلب إليه أن يهادنه فتم له ذلك في سنة 896ه.
وكان «قايتباي» مثل بيبرس؛ ملكا حازما مولعا بنشر سلطانه، محبا لرعيته حدبا على المسلمين، ولما بلغه ما يقاسيه أهل الأندلس من النصارى بعث وفدا من رهبان القدس إلى الملك فرديناند يتودد إليه ويتوعده إن هو استمر في تعديه على مسلمي الأندلس، ومما قال لهم: قولوا له إن لم يبق على غرناطة وأهلها فإن كنائس المشرق جميعا ستهدم، ويعطل الحج إلى كنسية القيامة وبيت لحم وسائر الأمكنة المقدسة عند النصارى، ولم يستمر «قايتباي» طويلا بعد ذلك؛ بل أدركته منيته في سنة 901ه بعد أن حكم نحوا من ثلاثين سنة شاد فيها كثيرا من الدور والقصور وأماكن العبادة والعلم، والمشافي والقلاع والحصون، وقد بكى لما بلغه انهدام المسجد النبوي في المدينة، وأنفق على إعادته نحوا من مائة ألف دينار.
ولما هلك تولى الأمر من بعده ابنه أبو السعادة محمد الملك الناصر، وكان فتى أخرق أحمق لا هم له إلا الانغماس في شهواته، وقد خلعه الناس بعد ستة أشهر من توليه، وبايعوا الأمير «قانصوه خمسمائة» ولقبوه بالملك الأشرف، ولكنه كان عاجزا فلم يثبت إلا نحوا من خمسة أشهر، ثم تنازل عن الملك للناصر محمد بن «قايتباي» في سنة 902ه فعاد هذا إلى لهوه وفسقه وجوره حتى ضاق المماليك به فخلعوه بعد ثمانية عشر شهرا في سنة 904ه وولوا عمه «قانصوه» على الرغم منه، فلم يلبث إلا أن خلعوه بعد نحو سنتين، وولوا الأمير جان بلاط، ولقبوه بالملك الأشرف في سنة 905ه/1500م ولم يحكم إلا سبعة أشهر.
وفي سنة 906ه/1501م زحف الأمير طومان باي صاحب الشام على القاهرة فاستولى على القلعة، وخلع السلطان، ونصب نفسه، وبعث جان بلاط أسيرا إلى الإسكندرية، وكان طومان باي ظالما فاجرا، ولم يلبث أن قام عليه المماليك والزعماء فهرب منهم، ولحقوا به فقتلوه في سنة 906ه، ثم أجمعوا أمرهم على اختيار الأمير «قانصوه الغوري» سلطانا، ولقبوه بالملك الأشرف، وكان رجلا تقيا صالحا، بعيدا عن الدسائس، محبا للخير، قويا حازما على الرغم من سنينه الستين، فانصرف أول الأمر إلى تدبير أمور الدولة فاجتمعت له مبالغ ضخمة أنفقها في سبيل الإصلاحات العامة، وتحصين الإسكندرية ورشيد ودمياط، وتنظيم مجاري القاهرة، وإصلاح الزراعة، وإشادة عدة أبنية ضخمة في مكة والمدينة والقاهرة ومن أجلها مسجده العظيم في القاهرة، وفي أيامه أعد أسطول عظيم لحماية البحار العربية الشرقية من غارات القراصنة البرتغاليين الذين أخذوا يهددون سواحل مصر والحجاز واليمن، وبعث كتابا إلى البابا في رومية مع وفد كبير من رؤساء الكنائس المسيحية في القدس ينذر فيه زعماء البرتغال أنهم إن عادوا يحملون على الموانئ العربية والحجازية بصفة خاصة فإنه سيفتك بالنصارى، كما أنذر البابا بأنه إن لم يفعل ما يستطيع في سبيل ذلك فإنه سيعاقب نصارى البلاد بقسوة وعنف شديدين.
وفي سنة 918ه جاء الأمير كركود أخ السلطان سليم الأول إلى مصر لاجئا، فرحب به «قانصوه» الغوري وجهزه بعشرين بارجة، ولكن الأسطول العثماني استطاع أن يفتك بالبوارج المصرية، وزحف السلطان سليم على الشام فاحتل حدوده الشمالية، وبعث برسالة تهديد إلى «قانصوه» فكاتب هذا الشاه إسماعيل الصفوي يدعوه للاتفاق معه على قتال سليم، ولكن سليما كان أقوى منهما كليهما، فقد زحفت الجيوش العثمانية على الشام، وأحس «قانصوه» بالخطر فسار بجيش من مصر للقائه، واجتمعا عند «مرج دابق» قرب حلب، وكاد الظفر يتم للمصريين؛ لما أبدوه من الشجاعة، وبخاصة السلطان «قانصوه» نفسه، ولكن المدافع العثمانية أخرست الرماح والحراب والسيوف المصرية، فاختل نظام الجيش المصري، وهزمت جموعه بعد أن قتل «قانصوه» في رجب سنة 922ه/أغسطس 1516م، وتفرق الجيش المصري، ووصلت الجيوش العثمانية إلى الديار الحلبية، ولما بلغت هذه الأخبار إلى القاهرة اضطرب أمرها، وكان المشرف عليها الأمير طومان باي، فخاف مغبة الأمر، وجمع من بقي من الأمراء والأعيان وشاورهم، فاتفقوا على أن يولي نفسه سلطانا، وأن يحصن القاهرة، وكان رجلا داهية فأخذ ينظم جنده، ويعد حملة للقاء العثمانيين، وبينا هو كذلك إذ جاءه كتاب السلطان سليم وفيه حملة على السلطانين «قانصوه» والشاه إسماعيل، وتهديد لطومان باي، فلما قرأ الكتاب استشاط غيظا وعزم على القتال، أما سليم فإنه بعد استيلائه على الديار الشامية كلها سار نحو مصر، ولما بلغ حدودها أعلمه جواسيسه أن طومان باي قد حصن الصالحية فتركها عن يمينه، وسار حتى أتى الخانكاه على بضع ساعات من القاهرة، فلما علم طومان باي لحق به، والتقى الجمعان بالقرب من بركة الحج، وقاتل طومان باي بضراوة، وقذف بنفسه مع بعض الفدائية في قلب الجيش التركي حتى بلغ خيمة السلطان سليم، ولكن فرقة من العثمانيين استطاعت أن تدخل القاهرة، وتستولي على القلعة، ثم استولت على المدينة كلها، واستدعى السلطان سليم الخليفة، فحضر إليه وقدمه للصلاة بعد أن خطب باسمه، وأصاب القاهرة من البلاء والنهب شيء عظيم، ولقي المماليك من ضروب القتل والفتك ألوانا، وفروا إلى جنوب القاهرة، وعلى رأسهم طومان باي، والتف حولهم جماهير من الأعراب، ونشبت معركة ثانية بين المصريين والعثمانيين فانتصر الأتراك، والتجأ طومان باي إلى أحد أمراء الأعراب فسلمه إلى السلطان سليم فقتله، وبموته انتهت دولة المماليك بعد أن حكمت مصر والشام مائة وتسع وثلاثين سنة، ومنذ ذلك الحين أضحت مصر إحدى الإيالات التابعة للدولة العثمانية.
شجرة المماليك الشراكسة
الملك الظاهر برقوق 1382م.
الملك الصالح حاجي البحري 1389-1390م.
الناصر فرج 1398م أولا، 1406م ثانيا.
المنصور عبد العزيز 1405م.
الخليفة العادل المستعين 1412م.
المؤيد شيخ 1412م.
المظفر أحمد 1421م.
الظاهر ططر 1421م.
الصالح محمد 1421م.
الأشرف برسباي 1422م.
العزيز يوسف 1438م.
الظاهر جقمق 1438م.
المنصور عثمان 1453م.
الأشرف إينال 1453م.
المؤيد شهاب 1460م.
الظاهر خشقدم 1461م.
الظاهر بلباي 1467م.
الظاهر تمربغا 1467م.
الأشرف «قايتباي» 1468م.
الناصر محمد 1495م.
الظاهر «قانصوه» 1498م.
الأشرف جان بلاط 1499م.
الأشرف «قانصوه الغوري» 1500م.
الأشرف طوماي باي 1516-1517م.
الفصل الحادي عشر
مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة
بعد أن استولى السلطان سليم العثماني على مصر أخذ يجمع الأسلاب، ويقال إنه قد حمل معه إلى الأستانة ألف جمل محملة ذهبا وفضة ونفائس وكتب، بعد أن فوض القاهرة إلى خاير بك أحد المماليك، وكان قد انحاز إليه ضد «قانصوه» في معركة «مرج دابق» كما أبقى في القلعة واليا تركيا، واستصحب معه الخليفة المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة، وجمعا غفيرا من أبناء السلاطين والأمراء والعلماء والصناع، حتى انحطت القاهرة من الوجهة العلمية والصناعية انحطاطا ظاهرا، وخصوصا بعد أن تحكمت فيها العساكر الأتراك وجموع «الانكشارية» الذين كانوا يفسدون البلاد ويؤذون العباد.
أما السلطان سليم فإنه لما وصل القسطنطينية ومعه الخليفة أكرمه أول الأمر، ثم لم يلبث أن تغير وضعه معه ، وألقى به في السجن إلى أن مات، فلما ولي ابنه السلطان سليمان في سنة 926ه أخرج الخليفة من سجنه، وسمح له بالعودة إلى مصر على شريطة أن يتنازل للعثمانيين عن حقه في الخلافة، فقبل وظل في القاهرة إلى أن مات، وأضحت مصر في عهد السلطان سليمان إحدى إيالات الدولة الثانوية يديرها خاير بك والباشا التركي، ويعاونهما نفر من القضاة والموظفين الأتراك على الشكل الذي سنفصله، ولما مات خاير بك استقل بمصر مصطفى باشا في سنة 926ه إلى أن عزل بأحمد باشا في سنة 930ه، ولما بلغه أن الصدر الأعظم «رئيس الوزارة» في الأستانة يريد عزله والفتك به، أعلن عصيانه على الباب العالي، وأمر أن يخطب له في مصر، وأن تضرب النقود باسمه، وأساء معاملة الأهلين، فثاروا عليه، وقتلوه، وعلقوه على باب زويلة في سنة 931ه، فأرسل السلطان العثماني قاسم باشا واليا على مصر، ولم يبقه فيها طويلا خشية من أن يعلن استقلاله بالبلاد، بل استبدله بعد تسعة أشهر بإبراهيم باشا، وكان هذا رجل خير وإصلاح ونظام، فأراد تنظيم البلاد ونشر العدل، ولكن قصر مدته حال دون ذلك، فإنه عزل في سنة 933ه وأقيم سليمان باشا مقامه، وكان السلطان واثقا به كل الثقة فأبقاه في مصر نحوا من عشر سنوات أصلح فيها شأن البلاد، وشاد كثيرا من الدور والأبنية العامة، ومن جملتها جامع سارية في القلعة.
وفي سنة 941ه أمر السلطان بإيفاده على إيران والهند، فأناب عنه خسرو باشا، ثم عاد إلى ولايته حتى عام 945ه فتولى باشوية مصر داود باشا وأقام فيها اثنتي عشرة سنة، وكان حاكما فاضلا ورجلا خيرا محبا للعلم وللأفاضل، حريصا على نشر الفضائل والآداب، وقد جمع خزانة كتب نفيسة من الكتب النادرة المخطوطة، وغدت مصر في عهده على أحسن حالة إلى أن مات في سنة 956ه، فتولى مكانه علي باشا، وكان عمرانيا شاد عدة بنايات، ورمم كثيرا من القصور والمساجد العتيقة، واقتدى به الأهلون فجعلوا يشيدون المساجد ودور العلم، وفي سنة 961ه خلفه محمد باشا وكان ظالما جبارا شريرا، فلقيت مصر في عهده ويلات ومصائب ، وكثرت شكاوى المصريين عليه للباب العالي فعزل وحوكم، وحكم عليه بالقتل في سنة 963ه وأخذت بعده الباشوات تتوالى على ولاية مصر، ولا يلبث أحدهم إلا فترة قصيرة حتى يعزل، فاضطربت أحوال البلاد، وغصت باللصوص والأشرار، وعمها الفساد، إلى أن كانت سنة 973ه فتولى مصر محمود باشا وهو آخر من تولاها في أيام السلطان سليمان فزاد في الطنبور نغمة، وجاء من الأستانة بموكب عظيم، فلما وصل القاهرة استقبله متولي الصيد محمد بن عمر على قارب فيه كثير من الهدايا مع خمسين ألف دينار، فأخذ الباشا كل ذلك ثم أمر بخنقه، كما أمر بعد فترة بخنق القاضي يوسف العبادي؛ لأنه لم يأت لملاقاته ولم يقدم إليه هدية، واستمر على هذه الطريقة الظالمة حتى قتل كثيرا من الأعيان والأهلين، وكان لا يسير في القاهرة إلا ومعه «الشوباصي» وهو رئيس الجلادين، فإذا مر بأحد الناس وأراد قتله أمر «الشوباصي» فهجم عليه وفتك به حتى ضاق الناس به، وبينا كان مرة يوما بين بساتين القاهرة فاجأته جماعة فقتلته، فلما بلغ خبره إلى السلطان سليم الثاني بن سليمان سنة 972ه أمر بنقل سنان باشا من ولاية حلب إلى القاهرة، فأقام فيها فترة ثم جاءه الأمر بالتوجه إلى اليمن سنة 976ه وأن ينيب عنه إسكندر باشا الجركسي، ثم سار هو إلى اليمن ففتحها، ورجع في سنة 979ه فأخذ ينظم أمور مصر، ويعمل على نشر العدل والعلم، وإشادة كثير من دور العبادة والخانات والحمامات، وما يزال مسجده الشامخ في القاهرة شاهدا على ذلك، وفي سنة 980ه تولى مصر حسين باشا وكان كذلك من خيار الولاة محبا للعدل والعلم والأدب، ولم يكن يعاب عليه شيء إلا تساهله في إقامة الحدود؛ فقد كثرت اللصوص في عهده، وفي أيامه تسلطن مراد بن سليم 982-1003ه/1574-1594م فعزله وبعث مسيح باشا إلى مصر وكان خاندار السلطان سليم، فلما قدم مسيح باشا وجه عنايته إلى القضاء على اللصوص حتى قيل إنه قتل منهم نحو عشرة آلاف وأراح البلاد منهم، ثم عكف على إصلاح شأنها، ورعاية زراعتها، وتنمية تجارتها، وإشادة العمائر، ومنها مسجده الضخم في القرافة.
وفي سنة 988ه عزل بحسن باشا الخادم، وكان سيئ الإدارة انصرف إلى جمع الأموال وقبول الرشى، ولما عزل من القاهرة فرح الناس بذلك، وتولى مصر بعده إبراهيم باشا، وكان رجلا عادلا أقام موظفا خاصا في مسجد السلطان فرج بن برقوق لاستماع شكاوى المظلومين من الباشا السابق، فاطلع على مظالم فظيعة لا تحصى، وكتب بذلك إلى السلطان فأمر بخنق حسن باشا، وأخذ إبراهيم باشا يطوف في أرجاء القطر ويتفقد أحوال الناس إلى أن كانت سنة 992ه فاستقال من منصبه، وتوالت من بعده الباشوات، ولم يكن في أعمالهم شيء يذكر حتى تولى السلطنة محمد الثالث بن مراد 1003-1012ه/1594-1603م فبعث إلى مصر قورت باشا، وكان الناس يحبونه لحسن سيرته وكياسته وتنشيطه لأهل العلم والفضل، وخلف آثارا جليلة في «الجامع الأزهر» والمشهد الحسيني، وفي سنة 1006ه تولى مصر خضر باشا، وكان شديدا عنيفا أمر بقطع الجرايات عن العلماء، وحرم حقوق الكثيرين من الجند والانكشارية فثاروا عليه، وعزل فتولى مصر بعده علي باشا السلاصدار، وكان جبارا سفاحا قتل من الأهالي عددا كبيرا، وأصاب البلاد في عهده قحط، وظل في ولايته حتى توفي السلطان محمد وخلفه ابنه أحمد الأول 1012-1026ه/1603-1617م فبعث إلى مصر إبراهيم باشا، وقد أراد منذ وصوله أن يقف أمام طلبات الجند والانكشارية فثاروا عليه، ووقعت في البلاد أثناء ذلك فتنة عظيمة انتهت بقتله وإقامة القاضي مصطفى أفندي واليا، فلما علمت الأستانة بذلك بعثت محمد بك الكرجي الخادم واليا على مصر، فلما وصلها شرع في التفتيش على مثيري الفتنة فقبض على نفر وقتلهم وسكن البلاد، ولم يلبث فترة حتى عزل، وتوالت على مصر بعده عدة باشوات كان الواحد منهم لا يبقى في الولاية إلا شهرا، وكانت البلاد لا تكاد تخلو كل سنة من فتنة أو ثورة يقوم بها «الانكشارية» أو الجنود أو بعض المتغلبين، إلى أن تولى مصر في سنة 1016ه الوزير محمد باشا، وكان شريفا حازما، فشرع منذ وصوله إلى مصر في تثبيت دعائم الحكم وإنصاف الرعية، وفي سنة 1017ه ثار عليه الجنود والانكشارية؛ لأنه لم يوافقهم على إبقاء الضرائب الجائرة فأعلنوا عصيانهم، وولوا على البلاد واليا منهم، ونادوا به سلطانا، وساروا إلى الدلتا يعيثون فيها فسادا، وسار إليهم محمد باشا في جمع من الجند، والتقى الطرفان، واستطاع الباشا أن يقضي عليهم فاستسلموا، ولما استتب الأمر قتل زعماءهم، وانصرف إلى إصلاح حال البلاد، ومراقبة جباة الضرائب بنفسه، والإشراف على أحوال الأسواق، ففرح الناس به كثيرا، وعادت الطمأنينة إلى النفوس، وكان عهده على قصره عهد يمن وبركة، ولما نقل من ولاية القاهرة تسابق الناس إلى تكريمه وتقديم الهدايا إليه، وخلفه في سنة 1020ه محمد باشا الصوفي وكان كذلك رجلا صالحا حازما، وفي سنة 1022ه جاءه أمر من السلطان يطلب ألف جندي مصري؛ لينضموا إلى الجيش العثماني الذاهب إلى إيران فبعث بهم.
ثم توالت الولاة على مصر بعده خلال سنوات عشر، وكان الوالي لا يلبث أكثر من أشهر قليلة، والسر في ذلك أن كرسي الخلافة قد تقلب عليه في هذه الفترة ثلاثة خلفاء هم: مصطفى الأول وعثمان الثاني ثم مصطفى الأول ثانية، إلى أن كانت سنة 1022ه/1623م فتولى السلطنة مراد الرابع، وبعث إلى مصر علي باشا، وقبل وصوله إليها اجتمع الجنود، وساروا إلى القائمقام عيسى بك يطلبون إليه عطاءهم الذين يعطونه بمناسبة تعيين الولاة الجدد فانتهرهم القائمقام وقال لهم: أفي كل ثلاثة أشهر تجددون هذه الطلبات، فقالوا: وما المانع والسلطان يغير كل ثلاثة أشهر واليا؟! وإذا أراد أن يولي كل يوم واليا فنحن نطلب عطاءنا، فحاول القائمقام صرفهم ولم ينجح، فقالوا له: إننا نصر على طلبنا إلا إذا بقي الوالي السابق مصطفى باشا، وكان الوالي الجديد قد وصل الإسكندرية فبعثوا إليه يبلغونه قرارهم، وأنهم لا يقبلونه إلا إذا دفع إليهم عطاءهم، فكتب إليهم الوالي يسترضيهم فلم يقبلوا، فثار عليهم وقبض على وفدهم وسجنهم في قلعة الإسكندرية، وعلم الجند في القاهرة بذلك فأعلنوا الثورة واضطروه على مغادرة الإسكندرية، وأنزلوه في قارب وأخرجوه من الميناء، ولما صار في عرض البحر أطلقوا عليه المدافع فغادر البلاد، وبعد فترة وصلت رسالة من السلطان بتثبيت مصطفى باشا في الولاية، وفي هذه الفترة أصيبت البلاد بوباء هلك به خلق كثير، قيل: إن عددهم بلغ ثلاثمائة ألف نسمة، وكان مصطفى باشا ينصب نفسه وريثا شرعيا على أموال الأغنياء من الموتى حتى ضاق الناس به، فاشتكوا إلى الباب العالي فعزله، وأرسل بيرام باشا ليحاكم مصطفى باشا على أعماله، وفي سنة 1036ه قدم بيرام باشا ليحاكم مصطفى باشا وحكم عليه باستصفاء أمواله وإعادة المسروقات إلى أصحابها، وحكم عليه بالموت، ولما استقرت الأمور لبيرام باشا شرع في زيارة الأقاليم والمديريات ومراقبة أحوالها ونشر العدل بين أهلها، وتعميم التعليم، وتنشيط التجارة، وإقامة المشروعات العامة المفيدة، وتنظيم الضرائب، ثم عزل محمد باشا في سنة 1039ه وكان هذا محبا للخير والعدل فحمد الناس سيرته، وفي سنة 1040ه استدعي من القاهرة، وسمي موسى باشا مكانه، فأساء السيرة، وأفسد أحوال البلاد، ولقي منه الناس شرورا، وطلبوا من السلطان أن يبعده عنهم، فاستبدله في سنة 1041ه بخليل باشا، وأخذت الولاة تترى على مصر، والنكبات والمظالم تتوالى عليها حتى تسلطن إبراهيم بن أحمد خان 1049-1059ه/1640-1648م فتفاءل الناس بالخير لما اشتهر عنه، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل؛ فقد كانت ولاته على نمط ولاة سابقيه من السلاطين عسفا وتعديا، وزاد الطين بلة كثرة الأوبئة والطواعين التي لم يخل منها تاريخ مصر في تلك الآونة، وكان من أعظم تلك الطواعين طاعون سنتي 1052 و1053ه فقد هلك فيهما آلاف مؤلفة حتى دفن الناس موتاهم بدون صلاة، ويقال: إن نحوا من 230 قرية وبليدة خربت في ذلك الطاعون، كل هذا والولاة ساهون منصرفون إلى جمع الأموال واختلاسها، ويظهر أن الوالي مقصود باشا الذي تولى في سنة 1053ه قد حاول إصلاح الأمور، ولكنه عزل في سنة 1054ه، وتردد على مصر نفر من الولاة أكثرهم ظالم مخرب أو جماع أموال، حتى صار الوالي التركي لا هم له إلا اكتساب المال عن أي طريق كان، وتسليم النفوذ إلى البكوات المماليك، وذلك طوال عهد محمد الرابع 1059-1099ه/1648-1687م وعهد سليمان الثاني وأحمد الثاني ومصطفى الثاني 1099-1115ه/1687-1703م وعهد أحمد الثالث 1115-1143ه/1703-1730م.
وفي سنة 1119ه تولى مصر حسن باشا، فلما دخلها كان شيخ البلد قاسم عوض «عيواظ» بك فأحسن استقباله، وقدم له من الهدايا ما جعله يركن إليه، ويتركه يتصرف في البلد تصرف المالك، وعظم نفوذه، والوالي لا هم له إلا جمع المال وقبول الهدايا والرشى، وفي زمنه وقعت الفتنة بين مماليكه المعروفين بالقاسمية والمماليك الفقارية التابعين لذي الفقار بك أحد كبار المماليك، فتضاربوا وأفسدوا البلاد وعم البلاء، وانتشر الغلاء فترة طويلة إلى أن مات قاسم عوض، وتولى مشيخة البلد مكانه ابنه إسماعيل، فأحسن التصرف بعض الشيء، واتفق مع المماليك الفقارية ضد الباشا التركي، وضد الباشوات الذين تعاقبوا على مصر إلى أن قتل في سنة 1136ه فتولى المشيخة بعده شركس بك، ولم يلبث أن قتل فتولاها ذو الفقار بك إلى سنة 1142ه وأصاب مصر في تلك الفترة طاعون أتى على كثير من سكانها، وفي سنة 1143ه/1730م تولى السلطنة محمود الأول، وتوالت ولاته على مصر إلى سنة 1168ه/1754م، ولم يكن هؤلاء أحسن حالا من أسلافهم، وظلت السلطة الحقيقية في مصر بيد مشايخ البلد من المماليك، وفي هذه الآونة نبغ في مصر من البكوات المماليك فتى كان له أثر كبير في تاريخ مصر، واسمه علي بك الكبير.
نشأ علي بك الكبير في كنف أحد مشايخ البلد إبراهيم كتخدا، وكان فتى شجاعا فيه كثير من مزايا الزعماء والقادة، وحدث في سنة 1165ه أن قدم إلى مصر واليا راغب محمد باشا وكان رجلا فاضلا خيرا، سار بالناس سيرة حسنة فأحبوه، ويظهر أن الباب العالي قد أحس بخطر مشايخ البلد والبكوات، فأراد التخلص منهم وكتب إلى الوالي بذلك، وقد تردد الوالي في أمرهم، ثم قرر قتلهم، فاستدعاهم وطلب إلى رجاله أن يفتكوا بهم بعد أن يستقروا عنده، ففعلوا وقتلوهم جميعهم إلا إبراهيم كتخدا، فعمد إلى إثارة الفتن في القاهرة وسائر البلاد، واختصم هو وإبراهيم بك الشركسي، فقتله الشركسي، وعظم ذلك على مولاه علي بك، فأخذ يعمل للانتقام لمولاه، وشرع في شراء المماليك وتدريبهم على القتال، ويظهر أن بعض البكوات واسمه حسين كش كش بك قد شعر بما يهيئ علي بك فناصبه العداء، واضطر علي بك أن يفر بطائفة من مماليكه إلى الصعيد، فلما استقر هناك أخذ ينظم أمره حتى اجتمع لديه جمع كبير، فزحف على القاهرة، وطرد حسين كش كش بك، وحاول أن يفتك بشيخ البلد خليل ففر هذا إلى طنطا، فبعث إليه علي بك كاشفه محمد بك أبا الذهب، واستطاع أن يقبض عليه وينفيه إلى الإسكندرية، وهكذا قوي نفوذ علي بك ابتداء من سنة 1177ه فتسلم مشيخة البلد، وقتل إبراهيم الشركسي انتقاما لسيده إبراهيم كتخدا، ولكن مماليك الشركسي غضبوا له، وحاولوا الانتقام لمولاهم، فاضطر علي بك أن ينجو بنفسه، ويفر إلى عكا لاجئا إلى أميرها الشيخ ظاهر العمر، فأكرم هذا وفادته، وسعى في إعادته إلى القاهرة ظافرا قويا إلى أن كانت سنة 1180ه فثار بعض أعراب الصعيد، وبعث إليهم مملوكه أحمد بك على رأس حملة قوية فقتل من الأعراب مقتلة عظيمة حتى لقب بالجزار، وهو الذي تولى عكا فيما بعد، وعرف بأحمد باشا الجزار، ثم انصرف علي بك إلى تنظيم أموره في سائر القطر فأحسن تدبيره، ونمى تجارته وزراعته، ورأى فساد حال الموظفين الذين كانت الدولة العثمانية تبعث بهم فعزل أكثرهم، وأقصى كثيرا من العساكر العثمانية عن مراكزهم، ووضع محلهم جماعة من مماليكه، وحظر على البكوات والكشاف أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك واحد أو اثنين.
وفي سنة 1182ه أعلنت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا، فبعثت الدولة العثمانية إلى علي تستمده، فأخذ يجمع الجند ويرسلهم إلى الأستانة حتى نفى من البلد أكثر من كان يخشى مناوأتهم، فلما تم له ذلك أعلن عصيانه بمصر، وكتب إلى الوالي التركي ينذره بلزوم مغادرة مصر في مدى يومين وإلا قتله وأن مصر أضحت بلدا مستقلا، وكتب بذلك إلى حليفه الشيخ ظاهر العمر أمير عكا ففرح به وآزره وكتب إليه يهنئه، فلما بلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة في الأستانة كتب إلى واليه في دمشق أن يزحف نحوه فسار في خمسة وعشرين ألف مقاتل، حتى إذا بلغ بلاد عكا تلقاه ظاهر العمر ورده شر ردة، ثم انشغلت الدولة العثمانية بحربها مع روسيا ، فشرع علي بك ينظم أموره، ويوطد أركان دولته، ويصلح شئونها، ويرعى زراعتها وتجارتها، وفي سنة 1183ه ثار عليه الشيخ هامان زعيم قبائل الهوارة في الصعيد، فبعث إليه محمد بك أبا الذهب ففرق جموعه، ثم شرع في الزحف على اليمن حتى استولى عليه وعلى سواحل البحر الأحمر، وتوغلت جنوده في أرض جزيرة العرب فاستولى عليها، وخطب له في مكة وضربت النقود باسمه، وأراد الاستيلاء على الشام فأخذ يستعد له، وسعى في عقد محالفات مع البلاد التي تضمر عداء للعثمانيين كملك البندقية وملكة روسيا، ثم سير جيوشه إلى الشام بقيادة أبي الذهب ومعاونة ظاهر العمر فحاصرت دمشق ودخلتها، وأخذت دولة الأستانة تعمل بدسائسها ففرقت بينه وبين أبي الذهب، وأراد أبو الذهب الاستيلاء على مصر وطرد علي بك، فقفل راجعا إلى مصر فاستولى على أسيوط في سنة 1185ه، وسار نحو القاهرة فاستولى عليها، واضطر علي بك إلى الفرار منها إلى عكا ومعه كنوزه وأمواله، فلما وصلها زوده الشيخ ظاهر العمر بجيش عليه علي بك الطنطاوي؛ لاسترجاع ما استولى عليه أبو الذهب، والتقى الجيشان في محرم سنة 1187ه وخذل علي بك جنوده بانضمام قسم كبير منهم إلى أبي الذهب، وقتل عدد كبير من رجالات علي بك، وقاتل هو نفسه قتال المستميت على الرغم من مرضه، ثم جرح وسيق أسيرا إلى أبي الذهب، فأمر بسجنه في القاهرة حيث مات، وحزن الناس عليه لحسن سيرته وبطولته، ولكثرة آثاره الحميدة في القاهرة وطنطا، ومن أجلها مسجده العظيم وقبته على مقام السيد أحمد البدوي مع المضبأة الكبيرة والمنارتان الشامختان والسبيل، وقبته على ضريح الإمام الشافعي، والحق أن خسارة مصر بموته كانت جليلة؛ فقد اضطرت إلى الخضوع من جديد للدولة العثمانية، واستسلم أبو الذهب للوالي الذي بعثت به الأستانة، وعاد من جديد نفوذ الإقطاعيين من البكوات المماليك، ورجعت الفوضى إلى البلاد، وأضحى منصب شيخ البلد بيد المماليك البكوات يتصرفون فيه بما يشاءون ولا هم لهم إلا جمع الأموال وتقديم الرشى للوالي التركي، وعم الفساد إلى أن كانت سنة 1200ه فضاق السلطان عبد الحميد بما عليه حالة مصر، وأرسل عمارة بحرية لتأديب البكوات والمشايخ ففر كثير منهم إلى الصعيد، ولكنهم لم يلبثوا أن رجعوا إلى القاهرة بعد سفر العمارة البحرية، وقد لمع في هذه الفترة نجم مملوكين لقيت مصر منهما ضررا بالغا وهما مراد بك وإبراهيم بك، فظلا يفسدان فيها ويختلسان الأموال إلى أن استولى نابليون بونابرت عليها سنة 1213ه/1798م.
1
الفصل الثاني عشر
الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر
أطل القرن السابع للهجرة على الجزيرة العربية وهي غارقة في سبات عميق وجهل مطبق، فقد أهملها خلفاء بغداد، إلا مكة والمدينة فإنهم قد وجهوا إليهما بعض العناية؛ لما لهما من المكانة الدينية، والقداسة التاريخية، أما سائر المدن في الحجاز ونجد واليمن وحضرموت وغيرها من بقاع الجزيرة الواسعة فقد كانت الفوضى ضاربة أطنابها فيها، وكانت أخلاق الناس في بلاد العرب سائرة نحو الانحلال، وكانت تلك البلاد مقسمة إلى دويلات وإمارات يحكم كلا منها حاكم مستبد مستقل، ولا سلطان لأحد عليه حتى ليخيل للمرء أن الجزيرة العربية قد عادت إلى جاهليتها الأولى أو كادت.
هكذا كانت الحاضرة العربية، أما البادية فحدث عن فوضاها وتناحر قبائلها ما شئت، وإذا كانت نفس البدوي في طبيعتها لا تقبل النظام حتى في عصور القوة والحكومات الرشيدة والإمارات الفاضلة، فأحرى بها أن لا تقبل شيئا من النظام في عصور الضعف والحكومات الفاسدة والإمارات الجاهلة، وإذا كانت هذه حالة الجزيرة فمن الطبيعي أن تنقطع الصلات التاريخية بينها وبين كثير من أجزاء العالم العربي، وهكذا كان الأمر فقد أضحت أخبارها شبه مجهولة، وتاريخها غامضا أو كالغامض، ولذلك صار علمنا عنها قليلا، وأضحى عملنا الآن جد عسير حين أردنا أن نؤرخ ذلك العهد لتلك البقعة، ولكننا مع هذا تقصينا الأخبار، وتتبعنا المظان والآثار، محاولين أن نؤرخ هذه البقعة الغالية من الوطن العربي الأكبر على ما في ذلك من صعوبة.
وها نحن أولاء نعرض للقارئ الكريم ما استطعنا العثور عليه من تاريخ هاتيك الديار، وأحوال أهلها وأخبارهم التاريخية، سالكين في ذلك الطريقة العلمية التي سرنا عليها في الأجزاء السابقة.
جاءت المائة السابعة وبلاد الحجاز، وهي أعظم أقاليم الجزيرة العربية، وأميرها هو المسيطر على شئون سائر الأقاليم في الجزيرة، خاضعة للشريف أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسيني القرشي، وكان قد استولى عليها بعد أن طرد الشرفاء الهواشم الذين كانوا يحكمونها، فتغلب عليهم، وقضى على آخر أمرائهم وهو الشريف مكثر بن عيسى بن فليتة القرشي الهاشمي في سنة 601ه،
1
ولما تمت له السيطرة الكاملة على مكة توجه نحو المدينة فتملكها وطرد صاحبها الشريف سالم بن قاسم الحسيني القرشي، وجرت بين الطرفين معارك تغلب فيها أبو عزيز، ثم توجه إلى الطائف فسيطر عليها، وتم له السلطان على الحجاز برمته حتى بلغ حدود اليمن، وعظم سلطانه فسيطر على كثير من أجزاء الجزيرة، وطلب إليه الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يزوره في بغداد فسار إليه في موكب عظيم، ولما وصل إلى النجف الأشرف بعث الخليفة إليه عددا كثيرا من القادة والجند، وفيهم بعض العلماء والأعيان، فأوجس أبو عزيز على نفسه خيفة؛ لأنه كان شديد الحذر، وعدل عن الذهاب إلى بغداد محتجا بمرضه، وكر راجعا إلى الحجاز، فكتب إليه الخليفة الناصر ثانية معاتبا ومستزيرا، ولما وصل كتاب الناصر إليه جمع أهله وعظماء قومه واستشارهم في الأمر، وانتهوا إلى أن لا يذهب هو بنفسه؛ بل يبعث إليه بابنه الشريف راجح، فذهب هذا في نفر من العلماء والشيوخ والشرفاء، ولما وصلوا إلى بغداد أكرمهم الخليفة وأعادهم إلى الحجاز بكثير من الهدايا والخلع، إلا أنه ما لبث بعد فترة حتى جهز جيشا كثيفا وسيره لاحتلال الحجاز، فلقيه أبو عزيز بجيش كبير، وفرق جموعه وظل مسيطرا على الحجاز وما إليه.
ولما مات أبو عزيز تولى الأمر من بعده ابنه الأمير الشريف الحسن، وكان قائدا جريئا شجاعا، ولكنه على الرغم من ذلك لم يستطع الصمود أمام الجيش الأيوبي الذي بعث به صاحب اليمن الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب، وما أن استقر الجند الأيوبي في الديار المقدسة ووطدوا الأمن فيها حتى عهد قائدهم بالبلاد إلى الأمير نور الدين علي بن عمر بن رسول صاحب الدولة الرسولية، وقد حاول الشريف الحسن أن يعود ثانية، ويخرج نور الدين، ولكنه فشل وطرد من الحجاز.
وفي سنة 626ه عهد الملك المسعود بإمارة الحجاز إلى عتيقة صارم الدين ياقوت، فتولاه باسم مولاه، وفي تلك السنة مات الملك المسعود، فاستولى ياقوت على اليمن والحجاز، وتسمى باسم الملك المنصور، وأخذ يوسع سلطانه حتى سيطر على أكثر بقاع الجزيرة، ثم بعد فترة بعث الملك الكامل مولاه طغتكين أميرا على الحجاز، وهكذا خضعت الجزيرة إلى الأيوبيين أو إلى مواليهم على الأصح.
وفي سنة 629ه كان الشريف راجح بن قتادة قد جمع جيشا لاستعادة الحجاز من الأيوبيين، فزحف نحو اليمن، وأغرى نور الدين الرسولي على أن يتعاونا على الاستيلاء على الحجاز، فقبل نور الدين وسارا فطردا طغتكين، وحكم راجح البلاد باسم الدولة الرسولية، وظل حكمه إلى أواخر سنة 630ه.
وفي أوائل سنة 631ه عادت الجيوش الأيوبية من جديد فطردت راجحا، ولكنه لم يلبث طويلا حتى استردها وأقام فيها إلى سنة 637ه، وفي هذه السنة أرسل الملك الصالح الأيوبي صاحب مصر ألف فارس بقيادة الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة لقتال صاحب اليمن، فتلقته الجيوش اليمانية وهزمته.
وفي سنة 639ه أرسل صاحب مصر جندا كثيرا للاستيلاء على مكة، فلما بلغت أخبارهم إلى صاحب اليمن خرج للقائهم، والتقى الجمعان، فهرب المصريون بعد أن أحرقوا دار السلطنة بمكة، ودخل صاحب اليمن إلى مكة، فأبطل كثيرا من المكوس والظلامات، وعزل الشريف راجحا، وولى الشريف أبا سعد الحسن بن علي بن قتادة، فذهب راجح إلى المدينة، واستنجد بأخواله فبعثوا معه جماعة، والتقى الجمعان، ففاز جمع أبي سعد، وكان على رأسهم الشريف أبو نمي، ودخل أبو نمي مكة، وأقام أبو سعد في ولاية الحجاز إلى سنة 651ه، وفي أوائل هذه السنة بعث الخليفة الناصر جيشا لاستخلاص الحجاز بقيادة الشريف جماز بن الحسن بن قتادة من دمشق، فدخل الجيش مكة واستولى عليها وقتل أبا سعد، ولكنه لم يلبث أن نقض عهده مع الخليفة الناصر ، وخطب للملك المظفر ابن الملك المنصور الرسولي، واستمر ذلك إلى موسم الحج حين قدم عليه عمه راجح مقاتلا، فاستولى على مكة وطرد جمازا، وظل أميرا على البلاد إلى سنة 652ه حين ثار عليه ابنه غانم وطرده، وظل غانم أميرا إلى شوال من السنة نفسها، حين ثار عليه الشريفان أبو نمي وإدريس بن علي بن قتادة، واشتد القتال بين الثلاثة، وبينا كانوا جميعا مشتبكين إذا هم بالملك المظفر الرسولي يبعث جيشا بقيادة المبارزين علي بن برطاس لنجدة غانم، ولكن أبا نمي وإدريس تغلبا عليه وطرداه، ولم يستطع أحد من المسلمين القيام بفريضة الحج هذه السنة.
وفي سنة 654ه اختلف أبو نمي وإدريس، ثم تصالحا، واستمر هذا الصلح إلى سنة 657ه، حين عادا من جديد إلى الاختلاف، وطرد أبو نمي عمه إدريس، وخطب لصاحب مصر السلطان بيبرس، وحج بيبرس هذه السنة فعظمه أبو نمي كثيرا، ورأى السلطان أن يصلح بين العم وابن أخيه فتم ذلك، وعادت السكينة إلى الديار المقدسة، ولكن إدريس أخذ ينفرد بإدارة البلاد فسكت أبو نمي على مضض إلى أن جمع جموعا كثيرة قاتل بها إدريس، وعادت الفتنة من جديد جذعة، ولم تنته إلا بعد قتل إدريس في فجر سنة 669ه، ولما قتل إدريس لجأ ابنه غانم إلى الشريف جماز في المدينة فأنجده بجماعة ذهب بهم لقتال أبي نمي، ولكن هذا فرق تلك الجموع.
وفي سنة 683ه، وأثناء الموسم، وقعت فتنة جديدة بين أبي نمي وأولاد أخيه، وكان مع هؤلاء جند من اليمن فطردهم أبو نمي، ثم قدم الحاج المصري ومعه ثلاثة آلاف فارس لمقاتلة أبي نمي، فتحصن بالمدينة وأغلق أسوار مكة عليه، فأحرق المصريون السور ودخلوا المدينة، فنادى منادي أبي نمي: «من قتل من المصريين أحدا فله سلبه وفرسه»، ففتك جنده بالمصريين، وأخذوا خيلهم وسلاحهم، واستطاع نفر من الجند أن يرجعوا إلى مصر، ويخبروا السلطان بما جرى، فعزم على أن يرسل جيشا كبيرا لقتال أهل الحجاز، ولكن أهل الرأي والدين أشاروا عليه بأن يتلافى الأمر، ويقبل بإمارة أبي نمي على الحجاز حقنا للدماء وإجلالا لتلك الديار المقدسة، فقبل وبعث إليه بألقاب الإمارة.
وفي سنة 688ه ولى السلطان قلاوون على الحجاز الشريف جماز بن شيحة أمير المدينة فدخل مكة بعد أن طرد أبا نمي، ولكن هذا استطاع أن يجيش جيشا من أنصاره ومن الأعراب، وأن يهجم على مكة ويفتك بمن فيها، واستمر أبو نمي مستقلا بمكة إلى سنة 701ه وكأنه قد أحس بثقل الأيام على كاهله فنزل عن الملك لولديه حميضة ورميثة، ولم يلبث بعد ذلك حتى مات بعد أن حكم الديار المقدسة نحوا من نصف قرن استقلالا أو بالمشاركة مع أبيه وعمه.
ولما حج بيبرس في سنة 702ه، وكان أيامئذ أميرا على الكرك، اشتكى إليه الشريفان عطيفة وأبو الغيث ابنا أبي نمي أنهما مظلومان فولاهما على مكة، ونفى حميضة ورميثة إلى مصر، ولكنهما لم يلبثا أن عادا إلى مكة في سنة 703ه أميرين، فسارا بالناس سيرة حسنة أول الأمر ثم أخذا يظلمان الناس، ولم ينقذهم منهما إلا أبو الغيث بن نمي الذي قدم في سنة 713ه بجيش من المصريين فهرب حميضة وأخوه إلى اليمن، ودخل أبو الغيث إلى مكة، ثم بعث سرية إلى اليمن للفتك بحميضة ورميثة فلم تظفر بطائل، ولما رجع العساكر المصريون إلى مصر رجع حميضة من اليمن، وانتزع مكة، وقتل أبا الغيث في أوائل سنة 714ه، واستقل بمكة حتى أخذها أخوه رميثة منه، واضطر حميضة أن يفر إلى العراق لاجئا إلى السلطان خذابنده، فأكرمه، ثم حسن له حميضة أن يزحف على الحجاز ويستولي عليها؛ لأن من يستولي على البلاد المقدسة ينال شرفا عظيما، فجهز خذابنده جيشا في عشرة آلاف، وبعث الشريف حميضة معهم، وبينا كانوا في الطريق هلك خذابنده فاضطرب أمر الجند وتفرقوا، وعزم حميضة على أن يسير بنفسه فلم يصل إلى الحجاز حتى لم يبق معه إلا نحو ثلاثين فارسا، فكتب إلى أخيه مستعطفا طالبا إليه الإذن بدخول مكة، فاعتذر رميثة وكتب إلى سلطان مصر الملك الناصر يستأذنه بذلك فلم يسمح له بدخول مكة، بل قال له: إذا أراد المجيء إلى مصر قبلناه ولا يسمح له بدخول مكة، وبعث السلطان إلى الشريف حميضة بالأمان، فلم يقبل حميضة بالسفر إلى مصر، وذهب إلى قبائل الحجاز مستنصرا فأعانته على الدخول إلى مكة في سنة 718ه فدخلها وخطب لأبي سعيد بن خذابنداه؛ فغضب الملك الناصر، وبعث بجيش لجب فقتل حميضة.
وفي سنة 719ه حج الملك الناصر صاحب مصر، وولى على الديار المكية الشريف عطيفة بن أبي نمي، واستمر إلى سنة 721ه، وفيها وقع قحط كبير بالحجاز فتوجه عطيفة إلى مصر، فرسم السلطان الملك الناصر بنقل الحبوب والبقول إلى الحجاز، ورتب لمكة كل سنة شيئا من القمح يحمل إليها من الصعيد على شريطة أن يسقط أمير مكة المكوس والضرائب التي يفرضها على الحجيج.
وفي سنة 734ه طلب إليه السلطان أن يشرك معه أخاه رميثة في الحكم فقبل، ووقعت بعد ذلك منافسات بين الأخوين، واستمرا يتناوبان الحكم فيها إلى سنة 737ه، وفيها اعتقل السلطان عطيفة بمصر إلى أن مات سنة 743ه واستقل أخوه رميثة في الحكم إلى سنة 745ه وفيها نزل رميثة لولديه ثقبة وعجلان عن الحكم.
وفي سنة 751ه حج الملك المجاهد صاحب اليمن فوقع بينه وبين الشريف عجلان فساد، فأغرى الشريف المصريين فقبضوا على الملك المجاهد وهو بمنى، فقيدوه وذهبوا به إلى مصر، وفسدت أحوال الحجاج ولقي الناس أهوالا وويلات شدادا.
وفي سنة 760ه استدعى السلطان الناصر حسن ملك مصر الأميرين ثقبة وعجلان إلى مصر، فلم يلبيا دعوته، فعزلهما وولى الشريف سند بن رميثة ومحمد بن عطيفة، وجهز جيشا كبيرا لنصرتهما، وفي سنة 761ه وقعت فتنة بين الجيش المصري والأشراف، وقتل كثير من المصريين، وأسر كثيرون وبيعوا بيع الرقيق في ينبع، حتى إذا بلغت هذه الأخبار إلى صاحب مصر غضب وجيش جيشا كثيفا لقتال الأشراف واستئصالهم، وقال: لا حاجة لنا بهم، ولم يلبث السلطان أن عزل وتولى مكانة السلطان الملك المنصور محمد فعهد للشريف عجلان بإمارة الحجاز، ودخلها ثم شاركه في الحكم ابنه أحمد، وجعل له ربع المتحصل، واستمر عجلان وابنه في الحكم إلى سنة 764ه ثم انفرد بها أحمد لسؤال أبيه له، وذلك على شروط؛ منها: أن لا يقطع اسمه في الخطبة والدعاء بأعلى زمزم، وكان أحمد شجاعا منظما جماعا للأموال والخيل والنفائس حتى قالوا إنه جمع ما لم يجمعه أحد قبله من الأموال والخيول.
2
وفي سنة 766ه طلب السلطان في مصر إلى أمير البلاد الحجازية أن يسقط المأخوذ بمكة من الحجاج على أن يعوضه عنه في كل سنة مائة وستين ألف درهم من بيت المال وألف أردب من القمح، وقرر ذلك في ديوان السلطان شعبان صاحب مصر، ونقش ذلك على دعائم المسجد الحرام.
وفي سنة 775ه وقعت فتنة بين حجاج التكرور والمغاربة وبين حجاج العراق واليمن، قتل فيها نحو ألف رجل من الحجيج، وكان بلاء عظيم بالديار المقدسة ضج منه الناس.
وفي سنة 777ه أشرك أحمد بن عجلان معه في الحكم ابنه محمدا، واستمرا في الحكم إلى أن مات أحمد، فاستقل محمد بالحكم وحده وجار على الناس، فغضب سلطان مصر، وبعث مع الحاج المصري الشريف عنان بن مغامس بن رميثة، وطلب إلى أمير الحج المصري أن يحتفل بمحمد احتفالا عظيما، فلما وصل الحاج المصري خرج الشريف للقائه، فلما حضر عند المحمل وثب عليه اثنان فجرحاه جراحا مات على أثرها في سنة 788ه في ميعة الشباب لم يتجاوز العشرين من عمره، ولما قتلوه أعلن أمير الحج المصري إمارة عنان بن مغامس وأشرك معه في الحكم ابن عمه أحمد بن ثقبة، وكان من أجل بني الحسن، وأكثرهم مالا وخيولا ورجالا.
وفي سنة 789ه عزل السلطان عنانا وولاها علي بن عجلان، فثار عنان وطرد عليا إلى مصر، فأعاده السلطان إلى الحجاز وأشركه في الحكومة مع عنان بشرط أن يخدم المحمل المصري ويكرم أهله، واستمر عنان في الحكم إلى سنة 804ه وفيها أصابه رمد شديد اضطره أن يجيء إلى مصر ومات سنة 805ه، واستقل علي بن عجلان بالحكومة إلى أن اضطربت أحوال الحجاز وخاصة في مكة وجدة، وتمكن الرعاع من أمور البلاد، وهرب التجار إلى ينبع ولحق أهل مكة من ذلك عناء شديد، وانتهت هذه الفتنة بقتل علي، فتولى الأمر أخوه الحسن بن عجلان، وأشرك معه ولديه بركات وأحمد، ثم أنعم السلطان على حسن سنة 811ه بنيابة السلطنة في جميع الحجاز.
وفي سنة 817ه وقعت فتنة كبيرة بين المصريين والقواد، وانتهكت حرمة المسجد الحرام لما حصل فيه من القتل وتلويث الخيل بسبب طول بقائها في المسجد حتى قال بعضهم: إنها أعظم فتنة وقعت في المسجد الحرام بعد فتنة القرامطة، وقد استمر الشريف حسن وأولاده في الحكم إلى سنة 829ه، وكان الحسن يحب الخير، ويرغب في فعل الجميل، وله آثار حسان في مكة وحرمها،
3
ولما مات الحسن سنة 829ه استدعى السلطان برسباي ولديه بركات وإبراهيم فقدما عليه في مصر وأكرمهما، وأنعم على بركات بالإمارة وعلى إبراهيم بنيابته، وأمر السلطان في سنة 832ه أن يعطي ثلث ما يحتصل من عشور المراكب التجارية الهندية لأمير مكة المكرمة ويرسل الثلثان إلى مصر، وأمر في سنة 840ه أن يكون نصف عشور جدة من المراكب الهندية لأمير مكة، وفي سنة 843ه وردت مراسيم من سلطان مصر بإعفاء الشريف من تقبيل خف المحمل المصري، وكان ذلك عادة قديمة جرى الأشراف عليها.
وفي سنة 845ه عزل السلطان المصري الشريف بركات، ففر إلى اليمن وتولى أخوه علي مكانه، وتتابعت الأشراف على ولاية الديار الحجازية، وفي سنة 851ه استدعى سلطان مصر السلطان جقمق الشريف بركات إلى مصر وخرج للقائه، وبالغ في إكرامه، واجتمع إليه علماء مصر، وازدحموا على القراءة عليه؛ لما كان له من الفضل وسعة الرواية، وبخاصة في علوم الحديث، ثم رجع إلى مكة وظل بها إلى أن مات في سنة 859ه، فلما مات خلفه ابنه محمد في ولاية مكة، وكان محمد على جانب كبير من الفضل والعدل، وقد ازدهرت الحجاز في عهوده، واستمر في ولايته ثلاثا وأربعين سنة عاش فيها الناس بالخيرات واليمن والهدوء إلى أن مات سنة 903ه، فتولى مكة بعده ابنه الشريف بركات، وكان فاضلا تلقى العلم على شيوخه بمصر، وقد وقعت فتنة بينه وبين أخيه هزاع من أجل الولاية، فانكسر هزاع وقتل جمع من أصحابه، ثم نصره أمير الحج المصري في سنة 904ه، فدخل مكة وهرب أخوه بركات إلى بدر فجمع جموعا أغار بها على مكة واحتلها، وفي سنة 907ه مات الشريف هزاع، فوردت المراسيم السلطانية من «قانصوه الغوري» سلطان مصر بالاعتذار إلى الشريف بركات مما حصل، وأن ذلك كان من قبل أمير الحج المصري بدون مشورة السلطان، واستتب الأمر للشريف بركات فترة، ثم ثار عليه أخوه الشريف أحمد الملقب بالجازاني في سنة 908ه واضطر بركات إلى الهرب إلى اليمن.
وكان الشريف أحمد ظالما؛ صادر أموال الناس، وأخذ عقاراتهم، وسبى أرقاءهم، ومرت أيام شداد على مكة في عهده، ولما ضاق الحجازيون بظلمه ذرعا استنجدوا بالشريف بركات ، وأعانوه على قتال أخيه أحمد، فكسره واضطره أن يفر إلى جدة، فلما وصلها استنجد بأمير ينبع فأعانه بجيش، ووقعت قتلة كبيرة بين الطرفين أبذخ فيها الشريف أحمد، وشرع بركات بتنظيم أمور الحجاز، وامتد نفوذه إلى اليمن، وبينا كان في اليمن يقوم ببعض مصالح دولته انتهز أحمد فرصة غيابه فدخل المدينة، وأذل أهلها، وعاقبهم أشد العقاب، وقتل منهم خلقا كثيرا، ونهب بيوتهم، وسبى الأرقاء وأمهات الأولاد ثم رجع إلى ينبع، وعلم أن تجريدة قدمت من مصر فذهب إلى قائدها، واتفق معه على أن يعينه على خلع أخيه بركات مقابل ستين ألف دينار شرقي أحمر، وكان بركات قد رجع من اليمن ورأى ما فعل أخوه في غيبته فتألم أشد الألم، وأخذ يستعد لمحاربته، ولما علم بقدوم التجريدة المصرية خرج للقائها وهو لا يعلم ما قد خبأ له القدر، فلما وصل أمير التجريدة خلع عليه، ثم لم يلبث أن ألقى القبض عليه، وجعله في الحديد، ونهبت بيوته وبيوت أنصاره، ونودي بالإمارة للشريف أحمد، ولما تم الحج ورجع المصريون أخذوا الشريف بركات معهم إلى مصر حيث جعل في بيت محظورا عليه السفر، وأخذ ينتهز شتى الفرص حتى فر إلى مكة في أواخر سنة 908ه، ولما حان موعد سفر الحجيج المصري خاف السلطان الغوري أن يفتك الشريف بركات بالمصريين فبعث معهم جيشا كثيفا، ولكن الشريف بركات بعث برسائل إلى أمير الحج المصري يؤمنه ويطمئنه، فلما بلغ ذلك مسامع الغوري رضي عنه وعفا، وفي عهد السلطان الغوري شيدت عدة مآثر وعمائر جليلة في طريق الحج وفي مكة وفي جدة.
4
وفي أيام الغوري تولى ثغر جدة الأمير حسن الكردي، وكان سفاحا ظالما قال عنه صاحب الأعلام: «أقام جلادين للقتل والتوسيط والضرب والبهدلة، فأي مسكين وقع في يده قتله بأدنى سبب أو عذبه بالمقارع أو صلب إظهارا للناموس الفرعوني.»
5
وفي سنة 911ه ولد ابن للشريف بركات سماه أبا نمي، وفي سنة 918ه استدعى السلطان الغوري الشريف بركات إلى مصر فاعتذر عن سفره، وبعث ابنه أبا نمي مع السيد عرار بن عجل وقاضي مكة الشافعي الصلاح بن ظهيرة والمالكي النجم بن يعقوب مع جمهرة من القواد والوجوه، فلما وصلوا إلى مصر استقبلهم السلطان الغوري وأكرمهم، ثم أعادهم وقد ولى الديار الحجازية لأبي نمي مشاركا لأبيه، فكان يدعى لهما معا على منابر الحجاز، وفي سنة 920ه حجت زوج السلطان الغوري وولدها محمد فأكرمهم الشريف بركات إكراما عظيما، وكانت هذه آخر الاحتفالات الكبرى التي جرت في الحجاز للمماليك. (1) الحجاز وسائر الجزيرة بعد استيلاء العثمانيين
بعد أن استولى السلطان سليم على مصر سنة 923ه أراد أن يجهز جيشا للاستيلاء على الحجاز وطرد بقايا المماليك منه، وكان قد وطد لنفسه في الحجاز بما كان يبعث لأهله وللأشراف من الهدايا والتحف والخيرات في كل سنة أثناء الحج والمواسم.
وبينا كان السلطان سليم يهيئ عدته للاستيلاء على الحجاز حربا كتب القاضي صلاح الدين بن أبي السعود بن ظهيرة إلى وزير السلطان أن يخبر سيده بأن أهل الحجاز يحبون العثمانيين، وأن صاحب الحجاز ممن يميلون بقلوبهم إلى آل عثمان، والأفضل أن يكتب إليه كتابا يطلب فيه منه إعلان الخطبة للعثمانيين، لا إرسال جيش لقتاله، وهكذا أرسل إلى الشريف بركات توقيع من السلطان سليم بدل توقيع السلطان الغوري على أن يكون ابنه أبو نمي شريكه في الولاية، وكتب القاضي صلاح الدين محمد بن أبي السعود بن إبراهيم بن ظهيرة إلى الشريف بركات يقص عليه ما جرى، ويطلب إليه أن يبعث بابنه إلى السلطان سليم، فلبى الشريف الطلب، وبعث بابنه أبي نمي إلى مصر فأكرمه السلطان سليم، وكان سنه لا يتجاوز الثانية عشرة، وأعاده بالإحسان ومعه أمر سلطاني بقتل حسين الكردي صاحب «جدة» من قبل السلطان الغوري، ثم ولى على جدة الخواجا قاسم الشرواني، وأرسل مصلح بك بالصدقات والكسوة، والمحمل الرومي، كما أرسل المحمل المصري والصدقات المصرية على ما كانت عليه الحال أيام المماليك، ولم يجئ المحمل الشامي في تلك السنة،
6
واستمر الشريف بركات في إمارته حتى سنة 931ه وفيها هلك فتولى الديار الحجازية ابنه الشريف محمد أبو نمي وله عشرون سنة، وكان فتى حازما ذا علم وفضل، وقد فرح الناس بتوليه لما كان عليه من الخلق الوديع، وفي سنة 945ه أشرك السلطان العثماني معه في الولاية ولده الشريف أحمد، وفي سنة 949ه قدمت ميناء جدة مراكب إفرنجية تحاول الاستيلاء عليها، فتوجه إليهم أبو نمي في جمع كبير وجيش قوي تعاضده بعض المدفعية، واضطر المراكب الفرنجية على العودة خاسرة،
7
وفي سنة 958ه وقعت فتنة بين أبي نمي وبين أمير الحج العثماني محمود باشا، فقد سولت نفس الباشا له أن يقبض على أبي نمي لما رآه من نفوذه، ولكن أبا نمي تغلب عليه، ووقعت كارثة كبيرة، وكاد الأعراب أن يفتكوا بالحجيج، ولكن أبا نمي تدارك ذلك بالحكمة، وبلغت هذه الأخبار إلى الباب العالي في إستانبول فكتب السلطان إلى أبي نمي معتذرا عما فعل الباشا، وفي سنة 974ه طلب أبو نمي إعفاءه من الولاية لكبر سنه ولرغبته في الانقطاع للعبادة، فقبل السلطان طلبه وجعل الشريف حسنا مستقلا بالأمر في مكة وجدة والمدينة وينبع وخيبر وسائر مدن الحجاز ونجد.
وفي سنة 993ه مات أبو نمي، وقد دامت ولايته على الحجاز استقلالا ومشاركة اثنين وسبعين سنة وهي أطول مدة حكمها حاكم في الحجاز،
8
وقد سار ابنه الشريف الحسن بالبلاد سيرة حسنة، وفي سنة 1010ه توجه لإخماد ثورة في نجد فمات هناك، وتولى الولاية من بعده ابنه الشريف أبو طالب، وكان فتى شجاعا حازما طهر البلاد من المفسدين، وضرب على أيدي الأعراب وأهل الفتن، وظل في الولاية إلى أن مات سنة 1012ه.
فتولى من بعده أخوه الشريف إدريس أبو عون، وكان شجاعا فاتحا، امتدت فتوحه إلى أقصى شرق الجزيرة حتى بلغت الأحساء، وفي سنة 1034ه اجتمع بعض الأشراف والعلماء والفقهاء في الحجاز، وتدارسوا الأوضاع ورأوا أن الشريف إدريس لم يعد صالحا للبقاء في الولاية فطلبوا إليه أن يعتزل ويولي ابن أخيه الشريف محسنا، وكتبوا بذلك إلى الباب العالي فأقرهم على ذلك،
9
ثم وقعت فتنة بين الأشراف فانقسموا فريقين، واضطر الشريف محسن أن يفر إلى اليمن حيث لاقى حتفه في سنة 1038ه وتولى الأمر من بعده الشريف أحمد بن عبد المطلب بن الحسن، وفتك بكثير من جماعة الشريف محسن ومنهم المفتي الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي، وساءت سيرة أحمد بالناس، وضاقوا به ذرعا، ولما قدم «قانصوه» باشا قاصدا اليمن بلغته أخباره فعمد إلى الحجاز وقتل أحمد في سنة 1039ه وعمل على توطيد الأمن فيها وتولية الشريف مسعود بن إدريس مكانه، وكان جوادا كريما حسن التدبير، ولكنه لم يلبث طويلا حتى مات في سنة 1040ه فتولى بعده الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي، جد الأشراف المعروفين بآل عون، وقد أجمع الأشراف على ولايته فأقرتهم دار الخلافة على ذلك،
10
ولكنه لم يلبث أن خلع نفسه في سنة 1041ه تعففا وديانة، ونزل عن الولاية لولده محمد، فلم يلبث محمد أن مات، فقام ابنه محمد بأعباء الولاية خير قيام.
وفي عهده جرت وقعة الجلالية، وخلاصتها: أن عسكر اليمن خرجوا على طاعة «قانصوه» باشا، وذهبوا إلى القنفذة، فاستمالهم الشريف ناجي بن عبد المطلب وذهب بهم إلى مكة، فلما بلغوا حدودها بعثوا كتابا إلى الشريف محمد يطلبون الإذن لهم بدخول مكة فرفض الشريف محمد ذلك، وبينما كانوا يتأهبون للقتال أقبل عليهم الجنود العثمانيون، والتقى الجمعان، وقتل من الطرفين مقتلة عظيمة، وكان من القتلى الشريف محمد نفسه، فتولى الأمر من بعده في سنة 1041ه الشريف نامي، وما أن استتبت له الأمور حتى أرسل إلى دلاور آغا أمير جدة يطلب إليه أن يسلمه الثغر فأبى، وكانت معركة كبيرة بين الطرفين، نهبت فيها جدة، واضطرب حبل الأمان في الحجاز كله ، فقام الشريف زيد بن محسن بثورة عنيفة مستعينا بجماعة من الجنود المصريين الذين قدموا مع المحمل المصري، واضطر نامي أخيرا إلى الهرب من مكة، فلحق به الجنود وقتلوه وحرقوه وأذروه رمادا، واستقرت الأمور لزيد، وكان حاكما عادلا فاضلا، وفي عهده ورد أمر سلطاني من إستانبول بمنع الحجاج الإيرانيين من الحج والزيارة، ونادى المنادي في السابع عشر من ذي الحجة سنة 1047ه بوجوب خروج الحجاج الإيرانيين من بين جموع الحجاج المسلمين، وظل زيد في الولاية إلى أن مات في سنة 1077ه فاختلف أولاده على الولاية، وكادت أن تقع فتنة كبيرة بينهم، فتدخل في الأمر عماد الدين أفندي التركي شيخ الحرم، واستقرت الأمور على أن يتولى الشريف سعد بن زيد على أنه قائم مقام أخيه محمد يحيى، ثم وقعت فتن كثيرة بين الأشراف، واضطرب أمر البلاد، وبخاصة في سنة 1079ه، فقد عم الجزيرة ضنك شديد، وأصابتها سنة قاحلة اضطر الناس فيها إلى أكل لحوم الكلاب والقطط والرمم، ولما ورد الحاج الشامي قدم معه الوزير حسن باشا، وقد فوضت إليه الدولة أمر جدة ومشيخة الحرم والنظر في شئون مكة، وما أن وصل إلى المدينة حتى أغراه الناس بجماعة الشريف سعد فأراد الفتك بهم، فثار الشريف عليه، ثم سويت الأمور حتى وصل حسن باشا إلى مكة واتفق مع الشريف سعد، وسارت الأوضاع العامة سيرة حسنة، وفي سنة 1082ه رجع حسن باشا إلى الحجاز، ولما بلغ جدة أعلن أنه قادم لتنحية الشريف سعد وتولية الشريف أحمد بن محمد الحارث، فوقعت فتنة كبيرة بين جماعة الشريفين، واضطر الشريف سعد إلى مغادرة البلاد، واللجوء إلى الديار الرومية.
وفي سنة 1083ه اجتمع الأشراف ومن بينهم الشريف أحمد بن محمد الحارث، وجاء حسن باشا معلنا ولاية الشريف بركات بن محمد، ففرح الناس بذلك لما كان يتحلى به وهنئوه بالشرافة، واطمأن الوضع في أيامه، وكان موضع ثقة الباب العالي، قال صاحب خلاصة الأثر: وحظي عند السلطنة، وكان مقبول الكلمة عندهم لما كان لكثيره من مداراتهم، وكان كثير الإحسان للأشراف كثير التعطف بهم، وتقووا في زمنه وقويت شوكتهم وكثرت أموالهم، وبسبب ذلك بقي كبار الأشراف وصغارهم تحت طوعه، وحمدت طريقته، وأمنت في زمنه السبل، وربحت التجار، وانتظم الأمر خصوصا للحجاج.
وقد ظل على سيرته الحميدة هذه إلى أن توفي سنة 1094ه، فتولى بعده ابنه الشريف سعيد، وألبسه القاضي خلعة الاستمرار بموجب أمر السلطان الذي بيده، والذي يتضمن كونه ولي عهد أبيه ، ولم ينازعه أحد من الأشراف، ثم وصلته خلعة الاستمرار من صاحب مصر، ووردت بعدها من السلطان العثماني، ولم تمض فترة حتى جاءت إرادة سلطانية من إستانبول تقضي بجعل الولاية أرباعا؛ ربع للشريف سعيد، والأرباع الثلاثة الباقية لسائر الأشراف، فوقعت الاختلافات بينهم وفسدت أمور البلاد، وصار عبيد كل شريف وجماعته يجمعون الأموال، ولاقى الناس منهم بلاء عظيما، واستمرت هذه الحالة إلى أن حان وقت الحج، فاجتمع الشريف سعيد وحاكم مكة القائد أحمد بن جوهر وأمير الحاج الشامي وأمير الحاج المصري، وتداولوا هذا الأمر فلم يصلوا إلى قرار تستتب به الأوضاع، وزاد الفساد واضطرب حبل الأمن وانقطعت السبل، ولم يعد يأمن الناس على أنفسهم من السير بعد الغروب، وكثرت القتلى والتعديات، وازدادت أضرار عبيد الأشراف ومماليكهم وجماعاتهم، وفسد الأمر حتى اضطر الشريف سعيد أن يرسل إلى الباب العالي ترجمانه، ويذكر فساد الحالة في مكة، وأنها خربت، فمن الواجب إرسال جند نظاميين يضبطون أحوالها، فلما بلغ الترجمان إلى الباب العالي شاور السلطان أولي الأمر، وكان في الأستانة يومئذ الشريف أحمد بن زيد، فتم الاتفاق على إرساله إلى مكة، وذهب في مطلع عام 1095ه فاستأنس الناس به، وعادت المياه إلى مجاريها شيئا فشيئا؛ لما كان يتمتع به من الحزم والعقل، وظل في الولاية إلى أن مات في سنة 1099ه فاجتمع أركان البلاد واتفقوا على إقامة ابن أخيه الشريف سعيد بن سعد، فعارضه بذلك الشريف أحمد بن غالب، ووقعت فتنة بين الاثنين انتهت بانكسار الشريف أحمد وجماعته، واضطر إلى أن يفر إلى اليمن، أما الشريف محسن فإنه دخل مكة في فجر عام 1101ه وأخذت تأتيه رسائل من الشريف أحمد كلها تهديد وإنذار، كما أتت رسائل إلى أعيان الحجاز ومنها تهديد وإنذار بغارة قوية أثناء الموسم، وذاع خبر هذه الرسائل بين الناس فاضطربوا لها، وترقبوا زحف الشريف أحمد بن غالب مع جماعات من اليمن،
11
ولم ير الشريف محسن بدا من الاستنجاد بصاحب مصر، ولكن لما مضى موسم الحج ولم يجئ أحد تبين للشريف محسن أن الرسائل مكذوبة من بعض الأشراف في الحجاز فهدأت الحالة.
وفي سنة 1102ه تفرقت كلمة الأشراف في الحجاز، وخرجوا إلى الطرقات العامة، وأكثروا النهب والسلب وبخاصة في جهات جدة، واشتدت الحالة على الناس حتى أجمع أمرهم أخيرا على الكتابة إلى السلطان يشكون إليه سوء الحالة وما يقع من الأشراف، وأن العساكر السلطانية لا تطيع أوامر الشريف لتهدئة الحالة، فلم يكترث الباب العالي للأمر، واضطر الشريف محسن أن يتنازل للشريف سعيد بن سعد في سنة 1103ه، فتولى الشرافة للمرة الثانية فسار سيرة عنيفة لا يهاب سلطانا ولا يخضع لقانون، ولم يلبث قليلا حتى جاءه الفرمان من الباب العالي بإقراره في الشرافة، وقد وقعت في البلاد فتن كثيرة من جراء قسوته وسوء معاملته للناس والأشراف، ولما ضج العامة من سوء تصرفه رأى العقلاء أن يكتبوا للباب العالي باستبداله، فوردت عليهم البشائر بتفويض أمر الديار الحجازية لأبيه الشريف سعد بن زيد وأن يكون ابنه الشريف سعيد نائبا عنه، فهدأت الأحوال هدوءا نسبيا.
وفي سنة 1105ه كثر الأشقياء والمفسدون في البلاد فانقطعت الطرق وتفاقم الأمر حتى اضطر الشريف سعد أن يعس في الليل بنفسه مع العساكر إلى أن انقطعت أسباب الفتن، ولم تهدأ الحالة إلا حين جاءت الأخبار بأن الشريف أحمد بن غالب قد هجم على مدينة القنقذة واستولى عليها، وأنه في طريقه إلى مكة، فاستنجد الشريف سعد بالباب العالي فبعث إليه بجيش عليه إسماعيل باشا ومعه محمد باشا صاحب جدة، ولما علم الشريف أحمد بقدومهما كتب إلى الشريف سعد يعلمه بخضوعه للدولة وأنه قادم للحج، وهدأت الأحوال من جديد إلى أن وقعت واقعة بين الشريف سعد وبين محمد باشا صاحب جدة، فكتب هذا إلى الباب العالي يطلب عزل الشريف وتولية الشرافة لعبد الله بن هاشم، ووافق الباب العالي على ذلك، ووقعت حروب وفتن طويلة بين الجانبين انتهت بانهزام الشريف سعد وتولية الشريف عبد الله، وكان هذا على جانب من الحزم والسياسة، وقد أراد أن يسير بالبلاد سيرة رشيدة، ويقضي على الفتن والثورات كما يقضي على سلطة الأشراف، ولكنه لم يلبث أن هلك في سنة 1113ه بعد أن قضى أربعة أشهر في الحكم، فلما مات طلب الأهلون من الباشا أن يكفيهم شر الشريف أحمد بن غالب الذي أعلن العصيان والفتنة، وبعث يتهدد وجهاء الأهلين، فقال لهم الباشا: دعوا الأشراف يجمعون على واحد منهم يتولى شرافة البلاد، فقالوا له: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يتفقوا على واحد وكل فرد منهم يطمع في هذا المنصب، والرأي الصواب هو أن يعود الشريف سعد، وهكذا كان، فقد دخل الشريف سعد إلى مكة وتولاها للمرة الثالثة، واستقرت الأمور فترة، ثم عاد الأشراف إلى فتنتهم السابقة، مطالبين برواتبهم وجامكياتهم ومعاليمهم مدعين بأن الشريف سعدا قد حرمهم من ذلك، وساروا نحو الطائف يعيثون فيها فسادا، فضاق بهم الشريف سعد ذرعا، ثم استدعى رؤساءهم وأعطاهم ما يريدون، فهدأت الحالة بعد أن لقي الناس منها عناء كبيرا.
وفي أواخر عام 1113ه رأى الشريف سعد أن يتخلى عن منصبه لابنه سعيد، وكتب بذلك إلى الباب العالي في الأستانة، فجاءته الموافقة، واستقرت الحالة بعض الشيء إلى أن كانت سنة 1115ه فانتفض الأشراف على الشريف سعيد، وتدخل أبوه بينه وبينهم فلم يقبلوا، وبعثوا بعبيدهم ومماليكهم يفسدون في الأرض، وينهبون الأموال ويقطعون السبل، فعاد الشريف سعد للسعي بين ابنه وبينهم وتم له ذلك، وتعهد بأن يدفع لهم من ماله بعض استحقاقاتهم فقبلوا ذلك على شريطة أن يتغاضى عما وقع منهم من أعمال السلب والنهب، فلم يرض الشريف سعد إلا بمحاسبتهم على أعمالهم التي اقترفوها وإقامة الحد الشرعي ورد ما سلبوه، فلما علموا بذلك خرجوا من مكة إلى أن حان الموسم، وأرادوا أن يعبثوا بالحجاج فتصدى لهم سليمان باشا أمير جدة، ونهاهم عن الفساد، ووعدهم بأعطياتهم على شريطة أن يحفظوا الطرق ويؤمنوا قوافل الحجيج، وأبلغ الشريف في مكة ما تعهد لهم به، فوافق الشريف على ذلك، ولكنهم لم يلتزموا ما تعهدوا به.
وقضى الحجاج مناسكهم وهم في غاية الخوف، ولم يستطع أهل مكة أن يحجوا ذلك العام؛ لأنهم خافوا من الأشراف ومماليكهم الذين شيعوا أنهم سيدخلون مكة ويفتكون بأهلها، ثم إن الشريف بعث إليهم يستدعيهم، فأرسلوا إليه وفدا، وتناقشوا واتفقوا على إنهاء هذه الفتنة التي طال أمدها في محرم سنة 1116ه، ولكن لم يمض وقت طويل حتى عاد الأشراف وعبيدهم ومماليكهم إلى ما كانوا عليه من الفساد، وكيف يستقيم قوم جعلوا الشر ديدنهم والفساد طويتهم، وهم يدعون أنهم أبناء الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأنهم رحماء بينهم، وأنهم حملة الخير والحكمة والاستقامة وحفظ الدين؟! وقد كان بلاؤهم في هذه المرة شديدا، وتداخل الجند والأسباهية والانكشارية والأعراب في الحرب واشتد سعيرها، واضطر الشريف سعيد إلى إرسال الوسطاء، وتعهد بدفع مشاهرات الأشراف، فلم يقبلوا وعزموا على الثورة بعد أن ولوا أمورهم الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد، ووقعت معركة كبيرة بين الطرفين حتى احتمى جماعة الشريف سعيد بمكة، وضاق عليهم الأمر، واضطر الشريف إلى الهرب بنفسه، ودخل الثوار مكة، وأجبروا الشريف سعيدا على أن يتنازل لابن عمه الشريف عبد الكريم بن محمد، وأقره على ذلك جميع الأشراف ما عدا الشريف سعيدا وأباه سعدا؛ فإنهما خرجا مغاضبين، وأخذا يجمعان الأعراب حولهما لمحاربة الشريف عبد الكريم وجماعته، فتمكنا من الاستيلاء على مكة، وتسلط الشريف سعد من جديد على ولاية الحجاز للمرة الرابعة، ولكنه لم يلبث في هذه المرة إلا أياما حتى عاد الشريف عبد الكريم فتغلب عليه، وهلك الناس مهلكة عظيمة من جراء هذه المآسي حتى قتل في إحدى المعارك التي وقعت بين الطرفين نحو من ألف ومائتي رجل،
12
وظلت الأمور قلقة حتى أواخر سنة 1116ه حين مات الشريف سعد، واستقر ابنه الشريف سعيد في الشرافة للمرة الرابعة، واستقامت له الأمور فترة، ثم رجع الأشراف ومماليكهم إلى السلب والنهب وكثرت الاضطرابات، وكثيرا ما كانت تتعطل الشعائر الدينية من صلوات وحج، وربما قتل الناس في المسجد الحرام، وباتوا في خوف ووجل شديدين، ومما زاد الأمر اضطرابا حركات «الانكشارية» التي كانت تؤرج النار ضراما وتفسد البلاد، ولا أحد يستطيع الوقوف في سبيلهم والحد من ظلمهم .
وفي سنة 1117ه رجع الشريف عبد الكريم إلى مكة ومعه عساكر مصر وعساكر الوزير سليمان باشا، ولما وصلوا المسجد الحرام، وفتحت الكعبة، وجدوا القاضي والمفتي والأعيان وأهل المناصب في محلهم على العادة المألوفة، ولما استقر الشريف في مكانه قدموا إليه الكسوة السلطانية وهي مكونة من قفطان - أي جبة بالسمور والفرو - ثم أخذ ينعم على الحاضرين بالكسى والقفاطين والتشاريف، وقرئ الأمر السلطاني بتسمية الشريف عبد الكريم، وهذه هي المرة الثالثة التي يتولى فيها، ولما تمت المراسيم جمع الأشراف وسليمان باشا وشيخ الحرم والقاضي والمفتي وكبار المفتين والعلماء وآغوات العساكر والأعيان، وقال لهم فيما قال: قد شاهدتم ما وقع من التعب والشقاق حتى آل الأمر إلى الحرب، وتعبنا نحن والرعايا، وعمت الفتن، وأصيب فيها الغني والفقير، وذهب بسببها الأموال والرجال، والموجب لهذا كله زيادة المعالم الخارجة عن المعتاد التي عجز عن تحصيلها العباد والبلاد، فكل ملك يتولى، يحصل بينكم وبينه التعب والمشقة بسبب المعلوم، فالقصد منكم أن تنظروا في مدخول البلاد، وتوزعوه أرباعا؛ فثلاثة أرباع تكون بينكم، والربع لي ولجماعتي وعسكري ومهمات البلد، فرضي الجميع بما قاله، وسجل القاضي كلامه في حجة شرعية،
13
وتم الصلح وانصرف الجميع إلى أعمالهم، ولم تمض فترة حتى وردت الأنباء بأن الشريف سعيدا قد جمع جموعا من البدو والمماليك يريد بهم مكة، فاستعد له الشريف عبد الكريم، والتقى الجمعان، فتفرق جماعة الشريف سعيد، ورجع الشريف عبد الكريم إلى مكة، وبعث بعض جنده للحاق بالشريف سعيد الذي فر إلى الطائف، فردهم ووطد أمره في الطائف، وجمع جمعا أراد به الزحف إلى مكة، وعلم بذلك الشريف عبد الكريم فعاجله وشتت جموعه واستولى على الطائف، ولكن سعيدا تمكن من أن يستعيدها بعد أن غادرها عبد الكريم، فلم يبق فيها إلا مدة فرض فيها على أهلها بعض المال فأخذه وهرب، وفي سنة 1120ه انضم إليه بعض الأشراف الذين غضبوا من الشريف عبد الكريم، وعزم على الاستيلاء على مكة فردهم الشريف عبد الكريم، إلى أن كانت سنة 1123ه فجمع جموعه واتجه نحو مكة فدخلها، ووردت الرسل بأن السلطان العثماني قد أنعم عليه بالشرافة فخرج عبد الكريم إلى مصر، أما سعيد فإنه شرع بعد دخوله إلى مكة في توطيد أركانه وإصلاح ما فسد، وسار بالناس سيرة حسنة كأنه يريد التكفير عن سيئاته، وظل على ذلك إلى أن مات في سنة 1129ه، فتولى الأمر من بعده ابنه عبد الله، وسار بالناس في مبدأ أمره أحسن سيرة، ثم ما لبث أن عدل عن النهج القويم، وأفسد البلاد، فتجمع الناس، ونادوا بعزله وتولية أخيه علي في فجر عام 1130ه وكتبوا بذلك إلى السلطان العثماني فوافقهم وهدأت الحالة، ولكنها ما لبثت أن اضطربت للخلاف الذي نشب بين الشريف علي وسائر الأشراف الذين خرجوا من مكة مغاضبين لقطع معاليمهم وعوائدهم المقررة، فلما قدم الحجيج الشامي وأميرهم الوزير الحاج رجب باشا شكوا إليه أمرهم، وأنهم يريدون عزل علي وتولية الشريف يحيى بن بركات، فلما طلبهم وعهد بالأمر إلى الشريف يحيى.
وكان يحيى رجلا حازما قويا سار بالبلاد سيرة حسنة إلى أن كانت سنة 1132ه فتغلب عليه الشريف مبارك بن أحمد، وفي عهده في سنة 1134ه وقعت الفتنة الكبرى بين آغوات الحرم المدني وبين أهل المدينة حتى تحصن الآغوات في المسجد، وأخذوا يطلقون النار على الأهلين من المنائر فتعطلت الصلاة، وقتل من الأهلين جماعات إلى أن عزل الشريف مبارك وتولى الشريف يحيى للمرة الثانية، ولم يلبث في شرافته هذه إلا مدة حتى تنازل عنها لولده الشريف بركات في سنة 1135ه فغضب الأشراف من هذا التصرف وأعلنوا عصيانهم، وذهبوا إلى الشريف مبارك، وانضموا إليه، وحرضوه على إعلان الثورة، فعزم الشريف بركات على تأديبهم وخرج هو وإسماعيل باشا أمير جدة للقائهم والتقى الجمعان في المحرم سنة 1136ه، فانهزم الشريف بركات وجماعته، وانتصر الشريف مبارك، ولقيت البلاد بلاء عظيما من هذه المحنة، وغلت أسعارها، وثارت العامة على الشريف مبارك طالبة إليه أن يترك منصبه، فخرج من مكة وتولاها الشريف عبد الله للمرة الثانية، فأساء السيرة وظلم الرعية، وفرض على التجار من سكان مكة وجدة والطائف والواردين من جميع الأقطار أموالا جسيمة وضرائب باهظة، وقاسى الناس منه ومن الأشراف ويلات حتى كانت سنة 1140ه فهطلت أمطار كثيرة، ورخصت الأسعار، وكثرت الخيرات، واستراح الناس، واستعادوا بعض نشاطهم، واستمرت الأمور إلى سنة 1143ه وفيها هلك الشريف عبد الله، وتولى مكانه ابنه الشريف محمد، واستمر إلى سنة 1145ه، وكان رجلا حسن الإدارة والسيرة فتصرف بالبلاد وأحسن إلى الحجاج، ولكن الأشراف لم يرضوا عنه فتخلى عن منصبه للشريف مسعود بن سعيد، ولم يبق إلا فترة حتى تنازل عنه للشريف محمد بن عبد الله، ثم اضطر هذا إلى أن يخلع نفسه ويتولى الشريف مسعود، فلقيت البلاد من هذا التنقل بلاء وفوضى، ولما رأى ذلك زعيم الأشراف محسن بن عبد الله تألم له أشد تألم، فسافر إلى الشام مهاجرا مع أمير الحاج الشامي سليمان باشا العظم وهناك مات.
14
وقد ظل مسعود في شرافته إلى سنة 1165ه وفيها مات، فتولى الولاية من بعده أخوه الشريف مساعد، وسار بالناس سيرة مضطربة إلى أن جاء الحجاز عبد الله باشا أمير الحاج الشامي في سنة 1172ه فبلغه سوء سيرته وما تقاسيه الناس منه فعزله وولى أخاه جعفرا، فلم يقبل جعفر وظل الشريف مساعد إلى سنة 1184ه فتولى الأمر من بعده أخوه الشريف عبد الله، ولم يطل عهده بل تنازل لأخيه الشريف أحمد، وفي أيامه وقعت الفتنة الكبرى بين الشريف أحمد وبين محسن بك أبي الذهب الذي بعثه صاحب مصر ليعزله الشريف أحمد، ويولي الشريف عبد الله مكانه، فوقعت البلاد في فوضى، وكثر السلب والنهب، وانتشر البدو الذين جاءوا مع الشريف عبد الله في البلاد، وهم يعيثون فيها الفساد وينهبون الأهلين، إلى أن انتصر الجند المصري مع أبي الذهب، ودخلوا مكة والشريف عبد الله يتقدمهم في سنة 1184ه، ولقد لقي الحجاز من أبي الذهب وجنوده تعبا ومشقة؛ فإنهم نهبوا الدور والقصور، وأساءوا معاملة العلماء والوجوه، ولم يتركوا البلاد إلا بعد أن ساءت أحوالها، ولما غادروها اجتمع الأهلون، وخلعوا الشريف عبد الله وأعادوا الشريف أحمد، وأول عمل قام به هو إحراقه بعض دور الأشراف الذين اتهمهم بإحراق قصر دار السعادة، وهو مقر الشرافة، وبهدم بعض قصور البلد وأبوابها، ولم يكن الشريف أحمد أحسن سيرة من سلفه؛ فقد أباح لجنده نهب بيوت الناس والاستيلاء على أموالهم في مكة وجدة والمدينة، فأفسدوا الحرث والنسل واشتد كرب الأهلين، وعم الغلاء حتى أكل الناس القطط، وشربوا الدماء، ولم تكن حال البوادي خيرا من حال الحواضر، فقد ضج أهلها، وظلت الأمور قلقة إلى سنة 1185ه حين قدم الحجيج المصري الشامي، وأحضرا معهما الأقوات والأقمشة فانفرجت الأزمة، وفي سنة 1186ه ثار الشريف مسرور بن مساعد على عمه الشريف أحمد وأخرجه من مكة بعد أن هزم جنده، واستولى على الشرافة، فذهب عمه يستصرخ القبائل ليعود إلى ولايته، ووقعت بينه وبين ابن أخيه خمس عشرة موقعة
15
أهلكت الناس، ولم تنته هذه المواقع إلا في سنة 1193ه حين تغلب مسرور على عمه، وفرق جنده، وقبض عليه أسيرا مهانا في ينبع حيث لم يبق إلا أياما مات بعدها هو وولده، واستقرت الأمور للشريف مسرور فأخذ يعمل على تهدئة الحالة، والضرب على أيدي العتاة والمفسدين وقطاع الطرق، ولما استتب له الأمر عزم على الزواج، فخطب ابنة مولاي محمد سلطان المغرب الأقصى، وزفت إليه في سنة 1193ه مع كثير من الهدايا والتحف، وكانت سنة خير على الأهلين.
وفي سنة 1194ه عزم الشريف على زيارة المدينة المنورة، وكان معه ثلاثة آلاف وخمسمائة جمل ومائتان وخمسون خيالا وخمسة آلاف من العربان وخمسمائة من الأشراف، وكثير من الكراع والأموال، فلما وصل إلى «بدر» ثار أهلها وحاولوا الفتك به وبجماعته فتغلب عليهم وقتل نفرا منهم، ثم سار حتى المدينة فخاف أهلها منه، وأضمروا له الشر لما بلغهم عن قسوته على الرغم من كثرة الأموال التي نثرها عليهم، ووقعت فتنة بين الأهلين والجنود، واضطر الشريف أن يترك المدينة إلى مكة، وساد الهرج والمرج وعمت الفوضى إلى أن هلك في سنة 1202ه.
الفصل الثالث عشر
المغرب العربي في شمال إفريقية منذ القرن الثامن للهجرة حتى فجر القرن الثالث
عشر
ذكرنا في تأريخ «عصر الاتساق» شيئا عن تاريخ المغرب العربي، والدول التي ظهرت فيه، كما ألممنا بشيء من تاريخ بلاد الأندلس، والدول التي ظهرت فيها منذ الفتح العربي إلى أن خرج منها المسلمون.
1
أما بلاد المغرب العربي في القرن السابع للهجرة والقرن الثالث عشر للميلاد، وما يتبعها من جزائر الباليار، فقد كان يتنازع الحكم فيها دولتان عظيمتان، هما: دولة الموحدين ودولة المرينيين، ودولة الحفصيين، فجزائر الباليار كانت خاضعة للملوك الموحدين، وبلاد مراكش كانت تحت سيطرة الموحدين، ثم أخذها منهم المرينيون بعد سنة 668ه/1269م، وبلاد الجزائر الغربية كانت تحت سيطرة الموحدين حتى سنة 634ه/1236م، ثم سيطر عليها الحفصيون فالمرينيون بعد سنة 669ه/1270م، وبلاد الجزائر الشرقية وتونس وطرابلس كانت تحت سيطرة الموحدين إلى سنة 628ه/1230م، ثم في سنة 628ه/1230م اختص الحفصيون بتونس.
وما أن جاء القرن الثامن للهجرة، الرابع عشر للميلاد حتى غدت السلطة في تلك الديار كما يلي:
بلاد مراكش:
كانت خاضعة للمرينيين، وقد استطاع الإسبان أن يقتطعوا منها منطقة تطوان في سنة 802ه/1399م.
وبلاد الجزائر الغربية:
كانت منقسمة بين بني زيان، وبني مرين في تلمسان.
وبلاد الجزائر الشرقية وتونس وطرابلس:
كانت خاضعة لسيطرة الحفصيين حتى سنة 748ه/1347م، وفي هذه السنة فتحها المرينيون.
وبلاد برقة:
كانت خاضعة لنفوذ المماليك المصريين.
ولما أطل القرن التاسع للهجرة، الخامس عشر للميلاد كانت بلاد مراكش ما تزال تحت سيطرة المرينيين إلى سنة 870ه/1465م حين سيطر عليها بنو وطاس، وفي سنة 875ه/1470م اقتطع الإسبان منها مدن طنجة وسبتة ومليلة.
وأما بلاد الجزائر:
فكانت موزعة بين بني زيان في إقليم تلمسان، وبني حفص في بعض أقاليمها، ثم استطاع بنو زيان السيطرة عليها كلها.
وأما تونس وطرابلس:
فقد كانت تحت سيطرة الحفصيين.
وأما بلاد برقة:
فكانت خاضعة لبعض شيوخ البدو.
ولما جاء القرن العاشر للهجرة، السادس عشر للميلاد كانت بلاد مراكش كلها خاضعة لبني وطاس، وظلت كذلك حتى سنة 916ه/1510م ثم استطاع الأشراف السعديون أخذها منهم إلى سنة 962ه/1554م، واستطاع الإسبان السيطرة على عدد من المدن والموانئ.
وأما بلاد الجزائر:
فكانت تحت سيطرة الزيانيين إلى سنة 964ه/1556م، ثم خضعت للنفوذ العثماني التركي.
وأما بلاد تونس:
فظلت خاضعة للحفصيين حتى سنة 941ه/1534م، ثم أخذ يتنازعها نفوذ الإسبان والأتراك العثمانيين إلى أن استطاع الأتراك السيطرة عليها تماما بعد سنة 982ه/1574م.
وأما بلاد طرابلس:
فظلت تحت سيطرة الحفصيين حتى سنة 916ه/1510م، ثم استولى عليها الإسبان إلى سنة 958-959ه/1551م حين استولى عليها الأتراك العثمانيون.
وفي القرن الحادي عشر للهجرة، السابع عشر للميلاد ظلت مراكش خاضعة لنفوذ الأشراف السعديين حتى سنة 1658م، ثم استطاع الأشراف الغلالية السيطرة عليها بعد سنة 1075ه/1664م، كما اقتطع البرتغاليون والإسبان والإنكليز أجزاء منها.
وأما بلاد الجزائر:
فقد ظلت خاضعة للنفوذ التركي إلى أن كانت سنة 1082ه/1671م فاستولى الفرنسيون على مدينة الجزائر، والإسبان على مدينة وهران.
وأما تونس وطرابلس وبرقة:
فخضعت للأتراك العثمانيين تماما.
وفي القرن الثاني عشر للهجرة، الثامن عشر للميلاد، كانت بلاد مراكش خاضعة للأشراف الغلالية في منطقتي فاس ومراكش، كما كانت مناطق مليلة وسبتة خاضعتين للإسبانيين، ومناطق آسفي ومازكان تحت السيطرة البرتغالية.
أما بلاد الجزائر:
فكانت خاضعة للسيطرة العثمانية، ثم استقل «داياتها» بالحكم بعد سنة 1122ه/1710م.
وأما بلاد تونس:
فكانت تحت سيطرة البايات الخاضعين للنفوذ العثماني حتى سنة 1117ه/1705م، ثم استطاعت الاستقلال عن الدولة العثمانية تحت لواء الأسرة الحسينية منذ عام 1117ه/1705م.
وأما بلاد طرابلس:
فكانت تحت سلطان الأتراك إلى أن كانت سنة 1126ه/1714م فاستقلت بها أسرة القره مانلي تحت إشراف العثمانيين.
وفي فجر القرن الثالث عشر للهجرة، التاسع عشر للميلاد كانت بلاد شمال إفريقية كما يلي:
بلاد مراكش:
كانت تحت سلطان الأشراف الفلالية إلى أن هاجمها الفرنسيون في سنة 1260ه/1844م، ثم طردهم الأشراف عنها إلى أن كانت سنة 1912م ففرضوا عليها حمايتهم، وكانت بلاد سبتة ومليلة تحت السيطرة الإسبانية.
بلاد الجزائر:
تحت سيطرة «داياتها» إلى أن كانت سنة 1265ه/1848م فاحتلها الفرنسيون.
بلاد تونس:
كانت تحت سيطرة باياتها إلى أن فتحها الفرنسيون 1301ه/1883م.
وبلاد طرابلس وبرقة:
كانتا تحت سيطرة أسرة القره مانلي، ثم وطد الأتراك العثمانيون سلطانهم فيها إلى أن كانت سنة 1911م فاحتلها الإيطاليون.
هذه نظرة عجلى في أوضاع شمال إفريقية حتى فجر القرن الثالث عشر للهجرة، وسنفصل بعض الحوادث في الجزء الخاص بعصر «الانبعاث» من تاريخ الأمة العربية.
عصر الانحدار
في التاريخ الاجتماعي والثقافي والأدبي للأقطار الآتية: العراق، الشام، مصر، الجزيرة العربية، المغرب العربي
الفصل الأول
الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد
اضطربت الحالة الاجتماعية في أواخر العهد العباسي تبعا للاضطراب السياسي؛ فقصر الخليفة أضحى مجمعا لأقوام من الحثالات الترك والكرد والفرس والروم والصقالبة، كل يتكلم بلغته ويعمل على بسط نفوذه والقضاء على خصومه، والخليفة المسكين بينهم كالدمية يتلاعبون به ويسيرونه كما يشاءون.
وإذا كانت هذه هي الحالة في القرنين الخامس والسادس للهجرة والخلافة هي الخلافة، والسلطان العباسي على جانب عظيم من القوة، فماذا تكون الحالة في أواخر القرن السابع، وقد اضمحل كل نفوذ عربي أو كاد، وأصبح الخليفة قانعا بمطعمه وملبسه ونسائه وجواريه وغلمانه، ولقد أدى هذا الأمر إلى انزواء المرأة العربية الشريفة ذات الماضي المجيد، والنشاط القوي، وحلت محلها السريات والجاريات من بنات الأتراك والروم والفرس والكرد والصقالبة، وتولى أمر قصور الخلافة وقصور الأمراء والأعيان - وراء ذلك - شراذم من المماليك الترك، فعلت كلمتهم على كل كلمة، وارتفع صوتهم على صوت أسيادهم، واستمر نفوذهم في تعمق حتى صاروا يولون الخليفة ويعزلونه ويقتلونه، وأصبح ولاة العهد وشبان البيت المالك العباسي عشراء المماليك والخدم، فتخلقوا بأخلاقهم، وأفضوا إليهم بأسرارهم وأحوال قصورهم، وصار هؤلاء المماليك سادة القصور وأمراءها الحقيقيين، وكان بلاء هؤلاء القوم يزداد حينما يتولى أحد من هؤلاء الشبان الخلافة أو غيرها من كبار أعمال الدولة، فإنهم كانوا يتصرفون بأعمال هؤلاء الشبان، والخليفة والأمير لا حول له ولا طول، يقضي أوقاته في الصيد واللهو واللعب؛ فهذا الخليفة المستعصم بالله كان حينما تولى الخلافة شابا شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه في التنعم والملذات لا يراعون له صلاحا، وكتبت له الرقاع، في أبواب دار الخلافة، فمن ذلك:
قل للخليفة مهلا
أتاك ما لا تحب
ها قد دهتك فنون
من المصائب غرب
فانهض بعزم وإلا
غشاك ويل وحرب
كسر وهتك وأسر
ضرب ونهب وسلب
كل ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني،
1
وإذا كانت هذه حال الخليفة فإن حالات الأمراء والوزراء والأعيان أقبح وأشنع.
أما مظاهر الترف فقد بلغت حدا يفوق الوصف؛ لأن الأموال التي كانت تجبى لمصالح العامة، أضحت أموالا يتصرف بها الخليفة ومماليكه وأمراؤه، ولا ينفقونها في السبيل التي جمعت من أجلها من كري الأنهار، وفتح الطرق، وعمارة المؤسسات العامة، وخدمة مصالح الشعب، بل أخذوا ينفقونها في شراء الألبسة الثمينة والفراء الغالي والرياش الفاخرة، ويتأنقون في الأطعمة والأشربة وأدواتهما، كما كانوا يغالون في استحضار ما اشتهر بطيبه من ألوان الفاكهة والطيوب والعطور واللحوم والطيور، وكانوا يكنزون الذهب والفضة والحجارة الكريمة، مع أن جماعة الشعب في أشد حالات الضيق والبؤس والعري والمرض والجهل، وقد ذكر المؤرخون أن هولاكو حينما دخل قصر الخلافة وطلب من الخليفة أن يحضر إليه كنوزه ونفائس رياشه وذخائره، كان الخليفة «يرجف من الخوف، ومندهشا لدرجة أنه عاد لا يعلم مفاتيح خزائنه، فأمر أن تكسر الأقفال، فأخرجوا ما يقدر بألفين من الثياب، وعشرة آلاف دينار، ونفائس مرصعات، وجواهر عديدة، فلم يلتفت هولاكو إلى هذه الأشياء، ووزعها على الأمراء الحاضرين، ثم خاطب الخليفة: بأن الأموال الموجودة في سطح الأرض ظاهرة، فنريد أن تبين الدفائن وموضعها وماهيتها، فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء من الذهب في وسط السراي، فأخذوا يحفرون المكان الذي عينه فوجدوه مملوءا من الذهب الإبريز، وكانت كل قطعة منه بزنة مائة مثقال، ثم أمر أن يحصوا حرم الخليفة فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا، وألفا من الخدم.»
2
وقد يكون هذا العدد مبالغا فيه، ولكنه على أي حال عدد مخيف، فإن أمة كتب عليها أن تنحط إلى الحضيض يفعل خلفاؤها مثل هذا الفعل، ويقتنون هذه المئات العديدة من السرايا والخدم والنساء، ويروي المؤرخون أنه كان للخلفاء أسرة مرصعة بالجواهر والآبنوس المنزل بالعاج، وأنهم كانوا ينصبون منائر الذهب وقد أوقدت فيها الشموع، كما أنهم كانوا يزينون غرف قصورهم بالحصر المنسوجة بخيوط الذهب المكللة بالدر والياقوت و...
أما عامة الشعب فكانوا على أسوأ حالة من الفقر والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، يحكم فيهم المماليك والعبيد من شذاذ الآفاق، ويقصى عن الحكم الأشراف وأهل الفضل والعلم، حتى صار من الطبيعي المعتاد أن يصل إلى مناصب الدولة الكبيرة الخطيرة أبناء الأرقاء والسوقة، فقد رووا أن ابن الدرنوس كان حمالا جاهلا توصل إلى أن يكون براجا في بعض أبراج قصر الخليفة المستنصر بالله، وما يزال يرتفع في وظائف الدولة، وما زال يحسن التوصل إلى ولد المستنصر بالله - وهو المستعصم بالله - وكان في زمن أبيه محبوسا، ويتعهده بالخدمة إلى أن جلس على سرير الخلافة، فعرف له حق الخدمة، ورتبه مقدم البراجين، ثم استحجبه، حتى بلغ أن صار إذا دخل الوزير ينهض له ويخلي له المجلس لعله جاء في مشافهة من عند الخليفة،
3
وما زال يعظم نفوذه حتى لقبه الخليفة ب «نجم الدين الخاص»، وأرسله الخليفة رسولا عنه إلى هولاكو قبل دخوله بغداد.
فإذا كانت أمور الدولة بين البراجين والسجانين، ومن يعتمدون عليهم من طبقتهم من الحمالين والسوقة، فترقب الزوال القريب لهذه الدولة العجيبة، وليت الأمور وقفت عند إسناد مناصب الدولة إلى المسلمين والنصارى ممن رأيت؛ بل إنها تعدتها إلى اليهود المجرمين، فقد أسند إليهم في عهد الخليفة المستنصر بالله كثير من مناصب الدولة، كما أسند إليهم في عهد ابنه المستعصم عدد من أمهات الوظائف الجليلة، ومن أشهر هؤلاء اليهود ذلك اليهودي الخبيث المعروف بابن صفي الذي لقبه الخليفة ب «سعد الدولة» وسلمه الأمور المالية في الخلافة، وقد استمر هذا اليهودي الماهر في أعماله حتى بعد الاحتلال المغولي، وتقرب من السلطان أرغون بعد أن طرده والي العراق «قطلغ شاه» من وظيفته، فقد رووا أنه بعد أن طرده والي العراق رحل إلى السلطان أرغون، وما زال يتقرب منه حتى قربه إليه ثم أعاده إلى العراق، ودخل بغداد، وتسلم ديوان الممالك ، وتحكم في أهلها بقسوة وعنف، وسمى أخويه فخر الدولة وأمين الدولة في منصبين من أكبر مناصبها، وقد بلغ من تدجيل سعد الدولة اليهودي مما يرويه عنه بعض المؤرخين المنافقين أنه زار في سنة 688ه مشهد الإمام موسى بن جعفر - رضي الله عنه - وفتح المصحف الموجود في المشهد متفائلا فخرجت له الآية:
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى
وأنه استبشر كثيرا بهذه الآية، وأطلق للعلويين والقوام على المشهد مائة دينار، وفي سنة 687ه وصل بغداد جماعة من اليهود من أهل تفليس وقد رتبوا ولاة على تركات المسلمين، فأجروا الأمر على أن لا يورثوا ذوي الأرحام، وأنكر ذلك عليهم الأمير أروق والي العراق، وأمر أن يعمل بمذهب الإمام الشافعي كما كان قديما،
4
ولما ضاق الناس ذرعا بتحكم اليهود اجتمع أهل العاصمة في سنة 689ه وكتبوا محضرا بعثوه إلى السلطان أرغون وقد ملئوه طعنا شديدا على سعد الدولة واليهود، وضمنوه آيات من القرآن والأحاديث مما جاء ضد اليهود، وختموا ذلك المحضر بقولهم: وإن اليهود طائفة قد أذلهم الله تعالى، ومن حاول إعزازهم أذله الله عز وجل، ولما علم سعد الله بالمحضر بعث إلى السلطان أرغون يطلبه، فأرسله إليه، ثم شرع في التنكيل بمن وقعه من الأعيان والوجوه والأشراف.
وقد ظل نفوذ اليهود قويا إلى أن هلك أرغون وقتل سعد الدولة وقبض على إخوته وقتلوا شر قتلة، ولما تم هذا العمل، وتخلص الناس من شرورهم انتهزت العامة هذه الفرصة فأقدمت على دكاكين اليهود وبيوتهم فأحرقتها، وبلغت هذه الأخبار سائر مدن العراق؛ ففعل الناس فيها ما فعله أهل العاصمة بيهودها، وقد حفظ لنا التاريخ مقطوعات تتضمن استياء عامة الناس وخاصتهم من أعمال هؤلاء المجرمين، وإليك بعض هذه المقطوعات:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
مرتبة لا ينالها فلك
الملك فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا معشر الناس قد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
فانتظروا صيحة العذاب لكم
فعن قليل تراهم هلكوا
فأنت تقرأ من وراء كلمات هذه المقطوعة شدة نقمة الناس، لا على اليهود؛ بل على أولئك القادة والأمراء والملوك الذين قدموهم، واستعانوا بهم، وأبلغوهم معالي الأمور وأعالي الرتب حتى صار الملك ومستشاره وقواده طوع أيديهم، فلا سبيل للناس إلا أن يتهودوا بعد أن تهود الكون والفلك نفسه، ولكن أنى لهم أن يعلوا والله سبحانه قد أذلهم، ولا بد للناس من أن يأتيهم نصره، ويأخذ اليهود المجرمين أخذ عزيز مقتدر، فقد كتب عليهم الذل والمسكنة وباءوا بغضب منه، ولن يكون حالهم اليوم في دويلتهم الهزيلة التي أوجدوها في فلسطين الحبيبة، إلا كحالهم بالأمس فلن يقوم لهم ملك، ولن تنتظم لهم دولة مهما تعالوا ومهما سموا.
ذلك ما كانت عليه العاصمة الإسلامية - بغداد - وذلك ما كانت عليه مدن الدولة العباسية من أقصاها إلى أقصاها قبل دخول التتار، وعقبه من تحكم السوقة واليهود وأبناء الجمالين والبراجين في أمور الدولة.
أما حالة الشعب من عري ونوائب صحية وطواعين وأوبئة وفقر وجهل، فحدث بها بما شئت ولا حرج، وقلما كانت تمضي خمس سنوات دون أن يحدق بالبلاد جميعها طاعون أو وباء، أو أن تصيبها جائحة سماوية تأتي على الأخضر واليابس، وترتفع الأسعار، ومن أفظع ما حدثنا التاريخ به عن هذه الحقبة ما حدث سنة 684ه فقد غلت أسعار الخبر غلاء فاحشا حتى بيع كل ثلاثة أرطال بدرهم، وحتى باع الفقراء أولادهم وبناتهم، وألقت النساء بنفوسهن في دجلة من الجوع، وقد حدثنا التاريخ أيضا أن امرأة جاعت وجاع أولادها، وسألت الناس فلم يعطوها شيئا، فوضعت نفسها وأولادها في جوالق ودفعته إلى دجلة فالتهمه، وقد استمرت هذه الحال نحوا من سنة حتى أكل الناس عروق القصب والبردي وأوراق الحلفاء وأعشاب الأرض،
5
وقد قاسى العامة بل الخاصة من الويلات ما يشيب الطفل من روايته فكيف بالوقوع فيه، ولم تكن تلك حالة عابرة مرت على العراق أيام فتنة هولاكو ثم ذهبت بذهابه، بل إنها كانت كثيرا ما تقع بين الفينة والفينة، وليس هذا بغريب بعد أن تحكم التتار في البلاد، واستولوا على خيراتها، وقضوا على موارد الثروة فيها، ولما ذهبوا عن البلاد خلفهم التركمان، ولم يكونوا إلا أسوأ حالا وشرا في أفعالهم، فقد رأيت في القسم السياسي من هذا الكتاب أن كثرة السلاطين التركمان من البايندرية والبارانية كانت لا تعرف الرحمة ولا تحس بآلام الشعب، وإنما كان همها أن تأكل في صحاف الذهب، وتتمتع بما تستطيع من المتع، وعلى الشعب العربي النبيل أن يتحمل، وأن يقدم لها ولأمرائها وحاشيتها من شذاذ الآفاق الذهب والفضة والطعام والشراب والكساء والزينة، ولو حرم الشعب من ضروريات الحياة، فكم ماتت أطفال من الجوع، وكم استعبدت شريفات من الفاقة، وكم اشتغل فلاحون وحصادون حتى يقدموا للأمير أو الوزير المغولي أو التركماني أو العجمي الطعام الشهي، والكساء البهي والعيش الهني، فقد روى أكثر مؤرخي العراق في هذه الحقبة أنه في سنة 670ه لمع نجم الخواجة شرف الدين هارون ابن الصاحب شمس الدين الجوني، وهو شاب عجمي من أسرة خدمت الدولة المغولية، وسمت به وظائف الدولة حتى صار يلقب بحاجب ديوان الممالك في العراقين، وطمحت نفسه إلى أن يتزوج بحفيدة الخليفة المستعصم بالله، فتم له ما أراد، ويقال: إنه قد عرض عليها مهرا لا يكاد يصدق العقل وقوعه، وهو مائة ألف دينار فقبلت أمها به على شريطة أن يكف عن شرب الخمر فقبل بذلك، وقد عجب المؤرخون لهذه الحادثة حتى قال ابن أبي عذيبة في تاريخ دول الأعيان وكان صداقها مائة ألف دينار، وهذا ما سمع بمثله إلا لملك، فإن القائم بأمر الله أصدق خديجة السلجوقية مائة ألف دينار، وكذلك المكتفي بالله زوج ابنته زبيدة بالسلطان مسعود بن محمد ملكشاه على صداق مائة ألف دينار،
6
فهل جمعت هذه الآلاف المؤلفة من دنانير الذهب من غير الفلاحين والبائسين، والسوقة المعوزين الذين كانوا يعطون أموالهم عن يد وهم صاغرون.
ومن الأمور التي يلاحظها المرء أثناء تتبعه لحوادث العراق في هذه الفترة أن الأخلاق العامة قد فسدت فسادا بارزا على وجه العموم، فقد كثر الدجالون والأفاكون والأشرار والمفسدون، وخصوصا الذين كانوا يسمون أنفسهم «الشطار» الذين كانوا يعيثون في البلاد فسادا، وينضم إليهم طبقات من الجهال وأهل الاحتيال فيزداد شرهم، ويلقى المستورون وأصحاب السكينة والفضيلة منهم كل شر، وربما فرضوا على بعض الناس الفرائض، وطالبوهم بجعالات وضرائب، فإن دفعوها نجوا من شرهم، وإلا هددوهم بالقتل والحرق، وسلب الأولاد والتعدي عليهم، وكم حرقوا من بيوت وأفسدوا من زروع، ورجال الشرطة وضابطة الأمن وأهل الاحتساب لاهون ساهون، أو أنهم كانوا يخافونهم فلا يستطيعون إيقاف أعمالهم المريبة أو الشائنة، أو الحيلولة دون جرائمهم الشيطانية الغريبة التي كانوا يؤذون بها الناس ويفسدون عليهم أعمالهم، والحق أن موجة الفساد قد انتشرت في البلاد عامة بعد احتلال المغول، فكثر الغش وعم الفساد ومرضت الضمائر، وهذا أمر طبيعي بعد أن تحكم الأشرار في أمور الدولة، وصار الأمناء والمخلصون منزوين، وأضحى الموظفون الشرفاء لا يستطيعون الاستمرار في أعمالهم بما تقتضيه المصلحة العمومية، ولا يستطيعون البقاء في عملهم؛ إما خوفا من الأشرار أو مجاراة لهم، والعواصم والمدن الكبرى في العادة تكون مألفا لهم ولأمثالهم في أيام العزة والسلطان القوي النفوذ، فكيف بها في أيام الفتن والويلات والحروب والسلطان الضعيف الذي يتحكم فيه من لا أخلاق لهم ولا دين يردعهم؟!
أما حالة الأسرة فلم تكن أفضل من غيرها، وقد أخذت كثير من عراها تتفكك، وتسوء بانحطاط شأن المرأة العربية بعد أن حلت محلها الجواري، وطغت عليهن طغيانا فظيعا، وعلى الرغم من أن الجواري قد كن سيطرن على المنزل العربي منذ العهد العباسي الأول بسبب كثرة الرقيق، فإنه قد كان أيامئذ شيء من العزة القومية وقوة الدولة يمنع الناس من الانصهار المطلق في البوتقة الأعجمية، أما في هذا العصر الذي نؤرخه فقد انحل كل شيء عربي حتى لم يكد يبقى له من أثر، وساءت الأسرة، وانحطت عقلية المرأة، وبانحطاطها انحط مستوى أولادها، وفسدت حالاتهم العامة.
أما من ناحية العلم والمعرفة والمشاركة في التوجيهات الاجتماعية والثقافية: فلم تكن حالة المرأة أفضل، بعد أن كانت لها مكانة مرموقة في ذلك منذ فجر العصر العباسي حتى أواخر القرن السادس للهجرة، فكم ظهرت منهن فواضل بوارع في الأدب والعلم والسياسة والحرب، أما في هذا العصر فقد ساءت أحوالها بشكل خطير، وانحصر علمها في حفظ شيء من كتاب الله وبعض المعلومات الساذجة، والإلمام بكثير من الخرافات والجهالات، وهكذا انحط مستواها العقلي، وفقدت سجاياها العربية الكريمة من عزة النفس والاستقلال في التفكير، وصار الرجل يقسو في معاملتها، ويمنعها من الخروج إلى المجامع العامة، ويسدل عليها ستار الجهل، ويشدد عليها في الحجاب والانزواء عن مجالس العلم، وحلقات الأدب، التي كانت تغشاها في العصور السابقة منذ عصر الانبثاق.
الفصل الثاني
الحالة الثقافية في العراق بعد سقوط بغداد
معلوم أن الثقافة العربية الإسلامية قد ارتقت في العصر العباسي رقيا عظيما في كافة الفروع من دين وفلسفة وطب وأدب وخطابة كما بينا في الجزء الخاص بتاريخ تلك الحقبة الزاهرة، فلقد كانت الجوامع والمدارس ومجالس الخلفاء مهوى قلوب الأئمة العلماء، كما كان للخلفاء العباسيين الأولين فضل كبير في نشر العلم لا في العاصمة الإسلامية الكبرى بغداد وحسب؛ بل في كافة أرجاء دولة الخلافة، أما بغداد: فقد غدت في عهدهم طوال خمسة قرون جنة العالم، سواء في حضارتها أو في معاهدها أو في رجالاتها العلماء الأفذاذ الذين خرجتهم وفاخرت بهم في كافة نواحي العلم والأدب والفن.
ولقد استمرت هذه الثقافة تسير صعدا منذ القرن الثالث للهجرة على الرغم من الضعف الذي كان يعتور الأمور السياسية في القرنين العباسيين الرابع والخامس حين غلب الأعاجم والأتراك على أمور الدولة؛ لأنهم اعتنقوا الإسلام، وتعلموا لغته، وأتقنوا آدابها، واهتموا بالثقافة العربية على اعتبار أنها ثقافة إسلامية، فبذلوا وسعهم في ترقيتها، وتوسيع أطرافها، وظلت الحركة العلمية قوية نشيطة حتى في أواخر العهد العباسي، كما أسلفنا، سواء في نواحي العلم أو في الأدب أو في الفنون، فلما نكبت البلاد بالغزو الجاهلي المغولي، واجتاحتها سيوله المخيفة الحمقى، أصاب بغداد ما أصابها من هولاكو وصحبه؛ من تقتيل العلماء، وإحراق دور الكتب، وتهديم مدارس العلم ومعاهد الأدب، على أن هذا الطاغية قد استبقى بعض العلماء ممن كانوا يجيدون لغته أو يتقنون علوم الفلسفة والرياضة والطبيعة التي كانت تعجبه، فأخذهم معه إلى عاصمة ملكه، وأمرهم أن يرصدوا له الكواكب، ويؤلفوا له في الحكمة والفلسفة والعلوم العقلية، ولولا أن رحم الله العلوم العربية والإسلامية برجل فاضل كان معه في حملته، وهو نصير الدين الطوسي الفيلسوف المعروف، لكانت نكبة العراق والإسلام جد فظيعة، فقد اهتم هذا العالم الفيلسوف الفارسي بدور العلم في العراق وحماها، وصان كثيرا من أهلها من الإبادة، وكان كثيرا ما يتردد عليها، ويتصفح أحوال أوقافها، وأمور مساجدها، ودور العلم والربط،
1
ففي سنة 672ه، أقام النصير الطوسي ببغداد فترة ينظر في أمور الوقوف الإسلامية، وإعادة توزيع الطعام على الفقهاء والمدرسين والصوفية المنقطعين لطلب العلم والزهد، وقد أطلق لهم المشاهرات، وقرر القواعد في أمور الأوقاف، وأصلحها بعد اختلالها،
2
على أن هناك شخصا ثانيا اهتم بالنواحي العلمية بعد نكبة بغداد وهو الوزير مؤيد الدين العلقمي، وهو الوزير الذي سقطت بغداد في عهده وعلى يديه، ولعله أراد بهذا الاهتمام العلمي أن يكفر عن بعض ذنبه، ويبعد عنه المزاعم التي شاعت عن مشاركته في المؤامرة ضد الخلافة الإسلامية، فقد رووا أنه أخذ يهتم بدور العلم، وينفق على من بقي من أهله، ويعمر ما تهدم من دوره، ويروي ابن الغوطي في تاريخه عنه أنه عين شهاب الدين بن عبد الله صدرا للوقوف، وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة وكان قد أحرق، وكذا مشهد موسى الجواد، ثم فتح المدارس والربط وأثبت فيها الفقهاء والصوفية، وأجرى عليهم الأخباز والمشاهرات.
3
وقد كان ابن العلقمي هذا أديبا عالما بارعا بالآداب العربية والدين، وكانت عنده خزانة كتب كبيرة فيها عشرة آلاف مجلد، وكان يجمع حوله العلماء ويحسن إليهم، ومن أشهرهم موفق الدين عبد القاهر بن الغوطي مؤرخ بغداد المشهور، وموفق الدين القاسم بن أبي الحديد الأديب الكاتب شارح نهج البلاغة، وقد ألفه باسمه، والإمام الصاغاني اللغوي الأديب المعروف وقد ألف كتابه «العباب» باسمه، والمؤرخ المشهور علي بن أنجب السلامي المعروف بابن الساعي خازن دار كتب المستنصرية، وأحد كبار مؤرخي بغداد، وغيرهم من الأئمة الأجلاء .
ومن الفضلاء الذين أعادوا إلى العراق شيئا من نشاطه العلمي في هذه الحقبة المظلمة: الوزير العالم علاء الدين عطاء ملك بن محمد الجوني، وقد تولى العراق في ذي الحجة سنة 657ه وهو من أسرة فارسية عريقة عالمة، وهو أخو الصاحب شمس الدين الجوني وزير هولاكو، وقد استقر في ولاية العراق نحوا من اثنتين وعشرين سنة 657-681ه فرعى أهل العلم، وحاول إعادة الحياة الثقافية الزاهرة إلى العراق في عهده، وكان بالإضافة إلى هذا عالما ومؤرخا ومؤلفا، من أجل آثاره كتابه الفارسي المشهور «جهان كشاي جوني» وهو من أوثق مصادر تاريخ المغول ودولتهم في العراق.
أما المدارس ودور العلم وخزائن الكتب وربط الصوفية فقد أصابها بلاء كبير، وأضحت في بغداد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بعد أن كانت تتجاوز المئات؛ لأن الناس كانوا منذ عصر الازدهار يتقربون إلى الله وإلى أولي الأمر ببناء دور العبادة والعلم، أو وقف خزائن الكتب، وإشادة دور الحكمة والمدارس ووقف الوقوف عليها، وعلى طلاب العلم فيها، ومن المدارس العظيمة التي بقيت في تلك الحقبة ولم يصبها تلف كبير: النظامية الكبرى، والمستنصرية والبشيرية، وهي من أجل مدارس الإسلام، وقد رأينا عناية نصير الدين الطوسي بأمر هذه المدارس وأوقافها، وتوليته أهل الخير والفضيلة عليها، ومما هو جدير بالذكر أيضا أنه لم يمض وقت حتى عادت حركة إشادة المدارس والربط من جديد بعد النكبة بفترة غير طويلة، فقد شيدت مدارس جليلة منها: المدرسة العصمتية، التي أمرت ببنائها السيدة عصمة الدين زوج الصاحب علاء الدين عطا ملك الجوني بجوار مشهد عبيد الله في ظاهر بغداد، وجعلتها للطلاب على المذاهب الأربعة، ورتبت إلى جوارها رباطا للصوفية، وقد تكامل بناؤها في عام 671ه وغدت من أجل مدارس الإسلام فخامة وأوقافا.
وفي سنة 666ه أمر الصاحب علاء الدين نفسه ببناء رباط كبير جوار مشهد الإمام علي رضي الله عنه، وشرط أن يجاور فيه زوار المشهد المبارك، ووقف عليه الوقوف، ومنح المجاوزين هبات ومنحا كثيرة، وفي سنة 680ه أمر «قطلغ شاه» ببناء رباط للصوفية جوار المشهد الخاص لسلمان الفارسي، وشرط أن يقيم فيه المجاوزون بالمشهد السلماني، ووقف عليه وقوفا، وجعل له أموالا كثيرة ... وهكذا أخذت بغداد تستعيد حركتها العلمية والدينية على الرغم من قسوة ما أصابها من هدم المعاهد، وفقدان المكاتب، ومهاجرة العلماء إلى الأقطار المجاورة كالشام ومصر، ومما هو جدير بالذكر أن العلوم قد انتعشت بعد فترة قصيرة من النكبة، كما ازدهرت الفلسلفة والفنون والصناعات؛ لأن بعض ملوك الدولة المغولية كانوا يحبون الفنون ويشجعون أهلها، يذكر ابن الغوطي في تاريخه في حوادث سنة 683ه أن فيما اشتهر ببغداد أن عز الدولة اليهودي - وهو الفيلسوف المعروف بابن كمونة - صنف كتابا سماه: «الأبحاث عن الملل الثلاث» تعرض فيه لذكر النبوات، وقال ما نعوذ بالله من ذكره، فثار العوام وهاجوا واجتمعوا لكبس داره وقتله، فركب الأمير تمسكاي شحنة العراق - أي صاحب الشرطة - ومجد الدين بن الأثير وجماعة من الحكام إلى المدرسة المستنصرية، واستدعوا قاضي القضاة والمدرسين لتحقيق هذه الحال، وطلبوا ابن كمونة، واتفق ذلك اليوم يوم جمعة، فركب قاضي القضاة للصلاة، فمنعه العوام فعاد إلى المستنصرية، فخرج ابن الأثير ليسكن العوام فأسمعوه أقبح الكلام، ونسبوه إلى التعصب لابن كمونة والذب عنه، فأمر الشحنة بالنداء في بغداد بالمباكرة في غد إلى ظاهر السور لإحراق ابن كمونة، فسكن العوام، ولم يتجدد بعد ذلك له ذكر، أما ابن كمونة فإنه وضع في صندوق مجلد وحمل إلى المحلة، وكان ولده كاتبا بها فأقام أياما وتوفي هناك،
4
فلا شك في أن رجال الدولة وعلماءها قد أقلقهم أن يصاب هذا العالم الفيلسوف أو أن تفتك به العامة؛ فلذلك لجئوا إلى هذه الحيلة فأنقذوا حياته، وفي هذا دليل الحرص على العلماء من أي المذاهب والنحل كانوا، ولو كانت في مؤلفاتهم مخالفة لعقائد الجمهور، وإذا كان هذا حرص رجال الدولة على عالم من علماء اليهود فكيف يكون مع العلماء المسلمين الذين نبغ في هذه الآونة منهم: المهندس البارع نور الدين علي بن تغلب بن أبي الضياء البعلبكي الساعاتي 601-683، وكان مشهورا بعلم الهيئة والنجوم وعمل الساعات الفلكية، والمباحث الهندسية، وهو الذي عمل الساعات المشهورات على باب المدرسة المستنصرية.
والطبيب البارع الأشهر شمس الدين بن الصباغ (؟-683)، وكان فاضلا في علم الطب والحيوان والنبات، وقد مات وله من العمر 106 سنوات وخلف كتبا كثيرة في فنونه.
والفيلسوف المتأله برهان الدين محمد بن محمد النسقي 600-687، وكان أوحد رجال زمانه في علمي الخلاف والفلسفة، وقد أقام ببغداد يفيد أهلها بعد النكبة، وتخرج به جمهرة من رجالاتها كابن الغوطي المؤرخ، وهارون بن الصاحب الوزير الجوني وغيرهما، وله آثار عديدة.
والرياضي الفقيه مظفر الدين أحمد بن نور الدين البعلبكي الساعاتي (؟-694)، وهو ابن المهندس السابق ذكره، وكان مثل أبيه في علوم الرياضة والهندسة، كما كان بارعا بعلوم الخلاف والأصول والفقه، وله كتاب مشهور هو «مجمع البحرين»، وقد ألفه في الفقه على قواعد لم يسبقه إليها مؤلف.
ونحن إذا رحنا نتتبع سيرة الفضلاء من أئمة العلوم الحكمية والفلسفية في هذه الفترة عددنا الكثير، ولكننا نكتفي بهذا الذي أوردنا، أما العلوم الإسلامية: فقد حفظ لنا التاريخ ذكر جمهرة من الفحول السنة أو الشيعة أمثال: أبي المناقب محمود بن أحمد الزنجاني (؟-656)، وكان رئيس الفقهاء الشافعية ببغداد وقاضي قضاتها، برع في علوم الفقه والخلاف والأصوليين والتفسير والحديث.
وعز الدين عبد الرزاق بن أبي بكر الرسغي 589-661 شيخ الحنابلة، وكان بارعا بعلوم الحديث والتفسير، وصنف تفسيرا للقرآن جيدا سماه رموز الكنوز، وكان شيخ الجزيرة في عهده، وولي مشيخة دار الحديث بالموصل.
وعفيف الدين علي بن عدلان الربعي الموصلي 583-666، وكان علامة زمانه في الدين والعربية، وكان من أذكياء بني آدم، وأحد الأئمة الأعلام في كل الفنون، وله مؤلفات وآثار مشهورة.
وجمال الدين يوسف بن عبد المحمود المقرئ البغدادي (؟-726)، وكان أديبا فقيها ونحويا متقنا، وكان يلقب بنحوي العراق، وكان من أعظم أهل زمانه في علوم العربية والشعر والرواية والفقه.
والعلامة ابن المطهر الحلي الحسن بن يوسف 648-726، وكان إمام الشيعة في زمانه، وعليه معولهم في الفقه والكلام والأخبار، ومؤلفاته عندهم في الأوج، وهو الذي حبب المذهب الشيعي إلى السلطان المغولي خدابنده فاعتنقه.
وجمال الدين عبد الله بن محمد بن العاقولي الواسطي 638-727، وكان محدثا فقيها بارعا بالعربية، درس في المدرسة المستنصرية مدة طويلة وتولى قضاء القضاة، وأفتى إحدى وسبعين سنة، وإليه انتهت رياسة الفقهاء في عصره، ولا يزال جامعه في بغداد إلى أيامنا هذه.
وتقي الدين عبد الله بن محمد الزريراتي البغدادي الحنبلي 668-729، وكان فقيه العراق، ومفتي الآفاق في زمانه، برع في أصول الدين والحديث والتاريخ والعربية، وكان الفقهاء من سائر المذاهب يستفيدون منه حتى ابن المطهر الحلي.
هؤلاء نفر من أئمة العلم في هذه الحقبة من العصر المغولي، وإليهم يرجع الفضل في إعادة العراق إلى شيء من رونقه الثقافي القديم.
هذا ما كان عليه الوضع في العصر المغولي، أما في عهد الجلايرية: فقد تقهقرت الحالة السياسية تقهقرا ملموسا، كما رأيت في الفصل الخاص بذلك، وكذلك تقهقرت الحالة العلمية، ومن المعروف أنه لا علاقة قوية بين السياسة والعلم، فقد تكون السياسة مضطربة مع أن النواحي العلمية مزدهرة، كما كان الحال في عصري الانحلال والانحدار، ولكن يجب أن نلاحظ أن النشاط العلمي في تلك العصور كان نشاطا امتداديا لحركة علمية قوية سابقة، فلم تستطع السياسة أن تؤثر في ذلك النشاط، أما الحالة في العصر الجلايري: فقد كانت مختلفة عما ذكرنا؛ لأن النشاط العلمي كان ضعيفا في أواخر العصر المغولي، فلما جاء العصر الجلايري، واضطربت السياسة اضطربت بها الحالة العلمية، بل أخذت تتدهور بشكل مزر ومؤلم؛ لأن الناس أخذوا يفتشون عن الأمن والغذاء والكساء قبل أن يفتشوا عن الفلسفة والعلم والحكمة والأدب، على أن الدين الإسلامي كان له الفضل في الإبقاء على شيء من الحركة العلمية والنشاط الأدبي، فقد ازدهرت علومه من فقه وحديث وأصول وخلاف، وعمرت بعض المدارس الدينية والجوامع، واستتبع ذلك نشاط نسبي في علوم العربية ، ومن المعاهد العلمية المشهورة في هذا العصر: مدرسة الوالي الخواجة مرجان بن عبد الله، وكان من الولاة الفضلاء الأخيار، شاد في بغداد سنة 758ه مدرسة عظيمة ما تزال آثارها باقية في بغداد، وهي من آيات الفن المعماري والريازة العربية البارعة، وقد كانت أشبه بالجامعات الكبرى ، وشيد إلى جانبها دار شفاء للمرضى وسمى لها الأطباء والكحالين.
5
ومدرسة الخواجة مسعود بن سديد الدولة منصور بن أبي هارون الشافعي، وكان من وجوه بغداد، شيد هذه المدرسة لأهل المذاهب الأربعة على نمط المدرسة المستنصرية، وما تزال إلى أيامنا هذه تشهد بعظمة بنائها.
وهناك عدد من الجوامع والربط والخوانق التي شادها أهل الفضل، ووقفوا عليها الوقوف الدارة، وسموا لها الأساتذة والمدرسين والمعيدين، ومما هو جدير بالذكر أن الآداب الفارسية والتركية قد ازدهرت في العراق، كما دخلت بعض الكلمات الفارسية والتركية بكثرة في اللغتين الخاصية والعامية، وقد كان للشاعر الفارسي المشهور خواجو الكرماني كمال الدين محمود بن علي (؟-753ه) أثر كبير في نشر الآداب الفارسية، فقد قدم إلى العراق، وأقام في بغداد فترة، التف حوله فيها الأدباء والمتصوفة، وتعلموا الفارسية ونظموا بها.
ومن الفضلاء الفرس الذين قدموا العراق في هذه الفترة الخواجة سلمان الساوجي (؟-777ه)، وهو من الشعراء المعروفين، ولحوادث العراق وأخبار رجاله في هذه الحقبة ذكر كثير في ديوانه.
وقد ظهر في هذا العصر نفر من العلماء المشهورين أمثال: صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي (؟-739ه)، وجلال الدين محمد بن عبد الرحمن العجلي القزويني (؟-739ه)، ونجم الدين سليمان بن عبد الرحمن النهرماوي (؟-748ه)، وصفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي الشاعر (؟-750ه)، وتاج الدين علي بن سنجر ابن السباك البغدادي (؟-750ه)، ومحمد بن الحسن بن يوسف المطهر الحلي (؟-771ه)، ومحمد بن محمد غياث الدين العاقولي (؟-797ه)، وزين الدين عبد الرحيم بن الحسن العراقي الكردي (؟-806ه).
هؤلاء هم النفر المشهورون في بغداد والبلاد العراقية في القرن الثامن من علماء العربية والدين والأدب، أما في القرن التاسع: فقد أصاب العراق جهالة طخياء، ولولا بعض المدارس القديمة والأئمة الأعلام من شيعة وسنة لما بقي للعلم أثر ولا للثقافة خبر، ولم نعد نرى في هذا العصر أثرا للفنانين أو الخطاطين الذين كنا نجدهم من قبل، كما لم نعد نرى جماعة تعني ببناء المدارس العلمية والمعاهد الدينية اللهم إلا نادرا.
والحق أن العراق العزيز لم يمر بفترة قضي فيها على النشاط العلمي طوال تاريخه، مثل أواخر القرن التاسع، فقد تحكم فيه الأعاجم تحكما فظيعا كما رأيت، وكسدت سوق العلم والأدب والفنون، وكيف يعمل قوم على نشر العلم والعربية وهم جهال سخفاء، يكرهون العروبة.
ولقد زادت نكبة العراق حينما انتشر أمر المشعشعين، وسيطروا على العامة، وهم قوم جهال مفسدون عطلوا شعائر الإسلام، وتعلقوا ببعض الأقوال المبرقشة، حتى ادعى أحد شيوخهم أن روح الإمام علي عليه السلام قد حلت فيه، وأنه هو الله تعالى ... إلى آخر ما هنالك من الأباطيل التي أقصت الناس عن النهج العقلي القويم، أضف إلى ذلك انتشار طائفة من الباطنية المخربين الذين يعرفون بالفرقة «الحروفية» التي جعلت نصوص القرآن عبارة عن رموز وإشارات وحروف، وحرفت ألفاظ القرآن عما وردت فيه، وبدلوا معاني كلماته، فرفعوا التكاليف وألغوا الفرائض والأحكام الشرعية، وطغت على الناس بسببهم أمواج من الجهل المطبق، والمنطق الأخرق.
ولا يعرف العراق في القرن الثامن مدة اشتنشق فيها عبير العلم، ونعم بتنشيط أمرائه سوى فترة قصيرة هي أيام السلطان حسن الطويل، فقد كان كما أسلفنا - سلطانا عادلا عالما، محبا للعلم ولأهله، مجالسا للعلماء والأدباء.
ومما هو جدير بالذكر أن للمذهب الشيعي ولمدارسه العديدة في النجف الأشرف والحلة الفيحاء أثرا كبيرا في حفظ تراث الأدب والعربية وعلوم الإسلام في هذه الحقبة، ومن أفاضل العلماء والأدباء الذين كان لهم فضل كبير في إحياء الجذوة الأدبية: أبو عبد الله المقداد بن عبد الله الأسدي الحلي (؟-829) وأحمد بن محمد بن فهد الحلي (؟-841).
أما بعد، فهذه حالة العراق العلمية، وهي كما ترى حالة لا تسر كثيرا، ولولا أن الله قد حفظ العلم والأدب والعربية في هذا العصر بأقطار أخرى كالشام ومصر والمغرب لكانت النكبة أعظم، ولكن الله سلم.
الفصل الثالث
الحالة الإدارية في العراق بعد سقوط بغداد
دخل هولاكو بغداد وفعل فيها ما فعل، فانقرضت الدولة العباسية، واندكت أركان حكومتها وتراتيبها الإدارية، وتبلبلت حالتها الوظائفية، وفر من ولاتها وقضاتها وكبار موظفيها إلى البلاد المجاورة نفر غير قليل، وقد ظلت بغداد وسائر مدن العراق دون ما حكومة منظمة حتى تم استيلاء المغول على العراق كله، وعهد هولاكو بالوزارة إلى مؤيد الدين محمد بن العلقمي الذي كان يتولى إسقادارية قصر الخلافة في عهد المستعصم ثم ولاه الوزارة، وكان على جانب من حسن الإدارة والدهاء، إلا أن جميع موظفي القصر كانوا يكرهونه، ولما دخل المغول عهد إليه هولاكو بزمام الأمور، وفوض إليه شأن البلاد يدبر أمورها كما يشاء، ويسمي في وظائفها من يريد، وبهذا استدل بعض المؤرخين على اتهام ابن العلقمي بالخيانة والتآمر مع المغول ضد الخليفة العباسي.
ولما أسند المغول إليه أمر البلاد اختار من يثق بهم من العمال والولاة، وطلب إليهم أن يسلكوا السبيل التي كانت عليها الدولة العباسية، على أنه يجب أن نعلم أن وظيفة الوزير وسائر كبار الموظفين الذين نصبهم كانت وظيفة وهمية، أما الوظيفة الحقيقية فقد كانت بيد المغول، وبيد من نصبوه من أبناء جلدتهم ممن وزعوهم في دواوين الوزارة والشرطة والمال، وهؤلاء هم أصحاب الحل والعقد، يتصرفون بالبلاد كما يريدون، ويوقع الوزير وأضرابه لهم المراسيم والتراتيب التي يقترحونها عليهم، فتذاع بين الناس على أنها صادرة عن الوزير أو الشحنة أو القاضي، وليس لهم في الحقيقة إلا التوقيع والمصادقة.
ومما هو جدير بالذكر أن كثيرين من العمال أو التجار من أهل البلاد قد عهد إليهم بوظائف كبيرة في الدولة، والسر في ذلك - فيما يظهر - أنهم كانوا من قبل الاحتلال على اتصال بالمغول وتأييد لسياساتهم، ومن هؤلاء نجم الدين أحمد بن عمران وهو من أهل «باجسرى»، وقد سماه الخليفة عاملا على بعض المقاطعات فكان يتجسس للمغول، ويكتب إليهم بأخبار البلاد وأحوالها، ولم وقعت الواقعة أكرمه هولاكو وأحسن إليه ومنحه لقب «ملك» وعهد إليه بإدارة شئون البلاد مع الوزير ابن العلقمي وصاحب الديوان فخر الدين بن الدامغاني.
أما التشكيلات الإدارية في العراق، فكانت على الشكل التالي: قسموا العراق إلى ثماني عمالات، وجعل على كل عمالة عاملا، وهي:
عمالة بغداد:
وفيها الوزير ويعاونه في عمله مشرف ونائب، وصاحب ديوان وشحنة ونائب شرطة، وخازن ديوان، وتشتمل على بغداد وما حواليها.
العمالة الشرقية:
وتشتمل على منطقة الخالص وطريق خراسان والبندنيجين.
العمالة الفراتية:
وتشتمل على سقي الفرات.
العمالة الواسطية:
وتشتمل على إقليمي البصرة وواسط.
العمالة الدجيلية:
وتشتمل على إقليم نهري دجيل والمستنصري.
العمالة الكوفية:
وتشتمل على إقليم الكوفة والحلة.
العمالة الأنبارية:
وتشتمل على إقليم الأنبار وما حوله.
العمالة الدقوقية:
وتشتمل على إقليم دقوقا وما حوله.
ولم يدخلوا إقليم «إربل» وما إليه فكان إقليما مستقلا، وجعلوا له إدارة مستقلة خاصة.
وكانوا يسمون لكل عمالة «صدرا» أو «ملكا» من أهل البلاد يعهدون إليه بالرئاسة العليا في العمالة وإدارة شئونها، ومن تحته نفر من المغول هم: النائب والناظر وعدد من المعاونين والموظفين الكبار والصغار بحسب الحاجة وسعة الإقليم وصغره.
وكان في كل عمالة قاض ومحتسب وصاحب شرطة وصاحب أوقاف، أما بغداد: فكان فيها قاضي القضاة ومقره في الجانب الشرقي، أما الجانب الغربي من العاصمة: ففيه قاض تابع لقاضي القضاة، وهذا ترتيب عباسي أبقوه، وكانوا يخلعون على قاضي القضاة أكسية وخلعا عقب توليته منصبه، كما كانوا يجعلون للأشراف العلويين الطالبيين نقابة، ويولون نقابتها إلى أكبر آل علي، وهذا أيضا ترتيب من التراتيب العباسية.
وقد استمرت هذه العمالات والوظائف الكبيرة بيد صدور عراقيين في عهد الوزير ابن العلقمي (؟-656ه) وكان عهده جد قصير، فلما هلك وأسندت الوزارة إلى علاء الدين الجوني الفارسي انقطعت هذه الوظيفة وأكثر الوظائف الكبيرة عن العراقيين وصارت للمغول أو لمن هم في حكمهم من صنائعهم ومماليكهم من الإيرانيين والتركمان الذين كانوا يعملون بإخلاص على توطيد الملك للمغول وشد أزره، وكان أكثرهم من القساة الغلاظ الجفاة الذين أذاقوا البلاد ويلات شدادا وهدموا معالم الحضارة فيها، وأحلوا الأنظمة المغولية والطقوس الأعجمية محل الأنظمة العربية والطقوس والتقاليد والتراتيب العربية.
ولم يقتصر عمل الدولة المحتلة على محو التراث العربي القديم وتراتيبه الإدارية، بل حاولت إفقار الناس حينما فرضت عليهم أن يتعاملوا بعملة من المعادن الرخيصة بدل العملة الفضية والذهبية التي أخذت الحكومة المغولية تجمعها وتبدلها بالعملة الرخيصة الجديدة التي ضربتها، وقد كانت هذه الفعلة تتكرر كل خمس سنوات أو عشر، ففي سنة 666ه أيام السلطان أباقا أمر بضرب فلوس من المس وهو أردأ النحاس ليتعامل بها الناس، وجعل كل أربعة وعشرين فلسا بدرهم، ثم في سنة 682ه أبطلت الفلوس النحاسية وضربت عوضها فلوس جديدة من الفضة، وجعل كل اثني عشر فلسا بدرهم وسموها دناكش، ثم أبطلت في سنة 683ه وأعيدت الفلوس المس، وتعامل الناس بها كل ثلاثين فلسا بدرهم، وتضرروا أضرارا بالغة، وفي سنة 684ه أبطلت الفلوس المس وتعطلت أمور العالم لذلك، وبطلت معايشها، وضربت دراهم غيرها وقرر سعرها ثمانية مثاقيل بدينار، واختلفت قيمة الدراهم الأولى، فكان منها كل عشرة مثاقيل بدينار، ومنها اثنا عشر مثقالا بدينار، فذهب من الناس شيء كثير ... ثم غلت الأسعار فبلغ الكر من الحنطة مائة وعشرين دينارا وكر الشعير مائة دينار،
1
وفي سنة 698ه حينما دخل غازان إلى العراق أمر بالإحسان إلى الرعية، وزاد في العدل والرأفة بهم، وأمر أن يصفى الذهب والفضة من الغش ويبالغ في ذلك، وتضرب الدراهم متساوية الوزن؛ ليتعامل بها الناس عددا، ويكون وزن الدرهم نصف مثقال، وعملت دراهم وزن الدرهم ثلاثة مثاقيل، وضرب من الذهب أشياء مختلفة الوزن خمسة مثاقيل، وثلاثة مثاقيل، ومثقالان، ومثقال، ونصف مثقال، وربع مثقال، وأمر أن يعمل ذلك في جميع الممالك، فعمل وانتفع الناس به،
2
ولكن هذا العدل لم يدم طويلا فقد أمر بتغيير التعامل بهذه العملة بعد فترة، واغتم الناس لذلك غما كثيرا، وزيفت العملة من جديد، وزاد في البلاء أن جماعة من اليهود وغيرهم قد أخذوا يزيفون العملة، وينشرونها في الأسواق، ففي سنة 678ه نسب إلى جماعة من أهل بغداد ويهودها أنهم زيفوا العملة، فأخذ بعضهم وضرب فأقر على جماعته، ومنهم حيدر بن الأيسر وكان من أعيان البلد المتصرفين، ومنهم ابن الأخضر الذي كان ينقش العملة، فأمر الصاحب عطاء ملك الجوني بقطع أيدي جماعة منهم ابن الأخضر، وقرر على ابن الأيسر مالا مسمى فأداه، ومما زاد في الطنبور نغمة أن أمراء المغول وأذنابهم أظهروا في سنة 693ه عملة ورقية نقدية سموها الچاو، بالجيم الفارسية المثلثة، وهي نوع من الورق المستطيل الشكل وضعوا عليه نقش «تمغة» السلطان أي شعاره، وكتبوا عليها كلمتي الشهادة، وأمروا الناس أن يتعاملوا بها،
3
وقد ضاق الناس بهذه العملة ذرعا، وحملت عدة أحمال منها من تبريز إلى العراق ليتعامل الناس بها، فامتنعوا أول الأمر، ثم ألح السلطان عليهم وكاد الأمر أن يؤدي إلى ثورة، فرجع السلطان عن ذلك مؤقتا، ثم أكرههم على استعمالها في سنة 697ه، وأصابهم بذلك ضرر كبير حين كان يستبدل الورق بالذهب والفضة؛ فبطلت كثرة المعاملات وتعطلت الأمور، وكان الناس إذا أرادوا شراء أقواتهم دفعوها إلى الخبازين أو القصابين، ووضعوا تحتها العملة الفضية أو الذهبية فيأخذها الخباز أو القصاب وغيرهما، ويأخذ صاحب الحاجة حاجته خوفا من أعوان السلطان.
وهكذا قاسى الناس ويلات من هذا الظالم، ولقيت البلاد شرورا وآثاما.
الفصل الرابع
الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
نضجت العلوم والآداب والفنون في العصر الفاطمي والعصر الأيوبي - كما رأينا - وكانت هذه الحركة الثقافية الرفيعة امتدادا للحركة الثقافية في العصر العباسي، وقد تنافس الخلفاء والملوك والأمراء في نشر العلم وبناء دوره، وتشجيع أصحابه، واقتناء كتبه، وتأسيس خزائنه، وفتح مدارسه ومعاهده، والإكثار من دور القرآن والحديث خاصة، وكان الخلفاء والملوك والأمراء يرعون هذه الحركة بأنفسهم، ويشيدون المعاهد برعايتهم، ويقتنون الكتب لخزائنهم والخزائن العامة، ويجزلون العطاء للكتاب والمؤلفين والخطاطين والنساخين، ويرعون طلاب العلم بالإنفاق عليهم، ولما جاء عهد المماليك استمرت هذه الحركة؛ لأنهم كانوا على الرغم من بعدهم عن العروبة يؤمنون بالإسلام ويخلصون له، ويتحمسون لعلومه وآدابه ولغته، وقد أبقوا لنا مدارس كثيرة في الشام ومصر والحجاز ما تزال شاهدة على حرصهم الشديد على نشر العلم وتعميمه، ولم يخل عصر أحدهم من إشادة مدرسة أو بناء جامع فيه مدرسة أو خزانة كتب، أو تأسيس كتاب للأطفال، أو دار قرآن للأيتام، أو دار حديث للطلاب، وقد ألفت كتب كثيرة في تاريخ هذه المعاهد والمدارس وأحوالها، وبخاصة في العصرين الأيوبي والمملوكي، ومن أشهر هذه الكتب كتاب «الدراس في المدارس» لابن حجي الحسباني وهو مفقود فيما أعرف، وكتاب «تنبيه الدارس» للقمي، وقد نشره المجمع العلمي العربي بدمشق، ومختصره للعلموي، و«مساجد دمشق» لابن عبد الهادي، وقد نشرته.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض المماليك كان على جانب عظيم من العلم والمعرفة والفضل، فكان طبيعيا جدا أن يشجع العلم وأهله، ويهتم بإشادة المدارس وعمارة بيوت العلم أمثال الملك المنصور قلاوون، فقد بنى في مصر بناء ضخما اشتمل على «بيمارستان» مستشفى ومدرسة، ومكتبة، وجعل في البيمارستان عدة غرف واسعة مفروشة بالأسرة للمرضى الفقراء والأغنياء على السواء، وجعل فيه غرفا خاصة بالنساء، وسمى فيه عدة أطباء وكحالين وممرضين ومدرسين يدرسون فنون الطب والكحالة، وجعل إلى جانبه معملا كيماويا جهزه بكل أنواع المعدات والآلات الطبية، وبنى إلى جانبه خزانة كتب ضخمة فتح أبوابها للجمهور، وملأ خزائنها وأدراجها بالنفائس من مخطوطات الطب والعلم والأدب والدين من كل فن، وعهد إلى جماعة من أهل العلم بالإشراف عليها ومساعدة روادها وطلاب العلم، وجعل إلى جانب ذلك مدرسة واسعة، سمى فيها المدرسين والفقهاء على المذاهب الأربعة، وبنى إلى جانب ذلك مكتبا لتعليم الأطفال، ودار قرآن لتعليم القراءات، وميتما واسعا لتربية الأيتام، ولا تزال آثار هذه الجامعة العظمى شاخصة إلى أيامنا هذه تشهد لبانيها الملك الصالح العادل العالم بالفضل والخير وحب الإصلاح.
ومن المماليك الأفاضل البارعين بعلوم العربية والدين: الملك الناصر بن قلاوون، فقد كان مثل أبيه، ورووا أنه كان بارعا بعلوم الفقه والحديث والأصول، كما كان عارفا بالآداب العربية وعلومها، وكان يجلب العلماء إلى مجلسه ويناقشهم في مسائله، ويقرب أفاضلهم، ويجزل عطاءهم، وهو الذي بنى كثيرا من دور العلم ، وهو الذي أعاد إلى المؤرخ العالم الجليل إسماعيل بن علي المشهور بأبي الفداء مملكة حماه، وما ذلك إلا لفضله، وقد خلف لنا كثيرا من دور العبادة والتدريس، ومن أعظمها: مسجده المعروف بالجامع الجديد في القاهرة، وبنى جامعا آخر بجانب جامع أبيه العظيم في شارع النحاسين بالقاهرة، كما بنى دار العدل العظمى وعددا كبيرا من المدارس في كثير من المدن الشامية والمصرية.
وكان الملك الظاهر جقمق محبا للعلم والفنون الجميلة، كما كان حريصا على بناء دور العلم، وتزويدها بالمصاحف المتقنة الجميلة، والكتب النادرة، والتحف النفيسة.
1
ومما هو جدير بالملاحظة أن الديار المصرية والشامية كانتا حافلتين منذ القديم بمعاهد العلم من مدارس ودور كتب، ومن أشهر هاتيك المعاهد في القديم: دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله في سنة 395ه وحمل إليها الكتب من خزائن القصور الملكية والمساجد القديمة، ووقف عليها ما تحتاج إليه، وعهد بإدارتها إلى جماعة من أهل الفضل يتعهدونها، ويعملون على تثقيف الناس فيها، سواء بمحاضراتهم يلقونها فيها، أو بمناظراتهم بين المترددين إليها، وقد ظلت هذه الدار عامرة بالعلم وأهله حتى دخل صلاح الدين إلى مصر وحولها إلى مدرسة للشافعية.
ومن آثار الفاطميين في مصر أيضا: خزانة كتب الخليفة العزيز بالله، فقد كان محبا للعلم حريصا على تثقيف الناس، ولذلك بنى دارا عظيمة ملحقة بقصره، جمع فيها كثيرا من المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ والحكمة والفلسفة والفقه، وقالوا: إن عدد كتبها بلغ نحوا من مليون وستمائة ألف كتاب، وذكروا أنه كان من بينها كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، ونيف وثلاثون نسخة متقنة، منها نسخة عليها خط المصنف، كما كان فيها نيف وعشرون نسخة من «تاريخ الطبري»، ونسخة من كتاب «الجمهرة في اللغة» لابن دريد، وكان العزيز بالله يتردد إليها ويتحدث إلى قيمها، ويناقشه في مسائل العلم وأحوال الكتب.
وأعظم أثر علمي خلد اسم الفاطميين على الدهر هو «الجامع الأزهر» المعمور الذي بناه الأمير جوهر الصقلي بأمر الخليفة المعز لدين الله في سنة 363ه وجعله مدرسة كبرى لتعليم العلم وتهذيب النفس، وأقام إلى جانبه خزانة كتب غنية، وقد ظلت هذه المؤسسة الضخمة عامرة بالعلم، عاملة على نشر المذهب الفاطمي الشيعي إلى أن جاء الناصر صلاح الدين الأيوبي، فحولها إلى مدرسة شافعية، وما زال شأنها يسمو في عصر الأيوبيين حتى درست فيها المذاهب الأربعة واللغة والآداب والرياضيات والفلك، فلما استولى المماليك على مصر زادوا العناية بها، وأكثروا مواردها وعظموا عدد طلابها وشيوخها، كما أنهم وسعوا بناءها، وزادوا أروقتها وبخاصة في عهد الملك الظاهر بيبرس والملك «قايتباي» والملك «قانصوه» الغوري، وقد أضحت هذه المدرسة بل الجامعة العظمى الملجأ الحصين للغة والدين في عصور الانحلال والانحدار، ولم يكن أثر الأزهر الشريف مقصورا على أهل مصر وحدها؛ بل كان المسلمون يقصدونه منذ العصر الأيوبي من كافة أنحاء العالم الإسلامي حتى من بلاد المغرب واليمن والهند وأواسط أفريقيا، وأخذت هذه الصلة تقوى بين الأزهر وبين البلاد الإسلامية حتى أضحى في العصر العثماني مأوى المسلمين وحصنهم المتين في كافة بقاع الإسلام من بلاد الشركس والقفقاس إلى بلاد الهند والأفغان، وقد بلغ عدد طلابه في القرن التاسع للهجرة نحوا من ألف طالب.
2
هذا وقد وقف الأمراء والمماليك كثيرا من دور العلم والعبادة منذ عهد صلاح الدين في الشام ومصر، وقد أكثر هو نفسه من بناء هذه المعاهد في مصر والإسكندرية والقدس ودمشق وحلب وحماه، وخلفه أبناؤه ورجال أسرته فساروا على غراره، ولما جاءت دولة المماليك بعدهم أكثروا من بناء المدارس كثرة واضحة حتى قال المقريزي في خططه: إن مدارس المماليك في الشام ومصر قد بلغت نحوا من سبعين مدرسة ومعهدا للتدريس، ويقال: إن مثل ذلك العدد كان في الأصقاع والولايات التابعة لهم.
وهكذا ازدهرت المدارس، وارتفع شأن العلم في عصر المماليك على الرغم من انحطاط شأن العرب السياسي، فلما جاء الأتراك العثمانيون، واحتلوا الشام ومصر تأخرا من الناحية الثقافية، وبخاصة الناحية الأدبية بشكل بارز، فقد نكب الأدباء والشعراء وتفرقوا في البلاد، وفشت الجهالة وعلى الأخص حين وقعت الفتن والحروب بين الأتراك وبقايا المماليك ، فتأخر الأزهر، وانحطت مدارس الشام الكبرى، وهدم أكثر معاهد العلم، وظلت حالة الجهل متفشية في عهد السلطان محمد الثالث، ففي سنة 1004ه بعث إلى مصر محمد باشا واليا عليها؛ فاهتم بالمعاهد الدينية، وأحيا شعائرها، وأعاد بناء «الجامع الأزهر» إلى ما كان عليه، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ تفرق على الطلبة الفقراء، كما رمم المشهد الحسيني، وأخذ الأزهر منذ ذلك الحين يستعيد نشاطه الفكري، كما شرع رجاله يعنون بنشر العلم والتأليف والوعظ والإرشاد، واستمرت هذه الحالة حتى جاء نابليون وأوجد تلك النهضة المعروفة التي سنتحدث عنها فيها بعد.
ومما يجدر بنا ذكره هنا أن اللغة العربية وعلومها كانت مزدهرة في العصر المملوكي؛ لأن المماليك كانوا يتعلمونها ويعلمونها أبناءهم ومماليكهم ويشجعونهم على إتقانها والبراعة فيها وفي آدابها وعلومها، كما أسلفنا، فلما جاء العهد التركي ضعفت اللغة العربية، وانحطت آدابها، وتدنت أساليب تدريسها، وسفلت طرائق كتابتها، وقد زعم بعض المؤرخين أن السلطان سليما العثماني أراد حين فتح الشام ومصر أن يجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية بدلا من اللغة التركية وأنه كان مصمما على ذلك، ولكن المنية عاجلته قبل إتمام هذا المشروع الهام حتى قال المرحوم الأستاذ محمد كرد علي: «والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام، وخطب له في الحرمين الشريفين؛ فسمي فاتح ممالك العرب، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها، وأن الترك وهم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا، ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة، ودخلت في جملة العرب عناصر كثيرة مهمة، ولارتقت اللغة العربية فأضحت الأستانة موطنا لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة.»
3 •••
أما عن الحالة الاجتماعية: فقد بلغت في مصر أثناء العصر الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي درجة رفيعة في الحضارة والرقي والسمو الاجتماعي حتى صارت زعيمة البلاد الشامية والحجازية، وكانت ثروتها نعم المعين لها على نشر هذه الحضارة وتعميم أسباب العلم، ولكن انشقاق الأيوبيين بعد وفاة زعيمهم صلاح الدين وانقسامهم وتقسيمهم مملكة صلاح الدين الواسعة الممتدة من مصر إلى الشام والموصل واليمن والحجاز قد ضعضع تلك الدولة، فاختل التوازن الاجتماعي حينا من الدهر بعد هذه التجزئة، واضطرب حبل الأمن، وباضطرابه اختلت القيم الأخلاقية، وكثرت الدسائس في البلاط الملكي وفي قصور الأمراء، ووصلت هذه الدسائس والفتن إلى صفوف الوجهاء وطبقات الشعب، ولم يأت القرن السابع للهجرة إلا وأسرة صلاح الدين قد جعلت بأسها بينها، فضعفت عصبيتها، واختل نظامها، ورأت أن تستمد قوة من بعض العناصر الأجنبية كالشركس والروم والأتراك والصقالبة ممن دخلوا في الدين الحنيف، وأخذوا يتحينون الفرص لاستعادة سلطانهم المفقود عن طريق الدس أو الاحتيال أو إيقاع الفتن بين صفوف رجال الأسرة الحاكمة أو بين الشعب وطبقاته.
وقد كان لهؤلاء الأجانب أثرهم القوي في الحياة الاجتماعية، وخصوصا حين قوي أمرهم، وأضحى الملوك والأمراء الأيوبيون ألعوبة في أيديهم يصرفونهم كما يشاءون، كما أضحى الشعب مدفوعا إلى تقليدهم والاقتباس من أحوالهم وأخلاقهم، على أن هؤلاء المماليك الأجانب كما أثروا في أهل البلاد، قد تأثروا بهم واقتبسوا كثيرا من أخلاقهم وأوضاعهم، وأحبوا البلاد التي نزلوا فيها، ونذروا على أنفسهم الدفاع عنها من الغزاة الذين أرادوا القضاء عليها كما قضوا على العراق وفارس، والحق أن هؤلاء المماليك كانوا حماة بلاد الشام ومصر من أن يفعل بها المغول ما فعلوه في إيران والعراق، وبخاصة بغداد قلب الإسلام وعروس بلاده، ولهؤلاء المماليك الفضل الأكبر في الإبقاء على سلامة البلاد وإنقاذها من شرور الصليبيين الذين أرادوا أن يفرضوا نظمهم وقوانينهم وأحوالهم الاجتماعية على البلاد، ولكن المماليك أقصوهم وردوهم شر رد.
ولا يسعنا الأمر أن نترك الحديث عن أبناء الشعب على الرغم من قلة المعلومات التي لدينا عنهم في هذه الحقبة، وأغلب الظن أنهم كانوا مسوقين كالقطعان، يعملون على تقليد أمرائهم من الأيوبيين والمماليك؛ لأنهم في نظرهم قد غدوا القدوة الصالحة، على الرغم مما هم فيه من السوء وفساد الخلق، إلا من رحم ربك، وسلمه الحظ إلى مالك كريم النفس علمه الدين والخلق وبعث به إلى حلقات الذكر أو مدارس العلم فتهذبت نفسه وسما عقله، وقد كان لهؤلاء المماليك تقاليد وأحكام وشارات يتميزون بها عن غيرهم، كما كان بطبقتهم أنظمة خاصة بها، وكان لهم طبقات؛ فطبقة شاراتها صور بعض الحيوانات كالأسد والفهد والنمر والصقر والطاووس، وطبقة شاراتها صور الزهور كالزنبق والأقحوان والياسمين والقرنفل، وطبقة شاراتها صور بعض الأدوات الحربية كالسيوف والسناجق والكئوس والمغافر، وكان لكل طبقة قرطق خاص تلبسه ومناطق معينة تتخصص بها في ألوان جميلة مختلفة اختصت كل طبقة بلون خاص.
ومما هو جدير بالذكر أن كثرة هؤلاء الأمراء من الأيوبيين ثم من المماليك كانت تميل إلى نشر الرخاء بين طبقات الشعب، وإلى تعميم أسباب الحضارة فازدهرت مصر والشام في عهدهم، وارتقتا من الوجهة الاجتماعية رقيا ملحوظا، والسبب في ذلك - على ما نرى - هو أن هؤلاء الأمراء من أيوبيين ومماليك كانوا يحبون أن يجاروا الخلفاء الفاطميين والعباسيين الذين ورثوا أرضهم وملكهم، ومن المعلوم أن مصر بلغت في عهد الفاطميين درجة شامخة في الحضارة والرقي الاجتماعي، فقد كان للفاطميين في القاهرة دور وقصور ومدارس ومعاهد ومكاتب وخانات وحمامات وأسواق وإسطبلات، حشوها بالكثير من مظاهر الرقي والترف من أقداح البلور الصافي، والصحوف الفضية والذهبية والبلورية الفاخرة، والأواني الخزفية والخشبية، والأقمشة البارعة من حريرية وقطنية وكتانية وصوفية، ومن عدد الخيل والحرب ... وما إلى ذلك من ضروب الحضارة والرقي، ومن الطبيعي جدا أن يكون الأيوبيون ثم المماليك قد توارثوا هذه الحضارة عن أسلافهم من أملاك هذه الديار، وأن يتمتعوا بها في حياتهم الاجتماعية، كما أنهم كانوا قدوة للخاصة والعامة في ديارهم، يقلدونهم في أعمالهم، ويتخذون طريقتهم قدوة لهم، ويظهر أن الترف قد بلغ حدا بعيدا في أيام المماليك؛ لأن مصر والشام كانتا أرضا غنية تجتمع فيهما أسواق العالم من الشرق والغرب، وتتوافد إليهما التجار من كافة أصقاع الدنيا؛ ولهذا نجد الناس قد تفننوا في البذخ والترف والشراء، فقد رووا أن المماليك قد رصعوا عصائب شعور نسائهم وثيابهن وخفافهن بالجواهر واللآلئ، كما رصعوا آنية شرابهم وطعامهم بالذهب والحجارة الكريمة، واتخذوا من مجالس شرابهم ولهوهم آنية وتماثيل ودمى من الذهب المرصع بالحجارة الكريمة واللؤلؤ، ولبسوا الثياب المزخرفة، وتمنطقوا بالشال الهندي، وتسربلوا بالحرير، وافترشوا الدمقس والخز والديباج والمخمل، واستعملوا آلات الشطرنج والنرد المصنوعة من الذهب والفضة والآبنوس والعاج والعود، ووجد في خزائن بعضهم من أصناف الثياب والحلي والرياش والأثاث ما يقدر بملايين الدنانير.
وقد استتبع هذا الأمر أن فشت بينهم كثرة من الأمراض الاجتماعية التي تنتج عن الترف الزائد كشرب المكسرات، وتدخين الحشيش، وفعل الموبقات، والتفنن في المنكرات، حتى اضطر الملك بيبرس سنة 665ه في القاهرة، حين عزم على القيام بإحدى غزواته الحربية، أن ينظم داخليته، ويصدر مراسيم بإبطال تدخين الحشيش وإبطال ضمانه، ويأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المنكرات، ومنع الحانات والخواطي في المحلات العمومية بمصر والشام جميعا حتى قال بعض الشعراء:
ليس لإبليس عندنا أرب
غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معا
حرمتا ماءه ومرعاه
ويظهر أن الملك قد عرف بأن بعض الرعية لم يأتمر بأمره، وظل يعاقر الخمور، ويعمل ما اعتاده من الفواحش، فأمر بمنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء، وأمر بنهب الخانات التي كانت معدة لذلك وسلب أهلها جميع ما كان لهم ونفى بعضهم، وحبس النساء حتى تزوجن، وكتب بجميع ذلك توقيعا سلطانيا قرئ على المنابر في الجوامع.
4
والحق أن الأخلاق قد اضطربت في أواخر القرن السابع اضطرابا ظاهرا، وانتشرت المسكرات والموبقات انتشارا مخيفا، حتى اضطر الملك بيبرس إلى الوقوف من أصحابها هذا الموقف الخشن، وفي عهده أيضا أمر عماله في كافة المقاطعات بتنظيم نظام الحسبة، والتشديد على أهل الغش، والضرب على أيدي الدجاجلة، كما أمر عماله أن يكثروا عدد موظفي الحسبة في البلاد؛ ليراقبوا أحوال الناس والباعة، وليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويراقبوا الموازين والمكاييل بعد أن فشا التطفيف، ولينظروا في أمر الأسعار ويتشددوا في مراقبتها، وفي تحديد الأرباح بالإنصاف والعدل بين المشتري والبائع، ويجدر بنا أن نلاحظ هاهنا أن رجال الأخلاق وأهل الوعظ والإرشاد لما شاهدوا الحالة الاجتماعية المنحطة التي صار إليها الناس، وخصوصا في الأحوال المعاشية، أخذوا يكتبون الكتب والرسائل - وهي بمثابة الصحافة في أيامنا - لدعوة الناس إلى سبيل الخير والإقلاع عن جادة الشر، ومن هذه الرسائل والكتب كتب الحسبة ورسائل الإصلاح الاجتماعي العديدة، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من المؤلفين كتبوا في هذه الفتن عن هذه الأمور أمثال: عبد الرحمن بن نصر الشيرزي (؟-589) صاحب كتاب «نهاية الرتبة في طلب الحسبة»، وهو من أمتع الكتب التي ألفت في الاحتساب، تعرض فيه مؤلفه إلى كثير من مسائل المحتالين، وأنواع غشهم، وطريقة احتيالهم على الناس في دكاكينهم من حلوانيين، وطباخين، وسمانين، وعطارين، وبزازين، وقطانين، وصباغين، وبياطرة، وصيادلة، وأطباء، وكحالين، و... وقد أحصى في كتابه كثيرا من أخبار الحيل، وطرائقها، وأنواع الغش الغريبة التي كان الباعة في القرن السادس يعمدون إليها؛ ليوهموا الناس ويغشوهم.
5
ومنهم أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي مؤلف كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة»، وقد ضمن رسالته فصولا قيمة بحث فيها عن التجارة ومحاسنها ومعرفة قيم الأشياء، وطريقة تمييز جيد المتاع من رديئه، وتبيين تدليس المدلسين، وأنواع حيلهم.
6
ومنهم عبد الرحمن بن أبي بكر الدمشقي الجوبري الذي كان عائشا في سنة 618ه، وله كتاب ممتع اسمه «المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار»، وقد ضمنه بحوثا قيمة جدا عن حيل البائعين، وغشهم، وكشف أسرارهم، وهتك حيلهم وتدليساتهم في البضائع.
7
ومنهم الإمام الكبير تقي الدين بن تيمية الحراني الدمشقي (؟-728ه)، وفي كتبه وفتاويه بحوث قيمة عن هذا الأمر، وله رسالة عنوانها: «الحسبة في الإسلام»، وقد ضمنها كثيرا من البحوث المفيدة التي دعت إلى مكارم الأخلاق، وصيانتها، والعناية بأحوال الباعة والسوقة، ومراقبة الطبقة العامة وأحوالها المعاشية.
8
ومنهم الإمام نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة المصري الشافعي (؟-710ه)، وكان محتسبا في القاهرة، وله كتاب سماه «الرتبة في الحسبة»، وقد ضمنه بحوثا قيمة، وقد فقد فلم نعثر على ذكر له في فهارس الخزائن.
ونحن إذا رحنا نعدد الآثار الباقية أو التي فقدت مما كتبه المصريون أو الشاميون في انتقاد الوضع الاجتماعي أثناء هذه الفترة جئنا بالشيء الكثير، فقد كثرت التآليف؛ لكثرة المحتالين وأهل الذمم الفاسدة، ومن شر هؤلاء المحتالين: محتالو الصيادلة، فقد ذكر صاحب نهاية الرتبة في الباب السابع عشر في الحسبة على الصيادلة: أكد تدليس هذا الباب والذي بعده - أي باب تدليس العطارين - كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله من نظر فيه وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه تقربا إلى الله، فهي على الخلق أشد خطرا من غيرها ، فالواجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في ذلك، وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم العقوبة والتغرير، ويعتبر عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع، ثم سرد طائفة من أنواع حيلهم وعشوشهم الخبيثة، وختم هذا الفصل بقوله: وقد أعرضت عن أشياء كثيرة في هذا الباب لم أذكرها؛ لخفاء غشها، وامتزاجها بالعقاقير، ومخافة أن يتعلمها من لا دين له فيدلس بها على المسلمين.
وقد اهتم الناس في هذا العصر بتربية الخيول والبغال وما إليها من عدد القتال والأسفار والقوافل والتجارات، وكانت للأيوبيين والمماليك عناية شديدة بهذه الأمور، وبخاصة فنون البيطرة وأمراض الخيل ومداواتها وعلاجات عللها، وكان كثير من أمرائهم ورجالات دولتهم يهتمون بإقامة أسواق الخيل وحلبات السباق، وبخاصة الملك الظاهر بيبرس فإنه كان فارسا للخيل مهتما برعاية أحوالها، وخصوصا الجياد العربيات، كما كان مهتما برمي النبال، وقد كانوا ينشئون الميادين العامة، والحلبات الخاصة للتسابق والمران، ومن الميادين المشهورة لذلك في مصر: الميدان القبق، والميدان الأسود، وميدان العبد، والميدان الأخضر، ومن ميادين دمشق وحلب عدد كبير قد خصص لذلك، ولا يزال عدد من هذه الميادين محافظا على اسمه ووضعه، وقد كانوا يبنون إلى جانب هذه الميادين مصاطب يجلسون عليها ويشاهدون اللاعبين، قال الأستاذ جرجي زيدان في تاريخه للسلطان بيبرس: «وكان محبا لركوب الجياد ورمي النبال فأنشأ ميدانا سماه ميدان القبق، وميدانا للسباق، وكان شاغلا بقعة من الأرض تمتد بين النقرة التي ينزل إليها من قلعة الجبل وبين قبة النصر التي هي تحت الجبل الأحمر، وبني فيه مصطبة سنة 666ه للاحتفال برمي النشاب والتمرين على الحركات العسكرية، وكان يحث الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك، فكان ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر فلا يركب منها إلى العشاء، وهو يرمي ويحرض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، وما برح من بعده أولاده ومن بعدهم يمارسون في هذا الميدان جميع الألعاب الحربية.»
9
وقد اهتم المماليك اهتماما خاصا بالفروسية وما إليها؛ لأنهم قوم وصلوا الملك والإمارة عن طريق الفروسية ، ولذلك كان أكثر همهم أن يعتنوا باقتناء المماليك ويمرنونهم على ركوب الخيل، ورمي النبال، وأعمال الفروسية، والحروب.
ومما ينبغي الإشارة إليه مسألة الملابس وتعدد هيئاتها، وتنوع ألوانها، وكثرة التألق فيها، فقد كان الناس في صدر الإسلام يلبسون ما تصل إليه أيديهم من اللباس الساذج، وكذلك كان الأمر في عصر بني أمية إلا في أواخره وأوائل العصر العباسي، فلما تعمق العباسيون في الملك تفننوا في التأنق والتبرج، وبخاصة النساء والغلمان، وقد حذا الفاطميون في مصر حذو العباسيين والأندلسيين، فلما انقرض هؤلاء وجاء عصر الأيوبيين والمغول والمماليك، اضطربت الأزياء والأشكال اضطرابا واضحا، فكثرت الألوان وتعددت الهيئات، وأخذ الناس يلبسون في رءوسهم أنواعا غريبة من لباس الرأس بعد أن كانت السذاجة في العصور السابقة واضحة، فلبسوا في هذه العصور: الكلوتات، والطواقي، والكلاهات، والدنباكيات، والأقباع، وما إلى ذلك من ألبسة الرأس العديدة من دون أن يضعوا عليها الشاش التقليدي أو الطيلسان القديم، وكانوا يطيلون شعورهم، ويجعلونها في أكياس من الحرير الأحمر أو الأصفر إلى خلفهم، وكانوا يشدون في أوساطهم بنودا من صنع مدينة بعلبك، كما كانوا يشدون فوق قماشهم إبزيم جلد وفيه نحاس، وفي ذلك الإبزيم ملعقة من الخشب كبيرة وسكين كبيرة، وكانت لهم مناديل من الخام بمقدار فوطة كبيرة لمسح أيديهم، وقد ظلت هذه الهيئات حتى استقبحها بعضهم، ولكن أحدا لم يجرؤ على الدعوة إلى تغييرها ولبس الثياب الساذجة ذات الألوان البسيطة والهيئات العادية حتى تولى الملك السلطان قلاوون، وكان من عظماء ملوك المماليك، فأمر بمنع لبس هذه الثياب المضحكة الشنيعة .
10
وقد لاحظ بعض هذه الأمور مؤلف كتاب «نهاية الرتبة» فعقد فصلا مطولا لطيفا في الحسبة على الخياطين قال فيه: يؤمرون بجودة التفصيل، وحسن فتح الجيب، وسعة التخاريس، واعتدال الكمين والأطراف، واستواء الذيل، والأجود أن تكون الخياطة درزا لا شلا، والإبرة دقيقة والخيط في الخرم قصيرا؛ لأنه إذا طال اتسخ، ومما ذكره من طريف حيل الخياطين في ذلك الوقت قوله: فمنهم من إذا خاط ثوبا حريرا أو نحوه وقف كفه وحشاه رملا وأشراسا ، ويسرق كقدره من الثوب إذا كان موزونا عليه، ومما ذكره في الكلام عن الرفائين: أن يحلفهم - صاحب الحسبة - على أن لا يرفوا لأحد من الخياطين والقصارين ثوبا مخرقا إلا بحضرة صاحبه، ولا ينقل المطرز أو الرقام رقم ثوب إلى ثوب آخر.
وبعد، فتلك هي نبذة من أحوال الناس الاجتماعية في العصر الذي نؤرخه، وهي، كما ترى، أحوال غلب عليها الشر، وسيطرت عليها الدناءة في الغالب، ولذلك كثر المصلحون ودعا الداعون إلى الخير واتباع نهج الفلاح.
الفصل الخامس
الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة
العثمانية
من المعلوم أن إدارة البلاد في الشام ومصر قد بقيت في العصر الأيوبي على النمط الذي كانت عليه في العصر الفاطمي، فإن الأيوبيين كانوا قوما أصحاب دولة حديثة غلبوا قوما هم أصحاب دولة عريقة في النظام والإدارة، ولذلك كان طبيعيا أن يحافظ هؤلاء على أسلوب الإدارة القديمة إلا ما اقتضته طبيعة السياسة الجديدة من إقصاء بعض العناصر الحاكمة أو الطرق المخالفة لمذهب الدولة الجديدة، فأقصوا الموظفين الشيعيين، وغيروا خطط القضاء، وأحلوا المذهب الشافعي محل المذهب الفاطمي.
وكان السلطان أو نائبه في أيام الأيوبيين هو الحاكم المطلق المتصرف بشئون البلاد، وكان إلى جانبه في القاهرة أو إلى جانب نائبه في الشام جماعة من الموظفين والقضاة يساعدونه في إدارة البلاد من النواحي المدنية أو القضائية، وكان الملك العادل نور الدين محمود قد أنشأ في دمشق حين تملكها دارا ضخمة سماها «دار العدل»، كان يجلس فيها للفصل في القضايا الواقعة بين الناس وللقيام بالأعمال الإدارية والإصلاحية، ولما احتل السلطان صلاح الدين ديار مصر بنى لنفسه فيها «دار عدل» للنظر في المظالم والعمل على إحقاق الحقوق، وكان يجلس في تلك الدار في أيام مخصوصة ومن حوله قضاة المذاهب الأربعة، ومعهم صاحب بيت المال وأمراء الجيش، ومن ورائهم جمهرة من أرباب الوظائف الكبرى، والحرس وموظفي الإدارة، وكانت الظلامات والقصص تتلى عليه فيراجع القضاة وكبار الموظفين، ويناقش القضية معهم ثم يحكم فيها، وهكذا كان يفعل نوابه في الأقاليم في دور العدل التي شادوها على غرار داره، وكانت للأمراء والملوك الأيوبيين عناية شديدة وحرص زائد على إحقاق الحقوق، ورفع الظلم عن المظلومين، وكان للمحتسب في عهدهم شأن كبير؛ فهو الذي يفتش عن أهل المنكر والمفسدين وأهل الغش، ويؤدبهم ويقمع مفاسدهم، ويعمل على مراقبة الطرق وتنظيفها وتوسيعها، والحكم على أهل المباني المتداعية بإزالتها، وكان محتسب القاهرة يجلس في جامعي القاهرة والفسطاط يوما بعد يوم، ويبعث نوابه ووكلاءه إلى الشوارع والمنعطفات يفتشون أحوال المدينة، وأوضاع الباعات والسوقية، ويقدمون إليه التقارير عما رأوا من المنكر فيزيله، وكان صاحب الشرطة يعاونه، كما كان القاضي يعاونه في تنفيذ العقوبات، وإقامة التعزيزات، وتأديب أهل المنكرات، وكان صاحب الشرطة أيضا من كبار رجال الدولة وأكثرهم نفوذا وجاها، وكان له مقر خاص يجلس فيه ويبعث أعوانه ووكلاءه لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.
ومن الوظائف الإدارية الرفيعة لديهم: وظيفة الحاجب، وهو الموظف الكبير الذي يتولى أمر باب السلطان أو النائب فلا يأذن لأحد في الدخول عليه إلا إذا استأذنه.
وكان الأيوبيون يكثرون من الحجاب والمماليك الأتراك والجراكسة للجندية وحفظ الحدود والثغور وإدارة شئون البلاد، فلما ضعف الأيوبيون استولى هؤلاء المماليك على الدولة، كما رأيت، وقد قسم هؤلاء المماليك الأمور الإدارية في دولتهم على النمط الأيوبي، ولكنهم زادوا في شعب الإدارة، ونظموا أحوال المماليك؛ لأنهم كانوا عماد الدولة، وكان رأس المماليك هو السلطان نفسه، فإذا كان طفلا تولى الأمر عنه قيم يسمونه «أتابكا» أو «وصيا» وله التصرف في أمور المملكة،
1
ويليه رأس الجيش وهو كبير الأمراء ويسمى «أتابك» العسكر، وهو الذي يتولى أمور الجيش وله شأن عظيم عندهم، ويليه «مقدمو الألوف»، وكان عددهم في مصر أربعا وعشرين، وفي خدمة كل واحد منهم مائة مملوك، وهو مقدم على ألف جندي، وتدق على بابه طبول وزمور يوميا بشكل معروف وأوقات معروفة، ومن وظائف مقدمي الألوف: إمارة السلاح، وإمارة المجلس، وإمارة الدواتدار الأولى، وإمارة الآخور السلطاني، وإمارة الحجاب، وإمارة الحج.
ويلي مقدمي الألوف طبقة «أمراء الطلبخانات» ولهم وظائف معينة هي : إمارة الدواتدار الثانية، ونيابة القلعة، ونيابة الآخور السلطاني، وتليهم طبقة «أمراء العشراوات» وعدتهم خمسون، ثم طبقة أمراء الخمسات وعددهم ثلاثون، ومنهم: أمير الطبر، وشاد القصر، وشاد الأحباس والوقوف، وشاد دور الضرب، وشاد الأسواق، هؤلاء هم كبار موظفي الدولة المماليك العسكريون.
أما كبار موظفي الدولة الدينيون: فهم رجال الوظائف الدينية، ورأسهم «قاضي القضاة» وهو أكبر رجال الدين مكانة، وعليه مدار مصالح الأمة، ويليه «القضاة» الأربعة، وأجلهم مكانة الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي، ويليهم «النواب» وهم الذين ينوبون عنهم في القضاء، ويحكمون في الأقاليم والمقاطعات، وقد بلغوا في القرن التاسع نحوا من نيف ومائة نائب، ويليهم «نقيب الأشراف» وهو أجل السادة الأشراف وأعلاهم مكانة، وبه يرتبط مشايخ الصوفية وأرباب الطرق والزوايا.
وأما كبار موظفي الدولة المدنيين: فأعظمهم «الوزير» وهو المنصوب لمهمات أمور الدولة، وإليه يعهد السلطان بتنظيم الممالك إداريا، وله الإشراف على «الديوان» و«بيت المال» و«المواريث»، وهو الذي يتولى أمور رواتب الموظفين التي كانوا يطلقون عليها اسم «العلوفات» كما يتولى جميع أمور نفقات الدولة وخرجها، وقد بلغت في زمان السلطان برقوق في كل شهر خمسين ألف دينار، أما في زمن السلطان خليل الظاهري فقد بلغت أقل من ذلك بشيء يسير،
2
ويليه في المرتبة «ناظر الإنشاء» وهو كاتب السر وكاتمه، وفي ديوانه عدة موقعين يكتبون الرسائل، وتحت هؤلاء الموقعين عدد من الكتاب والمراقبين، ومن الوظائف الإدارية الكبرى: المشرف على أبراج الحمام الزاجل، وأول ما أنشئ عمله في الموصل أيام العباسيين، وحافظ عليه الفاطميون، وبالغوا في أمره حتى أفردوا له ديوانا خاصا، وجعلوا له جرائد معينة بأنساب الحمام وأحواله، وللشيخ محيي الدين بن عبد الظاهر كتاب خاص بأبحاثه سماه: «تمائم الحمائم»، ثم اعتنى به الملكان نور الدين وصلاح الدين، إلى أن كانت الدولة الأيوبية ثم الدولة المملوكية، فازدادت العناية به؛ لما فيه من فوائد ربط البلاد ببعضها وتنظيم أخبارها.
ومنها: الحاجب المشرف على مراكز الثلج من دمشق إلى القاهرة، وقد اعتنوا بتحميل الثلج عناية شديدة في أيام المماليك، وخصوصا أيام الملك برقوق فقد أمر بحمله على الهجن، ورتب له ترتيبات خاصة، وكان قبل ذلك يحمل في البحر من بيروت إلى بولاق في النيل، ثم ينقل على البغال إلى الشراب خانة، ويخزن في صهريج، أما في عهد السلطان خليل الظاهري فقد كانوا يحملونه من حزيران إلى تشرين الثاني في عدة نقلات تبلغ 71 نقلة، ويجهز مع كل نقلة بريدي ومعه ثلاج خبير بحمله ومداراته.
3
ومنها: وظيفة حاجب الخزانة الشريفة، التي كانت تحتوي على عدة خزائن وصناديق مملوءة بالحلي والجواهر والأواني من ذهب وفضة وأمتعة حسنة.
ومنها: وظيفة صاحب السلاح خانة، التي كانت تحتوي على جميع آلات الحرب وعدده، وما يتعلق بها.
ومنها: وظيفة صاحب الأهراء والشون، وتحتوي على الحبوب والأتبان المخزونة، وما إلى ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الشكاركاه، وهي تتعلق بطيور الصيد وحيواناته وأسلحته وما شابه ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الشراب خانة، وهي تتعلق بالأشربة والسكر والحلواء والعقاقير والفواكه وما شابه ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الطشت خانة، وهي تتعلق بالملبوسات الملكية والأقمشة والكسوات وما يتعلق بها.
ومنها: وظيفة صاحب الفراش خانة المتعلقة بالبسط والمفروشات والخيام والأسمطة والقناديل والسرادقات وما شابه ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الطبل خانة، وهي تتعلق بالكوسات والطبول والزمور والنفر وسائر الآلات الموسيقية التي تستعمل على باب السلطان وكبار المماليك والجيش وما شابه ذلك.
4
وفي أيام المماليك كانت الدولة منقسمة إلى تسعة ممالك:
أولاها:
المملكة المصرية، وحاضرتها القاهرة المعزية، وهي مقر الخليفة والسلطان وكبار رجال المماليك، وفيها الديوان الشريف، ومنه تصدر كافة التعيينات، وتسير الجيوش، وتنظم الغزوات والفتوح .
وثانيتها:
المملكة الشامية، وبها كافل الديار الشامية وهو الذي ينوب عن السلطان، وله عظمة تحاكي عظمته، وتحت يده آلاف من المماليك؛ قسم منهم ملكه الخاص، وقسم ملك للدولة، وعلى رأس هؤلاء المماليك جميعا مملوك يسمى «أمير كبير»، ومملوك يسمى «حاجب الحجاب»، وتقسم هذه المملكة إلى عدة مراكز في كل مركز وال ينصبه الكافل.
وثالثتها:
المملكة الكركية، وتشتمل على بلاد الكرك وقلعتها وما حولها، ويتولاها في العادة «أتابك» العساكر.
ورابعتها:
المملكة الحلبية، وهي تلي المملكة الشامية في العظمة، وكافلها من أعظم الكفال، ويعاونه في الإدارة ناظر الجيش ونائب القلعة وأربعة قضاة وأمير كبير، وتقسيمها الإداري هو نفس تقسيم المملكة الشامية.
وخامستها:
المملكة الطرابلسية، وكافلها من أعيان الكفال، ويكون فيها أربعة قضاة وأمير كبير.
وسادستها:
المملكة الحماوية، وتكون في الغالب تابعة للمملكة الطرابلسية، وتقاسيمها هي تقاسيم طرابلس.
وسابعتها:
المملكة السكندرية، وتكون في تراتيبها وتقسيماتها وموظفيها كالمملكة الطرابلسية.
وثامنتها:
المملكة الصفدية، وتكون في تقاسيمها كالمملكة الطرابلسية.
وتاسعتها:
المملكة الغزاوية، وكافلها مقدم العساكر، وترتيبها الإداري هو ترتيب المملكة الصفدية.
أما أرض مصر: فقد كانت مقسمة إلى أربعة وعشرين قيراطا، يختص السلطان منها بأربعة قراريط، والمماليك والأجناد يختصون بعشرة، والباقي وقدره عشرة موزع بين الأهلين جميعا، وقد ساءت حالة الأجناد قبيل تولي السلطان لاجين، فإن كبار المماليك كانوا يستولون على الأراضي ولا يعطون الأجناد إلا الشيء القليل من غلالها أو ثمن غلالها.
وأما الضرائب: فكانت تختلف باختلاف السلاطين، فإن كان السلطان ظالما أكثر منها وأرهق المكلفين من الأهلين، وإن كان رحيما خفف من وطأتها، ومن المماليك السلاطين الذين كانوا يرأفون بالأهلين: الملك الناصر، فقد قضى على إقطاعات المماليك التي كانت تنقص دخل بيت المال، ومسح الأراضي المصرية، وأعاد النظر في مصروفات الدواوين،
5
وعمل على الإقلال من الضرائب المفروضة على الأسواق وصغار الباعة، وفي عهد برسباي صدر قرار مؤداه أن التجارة الخارجية في البلاد كلها يجب أن تأتي إلى ميناء المملكة السكندرية ثم إلى القاهرة حيث تفرض عليها الضرائب، ثم تنقل منها إلى سائر الممالك، قال المؤرخ المستر موير في الفصل الذي خصصه للسلطان برسباي: إن الحكومة قد احتكرت التوابل الشرقية وخاصة الفلفل، فحدا ذلك دول أوروبة إلى الشكوى والانتقام، وقد أثقل كاهل الناس عبء آخر، وبخاصة في زمن الوباء، وهو التضييق على صناعة السكر بل على زراعة قصب السكر، والحقيقة إن الحكومة دخلت في كل فرع من فروع التجارة وكانت تراقب الأسواق، حتى أسواق اللحم والقمح، مراقبة أدت إلى أن هجرها الناس أحيانا هجرا نجم عنه الهياج والثورة.
6
هذا ما كان عليه الأمر في أيام المماليك، فلما استولى العثمانيون تبدلت الأمور تبدلا كليا، وفقدت مصر استقلالها، وفقد الشام استقلاله، وأضحيا خاضعين للباب العالي في الأستانة؛ يرسل إليهما الولاة، ويتحكمون فيهما على الشكل الذي رأينا في القسم السياسي.
ومن أظهر معالم التغير الذي طرأ بعد الاحتلال العثماني: انقضاء عهد الخلافة العباسية التي أحياها المماليك في القاهرة كما أسلفنا بيانه، فقد قضى العثمانيون الأتراك على الخلافة العباسية في مصر والشام، وتغلبوا عليها، فإن السلطان سليمان خلع آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة، ونادى بنفسه سلطانا وخليفة للمسلمين على الرغم من كونه غير عربي، والخلافة إنما هي في قريش، ووجد من رجال الدين من زور له نسبا قرشيا عربيا، وقد قسم السلطان سليم السلطة في مصر إلى ثلاثة أقسام:
أولاها:
سلطة الباشا، وهو الوالي المرسل من قبله.
وثانيتها:
سلطة الوجاقات - أي الفرق العسكرية - وهي مؤلفة من الأجناد والعساكر العثمانية التي تقيم في مصر وسائر القطر، وهي ستة وجاقات وهي: (1) وجاق المتفرقة للمراسم وهم نخبة من حرس السلطان. (2) وجاق الجاويشية لجمع الخراج والضرائب. (3) وجاق الهجانة. (4) وجاق التفكجية وهم أرباب البنادق المحاربون. (5) وجاق «الانكشارية» وهم عامة الأجناد الأخلاط. (6) وجاق العرب وهم الأجناد العرب من سكان البلاد، وعلى كل وجاق «آغة» و«كيخية» و«دفتردار» و«خزندار» و«رزنامجي»، ومن رؤساء الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا.
وثالثتها:
سلطة المماليك الذين استبقاهم السلطان سليم من بقايا المماليك السابقين حفظا للتوازن بين الباشا والوجاقات، وقد قسم السلطان سليم الديار المصرية إلى اثنتي عشر «سنجقلية »، يحكم كل واحدة منها سنجق من المماليك يسميه الديوان - أي مجلس شورى الباشا التركي.
وقد نتج عن هذا التقسيم الإداري الجديد أن اضطربت البلاد وقاست ويلات، ولكن الباب العالي أصر على تنفيذه فنفذ، وبذلك استطاع الأتراك السيطرة على البلاد وحكمها حكما مباشرا.
أما أرباب الإقطاعات القديمة: فقد ظلوا في الشام ومصر بعد الفتح العثماني على الحالة التي كانوا عليها من قبل في أيام المماليك، وقد ظهرت في أيام الأتراك العثمانيين في كلا القطرين أسر حكمت بعض المقاطعات حكما استقلاليا، مثل أسرة «الشهابي» و«المعني» و«الحرفوش» وغيرهم، وكان زعماء هذه الأسر يجمعون الأموال من الأهلين، ويقدمون بعضها إلى الوالي التركي، وبعضها إلى الباب العالي، ويحتفظون لأنفسهم بحصة الأسد، وكثيرا ما كان يغضب الوالي التركي على أحد أصحاب الإقطاعات فيبعث إلى فرقة من «الانكشارية» أو الأجناد «القبوقول» فيحرقون داره، ويسبون أهله، ويقطعون الشجر في بلاده حتى يخضع للوالي.
ومما هو جدير بالذكر في العهد العثماني أن كثيرا من الولاة والحكام كانوا يشترون مناصبهم بالمال، وربما نالوها بالمزايدة، وينقل الأستاذ كرد علي عن تقرير لأحد القناصل البندقيين أن منصب الوالي كان في الأستانة يكلف من «80 إلى 100» ألف دوكا، ومنصب الدفتردار كان يباع ب «40 أو 50» ألف دوكا، ومنصب القاضي كان يساوي أقل من هذه القيم، وكلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له كانوا يسلبون النعمة ويعرقون اللحم، ويكسرون العظم،
7
وكان من الطبيعي أن هذا الوالي أو الدفتردار أو القاضي الذي وصل إلى منصبه بالمزايدة أو الشراء، يعمل على استرداد مبلغه من الأهلين، ويهلك حرثهم ونسلهم، ويسلب قوتهم، وقد ساعد هؤلاء الموظفين المرتشين بعدهم عن دار السلطنة - إستانبول - من جهة، وتعامي السلطان وأهل الحل والعقد في العاصمة عن سماع أصوات المتظلمين من جهة ثانية، قال المرحوم كرد علي نقلا عن المؤرخ التركي جودت: إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع رواتبهم، فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم البلاد وأقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى البلاد الخارجية، وترك غيرهم القرى وجاء إلى الأستانة فرارا من الظلم، فلم يبق مكان في الأستانة، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة،
8
وإذا كانت هذه حال الدولة وهي في أوج عزها، فإنها حين ضعفت في القرن الثاني عشر أضحت بحالة يرثى لها من الانحدار الخلقي والإداري، على الرغم من اتساع رقعة بلادها من ڤيننا إلى أقصى بلاد العرب، ومن إيران إلى المغرب الأقصى، وماذا تعني سعة الرقعة والبلاد يعمها الجهل، وينتشر فيها المرض، وتفتك بها الثورات الداخلية، والولاة تسلب الحكام، والحكام تسلب الأهالي، والجند يعيثون في الأرض فسادا على اختلاف طبقاتهم وأنواع وجاقاتهم من قبوقولية، وانكشارية، ولاوند، وسكبان، وغير ذلك من الفرق والطبقات التي كانت كل واحدة منها حربا على أختها من جهة، وحربا على الأهلين من جهة ثانية.
أما جباية الأموال فكانت على غير قاعدة، ولا في سبيل الفائدة العامة، وكان هم الولاة والقضاة وسائر الحكام أن يجمعوا الضرائب والفرائض من الأهلين على اختلاف طبقاتهم بالقوة، وإذا ما رفع أحدهم صوته أو اشتكى خنقوه أو قتلوه أو نفوه أو صادروه، والويل كل الويل لمن يجرؤ على العصيان، ومخالفة أمر أولي الطاعة والسلطان، فإنهم حاكمون بأمرهم وبأمر السلطان ظل الله على الأرض، وصاحب الكلمة المطلقة، الذي لا يسأل عما يفعل، وله وحده الطول والحول والقوة.
ولقد قاست بلاد الشام ومصر ويلات شدادا لسوء إدارة ولاتهما وفساد الحكم فيهما.
الفصل السادس
الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد
كانت أكثر بقاع الجزيرة العربية في أواخر العصر الأيوبي خاضعة لحكم هذه الأسرة المسلمة المحافظة التي أعادت إلى الديار المقدسة والجزيرة العربية برمتها رونقها، ورفعت من شأن سكان هذه البلاد الكريمة، وأغدقت عليهم الأموال، وبعثت إليهم بالخيرات وفاخر الأثاث، وجعلتهم يشعرون بعناية الدولة بهم وبتقديرها إياهم، وقد كان أكثر الأمراء الأيوبيين يتنافسون في تقديم الوقوف والهدايا والعطايا لسكان الحرمين خاصة، والمدن الحجازية عامة، وكانوا يحبسون الأحباس الدارة عليهم، حتى عاش أهل هذه البقاع في نعيم وخير، أضف إلى ذلك أن الأمن المستتب كان يسهل انتقال خيرات اليمن السعيدة ونجد الميمون إلى الحجاز، فعاش أهله عيشة هنية، وكثر سكانه، وأخذ كثير من مسلمي الدنيا يؤمونه، ويعيشون في ظلال البيت الحرام والروضة النبوية.
فلما جاء عهد المماليك بعدهم، واضطربت أحوال العالم الإسلامي، أصاب الحجاز ونجدا واليمن ما أصاب سائر الأقطار المجاورة لها، فاشتد الضيق على الأهلين وساءت أحوالهم، ولما أطل القرن السابع، ونكب العراق والشام ومصر بالتتار والصليبيين واضطربت أحوال هذه الديار - امتدت الفوضى والاضطرابات إلى الجزيرة العربية، وبخاصة إلى الحجاز، فإن أهله أخذوا يقاسون الويلات من المعيشة الضنكة والتجارة الكاسدة، وقد نتج عن هذا الفساد الاقتصادي فساد اجتماعي؛ فساءت أخلاق الناس، وكثرت حوادث السلب والنهب، ولاقت قوافل الحجاج وزوار الحرمين من بدو الحجاز وسائر الجزيرة أمورا مقلقة، وكثيرا ما فتك البدو الأشرار بحجاج بيت الله وسلبوهم أموالهم، وملكوا نساءهم وأطفالهم، ولم تمر الجزيرة العربية بعصر أسوأ من هذا العصر؛ فقد تفشت الأمراض الاجتماعية في البادية، وانتقلت منها إلى الحاضرة، وتحكم الأشرار من الولاة والأشراف بالأهلين وساموهم سوء العذاب، وكثرت الفتن وعم الغلاء، وامتلأت صفحات تاريخ الجزيرة بذكر حوادث الغلاء الشديد والبؤس المخيف، ومن أفظع حوادث الغلاء والبؤس والفتن الداخلية حوادث سنة 817ه، فقد اضطر الناس فيها إلى بيع أولادهم كالعبيد ليقتاتوا، وقال بعض المؤرخين: إن هذه السنة كانت سنة فظيعة لما لقي الناس فيها من الغلاء والضيق، ولم يمر بالحجاز عام سوء مثلها سوى عام هجوم القرامطة عليها، وقال أحمد بن زيني دحلان: ولا أعلم فتنة أعظم منها بعد فتنة القرامطة، وكان القائد الذي وقعت الفتنة بسببه يقال له جراد، واتفق أن تلك السنة كانت سنة غلاء، فقال بعض الأدباء في ذلك:
وقع الغلاء بمكة
والناس أضحوا في جهاد
والخير قل فهاهم
يتقاتلون على جراد
1
وفي سنة 815ه أيضا وقع غلاء شديد، وبيعت غرارة الحنطة وهي حمل جمل بعشرين دينارا ذهبا، وكان عاما في جميع المأكولات بحيث بيعت البطيخة بدينار ذهب،
2
ونحن إذا رحنا نحدثك عن حوادث الغلاء والقحط اللذين لقيهما الحجاز أو نجد أو اليمن - الغني بخيراته - جئناك بالمزعج المؤلم، الذي لا تكاد تصدقه، ويظهر أن هذا البؤس قد أثر في أخلاق الناس وأحوالهم الاجتماعية فساءت أخلاقهم، وفسدت نفوسهم، فأضحوا كالأنعام لا يحللون شيئا ولا يحرمون، وديدنهم هو جمع الأموال، ومصادرة أهل الحقوق والغش والخداع والكذب، وقد نجم عن ذلك كله أن ساءت نفوس الناس، وانتشرت بينهم أمراض اجتماعية مفسدة كالسرقة وقطع الطرقات والاحتيال وعدم رد الأمانات إلى أهلها، أضف إلى ذلك أمراضا أخرى يجب أن تتنزه عنها أرض الحرمين الشريفين، ولكن الجوع كافر كما يقولون، فقد زاد البلاء حينما أخذ الناس يفرون من ديارهم في العراق والشام ومصر خوفا من الصليبيين والتتار قاصدين الحجار وسائر الجزيرة العربية طمعا في السكينة والأمن والعيش الهادئ والنجاة بأموالهم وأنفسهم وألادهم، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل، بل الذي حصل هو العكس، فقد كبرت نفوس أهل مكة حتى اضطر صاحبها الشريف أن يخرج الناس منها ويسفرهم إلى بلادهم، وأمر أحد الأشراف وهو الشريف مسعود أن ينادى في سنة 1149ه على جميع الغرباء المقيمين بمكة من جميع الأجناس أن يتركوها ويتوجهوا إلى بلدانهم،
3
ولما لم يلبوا نداءه أمر بتكرار النداء، ثم أغلظ في العقوبة، وقال أحمد بن زيني دحلان: «وسبب ذلك كثرة الغرباء بمكة حتى اتخذوها دار سكنى، فقطعوا بذلك عن أهلها الحسنى، وصاروا يتعاطون بيع الأقوات، واستولوا على أغلب ما في الدفاتر السلطانية من المرتبات، فتوجه بعد ندائه هذا خلق كثير».
4
ويظهر أن السبب في ذلك هو أن الحجاز بلد فقير لا يكاد يكفي أهله ونفرا محدودا من الناس، فلما كثروا هذه الكثرة المخيفة اضطر الشريف المكي إلى إخراجهم منها، ثم إن أهل الحجاز عامة وأهل مكة والمدينة خاصة قوم يعيشون على هبات أهل الخير في العالم الإسلامي، وكل من جاء إلى حرم الله أو جاور قبر رسوله وجب على أولي الأمر إطعامه وإسكانه وكساؤه، وقد جاء هؤلاء الدخلاء يشاركون الأهلين في أقواتهم وملبوسهم ومسكنهم، فعمد الشريف إلى إخراجهم من الأرض المقدسة.
ومما يجب أن نذكره هنا أن أهل الحجاز كانوا يعتمدون في أمورهم المعاشية على ما يجيئهم من الأموال والصدقات مع المحمل الشامي والمحمل المصري والمحمل اليمني، وما يبعث به إليهم أمراء العالم الإسلامي وملوكه من الهند والمغرب وجاوه، وقد كانت هذه الصدقات تبلغ أرقاما ضخمة ، قال أحمد بن زيني دحلان: «ووردت في هذه السنة صدقة لأهل مكة من الهند وقدرها أربعة وعشرون ألف مشخص، وصدقة أخرى من سلطان المغرب، وصدقة ثالثة من الهند من محمد علي، وفرقت جميع الصدقات وانتفع بها الكبير والصغير والغني والفقير.»
5
وإذا كانت هذه حالة القوم من الناحية المعاشية، فليس من المنتظر أن يكونوا أعضاء عاملين في المجتمع البشري، أو يكون لهم نشاط في النواحي الاقتصادية والتجارية والثقافية، والحق أن الوحيدين الذين كانوا يعيشون في الحجاز عيشة هنية هم الأشراف وحواشيهم وأتباعهم، وكانت موارد الحجاز موزعة بينهم وبين الشريف صاحب مكة، فقد كان هو يأخذ الربع ويوزع الثلاثة الأرباع، وكثيرا ما كانت تقع الحروب والفتن بينه وبينهم بسبب الأموال، كما أسلفنا في القسم السياسي، وقلما خلا عهد شريف من الفتن، قال أحمد بن زيني دحلان: «وفي سنة 1085ه خرج جماعة من السادة الأشراف مغاضبين لمولانا الشريف بركات يدعون عليه أنه أخذ ما وصل إليهم من الإنعامات السلطانية فنزلوا بوادي مر الظهران، فبعث إليهم السيد بشير بن سليمان بن لؤي بن بركات، فما زال بهم حتى رجعوا ففرق عليهم الإنعام الواصل بينهم بالسوية، وذلك نحو أربعة آلاف دينار وألفي أردب حب.
وفي سنة 1085ه ورد مرسوم من السلطنة مضمونه قسمة مدخول مكة أربعة أقسام، الربع لمولانا الشريف وثلاثة الأرباع للسادة الأشراف على السوية.»
6
وقد كان هؤلاء الشرفاء يتمتعون هم وأتباعهم بخيرات الحجاز، وأنهم كانوا سبب الفتن والثورات التي تقع في الحجاز واليمن ونجد، وكانوا أيضا يبذرون فيما يحصلون عليه من الأموال بشكل عجيب في حفلاتهم الخاصة أو ولائمهم العامة، ويتفننون في التبذير تفننا لا يكاد يصدقه المرء، فقد رووا أن الشريف سرورا أنفق على ختان أولاده أموالا باهظة، وأجرى في ذلك الفرح ما لم يسبق مثله، فألبس الملابس الفاخرة لكل من حضر الختان، ونثر الذهب والفضة أعظم النثار، وعرض عليه أهل الحارات وأنعم عليهم بالملابس والعطايا الجزيلة، ومن بعد صلاة المغرب ينتصب الديوان بالعساكر والنوبة تضرب، وعرض عليه السادة الأشراف فألبسهم الملابس الفاخرة وأعطاهم من العطايا ما تقر به العين، وكذا حضر كثير من أهل البادية وعرضوا عليه وأنعم عليهم بالملابس والعطايا، وأولم للسادة الأشراف والعلماء وأعيان الناس وليمة منظمة، ووضع فيها أنفس المآكل وخيار الأطعمة، ثم أولم لبقية الناس ولائم متعددة، وأولم أيضا للعساكر وأشياعه وعبيده، ثم أطلق في الولائم ولم يخص أحدا، فما بقي أحد إلا وحضر تلك الولائم، واستمر هذا الفرح من عشرة من ربيع الأول إلى السابع والعشرين منه، وفي السابع والعشرين أمر جميع عساكره وخيالته أن يحضروا بباب دولته وإمارته، وأمرهم أن يطوفوا بأكناف البلاد في موكب عظيم وألاي منظم؛ فخرجوا بأفخر الملابس ركبانا على الخيل المسومة مصطفين كل أربعة خلف أربعة، مقدما أمام الجيش سبعة من المدافع تسير معه، ولم يبق أحد من أهل البلد إلا خرج يوم الزينة، ولما رجعوا إلى داره العامرة ألبسهم الملابس الفاخرة، ونثر يومها من الدراهم ما اغتنى به كل صعلوك، وفي غرة ربيع الثاني جعل فرحا عظيما للنساء وصنع لهن وليمة، ودعا فيها المغنيات وكساهن أفخر الكساء، فهرع نساء البلد متفرجات، وأكل من الوليمة من حضرها من بواديها وحضرها، والمغنيات يغنين بأنواع الألحان كتغريد الطيور على الأغصان، واستمر فرح النساء على هذا النسق ثلاثة أيام، وتم في هذا الختان ما لم يتم لغيره من السرور،
7
فهذا الكلام يبين لنا أنواع الإسراف الذي ظهر في هذه الحفلات، وليس هذا عجيبا ولا غريبا، فإن أهل الحجاز قوم مشهورون منذ القديم بميلهم إلى الإسراف في الإنفاق، وكثرة العطاء، والميل إلى السرور وحب اللهو إذا ما تيسر لهم ذلك وواتاهم الحظ.
تلك هي حالة الأشراف وحواشيهم، أما سواد الشعب فقد كان في وضع اجتماعي عجيب؛ يأكلون ما تيسر، ويشربون ما وجد، ويقضون أوقاتهم في النوم والعبادة أو في الخصومات التي كانت كثيرا ما تقع بين الأشراف وأمير مكة، أو بين الباشا التركي والجند، فينصرون جانبا على جانب طمعا فيما يعدهم به، وإذا ما حدثت في البلاد حادثة أو زارها زائر جاءهم ما يشغلهم أو يسليهم فترة من الزمن، ويجعلهم يقضون كثيرا من لياليهم في أسمار وأخبار، وخصوصا إذا كان ما وقع يتعلق بأخبار السحرة والمشعوذين، وأكثرهم كان من المغاربة الذين كانوا يجيئون إليهم فيحتالون عليهم ويبتزون أموالهم تحت ستار استخراج الكنوز المخبوءة أو قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة وما إلى ذلك، ومن أفظع هؤلاء الدجالين شخص مغربي قدم إلى الجزيرة العربية في الثاني عشر للهجرة، فأخذ يفتن الناس ويقوم بأعمال غريبة، حتى اتصل بالشريف محمد في سنة 1146ه فقربه إليه وعظمه لما اعتقد فيه من المقدرة والعلم بالفنون السحرية والأسرار الطلسمية، والقوة العجيبة، وقد أراد أن يستعين به وبعلمه على القضاء على خصمه ومنافسه الشريف مسعود الذي كان يكيد له، ولعب السحر والساحر في هذه الفتنة أدوارا مدهشة ذكرها المؤرخ أحمد بن زيني دحلان، فارجع إليها إذا شئت.
8
ومن المشاكل الاجتماعية التي منيت بها الجزيرة في هذه الحقبة: مشكلة التدخين، فقد انقسم الناس في شأنه ما بين محلل ومحرم، وبلغ أمره إلى الأشراف، وأخذ بعضهم يستغل أمره، ويرهق الناس بسببه، ومن هؤلاء الشريف مسعود فقد قرر في سنة 1155ه أن يحرم على الناس تعاطيه في المحلات العامة وبيوت القهوة، وأمر رجاله أن يقبضوا على كل من يرونه يدخن ويضعوه في الأطواق والحديد والسلاسل، وقد اختلف الفقهاء والناس في سبب تشدد الشريف مسعود بأمره، فقال بعضهم: إنه إنما فعل ذلك لأن شربه حرام، وقال آخرون: إنه فعل ذلك وإن لم يكن محرما؛ لأنه انتشر انتشارا عظيما وتعاطاه الناس والسوقة والأراذل والأسافل، وكانوا لا يرفعونه إذا مر عليهم الشريف أو العالم أو الفاضل؛ فلذلك أمر بعدم التظاهر بشربه لذلك،
9
وقد انقسم الفقهاء في أمره؛ فذهبوا إلى مذاهب متناقضة فحرمه بعضهم، وأباحه بعضهم، وكرهه آخرون، وقد وقعت بسببه مشاكل وفتن في الحجاز، بل وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي، وأكثر هذه المشاكل وقوعا في الحجاز فقد كان الأشراف يعتقدون بأن لهم سلطانا روحيا وقداسة دينية، وأنهم حماة الشرع، وأنهم أصحاب التحليل والتحريم؛ فلذلك حرمه بعضهم، فقامت طائفة من الفقهاء ترد عليهم وتبين خطأهم حتى قال بعض الفقهاء: من أين جاءوا بهذه الأقوال، ولفقوا هذه الأقاويل، وما أشبههم بقوله تعالى:
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون .
والحق أن الأشراف قد أخذوا في تلك الحقبة يسمون بأنفسهم عن مصاف البشر، ويضعون طبقتهم في مواضع لا يقرهم عليها شرع ولا يوافقهم فيها كتاب ولا سنة، ومن أغرب هذه الأمور ما رواه لنا المؤرخون من أن أحدهم كان إذا مات طاف به الأشراف سبعة أيام حول الكعبة وهو محمول على أعناق الناس، ثم يلحدونه ويبنون فوقه قبة يحجون إليها،
10
وما ندري من أين جاءوا بمثل هذه البدع السخيفة التي لا يقرهم عليها شرع ولا عرف، ولكنهم قوم أحبوا أن يتساموا عن طبقة الناس فاخترعوا لأنفسهم هذه الأباطيل؛ ليوهموا العامة أنهم من طينة غير طينتهم، ولم يكتفوا بما وقر في نفوس الناس لهم من الحب والاحترام، وكفاهم شرفا أنهم من نسل الإمام علي عليه السلام ومن البضعة النبوية الطاهرة. •••
أما الحالة الثقافية في الجزيرة العربية، فمن المعروف أن أكثر بلاد الجزيرة فقير قاحل يجلب إليه كل ما يحتاج، ويعتمد في حياته على ما يأتيه من الخارج، والجزيرة مقسمة طبيعيا إلى ثلاثة أقسام:
أولها:
القسم الغربي، ويشتمل على الحجاز واليمن، أما الحجاز: فمن أشد بلاد الجزيرة فقرا وحرا إذا ما استثنينا مدينتي الطائف والمدينة المنورة، فإنهما نديتان بالحدائق النضرة والبساتين المثمرة ، وأما اليمن: فهي بلاد العرب السعيدة، وأغنى الجزيرة خصبا وخيرات ومعادن.
وثانيها:
القسم الجنوبي، ويشتمل على بلاد حضرموت وعمان، وهي بلاد جبلية فيها بعض الأودية الصالحة للزراعة، والسواحل الغنية بالأسماك والدر.
وثالثها:
القسم الشرقي، وينتظم بلاد البحرين والأحساء والكويت، وهي بلاد حسنة فيها بعض الأراضي الزراعية، وبخاصة النخيل، وفيها مغاصات للدر ومصايد للأسماك.
أما قلب الجزيرة، فهو قسم من بلاد الحجاز وبلاد نجد، وهو على الأغلب تلال بركانية ومرتفعات رملية وصحاري مقفرة يتخللها بعض الواحات، والجزيرة العربية كثيرة الصحاري المقفرة الموحشة، وأكبر هذه الصحاري الربع الخالي والجوف والدهناء والنفود، وقد أثرت هذه الصحاري المقفرة والأقاليم القاحلة في حالة السكان، سواء من حيث الزراعة وما إليها، أو من حيث الحضارة وأسبابها، كما أثر هذا المناخ على الناس فأصبح أكثرهم بدوا رحلا، وانصرف الحضريون منهم عن العلم والأخذ بأسباب الثقافة لخشونة العيش وصعوبة الحياة، ولولا ما كان يجلبه موسم الحج أو ما تصدره الجزيرة وبخاصة اليمن ونجد وبعض مدن الحجاز من اللؤلؤ والخيول والنخيل والثمرات لعاش أهل هذه البقعة من الأرض في ضنك ما بعده ضنك.
وإذا كانت هذه حالة الطبيعة، وتلك موارد الجزيرة قبل أن يسيل في وديانها الذهب الأسود، فليس من المعقول أن نجد فيها ثقافة رفيعة أو حضارة خطيرة، كالذي نجده في العراق والشام ومصر، وإذا استطاعت هذه البلاد أن تقوى على الوقوف أمام النكبات الكبرى التي حلت بها بعد انكساف شمس الخلافة من بغداد وهجمات المغول والصليبيين، فإن الجزيرة العربية لم تقو على ذلك كله أو بعضه؛ لضعفها، ولبعدها عن المراكز التي انتقلت إليها الحضارة بعد سقوط بغداد، والحق أن الفترة الوحيدة التي ازدهرت فيها الجزيرة العربية في القديم القريب هي فترة ظهور الإسلام أيام النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم
وأيام الخلفاء الراشدين حتى كانت قلوب العالم الإسلامي تهفو إليها، تتعلم منها الهدى والعلم والأدب، فلما حل عصر ضحى الإسلام وظهره أهمل الناس أمرها، ما عدا المدينة ومكة؛ لما لهما من القداسة، ولكثرة زيارة المسلمين إياهما، أما سائر مدن الحجاز والجزيرة حتى اليمن السعيد فقد أضحت قرى أو كالقرى يعيش أهلها في حكم إداري ساذج، ونظام اجتماعي فقير، وتراتيب سياسية بسيطة، أكثرهم فقراء، لا مورد لهم إلا ما تجود به الطبيعة الشحيحة أو ما يبتزونه من الناس حياء واقتدارا.
وقد نتج عن هذا التقهقر المعاشي تقهقر فكري فظيع، فانتشر الجهل حتى في الدين، وعمت الضلالات والسخافات، وبخاصة في الأمكنة النائية عن الحرمين الشريفين ومواطن الحجاج والزوار، وأخذت شمس الإسلام تغرب عن البقعة المنيرة التي فيها أشرقت، وانغمس الناس عامتهم وخاصتهم في عقائد وعبادات كلها إلى الخرافة تمت، وعن طريق المنطق والدين تحيد، وعمت الفوضى، وانتشرت الضلالة والخرافة محل الهدى والعلم، وأخذ العوام يتعبدون الله على حرف، ويبتعدون عن روح الإسلام وتعاليمه، وعادت الجزيرة إلى حالة من الجاهلية المقيتة حتى قال المؤرخ الأديب أمين الريحاني: وأهمل الناس الصلاة والزكاة والحج، وكانوا لا يعرفون حتى مركز الكعبة،
11
ولولا الحجاز بطبيعة موقعه وقصد المسلمين ربوعه من كافة أرجاء العالم الإسلامي، لكانت حالته كحالة سائر أقطار الجزيرة العربية، فقد كان له من العلماء المسلمين الذين يقصدونه للحج أو مجاورة الحرمين الشريفين نبراس يضيء أرجاءه، وينشر فيها العلم بعض الشيء، وكان بعض الأشراف من ولاته يهتمون بأمور الدين وتعليمه أمثال الشريف بركات، فقد رووا أن سلطان مصر استدعاه في سنة 851ه إلى الديار المصرية، وخرج السلطان للقائه، وبالغ في إكرامه، وقابله بالإجلال والتعظيم، ودعا علماء مصر ليأخذوا عنه، فازدحم العلماء في حلقته، وأخذوا يقرءون عليه علوم الحديث والرواية؛ لأنه كان عالي الإسناد، وقد أجاز نفرا منهم ثم رجع إلى مكة،
12
ومن أشراف مكة الأفاضل العلماء أيضا: الشريف حسن، وكان صاحب خيرات وعلم، أجازه كثير من شيوخ العلم في عصره من شاميين ومصريين وعراقيين، وخرج له الشيخ تقي الدين بن فهد المكي أربعين حديثا نبويا، ومدحه كثير من الشعراء والعلماء مثل شرف الدين إسماعيل بن المقري صاحب «الروض والإرشاد»، وقد شيد هذا الشريف الفاضل بعض دور العلم والعبادة، ومن أشهرها: رباط في مكة للرجال وآخر للنساء في المدينة.
ومن أشراف مكة الأفاضل أيضا: الشريف حسن بن أبي نمي، فقد كان محبا للعلماء معظما لهم كثير الإنعام عليهم، وكانوا يتقربون إليه بالتآليف والرسائل فيجزل عطاءهم، وقد ألف له الشيخ عبد القادر الطبري شرحا على المقصورة الدريدية فأجازه عليه بألف دينار.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء والأشراف وبعض أهل الخير قد شيدوا عددا من المعاهد والرببة من مدارس وربط وخوانق، ومن أشهر الأمراء الذين بنوا هذه المعاهد: السلطان «قايتباي»، فإنه حين زار الحجاز في سنة 882ه أكرم أهله إكراما كبيرا، وبنى لهم مدرسة كبرى عند باب النبي بمكة، وجعلها لأهل العلم من أرباب المذاهب الأربعة، وجعل فيها كراسي لتدريس العربية والآداب والحساب، قال صاحب الأعلام: «في سنة 882ه أمر السلطان وكيله وتاجره الخواجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن أن يشيد له مدرسة يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة، ورباطا يسكنه الفقراء، ويعمر له ربوعا ومسقفات يحصل منها ريع كثير يصرف منه على المدرسين وعلى الفقراء، وأن يقرأ له ربعة في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة والمتصوفون، ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتبا للأيتام وغير ذلك من جهات الخير، فاستبدل رباط السدرة ورباط المراغي وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دار للشريفة شمسية من شرائف بني حسن اشتراها منها، وهدم ذلك جميعه، وجعل فيها اثنتين وعشرين خلوة، ومجمعا كبيرا ومشرفا على الحرم الشريف وعلى المسعى الشريف، ومكتبا ومئذنة، وصير المجمع المذكور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف المذهب، وقرر فيه أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وأربعين طالبا، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل فيها خازنا، وعين له مبلغا، وقد استولت على كتبها أيدي المستعيرين، وضيعوا منها جانبا كبيرا، وبقي منها ثلاثمائة مجلد.»
13
وقد ظلت هذه المدرسة إلى الأعصر المتأخرة معهدا يتلقى فيه طلاب العلم الفقه وعلوم الدين إلى أن اضمحلت في العهد العثماني، ومن المدارس التي شيدت في عهد الشريف حسن بن عجلان مدرسة ياقوت الغياثي، فقد ذكر صاحب الأعلام أنه قدم الحجاز في سنة 811ه واشترى دارين بقرب باب أم هانئ وهدمهما وجعلهما مدرسة ورباطا للصوفية، وجعل في المدرسة مدرسين من أهل المذاهب الأربعة، وستين طالبا، ووقف عليهم الوقوف.
14
وهناك بعض الأمراء والمماليك والأشراف الذين شيدوا دور علم وكتاتيب ومدارس، وقد ظلت هذه الدور المنبع العلمي الوحيد الذي كان يستقي منه أهل الحجاز.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن بعض الأسر العلمية الحجازية كبني فهد المكيين وبني ظهيرة المدنيين كانوا كثيرا ما يهتمون بتعليم علوم الدين، وقد جمع صاحب كتاب «النور السافر» تراجم نفر من الأفاضل الذين أفادت البلاد منهم في هذه الحقبة، وإذا كانت هذه حالة الحجاز، وهو قلب الجزيرة العربية، فما قولك بحالة بقية أنحاء الجزيرة مثل نجد واليمن وحضرموت؟ الحق أن الجهالة كانت متفشية، ولولا الأئمة العلويون الذين كانوا في اليمن والذين كانون يهتمون شخصيا بالعلم الديني بعض الاهتمام لكانت الحالة أسوأ، ولكنهم كانوا رجالا أفاضل يهتمون بالناحية العلمية، فعمموا حلقات الفقه، وأكثروا من دروس العربية، وكذلك كانت حالة نجد والأحساء فقد انتشر فيها الجهل وعمت الفوضى، ولولا اهتمام أئمة نجد بأمور الدين لظلت تلك البلاد أيضا في جهالة، ولكن ظهور المصلح محمد بن عبد الوهاب التميمي (؟-1115ه) في نجد قد أنقذ الموقف، وأحيا معالم الدين، وسعى إلى نشر العلم بكل قواه، وأعاد إلى نجد ما كان عليه في صدر الإسلام من حركة تهذيبية وأخلاق إسلامية.
الفصل السابع
الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
كان للحضارة الأندلسية أثر كبير في الحالات الثقافية والاجتماعية بأوربة منذ القرون الوسطى، وكذلك كان الأمر في المغرب العربي، فقد ازدهرت الثقافة ازدهارا رائعا في كافة أقطار المغرب من علوم وآداب وفنون بفضل الحضارة الأندلسية.
ولعل وقوع المغرب العربي بين بلاد الشام ومصر إلى الشرق، وبين بلاد الأندلس وأوربة إلى الشمال قد حباها مزية لم تتمتع بها بقعة من بقاع الدنيا العربية؛ ولهذا نجد للحياتين الثقافية والاجتماعية طابعا خاصا رائعا يجمع طابعي الغرب والشرق.
وقد كان لملوك الطوائف وبخاصة بني عباد والمرابطين والموحدين أثر واضح في طبع الثقافة المغربية بطابع خاص.
ولقد لعب أدباء المغرب العربي وعلماؤه من مسلمين ونصارى دورا هاما في تاريخ الحضارة العالمية؛ إذ إنهم نقلوا الحضارة العربية إلى أوربة، وترجموا كثيرا من الكتب العربية إلى اللغات الأوربية كاللاتينية والإسبانية والبرتغالية، ومن أجل هذه الكتب كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقل إلى الإسبانية، ثم إلى اللاتينية بقلم عالم مغربي من أصل يهودي، ومن هذه الترجمة أفاد «لافونتين» كثيرا في أمثاله وأقاصيصه، وهناك كتب الطب والفلسفة التي نقلوها، وأفاد منها الغرب الأوربي في حضارته الفلسفية والعقلية.
وكان من أعمال المغاربة من ناحيتي الثقافة والصناعة: ازدهار صناعة الورق في المغرب العربي، وقد كانت هذه الصناعة من أجل الصناعات التي أسداها المغرب إلى أوربة، ولولاها لما اخترعت الطباعة، فقد انتقلت صناعة الورق من مراكش إلى إسبانية في منتصف القرن السادس للهجرة، الثاني عشر للميلاد، ويذكر ياقوت الحموي أن هذه الصناعة كانت مزدهرة في مدينة شاطبة الأندلسية في زمانه، ومن إسبانية انتقلت إلى إيطالية ما بين سنتي 1268-1276م، وكان هذا بفضل المغاربة من سكان جزيرة صقلية، ومن إيطاليا انتقلت إلى ألمانيا فسائر مدن أوربة، وفي ألمانيا وجدت الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد بفضل وجود الورق، ولولا الورق لما وجدت المطبعة، ولولا المطبعة لما وجدت الحضارة الأوربية الحديثة.
أما في حقل العلوم الطبيعية والفلكية والرياضية: فقد كان نصيب المغاربة نصيبا وافرا، فقد ازدهرت هذه العلوم في ديارهم ونقلوها إلى الأندلسيين الذين ظهر منهم علماء أجلاء كالقرطبي المجريطي (؟-1007م)، والرزقالي الطليطلي (؟-1087م)، وجابر بن أفلح الإشبيلي (؟-1150م)، وريموند المرسيلي (؟-1140م)، ونور الدين أبو إسحاق البطروجي (؟-1204م) تلميذ الفيلسوف ابن الطفيل.
وفي حقل التاريخ الطبيعي والصيدلة والطب نبغ نفر من المغاربة كان من أبرزهم أحمد بن محمد الغافقي (؟-1165م) الذي ألف معجما نفيسا أحصى فيه نباتات الصيدلة والطب والعطارة مما ينبت في إسبانية وشمال إفريقية، وقد سمى كل نوع منها بالعربية واللاتينية والبربرية، وذكر فوائد كل نبات ووصفه وصفا علميا دقيقا، ويعتبر كتابه هذا من أدق ما ألف في اللغة العربية، وله أيضا «الأدوية المفردة».
ومن العلماء المغاربة البارزين: عبد الله بن أحمد المشهور بابن البيطار، وهو أشهر علماء النبات والصيدلة في الأندلس والمغرب، ويعتبر كتابه «المفردات» أجل كتاب علمي في النبات والصيدلة والطب.
ومنهم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (؟-1013م)، وكان طبيبا للحكم الثاني، وهو صاحب كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» الذي أورد فيه معلومات عن التشريح والجراحة، كان هو أول من اخترعها، وبخاصة ما يتعلق بمباحث كي الجروح وسحق الحصاة في المثانة وتشريح الأعضاء الميتة والحية، وقد نقل كتابه هذا إلى اللاتينية العالم الطبيب جرار الكرموني، وطبع عدة مرات أقدمها طبعة سنة 1497م في البندقية، ثم طبعة سنة 1541م في مدينة بازل، ثم طبعة سنة 1778م في أكسفورد.
وقد كان هذا الكتاب من الكتب العلمية التي لعبت دورا خطيرا في تاريخ علم الجراحة في معاهد الطب الأوربية.
ومنهم الطبيب العالم ابن زهر عبد الملك بن أبي العلاء (؟-1162م) صاحب أكبر شخصية علمية طبية برزت في الأندلس والمغرب العربي، وطبيب عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين، الذي أثنى عليه الفيلسوف ابن رشد وقال عنه إنه «أعظم طبيب عرفه العالم بعد جالينوس.»
وقد خلف للخزانة العربية آثارا جليلة في الطب منها كتاب «التيسير في المداواة والتدبير» الذي نقل إلى العبرية، ثم إلى لهجة البندقية العامية، ثم إلى اللاتينية في سنة 1280م وطبع مرارا، وكتاب «الكليات» في الطب، وأنجب عبد الملك بن زهر جماعة من الأطباء الفحول داموا ستة أجيال متواليات.
وكما أتقن المغاربة والأندلسيون هذه العلوم والآداب، أتقنوا فنون الهندسة والزخرفة والبناء والنسيج، وخلفوا قصورا رائعة في الحمراء وغرناطة ومراكش وفاس وتونس والقيروان.
وقد ظلت آثار هذه الحضارة في دول المغرب العربي من مراكش حتى برقة إلى أن جلا العرب عن الأندلس، فلما نزلوا المغرب العربي، وهاجر إليه من هاجر من العلماء والأدباء والفنانين والبنائين ازدادت جذور الحضارة عراقة في الشمال الإفريقي إلى أن وقع الاحتلال العثماني فالاحتلال الأوربي، وأخذت وطأة الاستعمار تفتك بالأهلين وتعمل فيهم يد التخريب والتجهيل.
الفصل الثامن
الحالة الإدارية في المغرب العربي
لما احتل العثمانيون المغرب العربي في القرن العاشر للهجرة، السادس عشر للميلاد، أضحت بلاد الجزائر محكومة من قبل «داي» وبلاد تونس محكومة من قبل «باي» وطرابلس الغرب محكومة من قبل «باشا»، يقومون بالحكم في بلادهم تحت النفوذ العثماني مع شيء من الاستقلال الإداري والمالي، وكانت الإدارة تسير في البلاد كلها من سيئ إلى أسوأ، وطمع الأجانب من فرنسيين وإسبانيين وبرتغاليين وإيطاليين في السيطرة عليها واحتلالها، وكان ما كان من احتلال جزء كبير منها على ما أطلعناك عليه في الكتاب الأول من هذا الكتاب.
ولما ضاق الناس ذرعا بالحكام الأجانب المحتلين وبأذنابهم من الحكام المحليين من بايات ودايات وباشات عزموا على الثورة على هذا النظام.
وكان أول هذه البلاد ثورة بلاد الجزائر؛ لأنها منيت بالاستعمار قبل الأقطار المجاورة الأخرى، وكان قائد هذه الثورة هو الفتى الشريف المرابط السيد عبد القادر بن محي الدين الحسني القرشي 1808-1883م، فإنه بعد أن حج وزار المشرق، وكان عمره وقتئذ لا يتجاوز الثانية والعشرين، ثم رجع إلى بلاده ورأى طغيان الفرنسيين، فأعلن الجهاد المقدس عليهم، وظل يحاربهم بلا هوادة حتى غدا اسمه في شمال أفريقيا «حامي الإسلام والعروبة ومنقذهما من براثن الاستعمار والنصرانية».
ثم تكاثرت عليه قوى الفرنسيين، واضطرته إلى الاستسلام بعد جهاد دام ستة عشر عاما 1831-1847م.
وما أن قضى الفرنسيون على عبد القادر حتى قامت ثورة السيدة لالا فاطمة سنة 1857م، ثم ثورة سي سليمان سنة 1864م.
ولم يستطع الفرنسيون أن يفرضوا سلطانهم الكامل على البلاد وفرض نظام الإداري عليها تماما إلا بعد سنة 1884م فأخمدوا كل نفس، وفرضوا على البلاد ضرائب باهظة أفقرتها، واستولى الفرنسيون المستعمرون على نصف مليون هكتار من الأرض الطيبة، إلى أن كانت الانتفاضة الأخيرة التي لا بد أن يلفظ الاستعمار الفرنسي أنفاسه فيها.
أما بلاد تونس: فإنها لقيت بعد الاحتلال الفرنسي عنتا وشدائد؛ لأن الفرنسيين أبقوا هيكل الحكم القديم، واضطروا الباي أن يتخلى عن واجباته الإدارية، وأخذوا يفسدون الحرث والنسل، حتى غدا أكثر من ثلث البلاد مقفرا لا زرع فيه ولا ضرع، وقد احتل البلاد بالإضافة إلى المستعمرين الفرنسيين جماعة من الإيطاليين الزراع والتجار، استولوا على كل شيء في البلاد، وأخذوا يعملون في حضارتها هدما، وعمد الفرنسيون إلى القضاء على الأوقاف والمدارس، ومعاهد العلم حتى أقفرت البلاد من المثقفين وعم الجهل والبؤس كافة أرجائها.
أما البلاد المراكشية: فإنها ظلت في منأى عن الاحتلال العثماني، ولكن الاستعمار الفرنسي الإسباني والبرتغالي مد مخالبه إليها، وحاول أن يفسد أوضاعها، ويقضي على حضارتها وثقافتها، ويهدم عرش أسرة بني سعد العلوية الحسينية أو أسرة بني فلال العلوية الحسينية، ولكنه لم يفلح إلى حد ما، وبقي قسم من البلاد المراكشية بمنأى عن أن تطاله يد الاستعمار؛ لأن ملوكها وضعوا ستارا حديديا بينهم وبين أوربا، فلم يسمحوا لدولها بالاختلاط بهم، ولا أذنوا لقناصلهم بالإقامة في بلادهم؛ لأنهم شاهدوا نتائج ذلك في البلاد المجاورة لهم كتونس والجزائر وطرابلس، وقد قسمت البلاد المراكشية إداريا إلى قسمين؛ أولهما: بلاد المخزن وهي المقاطعات الخاضعة لسلطان الحكومة، فتؤدي لها الضرائب، وتقدم لها الجنود، وثانيهما: بلاد السائبة وهي المقاطعات المستقلة ذاتيا وغير الخاضعة لنفوذ السلطان المراكشي، وكانت بلاد الأطلس كلها ضمن هذه المقاطعات المستقلة رغم إقرارها للسلطان اسميا.
وكان السلطان يمارس سلطانه بوساطة قواد يحملون لقب «باشا» ويقيمون في المدن الأربع الكبرى، وهي: فاس، ومراكش، ورباط الفتح، ومكناسة.
وقد كان من نتائج الاستعمار التركي ثم الأوربي في الشمال الإفريقي أن انحطت الحياة الثقافية والاجتماعية انحطاطا بارزا، ولولا المدارس الإسلامية القديمة، وحلقات الجوامع والزوايا، لعم الجهل وانتشرت الأمية.
وقد كانت لجامع الزيتونة والقرويين والكتبية أثرها الواضح في حفظ التراث العربي، والوقوف أمام سيل الجهالة الذي كانت دول الاستعمار تقذف به إلى البلاد كلها.
أما العلماء الذين نبغوا في المغرب العربي في هذه العصور فمنهم: المؤرخ أبو الحسن علي نور الدين بن موسى بن محمد بن عبد الملك المشهور بابن سعيد المغربي الغرناطي (؟-673ه)، وله «المغرب في حلى المغرب»، وهو من أمهات كتب التاريخ والأدب، وعنوان «المرقصات والمطربات» في الأدب و«نشوة الطرب» في تاريخ الجاهلية.
وابن أبي زرع علي بن عبد الله الفاسي (؟-726ه)، وله من الآثار كتاب «الأنيس المطرب، وروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس» وهو يشتمل على تاريخ الدول الإدريسية والزناتية والمرابطية والموحدية والمرينية.
ومحمد بن الناجي التنوخي (؟-800ه) خطيب جامع الزيتونة في مدينة القيروان، وله كتاب «معالم الإيمان» في وصف المساجد القديمة، وتاريخ بناء القيروان.
وأحمد بن الحسين بن الخطيب المعروف بابن قنفود القسنطيني من أوائل القرن التاسع للهجرة، وله كتاب «الفارسية» في تاريخ دولة الحفصيين والمرنين، و«شرح الطالب في أسنى المطالب».
وإمام المؤرخين وعلامتهم عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي التونسي (؟-808ه) صاحب «المقدمة»، و«العبر».
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المكناسي العثماني (؟-919ه) المؤرخ الفقيه الأديب صاحب «الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون»، و«تفصيل الدرر في القراءات».
والرحالة أبو عبد الله محمد بن محمد اللوائي الطنجي المشهور بابن بطوطة (؟-779ه)، وله «الرحلة المشهورة» وهي من أمتع ما ألف في الخزانة العربية.
والفقيه الحسن بن مسعود اليوسي المراكشي البربري (؟-1111ه)، وكان من قبيلة بربرية تعرف ببني يوسي، تفقه في سجلماسة ومراكش، وتولى التدريس في فاس، وله آثار منها «زهر الأكم في الأمثال والحكم» وكتاب «المحاضرات».
والمؤرخ المحدث أبو عبد الله اللؤلؤي الزركشي (؟-932ه) وله كتاب «تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية» إلى سنة 932ه.
والمؤرخ الأديب ابن أبي دينار الرعيثي (؟-1110ه) وله «كتاب المؤنس في أخبار إفريقية وتونس».
والمؤرخ السيد محمد الصغير بن محمد بن عبد الله الإفرائيني المراكشي (؟-1112ه) وله كتاب: «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي»، و«صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر».
والمؤرخ الثقة محمد بن عبد الله بن أبي مريم المتوفي بعد سنة 1019ه وله كتاب «البستان في تراجم علماء المسلمين في تلمسان».
والوزير المؤرخ ابن السراج (؟-1138ه) صاحب «الحلل السندسية في الأخبار التونسية»، وهو تاريخ مفصل لتونس منذ الفتح العربي حتى سنة 1137ه.
ومنهم محمد بن خليل بن غلبون (؟-1150ه) وله «التذكرة» فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار، وفيه شرح قصيدة مدح طرابلس لأحمد بن عبد الدائم الأنصاري وتتضمن تاريخ طرابلس من الفتح الإسلامي إلى القرن الثاني عشر للهجرة.
ومنهم المؤرخ الأديب المعروف بابن عبد الرحمن التلمساني (؟-1193ه)، وله كتاب: «الزهرة الثائرة فيما جرى على الجزائر حين أغارت عليها الجنود الكافرة»، وفيه وصف دقيق لحوادث الجزائر من زمن الوزير خير الدين إلى سنة 1189ه.
ومنهم الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري 1300ه/1888م، فقد أضاف إلى خدمة أمته بالجهاد أنه ألف بعض الآثار العلمية، ومنها: كتاب «وشاح الكاتب وزينة العسكر المحمدي الغالب» في نظام الجيش وتدريبه.
وكانت له حلقات علمية وجلسات أدبية.
ومنهم السيد محمد بيرم التونسي 1307ه/1889م، وقد تفقه في تونس ، وأعان الوزير المصلح خير الدين التونسي في حركته الإصلاحية التثقيفية، ولما توطدت أقدام فرنسة في بلاده هاجر إلى مصر يحاربها بقلمه، وله آثار منها: رده على رينان الفرنسي، و«صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار» في وصف رحلته إلى أوربة ومصر والشام والحجاز.
ومنهم الوزير المصلح خير الدين التونسي 1308ه/1890م، كان من المقربين إلى الباي أحمد لثقافته وعلمه واطلاعه على اللغات العربية والتركية والفارسية، بلغ أسمى المناصب العسكرية في بلاده، وانتدبه الباي لمهمات سياسية في فرنسة فأحسن القيام بخدمة بلاده، ومن آثاره: «أقوم المسالك في معرفة أصول الممالك» في وصف البلاد الأوربية.
Halaman tidak diketahui