وكان رؤساء الثورة كل من اسينديوس الإيطالي الأصل وماتوس الإفريقي، ولما عمت الجيوش تقريبا تحيرت الحكومة فيما يلزم اتخاذه من التدابير، وانقسم السناتو حزبين أحدهما تحت رئاسة هانون وكان يود مسالمة العصاة بأي طريقة، والآخر يطلب إخضاعهم بالقوة، وبعد جدال عنيف تغلب هذا الحزب الأخير باجتهاد أعضاء عائلة (برقة) فعينت الحكومة أملكار أحد زعماء هذه العائلة قائدا لمن بقي مصافيا لها من الجنود، وأباحت له اتخاذ الطرق الممكنة لقمع الثورة، فابتدأ هذا القائد المدرب والسياسي المجرب في استمالة قبائل (النوميد) إليه حتى لا يمدوا العصاة بالمؤونة، ثم حاربهم بشدة حتى ألزمهم رفع الحصار عن مدينة (أتيك) والابتعاد عن ضواحي قرطاجة، وكان يعامل من يقع بين يديه من الأسرى بالحسنى وزيادة ويغدق عليهم العطايا، ففر كثير من جنود العصاة للانضمام إليه، ولما خشي رئيسا الثورة من نتيجة فرار الجنود أمرا بقتل أسرى القرطاجيين فقتلوا وكانوا سبعمائة، فعامل أملكار أسراه بهذه المعاملة الوحشية ثم حصر أحد الجيشين الرافعين راية العصيان في مضيق حرج المسلك وشدد الحصار عليها مدة طويلة حتى نفدت مؤونتهم وأكلوا من عندهم من الأسرى والعبيد، ولما ضاق بهم الحال مالوا إلى الصلح وطلب قائدهم اسينديوس مقابلة (أملكار)، ولما أذن له قصده ومعه اثنان من كبار ضباط العصاة وعرضوا عليه التسليم فقبل مشترطا إرجاع العصاة إلى أوطانهم بعد تجريدهم من السلاح، واستثناء عشرة فقط من هذه الشروط، فلما قبل الوفد بذلك قال أملكار أنتم الثلاثة من ضمن العشرة وقبض عليهم وقتلهم صلبا.
وعندما وصل خبر إلقاء القبض على أعضاء الوفد الثلاثة إلى مسامع العصاة المحصورين في المضيق بدون أن يعلموا بتفصيلات الاتفاق ظنوا أن أملكار غدر بمندوبيهم، فاستعدوا فورا للقتال وهاجموا القرطاجيين مهاجمة يائس لا أمل له في النجاة وظلوا يحاربون حتى قتلوا عن آخرهم، ويقال إن عددهم كان يبلغ أربعين ألفا.
وبعد إبادة هذا الجيش العظيم جمع أملكار كل قواه ضد الجيش الثاني الذي كان تحت قيادة ماتوس رئيس الثورة الثاني وانتصر عليهم، وقتل منهم عددا عظيما، وأخذ زعيمهم أسيرا وأرسله إلى قرطاجة حيث قتل بعد أن شهروه في الشوارع وأهانته العامة وجعلته أضحوكة، وبذلك انتهت هذه الحرب الداخلية بعد أن استمرت زيادة عن سنتين كانت فيها قرطاجة في أحرج المراكز وأشد المضايق حتى رثى لها الأعداء، وساعدها هيبرون صاحب سيراكوزة بالمال والرجال، وعرضت عليها رومة المساعدة والمعاونة وأباحت إرسال الغلال إليها.
لكن لا يظن القارئ أن هذه المساعدة كانت حبا في بقاء سؤدد قرطاجة وعظمتها، بل خوفا من أن يسود فيها العنصر الحربي لو انتصر العصاة وتزيد قوة ومنعة فيصعب عليها تنفيذ ما كانت تضمره لها من المقاصد العدائية، وانتهت هذه الحرب الداخلية سنة 238ق.م.
وبعد انتصار أملكار على العصاة بهذه الكيفية زاد نفوذ عائلة برقة زيادة عظمى حتى صارت صاحبة الكلمة النافذة والقول الغير مردود في مجلس السناتو وجميع فروع الحكومة، فخشي السناتو سوء عاقبة هذا التداخل الذي ربما يؤدي إلى إسقاط الحكومة الجمهورية واغتصاب هذا القائد للسلطة.
وقرر بإرسال أملكار وجيوشه لفتح بلاد إسبانيا لتكون عوضا عن جزائر صقلية وسردينيا وغيرها التي احتلها الرومانيون ولإبعاد أملكار عن قرطاجة، فسافر إلى إسبانيا وأخضع في طريقه سواحل بلاد الجزائر ومراكش، ومكث بإسبانيا مدة تسع سنوات قضاها في محاربة الأمم المختلفة النازلة بها وإلزامها بالاعتراف بسيادة قرطاجة عليها، وقتل في إحدى الوقائع الحربية سنة 229 وينسب إليه تأسيس مدينة برشلونة التي تسمى باللاتينية (برسينه) تخليدا لاسم عائلة برقة.
وبواسطة مساعي عائلته في السناتو تعين بدله (ازدروبال) زوج ابنته لتبقى هذه الوظيفة الخطيرة في عائلتهم، فسافر إلى إسبانيا واستمر في محاربة سكانها وإخضاعهم إلى أن وصل في سيره إلى نهر (إبر) في سنة 227 فتوجس الرومانيون خيفة من تقدمه السريع، وأبرموا معه معاهدة تلزمه بعدم تعدي هذا النهر، فأخذ في تنظيم ما فتحه من البلاد، وأسس مدينة قرطاجنة في موقع تجاري مهم جدا لقربها من ساحل إفريقية الشمالي، ومن المعادن التي كان يستخرج الفينيقيون الفضة منها.
وأصلح ميناها وأقام لها الأرصفة والمخازن التجارية، وبنى لنفسه سراية عظيمة أفخر من سرايات ملوك هذا الوقت، وصار يعتبر نفسه كأنه ملك مستقل بإقليم إسبانيا، واستمر على هذا الحال إلى أن قتله في سنة 221ق.م رفيق غالي الأصل أخذ بثار سيده الذي كان قتله ارذروبال غدرا وخيانة.
فانتخب الجيش لقيادته أنيبال بن أملكار بدون انتظار أوامر السناتو من قرطاجة، ولما بلغ الحكومة خبر انتخابه بهذه الصفة الغير قانونية؛ لم يسعه إلا التصديق عليه خوفا من عصيان الجيش واستقلال أنيبال بإسبانيا التي أصبحت إدارتها بهذه الكيفية وراثية في عائلة برقه.
الحرب البونيقية الثانية
Halaman tidak diketahui