ولما بلغ قرطاجة خبر استعداد هذه السفن وسفرها قاصدة بلادها أرسلت لملاقاتها ومنعها من الوصول ثلاثمائة وخمسين سفينة، فتقابلت الدونانمتان بقرب مدينة اكنوم واقتتلتا قتالا عنيفا كانت الدائرة فيه على القرطاجيين (سنة 256ق.م) ثم سارت السفن الرومانية قاصدة شواطئ إفريقية فوصلتها بدون مقاومة، ونزل القنصلان والجنود البرية إلى الشاطئ بالقرب من مدينة كليبيا وانتشروا في جميع الإنحاء كالجراد، ولم يمض قليل زمن حتى احتلوا مدائن لا تحصى وغنموا مغانم وأموالا كثيرة وأسروا نحو عشرين ألف مقاتل.
ثم استرجع السناتو القنصل منليوس وأغلب الجنود وأبقى ريجلوس مع خمسة عشر ألف مقاتل وخمسمائة خيال، فاستمر مع هذا الجيش القليل في فتح القرى والبلدان، ووصل إلى مدينة تونس التي لا تبعد عن مدينة قرطاجة بأكثر من ميلين اثنين فقط، فخشيت الحكومة من أن يحاصر المدينة نفسها ولا قدرة لها على الدفاع، وعرضت الصلح على ريجلوس فاشترط شروطا لا يمكن قبولها لشدتها وإجحافها باستقلال قرطاجة، ولذلك فضلت الحرب لآخر رمق من حياتها على قبول هذه الشروط، وأسعدها الحظ بوجود قائد ماهر لقدموني الأصل اسمه كسانتيب ضمن جيوشها المؤجرة المؤلفة من خليط الأجناس المختلفة والأمم المتباينة، فأعاد إلى جيوش قرطاجة بعض الانتظام وبث فيهم روح الحماسة نوعا وحارب الرومانيين في عدة وقائع صغيرة كان الفوز له في أغلبها، ولم يجسر على محاربتهم بكل جيوشه دفعة واحدة خوفا من الخيبة والانهزام.
ولما تدربت جيوشه على فنون القتال في هذه الوقائع المتعددة، وتعودت على الوقوف أمام الرومانيين في مواقع النزال؛ هجم بكل قواه على ما بقي مع ريجلوس من الجيوش وبدد شملهم ومزقهم كل ممزق وأخذ ريجلوس أسيرا، وتخلصت قرطاجة من الرومانيين فإنهم أخلوا بلادها بعد وقوع ريجلوس في الأسر، وانتقلت الحرب إلى جزيرة صقلية وشواطئ إيطاليا.
وبقيت الحرب بعد ذلك سجالا بين الطرفين إلى سنة 250 وفيها انتصر الرومانيون على أعدائهم في واقعة (بانورم) بكيفية أوجبت قرطاجة أن تطلب الصلح ثانيا فرفضته رومة، واستمر القتال إلى سنة 242 التي هزم فيها القنصل لوتاتيوس كاتولوس الدونانمة القرطاجية بقرب جزائر ايجات الواقعة على شاطئ صقلية من جهة الغرب، وأغرق أغلب سفنها وأخذ باقيها بحيث لم تعد لقرطاجة قدرة على محاربة رومة بحرا، ولا على إسعاف جنودها المحاربة في صقلية بالرجال لوقوف السفن الرومانية في طريقها فعرضت الصلح ثالثا، وبعد مخابرات استمرت نحو سنة تم الصلح بين الطرفين على أن تخلي قرطاجة جزيرة صقلية والجزائر المجاورة لها، ولا تتعرض لأهاليها مطلقا وتطلق سراح الأسرى بدون فدية، وتدفع غرامة حربية توازي تسعة عشر مليون فرنك من العملة الفرنساوية؛ أي سبعمائة وستين ألف جنيه مصري تقريبا.
وبذلك انتهت هذه الحرب بعد أن استمرت نحو ربع قرن خسرت قرطاجة في أثنائها سيادتها على البحار، ولحق تجارتها البوار والدمار، وذاقت فيها رومة لذة الانتصار فسكرت بخمرة المجد والفخار، وتاقت نفسها إلى امتلاك البلاد والأمصار، لكن لم تقبل قرطاجة هذه الحالة إلا بصفة مؤقتة لعجزها عن استمرار الحرب وتعطيل تجارتها التي عليها مدار ثروتها، وأيقنت رومة كذلك أن هذا الصلح ظاهري فقط وأن لا بد لقرطاجة من الأخذ بالثار وإعادة ما فقدته من الأموال فضلا عن الشرف في هذه الحرب، فأخذ كل فريق يستعد للحرب ويتأهب له ليكون على استعداد عند انتشاب نيرانه ثانيا.
فابتدأت رومة بتتميم فتح جزيرة صقلية حتى لا يبقى لقرطاجة أمل في استرجاعها، فأتمت فتحها في مدة يسيرة وجعلتها ولاية رومانية وعينت لها حاكما يلقب (بريتور) مع حفظها استقلال بعض القبائل حفظا موقتا، ثم احتلت جزيرتي سردينيا وكورسيكا، وتم فتحهما في سنة 227ق.م فصارت صاحبة السيادة الحقيقية والقول الفصل في البحر المتوسط.
ومن جهة أخرى وجهت أنظارها إلى البحر الأدرياتيكي الذي يفصل بينها وبين جزيرة البلقان الواقعة بلاد اليونان في طرفها الجنوبي، وأنشأت فيه سفنا عديدة لمطاردة قرصان البحر الذين كانوا يعطلون تجارتها ويهاجمون مراكبها في غدوها ورواحها إلى هذه الجهات، وكانت تسكن البلاد الواقعة على شاطئه الشرقي المقابل لسواحل إيطاليا أمة الأليرين التي كان منها أغلب قرصان هذا البحر، ولما كثرت الشكاوى للسناتو أرسل وفدا إلى (تيتا) الوصية على هذه المملكة لصغر سن ابنها بينياس يطلب منها اتخاذ الطرق الفعالة لمنع أذى رعاياها عن الرومانيين، فكان جوابها قتل أعضاء الوفد.
فلما وصل رومة خبر هذه الفعلة الشنعاء أرسل إليها جيشا جرارا في سنة 229ق.م احتل أولا مدينة قنسير بخيانة دمتريوس أحد قواد الأليرين، ومنها انتشرت الجنود الرومانية في طول هذا الإقليم وعرضه، ودخلت أغلب مدائنه فاضطرت الملكة (تيتا) أن تسلم لرومة بطلباتها التي أهمها دفع جزية معينة، والتنازل عن جزء ليس بقليل من أراضيها، ورد ما كان لمدينتي قونسير وأبولونيا اليونانيتين من الامتيازات وعدم جواز تعدي سفنها مدينة لسوس.
وبهذه المعاهدة صار لرومة ولاية رومانية جديدة بالقرب من بلاد اليونان يمكنها الزحف عليها منها بكل سهولة عند سنوح الفرصة، وصار البحر الأدرياتيكي بحيرة رومانية لامتداد أملاكها على شاطئيه الشرقي والغربي.
ولما بلغ الملك بينياس رشده، واستلم زمام البلاد أراد التخلص من سيطرة الرومانيين فهزم، وكانت هذه الحركة آخر ما أتته هذه الأمة لاسترجاع ما فقدته من حريتها واستقلالها.
Halaman tidak diketahui