ومنهم من اتهم اليهود بتبديل التوراة نفسها.
ومقدم هذه الطبقة هو أبو محمد بن حزم، فقد ذكر في كتابه «المال والنحل» وجود مناقضات ظاهرة، وأكاذيب واضحة في «الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة، وفى سائر كتبهم، وفى الأناجيل الأربعة، يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها وإنها غير الذي أنزل الله عز وجل.» ثم ذكر ابن حزم المواضع التي حكم فيها بوجود الكذب والتناقض، وقال: «إنها من الكذب الذي لا يشك كل ذي ملكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى، وعلى الملائكة عليهم السلام، وعلى الأنبياء عليهم السلام.» ثم قال قبل أن شرع في إيراد الأمثلة: «إننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئا يمكن أن يخرج على وجه ما وإن دق، وبعد فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له. وكذلك أيضا لم نخرج منها كلاما لا يفهم معناه، وإن كان ذلك موجودا فيها. لأن للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد، وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيها، ولا وجه أصلا إلا الدعاوى الكاذبة التي لا دليل عليها أصلا لا محتملا ولا خفيا.»
وقد جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية بقلم المستشرق الألمانى اليهودي هوروفتز - وكانت لنا معرفة به وهو الذي ترجم لنا شعرا ارتجلناه عند زيارة بيت جوتة شاعر الألمان الأكبر، ونشر ذلك في الصحف ولهوروفتز ترجمة شعر الكميت أيضا - أن ابن حزم أورد 57 موضعا يبين فيها تناقضات التوراة والمستحيلات التي فيها. قلنا: إن أبا محمد بن حزم ذكر أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود، يزعمون أنها المنزلة، ويقطعون بأن التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة وسائر اليهود يقولون إن التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة! قال: ولم يقع إلينا توراة السامرية، لأنهم لا يستحلون الخروج عن فلسطين والأردن أصلا، إلا إننا قد أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة عندما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل.» انتهى. قلنا إن اختلاف توراة اليهود عن توراة السامرية مسموع، وقد كنا في نابلس منذ ثلاثين سنة، وكان يتردد علينا إسحاق كاهن السامرية، ودعانا مرة إلى الكنيس الذي لهم وهو شيء قديم جدا، وأطلعنا على توراتهم وقال: إن تاريخ نسخها يرجع إلى ألف سنة. ومما أتذكره من كلامه - وكان عالما بمذهبهم - أن بين توراتهم وتوراة اليهود بعض الاختلاف، وربما يكون ذكر لي مواضع الاختلاف أو بعضها، ولكنة لم يبق في خاطري ما ذكره لطول العهد به.
ونعود إلى كلام ابن حزم؛ فهو يأخذ مثلا عبارات من التوراة ويبين ما فيها من الاستحالة مثل: «ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب وذهب ذلك البلد جيد، وبها اللؤلؤ وحجارة البلور. واسم الثاني جيحان وهو محيط بجميع بلاد الحبشة، واسم الثالث الدجلة وهو السائر شرق الموصل، واسم الرابع الفرات، فقال: «في هذا الكلام من الكذب وجود فاحشة قاطعة بأنها من توليد كذاب مستهزئ، أول ذلك أخباره أن هذه الأربعة تفترق من النهر الذي يخرج من جنات عدن.» وأفاض ابن حزم في تكذيب ذلك بما لا حاجة إلى نقله هنا. ثم قال: فإن قال قائل: فقد صح عن نبيكم
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «النيل والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة.» قلنا نعم هذا حق لا شك فيه، ومعناه هو على ظاهره بلا تكلف تأويل أصلا، وهي أسماء لأنهار الجنة كالكوثر والسلسبيل، فإن قيل قد صح عنه عليه السلام أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.» قلنا هذا حق، وهو من أعلام نبوته، لأنه أنذر بمكان قبره فكان كما قال، وذلك المكان لفضلة وفضل الصلاة فيه يؤدي العمل فيه إلى دخول الجنة، فهي روضة من رياضها، وباب من أبوابها.
ومعهود اللغة أن كل شيء فاضل طيب فإنه يضاف إلى الجنة، وليس كذلك الذي في توراة اليهود، لأن واضعها لم يدعها في لبس من كذب، بل بين أنه في النيل المحيط بأرض زويلة بلد الذهب الجيد، ودجلة التي بشرق الموصل، وجيحان المحيط ببلد الحبشة، فلم يدع لطالب تأويل حيلة ولا مخرجا. ثم قال نقلا عن التوراة: «وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر، والآن كيلا يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيى إلى الدهر، فطرده الله من جنات عدن» قال ابن حزم: حكاية عن الله تعالى أنه قال: هذا آدم قد صار كواحد منا مصيبة من مصائب الدهر، وموجب ضرورة أنهم آلهة أكثر من واحد. وقد أدى هذا القول الخبيث المفترى كثيرا من خواص اليهود إلى الاعتقاد أن الذي خلق آدم لم يكن إلا خلقا خلقه الله تعالى قبل آدم، وأكل من الشجرة التي أكل منها آدم فعرف الخير والشر، ثم أكل من شجرة الحياة فصار إلها من جملة الآلهة، نعوذ بالله من هذا الكفر الأحمق، ونحمده إذ هدانا للملة الزهراء التي تشهد سلامتها من كل دخل بأنها من عند الله تعالى.
ثم قال في إحدى الأماثيل التي أوردها من التوراة: فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض، وولد لهم البنات، فلما رأى أولاد الله بنات آدم أنهن حسان اتخذوا منهن نساء! وقال بعد لك نقلا عن الكتاب المقدس: «كان يدخل بنو الله إلى بنات آدم ويولد لهم حراما، وهم الجبابرة الذين على الدهر لهم أسماء» وهذا حمق ناهيك به، وكذب عظيم، إذ جعل لله أولادا ينكحون بنات آدم وهذه مصاهرة تعالى الله عنها. حتى إن بعض أسلافهم قال: إنما عنى بذلك الملائكة، وهذه كذبة إلا أنها دون الكذب في ظاهر اللفظ، ثم مضى ابن حزم بلهجته الشديدة المعهودة المشهورة في تكذيب التوراة، أو بالأحرى ما ينسب إلى التوراة مما ليس بالحقيقة منها، فأملى نحوا من تسعين صفحة في هذا الموضوع.
ومن جملة ما ذكر عن الكتاب المقدس قضية لوط، وأنه أقام في المغارة هو وابنتاه، «فقالت الكبرى للصغرى: أبونا شيخ وليس في الأرض أحد يأتينا كسبيل النساء، تعالي نسق أبانا الخمر ونضاجعه ونستبق منة نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، فأتت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنومها ولا بقيامها، فلما كان من الغد قالت الكبرى للصغرى: قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الخمر هذه الليلة وضاجعيه أنت ونستبقي من أبينا نسلا، فسقتاه تلك الليلة خمرا وأتت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا بقيامها. وحملت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت الكبرى ابنا وسمته مواب وهو أبو الموابيين إلى اليوم، وولدت الصغيرة ابنا سمته ابن عمون وهو أبو العمونيين إلى اليوم» إلخ. قال ابن حزم: في هذه الفصول فضائح وسوآت تقشعر من سماعها جنود المؤمنين العارفين حقوق الأنبياء عليهم السلام، فأولها ما ذكر عن بنتي لوط عليه السلام من قولهما «ليس أحد في الأرض يأتينا كسبيل النساء، تعالي نسق أبانا خمرا ونضاجعه ونستبق منة نسلا» فهذا كلام أحمق في غاية الكذب والبرد! أترى كان انقطع نسل ولد آدم كله حتى لم يبق في الأرض أحد يضاجعهما؟ إن هذا لعجب!» ا.ه.
وسحب ابن حزم سائر اعتراضاته هذا السحب مما لا حاجة لإعادته، فمن شاء فليراجعه في كتابه «المال والنحل» وإنما أوردنا ما أوردناه هنا على سبيل التمثيل ولا شك في أن مثل هذه الأقاويل لا تجوز على كتاب منزل، وإن نسبتها إلى كتاب منزل مضرة جدا بالدين، ومفسدة للأخلاق، وإن المسلمين لا يعتقدون بأن مثل هذا يكون من التوراة الحقيقية.
Halaman tidak diketahui