وكان القناصل الرومانيون يتولون قيادة الجيوش في الحروب، وكان اسم القنصل الذي وقع عليه الاختيار لمتابعة الحرب ضد القرطجنين بعد الانتصار الأول الباهر روغولوس، وقد خلد لاسمه ذكرا في كل جيل بفعاله المجيدة وتدابيره الحكيمة وإقدامه المنقطع النظير في تلك الغارات، وانقطاع حبل حياته قبل أوان الأجل العادي، وحكاية ذلك وما فيها من الصحة هو من الأمور التي يستحيل تحقيقها، ولكن القصة حسبما رواها مؤرخو الرومانيين هي كما يأتي:
كان روغولوس أيام انتخب قنصلا من أواسط الناس يعيش بغاية البساطة، في مزرعة محصلا أوده بعمل يديه وآكلا خبزه بعرق جبينه، وليس في سجاياه للطموح والكبرياء أثر، على أن مواطنيه قد لاحظوا هاته الخلال الكريمة المنطبعة في ذهنه، وقدروها قدرها مجمعين على إجلال الرجل، وقد آل إعجابهم به إلى إقامته قنصلا، فترك المدينة وتولى قيادة الجيش، وجد في تكبير الأسطول، فأصبح عدد سفنه أكثر من ثلاثمائة سفينة، وجند فيها مائة وأربعين ألف رجل ركب البحر قاصدا أفريقيا.
استغرق في التأهب لذلك عامين، كان القرطجنيون فيهما قد توفروا على الوقت لابتناء سفن جديدة، فكان أنه عندما خاض الرومانيون عباب البحر، وهم على شواطئ سيسيليا، إذا بهم يرون الأسطول القرطجني محتشدا للقائهم، فتقدم روغولوس للكفاح وقهر الأسطول القرطجني ودمره كالأول، فالسفن التي لم تؤسر أو تدمر أركنت إلى الفرار في كل ناحية فاتحة السبيل للقائد روغولوس الذي سار بدون معارضة، وأنزل رجاله على الشاطئ القرطجني.
وهناك ضرب خيامه حال نزوله إلى البر، وبعث يستشير مجلس الشيوخ الروماني فيما الذي يجب القيام به بعد هذا. ولما أدرك مجلس الشيوخ أن الصعوبة العظمى والخطر المهدد - ألا وهما دحر الأسطول القرطجني - قد زالا، أمر روغولوس بإرجاع كل السفن تقريبا وقسم كبير من الجيش إلى رومية، والتقدم على قرطجنة بمن يبقى معه من الجند، فأطاع روغولوس ذلك الأمر وأرجع إلى رومية الجنود الذين طلبتهم، وزحف بمن بقي على قرطجنة.
في ذلك الحين وصلته أنباء من الوطن تفيد أن الفلاح الذي عهد إليه في العناية بأملاكه قد مات، وأن المزرعة التي كان عليها معول إعالة عائلته متدانية من الخراب، فطلب إلى مجلس الشيوخ إقالته من القيادة وإرسال من يتولى اقتياد الجيش مكانه؛ لأن في نيته الرجوع إلى حيث يهتم بأمر زوجته وأولاده، فورد عليه الأمر من مجلس الشيوخ بالبقاء حيث هو، وملاحقة حملته واعدا إياه بالاهتمام بعائلته من كل وجه، واستخدام شخص يعتني بأملاكه.
أوردنا هذه القصة لنري ما كان عليه الرومانيون من عيشة البساطة المتناهية والابتعاد عن الفخفخة في العادات، وسائر شئون الحياة في تلك الأيام، وهي في الواقع كذلك بل هي غريبة في بابها؛ ذلك أن يكون هذا الرجل الذي عهد إليه في الذود عن حياض مملكة عظيمة، وولي قيادة أسطول مؤلف من مائة وثلاثين سفينة، وجيش يزيد عدده على مائة وأربعين ألف رجل ذي عائلة معتمد في أمر قوتها على حراثة سبعة أفدنة من الأرض، يقوم بها رجل مأجور؛ ولكن تلك هي القصة رويناها على حقيقتها.
تقدم روغولوس على قرطجنة غازيا منتصرا في زحفه، وكان القرطجنيون يندحرون من أمامه ويخسرون المعركة بعد الأخرى، وقد نقص جيشهم بما قتل وأسر منه، إلى أن كادوا يصلون إلى طرف الجبل لولا انقلاب فجائي طرأ، فعكس ميزان الحرب ورجح كفتهم، وكان ذلك الانقلاب وصول قطعة من الجنود آتية من اليونان يقودهم قائد يوناني، أولئك جنود كان القرطجنيون قد استأجروهم؛ ليحاربوا معهم كما كانت عادتهم في كل حروبهم.
ولكن أولئك الجنود كانوا يونانيين، ومعلوم أن اليونانيين هم من الجنس الروماني حائزون على مثل سجايا الرومانيين، فبحال وصول القائد اليوناني الجديد قلده القرطجنيون زمام القيادة العليا؛ لما أبداه من المهارة الحربية والتفوق في الإدارة، فشرع في تنظيم الجيش وإعداده للعراك، وكان معه مائة فيل ممرنة على النزال، وعلى الهجوم دفعة واحدة، ودوس الأعداء تحت أقدامها، وقد أوقفها في الطليعة.
وكان المشاة الشاكو السلاح من رجاله في القلب، وعددهم بضعة آلاف رجل متماسكين معا وفي أيديهم رماح طويلة مصوبة إلى الأمام، فكانوا في زحفهم دفعة واحدة يجرفون كل ما يعترضهم كما يجرف السيل العرم ما يلقى في مجراه، أما روغولوس فكان على استعداد للقاء القرطجنيين إلا أنه لم يكن متأهبا لمجالدة اليونانيين، ففي المعركة الأولى فر جيشه هاربا ووقع هو أسيرا، وكان ابتهاج القرطجنيين وتهليلهم عظيما جدا، حينما رأوا روغولوس القائد الروماني ونحو خمسمائة من نخبة رجاله أسرى في المدينة، بعد أن كانت قلوبهم تخفق رعبا واحتسابا، قبل ذلك بأيام من دخول ذلك القائد مدينتهم فاتحا منتصرا ومنتقما.
على أن مجلس الشيوخ الروماني لم ييئس من هذه النكبة التي أصيب بها الجيش الروماني، بل كان ذلك مشددا عزيمته ومضاعفا تصميمه على متابعة الجهاد، فحشد جيوشا جديدة ووجهها إلى ميدان الكفاح، أما روغولوس فبقي أسيرا محجورا عليه في قرطجنة، أخيرا فوض القرطجنيون إليه أمر السعي في عرض الصلح على الرومانيين والمفاوضة في مبادلة الأسرى، وأخذوا منه عهدا مؤيدا بيمين غموس، مفادها أنه إن لم ينجح في ذلك يرجع إليهم.
Halaman tidak diketahui