والذين قرءوا تاريخ الإسكندر الكبير يذكرون دون ريب الصعوبة الكلية التي عاناها في محاصرة مدينة صور والتغلب عليها، وهي مدينة بحرية يبعد موقعها عن الشاطئ نحو الميلين، قائمة على الجانب الشرقي من بحر الروم، وابتنى قرطجنة جماعة من ماهدي المستعمرين نزحوا عن صور، وبنوا المدينة الجديدة فأصبحت قوة بحرية وتجارية عظيمة كأمها، وابتنى القرطجنيون المراكب العديدة التي مكنتهم من اكتشاف مجاهل بحر الروم، وزاروا على متونها كل الأمم الساكنة على شواطئه، واشتروا منهم كل الحاجيات المختلفة التي كانوا يتجرون بها، ويحملونها إلى الشعوب الأخرى ويبيعونها منها بأرباح وافرة، وبهذا أحرزوا غنى وقوة في مدى قصير.
وكانوا يستأجرون الجنود ليحاربوا حروبهم وليمكنوهم من الاستيلاء على جزائر بحر الروم وعلى بعض الأماكن الداخلية في بعض الأحيان، مثال ذلك: أنهم في إسبانيا التي مخرت إليها مراكبهم وجدوا المقادير الكبيرة من ركاز الفضة والذهب، استخرجوها من معادن بادية على وجه الأرض تقريبا، وقد كان القرطجنيون في بادئ الأمر يحصلون على الذهب والفضة بالمقايضة، فيعطون الوطنيين حاجيات متنوعة كانوا اشتروها من بلادهم بثمن بخس جدا، بالنسبة إلى ما كانوا يتقاضونه الإسبانيين ثمنا عنها.
واستولوا أخيرا على ذلك القسم من إسبانيا الذي توجد فيه تلك المعادن، وصاروا يستخرجون كنوزها بأنفسهم متعمقين في الحفر كثيرا، واستخدموا لذلك الغرض جماعة من المهندسين ابتدعوا المضخات؛ لكي ينظفوا المعادن مما يتسرب إليها من الماء، ولكي تتوفر لهم الوسائل العلمية والآلية التي تمكنهم من التغلب على سائر العوائق، وهناك ابتنوا مدينة أطلقوا عليها اسم قرطجنة الجديدة - نوڨا كرثاجو - وحصنوا هذه المدينة وأقاموا فيها حامية عسكرية، واتخذوها مركزا لأعمالهم في إسبانيا ، ولا يزال اسم تلك المدينة قرطجنة إلى هذا اليوم.
وهكذا كان القرطجنيون يتمون العظائم بقوة المال، فتوسعوا بأعمالهم في سائر أنحاء البلاد، وكانت كل ناحية تدر عليهم كنوزا جديدة، فتوفر لهم الوسائل المساعدة على زيادة التوسع، وكانت لهم، عدا السفن التجارية التي هي ملك أفراد الشعب، بوارج حربية للحكومة، كانت في تلك الأيام تعرف بالسفن الواطئة، وتسير بمئات المجذفين يقيمون فيها صفوفا الواحد بعد الآخر، حتى إنك لتجد في السفينة الواحدة من هؤلاء أربعة أو خمسة صفوف يتناوبون التجذيف.
وكانت لهم جيوش جرارة مجندة بالأجرة من بلدان مختلفة ومنظمة بحسب براعة رجالها في فن معلوم من فنون القتال والتوماديان؛ مثلا: الذين كانوا يقطنون أقطارا متدانية من قرطجنة على الشاطئ الأفريقي كانوا مشهورين بالفروسية؛ لأن بلادهم ذات سهول واسعة خصيبة التربة كثيرة الكلأ، وفي مثل هذه البلاد يكثر كما لا يخفى عدد الذين يربون الخيول الصافنات، ويجيدون ركوبها ويتلقنون فنون الفروسية.
ثم إن سكان جزائر بلياريك - المعروفة اليوم باسم ماجوركا ومينوركا وإيفاكا - اشتهروا بحذقهم في رمي الحجار بالمقلاع، وعلى هذا النمط كان القرطجنيون يجرون في ترتيب جيوشهم، فيأتون بالفرسان من نوميديا وبرماة المقلاع من جزائر بلياريك، وللأسباب نفسها كانوا يستأجرون المشاة المشهورين بالإقدام من إسبانيا.
وكان اتجاه الشعوب المتنوعة إلى استنباط طرق حربية مختلفة وتقليد غيرهم فيها والقيام عليها في الأزمنة الذاهبة أعظم منه في هذا الزمان، فجزائر بلياريك في الواقع قد اتخذت اسمها هذا من الكلمة اليونانية «بليان» التي معناها الرمي بالمقلاع؛ لأن الأحداث فيها كانوا يتمرنون إلى حد الإجادة على إتقان هذا النوع من السلاح من أول عمرهم، حتى قيل: إن الأمهات كن يضعن الخبز لإفطار أولادهن على أغصان الأشجار العالية، ولا يسمحن لهم بتناوله للأكل إلا بعد أن ينزلوه بحجر يرمى بمقلاع.
وعلى هذا النسق من الاختبار والتنظيم امتدت صولة القرطجنيين واتسع مجال سيطرتهم، على أن حكومتهم بجملتها كانت منحصرة بجماعة قليلة العدد من سراة الأسر الغنية «الأرستقراطية» في الوطن، فكانت مماثلة من هذا الوجه للحكومة الإنكليزية في هذا الزمان، إلا أن سراوة «أرستقراطية» إنكلترا مبنية على السلالة العريقة في النسب وعلى ملكية العقار، أما في قرطجنة فقد كانت مستندة إلى العظمة التجارية، متحدة في الواقع مع ميزة الأسر الوراثية.
وكانت سراوة «أرستقراطية» قرطجنة مسيطرة ومسلطة على كل شيء، فلم تكن وظائف القوة تعطى لغير أبنائها إلا فيما ندر؛ ولهذا أصبحت بقية العامة من الأهلين في حالة الاسترقاق والعبودية. جرت قرطجنة على هذا النمط كما جرت عليه إنكلترا في هذا الحين، وهو أمر بعيد عن العدل ومؤلم للمنبوذين، على أن النتيجة كانت يومئذ - كما هي كائنة في إنكلترا اليوم - حسنة جدا، وصالحة من وجه أنها عملت على إيجاد حكومة نشيطة منزهة عن الدنايا ولوثات التلاعب، ومن المعلوم أن حكومة الأعيان تساعد في بعض الأحيان على إيجاد دولة غنية وقوية، ولكنها في الوقت نفسه تجعل بقية الشعب شقيا، وغير قانع بما هو فيه.
فليتحول القارئ الآن إلى الخارطة، ويجد فيها المكان الذي كانت فيه قرطجنة، وليتصور مدينة عظيمة وافرة الثروة هناك بأرصفتها العظيمة ومرافئها، ومخازنها الكبرى الخاصة بالمتاجر الواسعة، وهياكلها وأبنيتها العمومية الجميلة المشيدة لدوائر الحكومة وللمعابد، والقصور الفخمة والدور الشائقة التي كان يسكنها أرباب المال والحسب والنسب، وكذلك الأسوار والأبراج المرتفعة في الجو لأجل الدفاع عن الكل.
Halaman tidak diketahui