أما القنصل الآخر فارو فنجا بحياته هاربا مع حرس من سبعين فارسا إلى بلدة محصنة لا تبعد كثيرا عن ساحة المعركة، وأعمل الفكرة هناك في لم شعث جيشه المتبدد، وإعادة تنظيمه في تلك البلدة، وأما القرطجنيون فإنهم عندما رأوا النصر كاملا لم يلاحقوا أعداءهم بل عادوا إلى معسكرهم، وصرفوا عدة ساعات في تبادل المسرات والتهانئ، ثم اتكئوا وناموا؛ لأنهم كانوا منهوكي القوى من التعب الناجم عن شدة جهادهم في المعركة ذلك اليوم.
وكانت ساحة المعركة عندئذ ملأى بالقتلى والجرحى الذين بقوا الليل بطوله منطرحين مع الذين صرعوا، وهم يئنون من الآلام ويبكون مما أصابهم من الروع والجراح، وفي ثاني الأيام ذهب القرطجنيون إلى ساحة القتال بقصد نهب أجساد الرومانيين الذين صرعوا هنالك، وكان منظر تلك الساحة مما تعافه النفوس وتقشعر لهوله الأبدان. هناك كنت ترى جثث الخيل والناس مترامية بعضها فوق بعض، ومن المنطرحين هناك من فارق الحياة ومنهم من بقي فيه رمق يصيح ويستغيث متألما يطلب أن يعطى جرعة ماء ينقع بها الغليل، فلا يجيبه أحد أو يجذب جسمه شيئا فشيئا للانسحاب من تحت أثقال الجثث الملقاة فوقه.
وكأن القرطجنيين الذين أصبح بغضهم للرومانيين مرا شديدا، لم يكتفوا بما أحدثوه من القتل وسفك الدماء بذبح أربعين ألفا من أعدائهم في عراك واحد؛ ولهذا زادوا عليه شيئا من نقمتهم فكانوا يطعنون أولئك الجرحى المنطرحين في تلك الساحة بحرابهم، ويعذبونهم بطرق مختلفة متخذين ذلك وسيلة للتسلية، على أن عملهم هذا لم يحسب قسوة لأولئك الضحايا الأشقياء؛ لأن كثيرين منهم كانوا يتمنون الخلاص من عذابهم؛ ولهذا كان العدد الكبير من الجرحى يكشفون عن صدورهم لمريدي تعذيبهم ويتضرعون إليهم؛ لكي يضربوهم الضربة القاضية التي تنقذهم من آلامهم.
وفيما كان القرطجنيون يتجولون بين القتلى والجرحى عثروا على جندي قرطجني لا يزال حيا، ولكنه مقيد في مكانه بجسم جندي روماني ملقى فوقه، وكان وجه الجندي القرطجني وأذناه في تشويه مخيف ذلك؛ لأن الجندي الروماني عندما سقط فوقه بعد أن وقع كلاهما جريحين تابع الكفاح معه مستخدما أسنانه، عندما صار عاجزا عن استخدام سلاحه، ومات في آخر الأمر على صورة بقي فيها جسده ملقى فوق عدوه القرطجني المنحل القوى.
وأحرز القرطجنيون أسلابا كثيرة؛ إذ كان الجيش الروماني يحوي العدد الكبير من ضباط وجنود من النبلاء وأبناء الطبقات العليا، وكانت أسلحة هؤلاء وثيابهم ثمينة إلى الغاية، وجمع القرطجنيون أيضا كميات وافرة من الخواتم الذهبية التي انتزعوها من أصابع جرحى وقتلى الرومانيين وقتلاهم، فبعث بها هنيبال إلى قرطجنة علامة لانتصاره المبين.
الفصل العاشر
سيبيو
إن السبب الحقيقي في عدم التمكن من إيقاف هنيبال عند حد معلوم من انتصاراته الباهرة لم يكن حسبما ظهر متأتيا عن عدم اتباع الرومانيين سياسة حكيمة في مقاومته؛ بل هو ناجم عن عدم وجود قائد معادل له في الكفاءة إلى ذلك الحين، فإن كل قائد أرسل لمحاربته وجد بعد القليل من الوقت أنه غير كفء له، فقد كان هنيبال متفوقا عليهم جميعا بالتدريب العسكري، وقادرا على الظفر بهم بسهولة في حومة القتال.
ولقد كان من تصاريف القدر أن يظهر في رومية رجل مساو لهنيبال في المقدرة والدراية، وهو الشاب سيبيو الذي أنقذ حياة والده في معركة تسينيوس، وسيبيو هذا مع أنه ابن قائد بهذا الاسم هو من أعظم القواد الذين وقفوا في وجه هنيبال، إلا أنه لقب بسيبيو الأكبر؛ وذلك لظهور واحد بهذا الاسم بعده اشتهر بحروبه الهائلة التي شهرها على القرطجنيين في أفريقيا.
ولقد نال هذان الأخيران من الشعب الروماني لقب أفريقانوس؛ إكراما لما أدركاه من الانتصارات في أفريقيا، والقائد الذي نحن بصدده الآن قد سمي سيبيو الأكبر فقط، وأعمال سيبيو الباهرة عندما حاول صد هنيبال عند نهر الرون ونهر «بو» قد فاقتهما أعمال ابنه، وأعمال سيبيو الآخر الذي تلاه بحيث تناسى الناس سيبيو السابق بعد الذي رأوه من أعمال الاثنين الذين خلفاه؛ ولهذا أهملوه لكي يحتفظوا باسم هذين الأخيرين، فلا يكون ثمة التباس في تعريفهما في التاريخ.
Halaman tidak diketahui