من ذلك أن قبيلة ذات صولة وقوة معروفة باسم «فولسياني» قصدها الوفد الروماني، وأعلن لمجلسها العالي احتساب رومية لحرب أصبحت على الأبواب، ودعا الناس إلى محالفة الرومانيين، فقالوا له: «إننا نرى مما حل بساغونتوم، ماذا تكون نتيجة محالفتنا للرومانيين، فأنتم بعد ترككم تلك المدينة، وهي بلا وسائل دفاع، وحيدة في عراكها المر ضد العدو الذي أحدق بها من كل جانب. لا يجوز أن تتوقعوا من الأمم الأخرى الثقة بحمايتكم، فإذا أردتم اكتساب حلفاء جدد ينصرونكم على أعدائكم، فاذهبوا إلى أناس لم تتصل بهم نكبة ساغونتوم.»
فكان لهذا الجواب رنة استحسان في كل ناحية سمع أهلها به، وهكذا يئس الوفد الروماني من إدراك مبتغاه في إسبانيا، وغادرها ذاهبا إلى «غال»، وهو الاسم الذي عرفت به البلاد المعروفة اليوم باسم فرنسا، ولما وصلوا إلى مكان معلوم كان نقطة دائرة النفوذ والقوة في بلاد الغال، عقدوا مجلسا حربيا هناك، وكانت مظاهر المجتمعين فيه وملابسهم باعثة على الحماسة؛ لأن الذين حضروها أتوا بسلاحهم الكامل، حتى كأنهم زاحفون إلى قتال لا إلى عقد مجلس شوروي ومباحثات.
وأمام ذلك المجلس عرض الوفد الروماني الغاية التي قدم لأجلها، وأسهب في إطراء عظمة الرومانيين وما لهم من الحول والطول، وأكد للمجتمعين أن رومية ستكون الظافرة في العراك المقبل، وحث الغاليين على الانحياز إلى جانبها، وإنجادها وعلى امتشاق الحسام والحئول دون مرور هنيبال في وسط بلادهم، هذا إذا خطر له جعل طريقه من تلك الناحية.
وتعذر على الوفد إقناع ذلك المجلس بالتريث إلى أن يفرغ متكلموهم من إيضاح مهمتهم، فكانوا كثيرا ما يقاطعون من تكلم منهم بالاعتراض والصياح، وفي آخر الأمر حدثت في ذلك المجلس ضوضاء وجلبة كلها اشمئزاز واستياء يتخللها أصوات استهزاء، أخيرا استعيد النظام ونجح كبار القوم في إسكات المتذمرين، وعندها أخذ النائبون عن ذلك المجلس يجيبون الرومانيين على ما طلبوه، فقالوا لهم: إن بلاد الغال لم تلق من رومية سوى الاعتداء والأذى، في حين أنها قد لقيت كل عناية ورعاية وموالاة من قرطجنة.
ولهذا فهم لا يريدون ارتكاب مثل هذه الحماقة، باستجلاب عواصف غضب هنيبال على رءوسهم؛ لمجرد طلب أعدائهم الألداء إليهم بالانتصار لهم عليه وإنقاذهم من بطشه، وعلى هذه الصورة فشل الوفد الروماني في مساعيه في كل مكان، ولم يعثروا على روح مسالمة لهم عاطفة عليهم إلا بعد أن عبروا نهر الرون.
وشرع هنيبال عندئذ في رسم خططه الحربية بطريقة مبنية على التأني والحذر والتبصر؛ وذلك للزحف على إيطاليا، فهو قد أدرك أن القتال سيكون سجالا، وأن الحملة ستبلغ درجة من التوسع عظيمة وتستغرق وقتا طويلا؛ ولذلك فهي تدعو إلى التدبير المدقق المبني على مزيد التأني والتؤدة، بحيث يتناول القوات التي تزحف وغيرها التي يجب استبقاؤها خلف الجيش.
وكان فصل الشتاء مقبلا، وأول شيء فعله هو أنه أطلق سراح جانب عظيم من رجاله؛ لكي يزوروا أوطانهم، وقال لهم إن في نيته الإقدام على أمور جسيمة في الربيع المقبل، قد تبعث بهم إلى مسافات بعيدة وتبقيهم وقتا طويلا متغيبين عن إسبانيا؛ ولهذا فقد رأى أن يعطيهم الفرصة المعترضة بين ذلك الوقت وفصل الربيع؛ لكي يزوروا أوطانهم وعيالهم ويدبروا شئونهم حسبما ينبغي.
فلطف هنيبال ورعايته وثقته التي أبداها لجنوده جددت تعلقهم به، فذهبوا وعادوا إلى معسكره في الربيع، وهم متجددو النشاط والقوة والإخلاص لقائدهم، وبشوق متضاعف للقيام بواجباتهم نحوه في العمل العظيم الذي صمم على القيام به، وبعد أن صرف هنيبال جنوده إلى أوطانهم ذهب هو إلى قرطجنة الجديدة الواقعة، كما يفهم من الخارطة إلى الغرب، بعيدا عن ساغونتوم حيث أراد قضاء فصل الشتاء والاشتغال بإكمال الخطط التي رسمها.
وكان عليه، فضلا عن إعداد ما يلزم لزحفه، أن ينظم حكومات صالحة للبلدان التي يغادرها وراءه، وعلى هذا أخذ في إعداد كل ما يكفل له إبقاء تلك البلدان في هدوء، بعيدة عن خطر الخروج والعصيان عليه بعد ارتحاله، فكان في جملة ما دبره تنظيم جيش لإسبانيا من الجنود الذين أخذهم من أفريقيا، وأخذ الجنود التي كان عليها المحافظة على قرطجنة، وحماية حكومتها من إسبانيا.
فهو باستبدال الجنود على تلك الصورة في البلادين، قد ألقى مقاليد السيطرة العسكرية في كل بلاد إلى عهدة جنود أجانب عنها، يكونون أطوع لقوادهم وأعظم إخلاصا وأقل خطرا من الاندغام، والجنوح إلى الأهلين الذين يسيطرون عليهم، مما لو اختارهم من أهل البلاد عينها، وعرف هنيبال جيدا أن البلدان والمقاطعات الإسبانية المختلفة التي أبت محالفة الرومانيين وتركه، قد أرغمت على ذلك بتأثير هداياه أو بالخوف من بطشه، وأنه إذا لقي اندحارا في إيطاليا بعد التوغل فيها، فذلك الفشل يقلل رجاءهم من الانتفاع بهباته أو خوفهم من صولته، فيئول أمرهم إلى شق عصا الطاعة له أو الانتفاض عليه.
Halaman tidak diketahui