وكان قدامه نهر على مسافة قريبة من جيشه، فأجهد هنيبال نفسه وجيشه في المسير، وعبر ذلك النهر من مكان ضحضاح لا يزيد عمق الماء فيه على الثلاث أقدام، وأرصد قسما من فرسانه مستترين على محاذاة ضفة النهر، وتقدم ببقية الجيش إلى مسافة معلومة بعيدا عن النهر؛ قصدا منه في خدع الذين يلاحقونه بأنه يسرع الخطى؛ لينجو بجيشه القليل العدد.
وأبصره الأعداء على تلك الحال فاندفعوا بلا إمهال إلى اللحاق به، وخاضوا مياه النهر جماعات جماعات من أنحاء مختلفة، فلما وصلوا إلى منتصف النهر، وهم يجهدون القوى لمغالبة المجرى والماء بالغ من أوساطهم، وقد رفعوا أسلحتهم فوق رءوسهم؛ لكيلا تعيقهم عن الخوض في المياه وتعرقل سرعتهم، أسرع فرسان هنيبال إلى لقائهم ومهاجمتهم، وهم في ذلك المأزق الحرج.
ومعلوم أن الميزة في النهر كانت على جانب الفرسان؛ لأن جيادهم كانت مغمورة بالماء، وأما هم فكانوا فوقه وأيديهم حرة مطلقة، بينما كان أعداؤهم مغمورين إلى مناكبهم مثقلين بما كان معهم من الأسلحة وتماسكهم واحدهم بالآخر بحيث يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم فضلا عن القتال، وهكذا وقعوا في ارتباك متناه ففروا من أمام الفرسان وتولاهم الذعر، فلم يهتدوا إلى النجاة واحتمل الماء منهم عددا غفيرا.
ففاز بعضهم في الخروج من النهر على أبعاد مختلفة، ولكن على الجانب الذي كان فيه هنيبال، وقد انقلب هو وجيشه يريدهم فداستهم الفيلة بأرجلها، وهي طريقة عسكرية كانت كثيرا ما تستخدم في حروب تلك الأيام، ولما خلا النهر من العدو عبره هنيبال بجيشه، وأعمل السيف في رقاب من بقي من الأعداء على الجانب الذي كانوا فيه، فانتصر انتصارا مبينا بدد به شمل ذلك الجيش، واستولى على كل البلاد الواقعة غربي نهر إيباروس، ما عدا ساغونتوم التي بدأت تشعر بقلق ورعدة لقدومه.
وأرسل أهل ساغونتوم رسلا إلى رومية؛ لينبئوا الرومانيين بالخطر الذي يهددهم وليطلبوا من رومية حمايتهم من غوائله، فبذل أولئك الرسل جهدهم في الوصول إلى رومية بالأسرع الممكن، ولكنهم بالرغم من جدهم في ذلك بلغوها متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد خلق أسبابا أدت إلى خلاف بين ساغونتوم وإحدى القبائل المجاورة لها، ثم انتصر للقبيلة وتقدم زاحفا لمهاجمة المدينة، فتأهب سكان ساغونتوم للدفاع عن أنفسهم، وكانوا في الوقت نفسه معتمدين على وصول النجدات من رومية.
فضاعفوا أسوارهم قوة وزادوها تحصينا، وكان هنيبال إذ ذاك يأتي بأدوات القتال العسكرية الكبرى لتهديم تلك الحصون، وأدرك هنيبال جيدا أنه بإصلائه ساغونتوم نيران القتال كان يكاشف رومية نفسها بالعدوان، وأن رومية لا بد لها من مناصرة ساغونتوم حليفتها، فهو كان في الواقع يدبر لإيقاد جذوة الحروب بين الأمتين من جديد، وقد ابتدأ بساغونتوم لسببين:
الأول:
لأنه لا يكون أمينا على نفسه، إذا هو عبر نهر إيباروس، وتقدم إلى الأرض الرومانية تاركا مثل تلك المدينة الغنية القوية وراء ظهره.
والثاني:
لأنه وجد من السهولة الكلية التذرع بواسطة سواه إلى إيجاد خلاف يؤدي إلى مناهضة ساغونتوم، ملقيا مسئولية إعلان الحرب رسميا على عاتق رومية، بدلا من أن يحاول إقناع القرطجنيين بنقض تعهدهم السلمي والشروع في محاربة الرومانيين، وكان في قرطجنة كما تقدم القول حزب كبير معاكس لهنيبال، وهذا الحزب يعارض كل حركة يقصد بها شهر الحرب على رومية؛ لأن في تلك الحرب حسبما يدركون ما يشبع مطامع هنيبال كقائد.
Halaman tidak diketahui