Sejarah Pemikiran Arab
تاريخ الفكر العربي
Genre-genre
على هذا النسق يدل الشعر دلالة صحيحة على حقيقة نفسية الشاعر، فإن الشعر هو الصوت الصارخ الخارج من أعماق النفس، بل ومن أعمق أغوارها، ليسبك في اللغة عنوانا حيا على النفسية التي بعثته من قرارة الوجدان إلى عالم الخطاب.
ومهما يكن من تأثير روح العصر على الشعر والشعراء، ومهما يكن من أمر حاجات الحياة وتأثيرها في الشاعرية إذ تقلبها في بعض الأحيان إلى صناعة للنظم تبدو جلية واضحة في المديح وغيره من صور الشعر قضاء لحاجات ما تحركت لها الشاعرية ولا فتنت بها النفس، فإن الشاعر لن يفلت من القدر مطلقا، ولابد من أن تعثر في شعره على خطرة أو مقطوعة قصيرة أو مناجاة يرسل بها إلى الله أو إلى الطبيعة أو إلى شيء أو معنى مبهم قد يشعر به ولا يستطيع التعبير عنه، ما تنم في الدنيا عن شيء إلا عن دخيلة فطرته وعن نواتها التي التأمت من حولها كل عناصر نفسه.
إن أدل صور الشعر على نفسية الشاعر إنما هو شعر الانفعال، الشعر الذي يبعثه انفعال خالص في النفس غير مشوب بشيء من حزم الإرادة ولا وازع العقل، ولا تكلف من ناحية الصناعة، فإذا أردت أن تبحث في مجموعة ما أخرج شاعر من قصيد لتستدل بشيء منه على نفسيته، فإنما يجب عليك ألا تتعمد التغلغل وراء معانيه الخفية، ولا أن تغوص وراء تشبيهاته، بل يتعين عليك أن تبحث في أي المواضع من شعره بعث انفعاله وتجرد عن إرادته في ضبط معانيه وعرى عن عقال عقله ليسير وراء ما يريد أن يخرج من معنى معقود على غرض يريد الوصول إليه، وإني لأتخيل أن هذه القاعدة لا تخطئ إذا أمكن تطبيقها بما يقتضى لذلك من الحيطة والحذر وطول الأناة والصبر على البحث وقوة الملاحظة.
ولو أنك ثابرت على إتباع هذه القاعدة ورضت نفسك على التزامها لبان لك أن تطبيقها على الشعر الجاهلي أيسر منه في الشعر المخضرم، وأنها أبعد ما تكون يسرا في التطبيق على الشعر من بعد ذلك، فإن الخلق الجاهلي ما كان يعرف إلا الانفعال لشيء يملك جوانب النفس حتى في أخطر ناحية من نواحي الشعر العربي، ناحية المديح والهجاء، أما هذه الناحية فقد فسدت في عصور المدنية كل فساد حتى شوهت جمال الشعر، اللهم إلا من ناحية الصناعة والانسجام، فإن المديح والهجاء من قبل ما كان ليفيض بأحدهما خيال شاعر من الشعراء إلا تحت تأثير انفعال يدل دلالة واضحة، وقد تكون غير ذلك، لا على نفسية الشاعر وحده، بل على بضع صفات حقيقية يتصف بها الممدوح أو المهجو.
فلما ضغطت حاجات المدنية والترف على النفسية الشعرية، وحوطتها عوامل الجشع الاجتماعي بمؤثراتها خرجت بمواضع المدح والهجاء عن أن تكون شعرا يدل على الواقع، إلى صناعة يستدر بها الشاعر أكف الأغنياء والأمراء بالحق والباطل، ففسدت صورة من صور الشعر كانت من الممكن أن تظل نبعا فياضا بالدرس لمن يريدون أن يكتبوا في أشخاص الذين اشتهروا من العرب في عصور مدنيتهم، وأنت بعد تقلب ما كتب الشعراء في أمير أو وزير، ثم ترجع إلى المدونات التاريخية، فلا تقع إلا على صورة تختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي يطبعها في مخيلتك الشعر المقول فيه، ثم إنك لا تجد المدونات إلا على صورة من النقص لا تزودك بسنادة قويمة يمكن الاعتماد عليها في بحث تاريخي أو تحليل نفسي، فإن سطوة أهل الجاه قد حالت دون حرية الأقلام في تقرير الحقائق، حتى إنك لتجد مدونات التاريخ قلما تتكلم في أشخاص الزمان الذي كتبت فيه إلا محشوة بالمديح شأن الشعر، ثم تجدها تتكلم في أشخاص زمان سابق بشيء من الاستقلال في الرأي، ولكن الشك يساورك فيها كل مساورة؛ لأنها على الأقل صورة منقولة للكاتب أو للمدون على ألسنة من تلقفها من الرواة، وقد تكون صحيحة، ولكن من المحتمل أن تكون خطأ وافتراء.
كل هذه الأسباب يجب أن تجتمع في ذهن الكاتب إذا أراد أن يكتب في بشار بن برد، مستعينا بدرس شعره على معرفة نفسيته وتحليلها، وأنت تعرف بشارا وتعرف عصره، عصر قريب من بدء انقلاب تاريخي عظيم، لا في تاريخ الإسلام والمدنية الإسلامية وحدهما، بل في تاريخ الدنيا، استتب الأمر للعباسيين في بغداد وبدأت موارد الإمبراطورية الإسلامية العظمى تزود العاصمة الجديدة بكل ما تستطيع من صنوف الترف والانغماس في شهوات إن لم تبلغ في عصر بشار مبلغها في عصر الرشيد أو المأمون مثلا، فإنها صورة تكفي إذا قستها بأخبث صور الفساد الروماني؛ لأن تولد في ذهنك فكرة أن المدنية الإسلامية أينما حلت وكانت قد حملت معها بزور إنحالها، وقد نبتت تلك البذور في كثير من أطوار تلك المدنية، ولكنها ظلت دائما كامنة دفينة في أعماقها، منقولة عن البادية إلى الحاضرة مرتكزة على أساس من الصفات النفسية، ما كانت البيداء إلا سدا منيعا حال دون ظهورها بذلك المظهر الذي تجلت به في بغداد في أوائل العصر العباسي وأوسطه، وانتهى بتغلب شعب جديد كانت السهول مباءته والجبال والأحراش مثابته.
إنك لا تستطيع أن تتغلغل في حياة بغداد الاجتماعية إلا من طريق كتب الأدب، وما ترويه تلك الكتب مشعب الأطراف كثير الوجوه متعدد القصص، على أنه في مجموعه لا يحوط نفسك بشيء ولا يولد في ذهنك من فكرة إلا فكرة الإكباب على الملذات والمبالغة فيها والافتنان في حيازتها بكل طريق مستطاع سواء أرضيت به شريعة الآداب أم نفرت منه، ولا أريد أن أذهب بالقارئ بعيدا ولا أطوف به في مجاهل كتب الأدب الكثيرة، فإن كتاب ألف ليلة وليلة ما هو إلا صورة تكاد تكون صحيحة في فلسفة الحسيات التي تملكت فكرة الناس وأذلت أعناقهم في بغداد في أزهر أيامها بالمدنية الإسلامية، بل يكفي أن تطوف بسوق النخاسين في بغداد لتطبع في ذهنك صورة صحيحة من مدنية ذلك العصر، هي أشبه الأشياء بتلك الصورة التي تصورها لنا صفحات التاريخ عن آخر عهد مر بمدينة بومبي قبل نكبتها.
قال كاتب عربي: ولقد شهدت سوق الجواري في مدينة بغداد، وقد أقيمت في الموضع المعروف بسوق النخاسين، فرأيت فيهن الحبشيات والروميات والجرجيات والشركسيات والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر ذوات الألسنة العذبة والجواب الحاضر، وكان بينهن من الغانيات اللاتي يعرض بما عليهن من اللباس الفاخر الذي لا غاية بعده، بما يتخذن من العصائب التي ينظمنها بالدر والجوهر ويكتبن عليها بصفائح الذهب كلاما يحلو لأهل الطرب، فرأيت على بعض العصائب: «وضع الخد للهوى عز»، ورأيت على بعضها: «من كان لنا كنا له»، ورأيت في صدر جارية هلالا مكتوبا عليه:
أفلت من حور الجنان
وخلقت فتنة من يراني
Halaman tidak diketahui