فقبل أن نميل معه يتعين علينا أن نتيقن أنه غير خادع، إذ كما أن الحقيقة محدثة فإن مصاحبة الوضوح لها محدثة كذلك، فالثقة بها تقتضي معرفة واضعها وكونه كاملًا صادقًا، وإلا امتنع لدينا كل سند للحقيقة. فصدق الله ضمان الوضوح، ومعنى الاثنين جميعًا أن بين العقل وبين الحقيقة مناسبة وملاءمة؛ لأنهما من صنع الله.
٣٦ - العالم وقوانينه:
أ- بعد أن يطمئن ديكارت إلى وجود الله وصدقه، ينتقل إلى وجود العالم ويسأل نفسه: هل الماديات موجودة؟ فيجيب بالإيجاب، ويقدم الأسباب. فأولا هذه الأشياء ممكنة، والله يستطيع إحداث الممكنات. ثم إن في قوة حاسة هي قوة انفعالية تتطلب قوة فعلية تثير فيها أفكار المحسوسات؛ وهذه القوة الفعلية ليست فيَّ، فإني جوهر مفكر، وليست هذه القوة مفكرة، وإذن فهي خارجة عني. على أنها قد تكون إما جسمًا حاصلًا بالذات على ما أتصوره في المحسوسات، أو تكون الله الحاصل عليه على نحو أسمى، فما هي؟ إني أحس في نفسي ميلا طبيعيا إلى الاعتقاد بأشياء جسمية، وما دام هذا الميل طبيعيا فهو صادر عن الله، والله صادق فلا بد أن يكون خلق أشياء مقابلة لأفكاري. إن طبيعتي تعلمني أن لي جسمًا، وأن أجسامًا أخرى تحيط بي، وأن هذه الأجسام مختلفة فيما بينها تحدث فيّ إدراكات مختلفة ولذات وآلامًا، فلن أكترث بعد الآن لأخطاء الحواس وخيالات الأحلام، فإن مراجعة الحواس بعضها ببعض، ومراجعتها بالذاكرة والعقل، تبدد الخوف من الخطأ في الإدراك الحسي. وكذلك تتميز اليقظة باتساق الإحساسات فيما بينها، ويتميز المنام باضطراب التصورات. هذه قرائن لا يمكن أن أخطئ فيها وقد علمت أن ليس الله خادعًا.
ب- الماديات موجودة إذن، ولكن على أي نحو؟ هنا يجب أن أراجع أفكاري بكل حذر حتى يقتصر تصديقي على ما أراه واضحًا متميزًا، فإن أفكاري إنما تصدر عن الله من حيث ما فيها من وضوح، والله إنما يحدث من موضوعات الأفكار ما يتصور بوضوح ليس غير. وما أتصوره واضحًا في الأشياء يرجع إلى أنها امتداد فحسب، وباقي ما يبدو في الإحساس فهو صادر عن
1 / 79