كتاب بهر بالإعجاز ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال ولا أشبه غريب الأمثال ... وأن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون كالشهاب المتلألئ في جنح غسق والزهرة البادية في جدوب ذات نسق.»
ولا مرية في أن القرآن كان يخاطب العرب على وفق مناهجهم في مخاطباتهم وخطاباتهم وتفاهمهم في أفرادهم وجماعاتهم، وكان الصحابة يعرفون أكثر ما يرمي إليه من المعاني ويومي إليه من المغازي، وإذا غم عليهم شيء من ذلك فزعوا إلى الرسول الكريم فينير إليهم السبيل، وأكثر ما يكون تساؤلهم عن الكلمات التي تصرف القرآن في أوضاعها وحولها عن مجاريها الاعتيادية إلى معان جديدة لم تكن من مألوف القوم قبلا مثل: القرآن والإيمان والكفر والصلاة والزكاة بمعانيها الشرعية، وقد غبر الناس على هذا حياته ثم مدة حياة أصحابه من بعده، إلى أن فتح على العرب ممالك العجم واختلطوا بحمرائها وصفرائها وبيضائها وسودائها، ومن ذلك أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا من بين فارسي ورومي ونبطي وحبشي وغيرهم من مختلف الألوان التي دانت لسلطان الفاتحين، فاختلط القوم بالقوم بالمساكنة والمجاورة والمخاتنة والمصاهرة والمصاحبة والمتاجرة، وبذلك تداخلت اللغات ونشأت ناشئة من صميم العرب في أحضان هذا التبلبل فجاءت مختلفة السلائق مضطربة الألسنة، كما نبتت نابتة من أبناء الأعاجم لقنت من العربية ما يسد حاجتها في المخاطبات والمحاورات، ومن هنا ذر قرن لغة أمشاج لا هي بالعربية الصافية ولا العجمية الصرفة، ولم تفتأ هذه اللغة أن ملكت الهجين من ألسنة الدهماء واحتلت مكانة ضيقت فيها على المعربة أنفاسها، وما كاد ينطوي بساط المائة الأولى للهجرة حتى بدت وجوه الاختلال سافرة وظهر الاضطراب في عمود اللغة كل الظهور.
ومن هنا شعرت جمهرة القوم بمسيس الحاجة إلى الاستفسار عن كثير من ألفاظ القرآن الكريم واستجلاء معانيها التي كان أسلافهم يدركون مراميها بحكم سلائقهم، لأنها من نوع ما كانوا به يتفاهمون وعلى نمط ما به ينثرون وينظمون. ولما رأى عقلاء الأمة وأهل العلم استرسال أمر الاختلال وتفاقم الاضطراب والاختبال، استفزتهم الحمية وأهابت بهم الغيرة فانصرف فريق منهم لرأب الصدع وسد الثغر. وأول من بلغنا أنه جمع شيئا في تفسير بعض مفردات القرآن أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209ه، فقد ذكروا أنه ألف في هذا كتابا أسماه «المجاز في غريب القرآن» وآخر أسماه «معاني القرآن»، والمراد بمعاني القرآن تفسير مفرداته وهو اصطلاح معروف عند المتقدمين، وحيث رأيت في كتاب علوم القرآن «قال أهل المعاني» فالمراد بهم مصنفو الكتب في مفردات القرآن، ونجد في فهرس كتب الأصمعي كتابا اسمه «غريب القرآن» والأصمعي من معاصري أبي عبيدة وتأخر عنه قليلا.
ثم أقبل أهل العلم على التأليف في هذا الموضوع حتى لا يكاد يقع نظرك على فهرس من فهارس أئمة اللغة إلا وتجد صدره متحليا باسم كتاب في هذا المعنى، منهم: الزجاج، والفراء، ومحمد بن القاسم الأنباري، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد وغيرهم خلق كثير، وكان من أجمعها كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 223ه. وكانت الكتب المصنفة في هذا الفرع عارية من الترتيب غفلا من التبويب، وكانت بالمعاجم اللغوية أشبه منها بالكتب ذات الفصول والأبواب. واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني المتوفى سنة 330ه، فألف كتابه المشهور «نزهة القلوب» ورتبه على حروف المعجم ترتيبا لم يسبق إليه، فبدأ بالهمزة المفتوحة وثنى بالمضمومة وثلث بالمكسورة، وهكذا فعل بسائر حروف المعجم على الترتيب المشهور، وهذا الكتاب على صغر حجمه من أتقن ما ألف من نوعه، وقد قيل إنه أقام في تأليفه خمس عشرة عاما يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنباري، وكان يتعهده بالتصحيح والتجويد بين حين وآخر.
ولم تزل التآليف في هذا الباب آخذة في الاتساع من حيث الكمية والإجادة من حيث الكيفية، إلى أن جاء أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة 401ه وصنف كتابا كبيرا جمع فيه بين غريب القرآن والحديث ورتبه على حروف المعجم، فاستخرج الكلمات اللغوية التي تحتاج إلى تفسير وتوضيح وأثبتها في حروفها وذكر معانيها فإذا أراد الإنسان كلمة وجدها في حرفها من غير تعب، فجمع كتابه هذا بين دقة التحقيق وجودة الترتيب والتبويب، ولذلك اعتمد عليه الناس من بعده وأكثروا عليه من الاستدراكات والتعليقات والإضافات. إلى أن جاء الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المدني الأصفهاني، فصنف كتابا جمع فيه ما فات الهروي من الغريب وسلك في وضعه مسالك الهروي فجاء مماثلا له حجما وفائدة. وغبر الناس يعتمدون على هذين الكتابين الجليلين وما سبقهما من الكتب المهمة، إلى أن جاء أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502ه، فألف كتابه «مفردات ألفاظ القرآن» مرتبا على حروف الهجاء مقدما ما أول أصوله الهمزة ثم الباء إلى آخر حروف المعجم، مشيرا إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارة والمشتقة، فجاء كتابه هذا من أحسن ما ألف في بابه من حيث: غزارة المادة، وكثرة التحقيق، وحسن الاختيار، وبعد النظر. فهو في نظرنا أفيد معجم يرجع إليه الطالب في تحقيق معاني الألفاظ القرآنية، وعليه اعتمد البيضاوي في تحرير تفسيره من ناحية معاني الألفاظ وأصول اشتقاقها، ولم نعرف من بعده كتابا يفضله في موضوعه. هذا، ومن الواضح أن المؤلفين في هذا الفرع يستقون حاجتهم من المعين الذي تستقي منه اللغة العربية على العموم، زيادة على استعانتهم بالأحاديث النبوية وآثار الصحابة كالمنقول عن ابن عباس وأصحابه والآخذين عنه، فإنه ورد عنهم في هذا الباب الشيء الكثير الجدير بالاعتماد تجد ذلك منثورا في كتب التفسير ودواوين اللغة، وقد أحصى منها جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ما يقرب من ثمانمائة كلمة مع تفسيرها على طريق الإيجاز. (13) غريب الحديث
لا تعرف العربية بعد القرآن الكريم كلاما يسامي الكلام النبوي أو يدانيه فصاحة ومبنى وبلاغة وجمال أسلوب وجلال قدر وبراعة تركيب وروعة تأثير، وإنه لكما يقول شيخ الكتاب أبو عثمان الجاحظ: «لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا ، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه
صلى الله عليه وسلم ، ورب قائل يقول: إذا كان الأمر على ما وصفت فمن أين تسللت الغرابة إلى بعض ألفاظه، وتطرق التعقيد إلى بعض معانيه، والغرابة لا تساكن الفصاحة والتعقيد لا يجاور البلاغة؟! فنحن نقول: إن الكلام النبوي منزه عن التعقيد والغرابة بالمعنى الذي يريده المتأخرون من علماء البيان لأنهم لا يريدون بذلك إلا الخروج عن جادة المألوف من الألفاظ بالنسبة إلى المتكلم والمخاطب، فإذا كان اللفظ من مألوف المخاطبين فليس لأحد أن يسمه بسمة الإغراب أو يصمه بوصمة الإبهام وإن كان غير مألوف عند غير المخاطبين به من الناس، إذ الاعتبار في هذا الباب مقصور على من يتوجه إليه الخطاب دون غيره، ولو ذهبنا في تفسير الإغراب والتعقيد عند البيانيين غير هذا المذهب وقلنا من شرط الفصاحة في الكلام أن يكون عاريا من كل لفظ غير مألوف للناس أجمعين في كل زمان ومكان؛ لما وجدنا كلاما للمتكلم من عرب الجاهلية وصدر الإسلام يستحق أن نخلع عليه حلة الفصاحة ضافية أو غير ضافية، لأنا لا نعرف لهم كلاما منثورا أو منظوما يخلو من ألفاظ غير مألوفة بالنسبة للأجيال المتأخرة، تدفع السامع أو القارئ منهم إلى استنطاق دواوين الأدب ومعاجم اللغة والاستنجاد بالشروح والتعاليق.
والحقيقة أن الغرابة نسبية تختلف باختلاف الناس والزمان والمكان، فرب لفظ يكون شائعا دائما عند قوم وعديم الاستعمال قليله عند آخرين، ورب لفظ يكون معروفا مألوفا في زمان أو بلد ومنكورا مجهولا في زمان أو بلد آخر.
هذا، واعلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
Halaman tidak diketahui