وإذا قابلنا بين هذا الماضي البعيد، وحاضر روسيا السعيد، التي تبلغ مساحة أرضها الكثيرة السكان سدس مساحة الكرة الأرضية، فإننا نندهش دهشا شديدا لهذا الانقلاب العظيم، ولا ريب أنه يخطر على بال كل إنسان، أنه حدث بظروف فوق العادة، أو بحظ عظيم حالف الأمة الروسية وحكامها، أو أن أحد حكامها انتهز فرصة ضعف جيرانها، وأن ذلك حدث بواسطة دهاء رجال سياستها، وبقوة جنودها ومهارة قوادها.
والتاريخ الروسي يدل بإيضاح زائد، على أن روسيا لم يظهر فيها شخص كنابوليون أو كإسكندر الكبير، ولكنها سارت في سبيل القوة والرقي سيرا تدريجيا، حتى أصبحت الآن إمبراطورية عظمى. والحقيقة أيضا أنها ما وصلت إلى حالتها الحاضرة إلا بوجودها تحت صولجان آل رومانوف.
تقوت ونمت روسيا مرهبة الأعداء بالاتحاد والتمسك بالمبادئ القويمة والثقة بقادتها الذين يقودونها في سبيل الحياة. إن المبدأ الأساسي الحيوي، الذي سارت عليه روسيا في خلال ثلاثمائة عام، هو مبدأ الإيمان الأورثوذكسي القويم، وإخلاصها وطاعتها لمليكها الأورثوذكسي. إن القيصر هو ممسوح من الله على المملكة، ولذلك فهو راع للكنيسة، ومدير شئونها الروحية أيضا، وحياة روسيا قائمة على ثلاثة أمور، هي: «اتحاد الشعب والملك والكنيسة»، وفي هذا الاتحاد تكون قوة روسيا.
إن زمن الاضطراب الذي قضته روسيا لم يقتصر على كونه زمن محن وتجارب ودمار، فإن زمن الخصام على عرش الملك زعزع البلاد، وزاد في تعاستها وشقائها، وكل ذلك مهد الطريق لجلوس الشاب ميخائيل ثيودوروفيتش رومانوف على عرش المملكة، ويعتبر عهده عهد سعادة وسلام لها.
ويجب على كل روسي أن يذكر البطريرك جيرموجين
2
الذي كان يعظ الشعب ويرسل له الرسائل إلى المدن، مظهرا له الخطر الذي يتهدد الديانة الأورثوذكسية من قبل البولونيين. ويجب أيضا ذكر المطران إيسيدور في خلال حصار مدينة نوفغورد من الأسوجين، فقد وقف على أسوار المدينة مواجها للأعداء. ويجب ذكر عاموس أسقف مدينة صوفيا، عندما هجم الأعداء ودخلوا المدينة عنوة، فإنه التجأ إلى منزله مع عدد كبير من أهالي المدينة، ودافع فيه عن نفسه وعن قومه دفاع الأبطال، ولكن الأعداء حرقوا المنزل، فمات الأسقف حرقا مع الموجودين.
ويجب ذكر الأب ثيوكتيست، الذي دب روح الحماس في نفوس رعيته، حتى كسروا الجنود الثائرين في عام 1606، وفي عام 1608 فقط عادوا فاستولوا على المدينة وقتلوا أسقفها البار، وقتل الأب غالاكتيون؛ لأنه أبى مباركة المدعي بالملك.
ولما استولت جماهير الخائنين على مدينة روستوف، التجأ المطران فيلاريت رومانوف مع أهل المدينة المخلصين إلى الكنيسة، وأقفلوا أبوابها، واستعد الجميع معه لميتة الاستشهاد، ولكن الأعداء حطموا باب الكنيسة ودخلوها عنوة، وقتلوا عددا غفيرا من الشعب، ودنسوا الهيكل المقدس، ثم ألبسوا المطران ملابس بولونية رثة، وقبعة تترية، وقادوه حافيا بالإهانات والازدراء والتحقير إلى السجن.
ومما تقدم، يظهر لنا أن رجال الدين كانوا يظهرون بمظهر الأبطال البواسل، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان؛ لأن المنازعات والحروب كانت جميعها تحدث بسبب الدين، وكان الروسي يفضل الاستشهاد على تغيير دينه، وقد أهرقت دماء ألوف الروسيين بسبب الدين، ولكن إيمانهم لم يتزعزع، ولكن هذه الشدائد والأهوال التي ذاقها الروسيون بسبب الدين، قد أثمرت فيما بعد أثمارا شهية غزيرة.
Halaman tidak diketahui