Terjemahan Mesir dan Barat

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
49

Terjemahan Mesir dan Barat

تراجم مصرية وغربية

Genre-genre

فلما شبت نار الثورة العرابية كان من بعيدي النظر الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جرائها، فتنحى عن الاشتراك فيها كما تنحى بعد ذلك عن الاشتراك في النظام الذي أعقبها، فمع هذه المكانة الكبيرة التي كانت له، ومع ما أظهر من مقدرة في مجلس النواب الذي سبق الثورة، ومع أنه لم يكن من أنصار الثورة وأعوانها، فإنه لم ير بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز مصر أن يتقدم للعمل العام تحت النظام الجديد الذي سنه الإنجليز لمصر حين استصدروا من الخديو قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، بل تنحى عن العمل العام وترك القاهرة إلى الصعيد، وعكف على عمله الخاص وعلى البر بالفقراء، وظل كذلك من سنة 1882 إلى سنة 1895 حين أخرجه ظرف محلي خاص من هذه العزلة وجعله يتقدم لعضوية مجلس الشورى، وما لبث أن عاد إلى القاهرة وإلى العمل العام حتى انتخب وكيلا للمجلس وحتى كانت له فيه مواقف مشهودة.

وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى مطالبة الإنجليز بأن يخلوا بين مصر ووضع نظام الحكم فيها؛ فلقد كان المغفور له محمود باشا في مقدمة هؤلاء، كان في مقدمتهم منذ كان عضوا في مجلس الشورى وحين ترأس بعد ذلك حزب الأمة.

وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى الأحزاب المنظمة، فإن محمود سليمان باشا هو أول من ترأس حزبا ذا برنامج ونظام في مصر؛ فلقد كانت الأحزاب المصرية إلى يوم تشكيل حزب الأمة تقوم على فكرة الدعوة لعمل واحد معين، فالحزب الوطني أيام عرابي باشا كانت مطالبه محصورة في الدستور وفي التسوية بين المصريين والأتراك من رجال الجيش، والأحزاب والهيئات التي جاءت بعد ذلك كانت تطلب مطلبا واحدا كجلاء إنجلترا عن مصر أو ما هو من ذلك بسبيل، أما حزب الأمة فكان أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجا مفصلا يتناول مرافق البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعا، وعلى نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك.

ولقد تألف حزب الأمة على هذه الصورة في أخريات سنة 1907 وسبقته الجريدة التي كانت بعد ذلك لسان حاله بشهور، وكان رئيس شركة الجريدة ورئيس حزب الأمة هو المغفور له محمود باشا سليمان، فلما حدثت بعد ذلك بسنوات أسباب للخلاف بين المسلمين والأقباط وكان من أثرها أن عقد الأخيرون مؤتمر أسيوط يتهمون فيه حكومات ذلك العصر بأنها تنئي الأقباط عن مناصب الحكم ولا تعطيهم حظهم الكامل منها، وكانت هذه الحركة خطيرة النتائج ، كان محمود سليمان باشا من الذين تقدموا للقضاء عليها ولإعادة الألفة بين العنصرين؛ ولذلك تألف المؤتمر المصري بهليوبوليس واختار رياض باشا رئيسا له ومحمود سليمان باشا وكيلا له، وفند مزاعم الأقباط يومئذ وأظهر الناس على أن لهم من مناصب الحكم أكثر من نسبتهم العددية بكثير، ودعاهم إلى أن يكونوا في وحدة الأمة صفا.

وجاءت الحرب الكبرى وكان محمود باشا قد جاوز الثمانين وحق له أن يستريح من عناء العمل وأن يخلص كل نفسه لله في انتظار لقائه إياه، والحق أن صفحات الجهاد التي كانت له في ماضيه وما قام به كأب من حسن العناية وجميل البر بأبنائه كان كافيا وفوق الكفاية ليكتب لهذا الرجل صحيفة مجد باقية، وصحت عزيمته على الاعتزال والانقطاع لله حتى لقد خرج من ماله لأبنائه في سنة 1916 واعتزم عيش الزهادة والنسك وتمام الانقطاع لله، وما أجمل هذه الشيخوخة الطاهرة المنزهة عن شوائب الهوى، والتي قامت فيما سبق لها من سني الحياة بما يطلب إلى الرجل من جد وبر وتقوى، تقضي في حساب النفس والقربى إلى الله ورجاء مغفرته وثوابه، ما أجمل الشيخ يصل إلى قمة الحكمة بعد أن يطوف من الحياة بشهواتها وأهوائها ومطامعها ومالها ومجدها فتدعوه الحكمة إلى أن ينظر إلى الأهواء والمطامع والشهوات جميعا نظرة إصغار أن كانت لا بقاء لها ولا متاع للنفس بها، وإنما المتاع بإمعان النظر في الكون واستكناه ما فيه من خير وحق وجمال.

على أن الأقدار كانت قد احتفظت لمصر بصفحة أخرى من صفحات المجد يخطها محمود سليمان باشا، ليكن لشيخوخته عليه حق، ولتكن خير خاتمة المرء أياما تقضى في العبادة والتقوى، وليكن محمود سليمان قد خرج من دنياه تاركا إياها إلى أولاده وانقطع لنفسه ولربه، ليكن ذلك كله فإن للوطن مع ذلك عليه حقا، وهو لم ينس يوما حق الوطن عليه؛ لذلك ما كادت الحرب العامة تضع أوزارها، ثم ما كادت الحركة الوطنية المصرية تبدأ، حتى إذا هذا الشيخ خرج مرة أخرى من عزلته وجاء ينضم إلى صفوف المجاهدين لإعلاء شأن الوطن ورفع مناره وتقديس كلمته، ولئن كان قد نيف على الثمانين فلن تزيده سنه ولن يزيده مجده ومقامه وعظمته إلا حرصا على الوقوف في الصف الأول من صفوف المجاهدين، وأن يكون في مقدمة من يتعرض لما يصاب به من يتعرض للدفاع عن عظمة هذا الوطن واستقلاله، وكان منظرا يبهر النفس ما فيه من مهابة وإجلال، فقد جلس محمود باشا في رياسة لجنة الوفد المركزية يوم كانت البلاد تضطرب أحشاؤها من أقصاها إلى أقصاها ويوم كانت الأحكام العرفية بالغة قسوتها أعظم مبلغ، جلس في رئاسة لجنة الوفد المركزية وجعل من داره كعبة قصاد خدمة الوطن وأقسم لا يتزحزح إلا أن تزحزحه القوة، وأرادت القوة يوما أن تبتلي ثباته وعزمه فأصدرت له الأمر أن يبرح القاهرة، فإذا به لا يبرحها حتى ذهبوا إلى ذهبيته وأبعدوها عن ميدان العمل السياسي على كره منه، ولقد كان في ذلك - كما كان في غيره - سباقا إلى مثل التضحية والمكانة العلية، وكان في هذا مثلا عاليا من النزاهة والتضحية لخير الوطن.

ولما آن للبلاد أن ينقسم بعضها على بعض وأن تقوم بين أهلها الفتنة، اعتزل الميدان نهائيا وإن لم ينس قديم صلاته بأصدقائه سواء منهم من كان في فريقه السياسي أو من كان في فريق مخاصم له، وعلى اشتداد الخصومة في وقت من الأوقات بين الأحرار الدستوريين وسعد زغلول باشا فإن محمود باشا سليمان كان أسبق من أرسل إلى سعد باشا على أثر عودته من جبل طارق يهنئه بسلامة مقدمه، وكذلك كان في هذه كما كان في غيرها عظيما ساميا فوق شهوات الساعة، كبيرا عن أن يتأثر بالأهواء الطارئة.

ومن يوم اختلفت الأحزاب في مصر عكف هو على ما كان قد اعتزم منذ سنوات من الانقطاع لله ولعبادته، وظل كذلك حتى ارتضاه الله إلى جواره يوم الثلاثاء 22 يناير سنة 1929، ارتضاه إلى جواره فخلف هذه الدنيا في أناة وتؤدة وحكمة كما عاش فيها في أناة وتؤدة وحكمة.

هوامش

عبد الخالق ثروت باشا

Halaman tidak diketahui