Terjemahan Mesir dan Barat
تراجم مصرية وغربية
Genre-genre
وحياة بطرس باشا كانت كلها بعد ذلك حياة وساطة سياسية لم تكن الحاجة إليها ماسة أيام حكم توفيق لما كان بينه وبين الإنجليز من تمام التفاهم، ولكنها كانت ضرورية وكانت منتجة أيام حكم الخديو عباس الذي كان يثق به ويطمئن إليه في حل الخلاف الكثير الحدوث بينه وبين لورد كرومر قنصل إنجلترا العام في مصر.
ولعل الحوادث التي مرت بمصر وشهدها بطرس باشا قبل أن يصل إلى منصب الوزارة كانت ذات أثر كبير في توجيه سياسته وزيرا، فقد حضر نائبا عن الحكومة المصرية في لجنة التصفية ووقف على ميول الأجانب وعلى أطماعهم، ثم رأى جهود إسماعيل للوقوف في وجه تدخلهم باسم مصلحة الدائنين تنتهي إلى إقصائه عن العرش، ثم إنه حضر وشهد تطورات الثورة العرابية وما آلت إليه من تشتيت الثوار والحكم على زعمائهم بالإعدام واستبدال ذلك الحكم بالنفي، وكان بعد ذلك على اتصال بالمؤتمرات والمحادثات التي حصلت بقصد جلاء الجيوش الإنجليزية عن مصر، وما كان من وعود الإنجليز في ذلك وتدخلهم برغم هذه الوعود في الشئون المصرية ووضعهم يدهم على الإدارة المصرية، ثم كانت بعد ذلك حادثة فرمان الخديو عباس ووقوف إنجلترا في وجه تركيا باسم الدفاع عن حقوق مصر، كما كانت حادثة الحدود واعتذار الخديو عباس برغم اعتزازه بملكه الشاب للقائد كتشنر.
وبطرس باشا كان على ذكائه وقوة إرادته وسعة حيلته رجل سلم وعمل مطمئن؛ مما جعله بعيدا عن الحركة العرابية إلى أن جاء دور السلم والوساطة، كما كان من طائفة الأقلية الدينية في وقت كانت النعرة الدينية فيه متغلبة على كل نعرة أخرى، أضف إلى هذا كله اتصاله بنوبار وتكوين عقله تكوينا سياسيا لا تكوين زعامة شعبية مقصور غرضها على الدعوة للمثل الأعلى، هذه الظروف كلها تفسر لك سياسته من بعد ارتقائه إلى منصب وزارة المالية في سنة 1893 وانتقاله إلى وزارة الخارجية بعد ذلك وبقائه فيها حتى مع تقلده رياسة الوزارة في سنة 1908 برغم ما جرت به سنة الوزارات المصرية من تقلد رئيس الوزراء لوزارة الداخلية.
وتشهد ظروف تقلده الوزارة بأنه كان - برغم ما قدمنا من ميله للسلم وللحيلة - موضع ثقة الخديو الشاب عباس؛ فلقد كانت أول وزارة اختير بطرس لها وزارة فخري باشا التي أحلها عباس محل وزارة مصطفى فهمي في سنة 1893 برغم لورد كرومر، والتي لم تبق لذلك في مناصب الحكم غير يوم واحد، ثم إنه حل بعد ذلك محل ثقته أن رأى فيه خير وسيط يحل المشكلات التي كانت كثيرة الحدوث بينه وبين لورد كرومر، على أن عمله في وزارة المالية وفي وزارة الخارجية ظل عمل موظف أمين كفء حريص على بقاء المساواة في المعاملة بين المصريين جميعا من غير تمييز بينهم بسبب الجنس أو الدين من غير أن يبرز ليكون محلا لحكم التاريخ، حتى كانت سنة 1899 إذ وقع مع إنجلترا في 19 يناير اتفاقية السودان التي كانت بعض ما حاربه به خصومه في حياته وبعض ما اتخذه قاتله إبراهيم ناصف الورداني حجة له في إقدامه على ارتكاب جريمة القتل السياسي، والتي ما تزال موضع حنق المصريين عليها ونظر كثيرين منهم لها على أنها عمل من أعمال خيانة الوطن.
وقد نعجب إذ نرى بطرس غالي ولم يكن في سنة 1899 إلا ناظرا للخارجية متضامنا مع سائر زملائه النظار في سياسة الدولة العامة يحمل وحده وزر هذه الاتفاقية، فإخلاء السودان في سنة 1884 بأمر إنجلترا واستعادة فتحه بعد ذلك بأمر إنجلترا أيضا لم يكن من عمل نظارة الخارجية وحدها، بل كان من عمل مجلس النظار كله، وقد كان بطرس وزيرا للمالية في سنة 1893 مع فخري ثم مع رياض باشا الذي ألف الوزارة حلا للإشكال بين الخديو ولورد كرومر، ثم انتقل وزيرا للخارجية لما شكل نوبار الوزارة في سنة 1894، وظل في منصبه بعد استقالة نوبار وحين شكل مصطفى باشا فهمي الوزارة من جديد، وفي هذه الأثناء كانت الأعمال لاستعادة السودان جارية حتى سقطت الخرطوم وأم درمان وتمت استعادة السودان في سنة 1898، فهل يسأل وزير الخارجية وحده إذا هو وقع بعد ذلك اتفاقا باسم حكومته؟!
كان خصومه يقولون: ولكنه المسئول الأول والمباشر، فهو الذي وقع باسمه وبيده، ثم إنه فضلا عن ذلك كان أكثر من كل الوزراء الذين معه مسئولية لأنه كان أقواهم وأذكاهم وأقدرهم، بل لعله هو الذي أقنعهم بالقبول، وماذا تريد من مصطفى فهمي والذين كانوا معه وهم كانوا مثل الاستماتة والضعف، لقد كان بطرس هو العنصر القوي الوحيد فيهم، فهو لذلك مسئول دونهم، ثم لنقل الحق أيضا: إن بطرس قبطي وكان للأقباط زعيما، والأقباط كانوا يومئذ وفي نظر دعاة الحركة الوطنية المصرية متهمين بممالأة الإنجليز على بلادهم، فبطرس إذا قد وقع اتفاقية السودان ممالأة للإنجليز وتفريطا في حقوق بلاده.
كذلك كان يقول خصوم بطرس، وكذلك ما يزال البعض يحسب، ولو في دخيلة نفسه، حرصا على وحدة الأمة المقدسة في الأيام الحاضرة، لكن للتاريخ حكما آخر تجب المجاهرة به إحقاقا للحق، فمصر يوم اتفاقية السودان كانت تابعة لتركيا وكانت لا تستطيع أن تمضي اتفاقا تنقص به من سلطتها أو سيادتها على أي جزء من الأجزاء التابعة لها، أو التي كانت تابعة لها وعادت إليها، وقد أبلغت الحكومة المصرية حكومة الباب العالي أن إنجلترا تريد أن تتفق مع مصر اتفاقا مقصورا على إدارة السودان؛ لتتمكن بذلك من إلغاء الامتيازات الأجنبية فيه، ولتستطيع بما تبيحه لها الشركة في الإدارة أن تسهر على أملاكها الأفريقية من غير أن يضر ذلك حقوق مصر في السودان باعتباره ولاية منها تابعة لحكم الخديو، وبالرغم من تكرار الكتابة في هذا الأمر إلى الحكومة التركية فإنها لم تحرك ساكنا ولم تشر بنصيحة ولم تظهر مجرد استعدادها لتعضيد مصر إذا هي وقفت بإزاء إنجلترا موقفا خاصا، وعلى ذلك ألفت مصر نفسها وحيدة بإزاء إنجلترا مضطرة أن تحل معها هذه العقدة بعد أن كانت فرنسا قد ضربت قبيل ذلك في حادثة فاشودة بما قطع كل رجاء في مداخلتها كما انقطع الرجاء في مداخلة غيرها من الدول، مع هذا لم يخرج اتفاق يناير سنة 1899 السودان من ولاية صاحب عرش مصر ولم يجعل إنجلترا شريكة فيه، بل هو اتفاق مقصور على إدارة السودان بنصه وبتفسير لورد كرومر وغير لورد كرومر من كتاب الإنجليز وساستهم إياه وبتنفيذه في المدة التي تلت عقده، فقد كان حاكم السودان العام - برغم أنه حاكم عسكري في بلاد خاضعة للحكم العرفي - لا ينفذ أمرا ولا ينشر قانونا إلا بعد أن يبعث به إلى مجلس النظار في القاهرة، وبعد أن يرد المجلس إليه الأمر أو القانون أو الإرادة السنية كما هي أو منقحة بما تراه الوزارة المصرية، فإذا كان قد حدث بعد ذلك أن استفادت السلطة الإنجليزية من ضعف الوزارات التي وليت الحكم في مصر وأن مدت ادعاءاتها إلى أكثر مما يبيحه اتفاق سنة 1899، فليس الذي وقع الاتفاق المذكور في الظروف التي أشرنا إليها مسئولا عن شيء منها.
هذا هو حكم التاريخ، وهو الحق في أمر اتفاقية السودان وموقف بطرس باشا غالي منها، على أن ما تلاها من نشاط الحركة الوطنية بزعامة المغفور له مصطفى باشا كامل ومن طعنها على المعاهدة واتخاذها ذريعة للهجوم والمقاومة؛ جعل الوزارة المصرية أشد ميلا للتفاهم مع الإنجليز تفاهما يخفف من حدة هذه الحركة إن كان ذلك مستطاعا، ويقف في وجه طغيانها على النظام وعلى الأمن إذا خشي منها عليهما، ويعطي لاتفاقية السودان معنى غير معناها الأول يخول إنجلترا فيه سلطانا لم يقصد الاتفاق تخويلها إياه.
وكانت الحركة الوطنية في ذلك الحين متجهة إلى الاستفادة من خلاف الدول، معتمدة على ما يمكن أن يكون لتدخل فرنسا من قيمة في تحرير مصر، وبرغم فشل مرشان عند فاشودة وانسحابه وتضعضع سلطان فرنسا لهذا السبب، فقد ظلت أنظار مصطفى كامل ورجال الحزب الوطني متجهة صوب باريس حتى سنة 1904 حين عقد الاتفاق الودي الذي التزمت به فرنسا ألا تعترض إنجلترا في مصر، فلما تم هذا الاتفاق شعر المصريون جميعا بازدياد مركز إنجلترا في مصر قوة، وكان النظار المصريون المتصلون بالسلطة الإنجليزية في مصر بسبب مراكزهم أكثر من غيرهم شعورا بهذه القوة، بل إيمانا بها واستعدادا لتقديم القرابين لتهدئة ثوائر غضبها.
وفي هذه الظروف بلغ سلطان إنجلترا في مصر أوج قوته، فلم يكن أمر ما - بالغة ما بلغت تفاهته - يبرم أو ينقض من غير إقرارهم عن طريق موظفيهم الذين احتلوا كل مناصب الدولة الرئيسية والذين كانت لهم الكلمة النافذة على الموظفين المصريين مهما يكن منصب الموظف الإنجليزي صغيرا ومنصب الموظف المصري كبيرا، كان تلغراف جرانفل - الذي يقرر أن مشورة إنجلترا واجبة الاتباع في مصر - لا يقف عند ما تبديه الدولة المحتلة عن طريق عميدها من رأي، بل يمتد إلى المستشار الإنجليزي وإلى مفتش الداخلية وإلى ملاحظ الطرق وإلى كل إنجليزي أيا كانت مكانته، وبإزاء هذا السلطان الإنجليزي النافذ في مصر كانت الحركة الوطنية المصرية تنمو وتقوى، وكانت الثورة النفسية لشعب مصر الوادع الذي لا يقبل مذلة ولا خضوعا قد ملأت النفوس حتى كادت تفيض عنها، وكمظهر لهذا التنافر بين السلطة الحاكمة من ناحية والشعب المصري من ناحية أخرى، وقعت حادثة دنشواي باصطدام جماعة من الضباط الإنجليز الذين كانوا يصيدون الحمام في أثناء ذهابهم من القاهرة على الإسكندرية مع أهل قرية دنشواي في يونيو سنة 1906 اصطداما انتهى إلى موت الكابتن بول الإنجليزي، وإلى تأليف المحكمة المخصوصة برئاسة بطرس باشا غالي الذي كان وزيرا للحقانية بالنيابة لغياب وزير الحقانية بالإجازة، وإلى صدور وتنفيذ ذلك الحكم الجائر الذي يعتبر مثلا من أمثلة البربرية والوحشية في أشد عصور الإنسانية ظلاما، والذي أعدم بموجبه أربعة وجلد ثمانية أمام أنظار أهل دنشواي المفجوعين في أهلهم وعائليهم، عدا الذين زجوا منهم في غيابات السجون.
Halaman tidak diketahui