Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genre-genre
ولما وجهت إليه الصدارة العظمى كانت الأحوال وخيمة جدا - كما اتضح مما تقدم - فأخذ بإصلاح الأمور الملكية والعسكرية، فأسس سفارات دائمة في برلين وباريز وفيانه ولندرة، فكان يطلع بواسطتها على الحقائق السياسية في حينها، ويتخذ الاحتياطات اللازمة والتدابير المصيبة لصيانة حقوق الدولة والملة، وإن ما ناله من التوفيق في مسألة إعادة المجرمين التي ظهرت بعد الاختلال الكبير في المجر سنة 1849 كان نتيجة ما اتخذه من المسلك القويم في طرق السياسة، وبرهانا على فرط حميته وغيرته؛ وتفصيل ذلك أنه لما ضيقت روسيا والنمسا على المجرمين التجأ جماعة منهم إلى حدود المملكة العثمانية، فطلبت الدولتان المشار إليهما وهددتاها بالحرب إذا خالفت طلبهما، فأصدر رشيد باشا لهما ردا وفقه على الحقوق الدولية وصان شرف الدولة، وكان السلطان يؤيد كل ما يقوله أو يعمله ، ومن جملة كلام جلالته بهذه المسألة، قوله: «ومن المحال أن أسلم هؤلاء المساكين وقد التجئوا إلى باب سلطنتي السنية، وهذا ما تقتضيه الحمية والعدالة.» وقد اختار الحرب على تسليمهم، فعلمتا أن الدولة ساهرة على حقوقها وشرفها بهمة وزيرها رشيد باشا فأذعنتا إلى أن يتلافى الأمر بالمخابرات السياسية والقانون الدولي وتحققتا أن التهديد لا يفيدهما شيئا.
وتقلب رشيد باشا في مناصب متعددة على مقتضى الأحوال، فتقلد منصب الصدارة ست مرات، ونظارة الخارجية أربعا، وتقلد سفارات متعددة، وتعين واليا لأدرنة مرة واحدة، وكان الفوز مرافقا له في كل أمر شرع فيه، وأول جريدة عثمانية نشرت في الآستانة «تقويم وقائع» كان هو مؤسسها، وقد أسس أيضا نظارة المعارف ومجلس المعارف ونظامنامه المعارف وسالنامه الدولة والمكاتب الرشدية وغيرها من عوامل الارتقاء.
واتفق في أيامه ظهور مسألة القدس، وهي الاختلاف الذي حصل بين الكاثوليك والأرثوذكس بحق التصرف في الكنيسة الشرقية، وتداخلت روسيا في أمره وأرسلت «منشيقوف» الشهير إلى الآستانة ليبلغ الدولة العلية مطاليب الدولة الروسية الباهظة، فاتخذ رشيد باشا الاحتياطات اللازمة، فأودع المسألة حالا إلى مؤتمر فيانه، وطلب تسويتها وفقا لقانوني الدول والملل، فأصدر المؤتمر لائحة إلى الدولتين، فقبلتها الروسية ولم تقبلها الدولة العلية لاشتمالها على شروط تحتاج إلى التعديل، فطلبت تعديلها وإجراء المذاكرات بذلك، فصرحت الدول الأوربية بأنها لا تستطيع معاضدة الدولة العلية، وإذا لم تقبل بالشروط المذكورة فالمسئولية تعود عليها إذا آلات الحال إلى حرب.
فنهض رشيد باشا حينئذ بهمة وغيرة فائقتين، وجمع الوكلاء والوزراء والعلماء والأمراء والمأمورين والأعيان في الباب العالي بموجب إرادة سنية، وشرح المسألة وأبان لهم أن بعض مواد تلك اللائحة مخل بحقوق الدولة العلية، وأن الدولة الروسية لم تقبل تلك الشروط إلا رغبة بمواد فيها قابلة للتأول، ثم أخذ رأيهم ودارت المذاكرات بذلك، فأعلنت الدولة العلية الحرب على دولة روسيا سنة 1269ه، وكان رشيد باشا عالما بقصور الدولة عن مناهضة الروس إذ ذاك، ولكنه رأى قبول الشروط أكثر ضررا من الحرب فاختار أهون الشرين، ولم تمض برهة على ذلك حتى تأكدت فرنسا وإنكلترا وسردينيا أن الدولة الروسية قد تجاوزت الحد، فأعلن عليها الحرب وأوقفنها، وكانت نتيجة تلك الحرب الاعتراف بحقوق الدولة العلية، وإدخالها في عداد الدول الأوربية سنة 1273ه وهذا ما كان يتمناه رشيد باشا، ويسهر الليل والنهار لأجله، وهي خدمة تكفي لتخليد ذكره إلى الأبد.
وكان رحمه الله طويل الباع في الكتابة، والأوراق المحفوظة الآن بخطه في الباب العالي دليل واضح على ذلك.
وفي سنة 1274ه وافاه الأجل فلباه، وأودع حسرة في قلوب العثمانيين كافة، ولم يزل العثمانيون يذكرون اسمه بكل احترام وإكرام.
الفصل الثامن والعشرون
فؤاد باشا
شكل 28-1: فؤاد باشا السياسي العثماني الشهير (ولد سنة 1230ه وتوفي سنة 1285ه).
ولد في الآستانة سنة 1230ه، ووالده عزت ملا بن كيجه زاده أحد الشعراء والعلماء في زمانه. سلك فؤاد باشا في عهد شبيبته المسلك العلمي ثم دخل المكتب الطبي الذي أسسه السلطان محمود الثاني في سراي غلطة، وحصل فيه العلوم الطبية بنسبة زمانه واستعداده وارتقى لرتبة قائمقام، وعند ذهاب طاهر باشا بن جنكل واليا لولاية طرابلس الغرب تعين فؤاد (أفندي) طبيبا للآلاي في معيته.
Halaman tidak diketahui