Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genre-genre
فلما أعد التعايشي تلك الحملة بعث كتبا أخرى إلى مصر وفيها الإنذار الأخير، فبقي الرسل مدة في أصوان ثم أعيدوا بلا جواب، فبعث التعايشي رأس النجاشي يوحنا إلى يونس أمير دنقلا على أن يرسله إلى وادي حلفا تهديدا للمصريين، وأمر أن يسير النجومي بحملته على مصر فلا يحرك ساكنا في حلفا، بل يهاجم أصوان فإذا فتحها يقيم فيها حتى تأتيه أوامر أخرى.
فخرج ولد النجومي من دنقلا في مايو سنة 1889 في جيش لا نظام له، والحكومة المصرية عالمة بكل حركة من حله وترحاله، وكان سردار الجيش المصري إذ ذاك الجنرال غرانفل باشا المشهور بالتأني وحسن الروية، فضلا عن الرقة ولين الجانب، فحصن حلفا وأصوان وسائر الحدود، فلما دنت حملة الدراويش من أرجين بجوار حلفا اقتربت شرذمة منهم إلى النيل وولد النجومي لا يعلم بها، فخرجت إليها الحامية المصريون بقيادة وودهاوس باشا فكسروها شر كسرة.
وكان غرانفيل باشا قد خرج من أصوان فبعث إلى ولد النجومي يبين خطر موقفه، وينصح له أن يسلم فيسلم فأبى، فسار السردار بجيش معظمه على البر الغربي للنيل، وبعضه على البر الشرقي؛ لأن الدراويش كانوا قادمين على البر الغربي فجرت بينهم وبين الحاميات مناوشات ليست بذات بال حتى وصلوا توشكي، وهناك حصلت الواقعة التي قضت على تلك الحملة، فقتل قائدها وتشتت شملها، وإليك التفصيل. (9-1) واقعة توشكي
توشكي قرية حقيرة على البر الشرقي وبعضها على البر الغربي للنيل بين كروسكو وحلفا على بضعة أميال من هيكل أبي سمبل شمالا مؤلفة من أعشاش صغيرة من الطوب والقش متفرقة على ضفة النيل في مسافة من الأرض على موازاة النيل يبلغ طولها ثلاثة أميال وعرضها منه إلى الصحراء نحو نصف ميل وفيها بعض النخيل.
وفي البر الغربي مقابل توشكي على بعد أربعة أميال منها جنوبا سلسلة تلال عالية من حجر الغرانيت، تمتد من الضفة غربا نحو ثلاثة أميال في الصحراء، وعند طرف هذه السلسلة وإلى جنوبيها كان معسكر الدراويش بقيادة ولد النجومي، وعلى نحو تلك المسافة شمالا سلسلة أخرى، وبين السلسلتين سهل واسع متصل بالصحراء، وفي هذا السهل جرت الواقعة.
وكان السردار مقيما في توشكي، فبعث طلائعه في صباح 3 أوغسطس سنة 1889 باكرا لاستكشاف معسكر، العدو فعادوا وأخبروا بأن العرب يستعدون للمسير، فخرج السردار لمجرد الاستكشاف فلم يكد يشرف على معسكرهم حتى رآهم هاجمين كالجراد، فبعث إلى الجند في توشكي وكان بعضهم لم يتناول طعاما ولا تهيأ للمسير، فساروا بأسرع من لمح البصر، وهم لم يأكلوا بعد ولا حملوا من الماء إلا شيئا قليلا، فعزم السردار إذ ذاك أن لا يكف عن الدراويش حتى يشتت شملهم في ذلك اليوم، وكان قد علم بما كانوا فيه من الضيق والجوع، وهاك أسماء الأرط التي شهدت تلك الواقعة وهي: الأرطة التاسعة بقيادة البكباشي دن، والثالثة عشرة بقيادة اليوزباشي كمستر ، والطوبجية بقيادة البكباشي رندل، فضلا عن البيادة الراكبين، والأورطة الثانية من البيادة جاءت متأخرة، وقال الذين شهدوا واقعة توشكي أن الأرط السودانية عملت في ذلك اليوم أعمالا عجيبة وبالغوا برغبتهم في الحرب حتى عصوا أوامر قوادهم لما دعوهم إلى الكف عنها، والخلاصة أن الواقعة المشار إليها لم تنقض إلى الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم (3 أوغسطس سنة 1889).
وبلغ عدد قتلى الدراويش 1200 قتيل، وزاد عدد أسراهم على أربعة آلاف وفيهم النساء والأولاد، فضلا عن الأسلاب والأعلام والسيوف والرماح، ولم يقتل من الجيش المصري إلا 25 وجرح 140.
ووجد بين قتلى الدراويش إذ ذاك أعظم أمراء تلك الحملة ما عدا عثمان الأزرق، وعلي ولد سعد ، وحسن النجومي، وميرغني سوار الذهب، وشيخ الأبيض، فقد نجا هؤلاء بنحو ألف وأربعمائة شريد وهم الذين استطاعوا الفرار من تلك الموقعة فقط. أما ولد النجومي فقد قتل وحز رأسه وجيء به إلى السردار.
فكان ذلك النصر نصرا مبينا سر المغفور له الخديوي السابق فبعث إلى السردار يهنئه به لعلمه أنه أمثولة علمت التعايشي ما لم يكن يعلم، أما الذين قتلوا من الجنود المصرية فابتنوا لهم مقاما قرب مكان الواقعة ضموهم إليه، وبنوا فوقه قبرا نقشوا فوقه باللغة العربية حفرا على واجهة القبر كتابة هذا نصها:
شيد هذا الأثر تذكارا لواقعة توشكي التي حصلت في 6 ذي الحجة سنة 1306ه وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي، فتشتتوا بعد قتل أميرهم، وكان الجيش المصري تحت قيادة سعادة السردار غرانفل باشا، وفي هذا القبر دفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا بالميدان.
Halaman tidak diketahui