Tarajim Mashahir

Jurji Zaydan d. 1331 AH
145

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Genre-genre

على أن الاختلاف بين مدحت ورجال المابين لم يكن قاصرا على مسألة الدستور، لكنهم خالفوه في أمور كثيرة. منها مقاومتهم في تعيين ولاة مسيحيين وإدخال غير المسلمين في المدارس الحربية، ومنها إصرارهم على تعيين غالب باشا وزيرا للمالية، ونفي ضيا بك صاحب الاستقلال. أما تعيين الولاة من المسيحيين فقد ذهب مدحت إلى التعجيل فيه إرضاء للدول التي ستجتمع في المؤتمر فيكون تعيينهم حجة للدولة في إدخال الإصلاح، فأجاب السلطان «إنا لا نعرف رأي عامة المسلمين في التغيير الذي سيدخل على الدولة بالدستور؛ فتعيين ولاة من المسيحيين ربما هاج خواطرهم وآل إلى ما لا تحمد عقباه.» وبعد أخذ ورد أجلوا الإقرار على ذلك كله إلى ما بعد اجتماع المؤتمر على أن يبادروا إلى إعلان الدستور وانتخاب نواب الأمة.

فأعلن الدستور رسميا في 24 دسمبر سنة 1876، وتلا سعيد باشا (الباشكاتب) الفرمان بإعلانه في حضور الصدر الأعظم مدحت وكبار رجال الدولة والعلماء وغيرهم، ثم تقدم سعيد المذكور وسلم صورة القانون الأساسي إلى مدحت بعد أن قبلها، وتفرق منها نسخ على الحاضرين، وخطب مدحت خطابا مآله قبول الدستور وقانونه، ثم صلى المفتي وأطلقت مائة مدفع ومدفع، فعلم الناس أن الدستور قد أعلن، فتهافت الكبراء وفي مقدمتهم شيخ الإسلام خير الله أفندي والعلماء ورجال الدين من النصارى مع بطاركتهم والوزراء وغيرهم يرفعون إلى مدحت التهاني على فوزه بإعلان الدستور وكانوا يصيحون: «يحيا السلطان ومدحت»، وانهالت عليه الرسائل البرقية من الولايات وغيرها والكل فرحون مستبشرون إلا سراي بشكطاش فإنها لم تحرك ساكنا؛ لأن جلالة السلطان كان يشكو انحرافا.

وفي اليوم التالي خف مدحت لزيارة بطريرك الروم، وهي المرة الأولى منذ الفتح العثماني زار فيها الصدر الأعظم بطريرك الروم، وإنما أراد بذلك إقناع الدول أن النصارى مشاركون للمسلمين في الدستور، واحتفل اليونان بزيارته فخطب فيهم وأجابه البطريرك بما يدل على الائتلاف والولاء. (12) مؤتمر الآستانة

ومن غريب الاتفاق أن اليوم الذي تعين لعقد المؤتمر هو نفس اليوم الذي أعلن فيه الدستور (23 دسمبر) فاجتمع المؤتمر في ذلك اليوم للمداولة مع مندوبي الدولة فيما ينبغي اتخاذه من الوسائل لتسكين الأحوال في الولاية العثمانية بأوروبا، ولم يكد يعلن افتتاح الجلسة حتى دوت أصوات المدافع عن إعلان الدستور، فنهض صفوت باشا أحد مندوبي الدولة في ذلك المؤتمر، وقال: «أيها السادة إن ما تسمعونه إنما هو إشارة إلى إعلان الدستور الضامن لما تطلبونه، فلا حاجة إلى المباحثة.» فوجم الحضور هنيهة ثم تكلم إغناتيف معتمد روسيا فطلب الرجوع إلى مدار البحث، فعادوا إليه، فطلب استقلال بلغاريا بأحكامها، وأن يتعين عليها وال مسيحي، فتباحتوا واتفقوا على أن تكون بلغاريا ممتازة بأحكامها، وبحثوا مثل ذلك في شئون الهرسك والبوسنة وغيرهما مما لا محل له هنا، وأقروا على لائحة عرضها إغناتيف على الباب العالي للمصادقة عليها، فشكل مدحت مجلسا عاليا مؤلفا من الوزراء والمشيرين وكبار رجال الدولة والرؤساء الروحانيين من كل الطوائف، وعرض عليهم اللائحة، وأخبرهم أن ردها يئول إلى الحرب فتباحثوا وتحمسوا وأبوا إلا ردها، فردها مدحت وانفض المؤتمر، وبفضه اضطربت العلائق بين أوروبا والباب العالي. (13) نفي مدحت باشا

ولم يكد ينفض المؤتمر حتى عاد رجال المابين إلى متابعة ما كانوا فيه من معاكسة رجال الإصلاح، فاستأنفوا البحث في إدخال المسيحيين المدارس الحربية، وعزل غالب باشا ناظر المالية، وكان مدحت يرى عزله لاعتقاده عجزه عن القيام بهذا المنصب، فرضي السلطان بعزله، لكنه اشترط أن يجعل عضوا في مجلس الأعيان، فطلب مدحت أن تفحص أوراقه، وتراجع حسابات أعماله، وكتب أخيرا إلى المابين كتابا بين فيه عدم لياقة غالب لهذا المنصب، ثم تحول إلى البحث في مسألة المدارس، وكان يعتقد - واعتقاده صواب - أن مسألة الإصلاح في المملكة العثمانية لا يمكن حلها إلا بتوحيد العناصر على اختلاف الطوائف والنحل، ولا يكون ذلك إلا إذا نشأ شبانهم في مدارس واحدة، وتربوا تربية واحدة، فأراد أن يبدأ مشروعه هذا بالمدارس الحربية فطلب إدخال غير المسلمين فيها لينشأ منهم ضباط غير مسلمين يشتركون مع إخوانهم المسلمين في خدمة الأمة، فأجيب بالمدافعة والمماطلة والمعارضة، وطال الأخذ والرد بين الصدارة والمابين، أو بين مدحت وباشكاتب المابين بالنيابة عن السلطان، وأخيرا كتب مدحت إلى جلالة السلطان كتابا شديد اللهجة جاء في جملته:

إني شديد الاحترام لشخص جلالتكم، أما من حيث القوانين والشرع فعلي يا مولاي أن أعصى كل أمر يصدر منكم إذا كان مخالفا لمصلحة الأمة، وإلا فإني أتحمل مسئولية أنوء تحت أثقالها، وأخاف صوت ضميري؛ لأني تعهدت بأن تكون أعمالي مطابقة لمصلحة الوطن ورفاهيته ...

إلى أن قال:

مضت تسعة أيام منذ عرضت على جلالتكم مشروعات لا غنى عنها لسعادة الأمة وصيانة الدولة، فلم تصادقوا عليها؛ مما يئول إلى خراب لم نكد ننجو من مخالبه إلا بشق النفس.

بعث مدحت كتابه ومكث في منزله ثلاثة أيام، فوجد أهل المابين مندوحة للتخلص من هذا العدو القوي، فأوفد إليه السلطان صفوت باشا ناظر الخارجية أن يأتي فأبى إلا أن يصادق السلطان أولا على مشاريعه فبعث إليه سعيد باشا (الإنكليزي) فأكد له أنه إذا أتى السراي فالإرادة تصدر حالا بالمصادقة على مطاليبه، فوثق مدحت بقوله وركب معه، وما عتم أن لحظ وهو في الطريق أن الشوارع غاصة بالجند، وخصوصا حول منزله في نيشان طاش، ولم يكن يعلم أن الباخرة «عز الدين» في مرسى طولما بغجه منذ بضعة أيام لتحمل أبا الأحرار إلى منفاه، وهب أنه علم بذلك حينئذ فلم يكن علمه لينفعه لفوات الفرصة، فبحال وصوله لسراي طولما بغجه استمهلوه ريثما تصدر الأوامر السلطانية لمقابلته، فجلس في غرفة الانتظار، وإذا هو برئيس الياوران جاءه، وأخذ منه ختم الدولة وساقه توا إلى الباخرة عز الدين، وكانت على أهبة السفر، فأقلعت ومع ربانها أوامر مختومة لا يجوز فتحها إلا بعد 24 ساعة، ثم فتحها فإذا فيها أن يحمل مدحت باشا إلى المحل الذي يختاره من سواحل أوروبا، فأنزل في برنديزي بإيطاليا.

ولا يخفى ما كان من تأثير هذا النفي على الأحرار في الآستانة، لكن أهل المابين لم يقدموا على نفي زعيم الأحرار وأبي الدستور، وإلا قد مهدوا السبيل واحتاطوا لما يخشى وقوعه، وكانت حجتهم في نفي مدحت أن: «وجوده يسبب اختلال أمنية الحكومة»، فللسلطان الحق بنفيه كما جاء في المادة 113 من القانون الأساسي، وكان في الآستانة عصابة من أهل الوجاهة لا يرون وجود مدحت نفسه ضروريا لتأييد الدستور ونشر الإصلاح، وكانوا يعتقدون أن السلطان مخلص في إجراءاته، وإنما يريد بها سلامة الدولة وسعادة الأمة، وتمكن هذا الاعتقاد من نفوسهم لما رأوه نفى مدحت وظل محافظا على دستوره، وأمر بعقد مجلس المبعوثان، وإنما فعل ذلك تسكينا لخواطر الأمة أو بالحري لخواطر الأحرار مريدي مدحت وأنصاره، وكانت الانتخابات جارية فتعجلها لفتح البرلمان في أول مارس سنة 1877 ولم يتم عدد الأعضاء الكافي لعقده إلا في 4 منه، فاحتفلوا بافتتاحه في سراي طولما بغجه بحضور السلطان نفسه، ولم يطل عمره إلا سنة وبعض السنة. (14) مدحت في منفاه

Halaman tidak diketahui