Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genre-genre
وانتبه مدحت أيضا إلى أمر ذي بال كان سببا في أكثر متاعب الدولة في البلقان، وذلك أن بعض البلغاريين كانوا يرسلون أبناءهم للتخرج في جامعات أودسا أو خركوف أو كيف وكلها في بلاد الروس، فكانوا يتشربون حب الجنس السلافي، ويعودون لبث تلك الروح في الأهالي فيثيرون التعصب الجنسي أو الديني ، فيعود ذلك بالقلاقل والمتاعب على الدولة، فارتأى مدحت أن يتلافى ذلك بإنشاء المدارس العالية في الولاية نفسها بحيث يغني الناس عن إرسال أبنائهم إلى الخارج، فضلا عن تألف الشبان على اختلاف مذاهبهم إذا شبوا في مدرسة واحدة، وتربوا تربية واحدة، ورفع بذلك لائحة للباب العالي وقسم النفقات اللازمة لهذا العمل إلى نصفين: النصف يؤخذ من فضلات الخراج في الولاية، والنصف الآخر يكتتب به الأهالي.
فلما وصلت هذه اللائحة إلى الآستانة علم بها إغناتيف سفير روسيا هناك، فقاومها بكل قوته لأنها تخالف الترتيب الذي رتبه الروس لتحويل قلوب البلغاريين عن دولتهم، وبذل جهده في إيغار صدر السلطان عبد العزيز على مدحت فأوهمه أن الخطة التي يتحداها في الولايات تنافي سيادة الخليفة المطلقة، وتأول إلى تشتت شمل المملكة العثمانية باستقلال كل ولاية بشئونها، فلم يصغ السلطان لوشايته في بادئ الرأي، لكنه وفق إلى غلطة وقعت في لائحة نشرها مدحت في الجريدة الرسمية يطلب فيها تعيين أعضاء مجلس الأهالي المشتركين مع الحكومة في تدبير شئون الولاية، فسماهم «نواب»، ولم يغفل إغناتيف عن تنبيه ذهن السلطان إلى ذلك، فاقتنع بسوء عاقبة تلك البدع، وأبى المصادقة على طلب مدحت تجنبا للنفقة، ولم يذكر السبب الحقيقي.
فذهبت أعمال مدحت في سبيل الإصلاح أدراج الرياح، وأيد أصحاب إغناتيف غرضه باستنهاض بعض العصابات في البلقان للتعديات ونحوها، فما أحس مدحت إلا وقد ظهرت عصابات فتكت بالمسلمين، وقتلت أطفالا من الرعاة، فنهض المسلمون لمثل هذا العمل في المسيحيين، فركب مدحت بنفسه وقبض على بعض المتمردين من النصارى فوجد باستنطاقهم أنهم رسل من جمعية السلاف في بوخارست وفي كشنو، فحكم المجلس على الرؤساء بالإعدام، وعلى الآخرين بأحكام أخرى، فانفضت الثورة وعادت السكينة، على أن جرائد أوروبا شددت النكير على تصرف القضاء العثماني في هذا السبيل، وعدوا أحكامه بربرية ونسبوها إلى مدحت، فبرأ نفسه، لكنهم لم يعدموا وسيلة أخرى لنكايته، وذلك أنه سمع برسل سرية قادمة من غلائز إلى بلغراد لدس الدسائس وإعداد مشاكل جديدة فقبض عليهم على ظهر باخرة نمساوية عند روستشوك وبعث صورتهم إلى قنصل النمسا، وطلب إليه أن يأذن بفحص تذاكرهم وأخذت الضابطة العثمانية في تفتيشهم ومعها مندوب من القنصلاتو النمسوية، فأطلق أحد الرسل مسدسا على الضابطة في قاعة السفينة، فأجابهم العثمانيون، والتحم الفريقان وانجلت الواقعة أخيرا عن القبض على أولئك الدساسين وقد جرحوا جراحا بليغة.
فكان لهذه الحادثة دوي في أوروبا، واتخذ إغناتيف ذلك ذريعة لطلب إقالة مدحت فلم يفلح، فأخذوا يسعون في قتله سرا، فأطلق عليه أحدهم في روستشوك رصاصة أخطأته، وحاول سربي قتله ففشل، ولما قبض عليه وسئل عن سبب عمله، قال: إن اثنين من كبار السرب أغروه على ذلك فحوكم الرجل وعوقب.
وبعد هذه الحوادث بقليل (1868) استدعي مدحت إلى الآستانة ليتولى رئاسة مجلس أنشئوه حديثا فأتاها، ولكن وقع اختلاف في الرأي بينه وبين عالي باشا الصدر الأعظم في بعض الشئون فاعتزل مدحت باشا الرئاسة على أن يتولى ولاية بغداد سنة 1869. (3) إصلاحاته في ولاية بغداد
شخص مدحت إلى بغداد فوجد فيها من المشاكل غير ما في ولاية الطوفة أعني مسألة التجنيد، وكانت من المشاكل الصعبة؛ لأن القبائل العربية التابعة لولاية بغداد لم تكن ترضخ لحكم التجنيد، وكانت يومئذ قد تمردت على الدولة حتى عجزت عن إخضاعها لتفرق الكلمة بين والي بغداد ومشير جندها، ولم يكن إخضاعها ممكنا إلا إذا كانت القوتان العسكرية والإدارية في يد واحدة، فأخذ مدحت على نفسه الجمع بين القوتين، وعزم على إخضاع الثائرين بالقوة، ولم يكلفه ذلك إلا الحزم والشدة، فأذعن الثائرون صاغرين بسرعة أدهشت الباب العالي فسماه مشير الفيلق السادس ووالي بغداد.
وكان الولاة قبله يقاسون في تحصيل الضرائب من أولئك العرب عذابا شديدا، فتحدى الشدة في تحصيلها بقوة الجند وقد أفلح، ولكنه أعمل فكرته في حال أولئك البدو فوجد إذلالهم بالقوة يفضي إلى تجديد التمرد، فرأى أن يتخذ في إخضاعهم طرقا أخرى فعمل على تغيير نظام ملكية الأرضين فيهم؛ وذلك أن الفلاح العربي كان يدفع للحكومة أجرة الأرض التي يستثمرها وثلاثة أرباع غلتها، وفي ذلك حيف عليه، فقسم مدحت الأرض إلى قطع عرضها للبيع بشروط سهلة، فلم تمض مدة يسيرة حتى ذاق ثمر ذلك العمل إذ تكاثر دخل الحكومة، وقل تمرد العربان، وزادت غلة الأرض فزادت حركة الأعمال الأخرى، وكان من نتائج ذلك تسيير السفن في دجلة والفرات وتسهيل المواصلات بين المدن القائمة على ضفافهما.
وكانت إدارة السفن هناك بيد شركة إنكليزية تشتغل بين بغداد والبصرة، فألف مدحت شركة عثمانية، ورمم السفن القديمة، وأوصى على سواها واختزن لها الفحم في مسقط وعدن وبندر عباس وبو شهر، وكانت هذه السفن أول سفن عثمانية عبرت قنال السويس إلى الآستانة، فرأى مدحت نجاح ذلك العمل فوسعه، وأوصل تلك البواخر شمالا إلى آخر ما يستطاع من شواطئ النهرين فعمر كثير من البقاع واتسعت الأرض المزروعة، وعزم على ردم البقاع التي كان قد أغرقها الفيضان، فعلقت الآمال أن يعود العراق إلى خصبه في الدولة العباسية.
وأنشأ مدحت خط ترمواي بين بغداد والكاظمية طوله سبعة كيلومترات، وابتنى معملا للنسج تام الأدوات، وأنشأ المدارس في كل قضاء، وشاد المستشفيات والملاجئ، فتكاثرت البيوت المالية كالمصارف ونحوها، وأنشأ مطبعة تطبع فيها جريدة الزوراء الرسمية، وشكل مجالس بلدية في أهم المدن، واكتشفوا في أثناء ولايته منجما للبترول فسهل الانتفاع به، فتقدم العراق على يده تقدما مدهشا، وقدم شاه الفرس سنة 1870 لزيارة النجف وكربلاء مزار الشيعة، فاغتنم مدحت تلك الزيارة وقرر أشياء كانت محل نظر بين الدولتين وفي جملتها تعديات الأكراد على ما يمرون به في طريقهم على تركيا، فاتفقت الدولتان على إنشاء نقط عسكرية عند الحدود على نحو ما فعل عند حدود السرب من قبل. وبلغه أن في بعض مزارات الشيعة بنجد كثيرا من الجواهر والتحف اجتمعت هناك من هدايا الهنود والفرس ولا فائدة من اختزانها، فأشار مدحت باستخراجها وبيعها وهي تساوي نحو 1300000 ليرة عثمانية على أن تصرف في إنشاء خط حديدي بين حدود إيران وبغداد أو بإقامة المستشفيات والمدارس وغيرها، فأبى علماء الشيعة عليه ذلك، فأغفل المشروع.
وجملة القول: لم يذخر مدحت وسيلة لإحياء العراق اقتصاديا وإداريا وأدبيا فضلا عن تحسن العلائق مع الأمم المجاورة. من ذلك أنه حمل مشائخ الكويت على الاعتراف برعاية الدولة العثمانية بعد أن امتنع ذلك على سلفه نامق باشا، والكويت تبعد عدة أميال من البصرة على شاطئ نجد، وهي فرضة تجارية تحكمها أسرة الصباح وأصلهم من نجد، لا يداخل في شئونهم أحد، وهم يتعاطون التجارة البحرية مع شواطئ الهند وفارس وأفريقيا، واحتكروا مغاوص اللؤلؤ في البحرين، وكانوا ينصبون على سفنهم علما خاصا بهم، وربما نصبوا علما هولنديا إنكليزيا لغرض من الأغراض، فما زال مدحت يخابرهم بالحسنى حتى قبلوا برفع العلم العثماني على شرط الاستقلال بإدارتهم وسائر شئونهم الداخلية، فأصبحت الكويت من ذلك الحين سنجقا من سناجق ولاية بغداد، وفعل نحو ذلك بنجد وغيرها والبحرين مما يطول بنا بسطه، وفي كل عمل منه دليل على علو همة مدحت باشا، ورغبته في تأييد الدولة العثمانية.
Halaman tidak diketahui