Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genre-genre
وكان أعظم قواد الجنود المصرية إذ ذاك سليمان باشا الفرنساوي (راجع ترجمته) فلما رجع صاحب الترجمة من فرنسا كما تقدم ألحق بأركان حرب سليمان باشا وتقرب منه حتى تمكنت علائق المودة بينهما كثيرا، وبقي في الجيش المصري إلى سنة 1852، فلما رأى أنه لم يرتق عن رتبته التي جاء بها من فرنسا اعتزل العسكرية، ودخل في خدمة البرنس حليم باشا بوظيفة كاتب يده إلى سنة 1853، فلما توفي المرحوم عباس باشا الأول استقدمه خلفه سعيد باشا، وأنعم عليه بما كان يستحقه من الالتفات، ورقاه إلى رتبة أميرالاي لحرسه الخصوصي، وبعد سنتين منحه رتبة لوا. أما علاقته مع سليمان باشا فكانت لا تزال ودية حتى تصاهرا، فتزوج صاحب الترجمة بابنة سليمان باشا، وأخذت مواهبه بالظهور من ذلك الحين فاشتهر بالحزم والعفة والاستقامة، فرأى المرحوم سعيد باشا أن الإدارة أحوج إليه من العسكرية فعينه ناظرا للخارجية سنة 1857، فلما توفي سعيد باشا سنة 1863 خلفه إسماعيل باشا فعينه ناظرا للداخلية مع بقائه على الخارجية؛ نظرا لما كان له من المنزلة الرفيعة في عينيه، فقام بما عهد إليه أحسن قيام، وأظهر من الغيرة الوطنية والإخلاص في خدمة الديار المصرية ما زاد مولاه ثقة فيه حتى ولاه سنة 1865 النيابة الخديوية أثناء غيابه في الآستانة العلية.
ولما عاد إسماعيل باشا من الآستانة قلده نظارة المعارف مع نظارة الخارجية، ثم رئاسة مجلسه الخصوصي سنة 1867 ثم مناصب أخرى، حتى لم يبق منصب من المناصب المصرية الرفيعة إلا تقلده بين داخلية وخارجية وحقانية ورئاسة مجلس النظار وغيرها في أيامه وأيام الخديوي السابق المرحوم محمد توفيق باشا.
وكان صاحب الترجمة معروفا بين الأهالي بالوطنية الخالصة، حتى إن الأحزاب العرابية الذين قاموا بالدعوة الوطنية، ولم يثقوا بأحد من وزراء مصر تقريبا، ولم يرضوا سواه لتولي رئاسة مجلس النظار يوم حادثة عابدين الشهيرة، وقد تردد زمنا في قبولها؛ لما كانت فيه البلاد من الاضطراب، ولكنه قبل بها غيرة على الأمن العام، وهو الذي أسس مجلس النواب المصري مراعاة للأمر الخديوي ولرغبة الأحزاب الوطنية إذ ذاك، ولما اشتدت الأزمة العرابية تنحى عن الوزارة ثم عاد إليها بعد تدمير الإسكندرية، وبقي فيها إلى عام 1884 فتنحى عنها ولم يعد يتولاها ولا سواها من مناصب الحكومة.
وتنحيه هذا جاء مؤيدا لإخلاصه للوطن المصري، وصدق طويته وعزة نفسه، وسببه أن المتمهدي السوداني كان قد استفحل أمره في الأقطار السودانية البعيدة وافتتح كردوفان ودارفور، وتهدد الخرطوم، وكانت الحكومة المصرية قد بعثت حملة هيكس باشا وبادت عن آخرها، فأشارت الحكومة الإنكليزية بإخلاء السودان وتركها للعصاة، فلم يقبل شريف باشا بتلك المشورة بدعوى أن السودان كلفت الحكومة المصرية مالا ورجالا منذ افتتحها محمد علي باشا إلى ذلك الحين، وهي مصدر ثروة تجاري للقطر المصري فضلا عما يتهدد مصر من الخطر بسبب إخلائها إلى غير ذلك من الأدلة القاطعة، ولكن الإنكليز أصروا على مشورتهم، وطالت المخابرات بين مصر ولندرة وهو لم يتحول عن رأيه، ولما رأى من الحكومة المصرية ميلا لموافقة الحكومة الإنكليزية تنحى عن الوزارة حتى لا يكون هو المؤذن بإخلاء تلك الأقطار، ولكي لا يجري عملا غير مطابق لما يناجيه به ضميره.
ومن تتبع الحوادث المصرية السودانية من وزارة شريف باشا الأخيرة إلى الآن يتحقق صواب رأيه، وأفضلية استبقاء الأصقاع السودانية تحت كنف الحكومة المصرية، ولكن حكم القضاء ونفذ المقدر.
وبقي رحمه الله معتزلا الأعمال الإدارية منقطعا إلى الدرس والمطالعة حتى أصيب بداء الكبد في أوائل سنة 1887م، فأشار عليه الأطباء بتغيير الهواء، فسافر إلى الأقطار الأوربية، ولم يكد يصل مدينة غرانس من أعمال النمسا حتى فاجأه المنون، فتوفاه الله عن 64 عاما، ولما بلغ الحكومة الخديوية أمرت بإقفال الدواوين يوما كاملا حدادا عليه، وبعث رئيس النظار رسالة برقية إلى ابن الفقيد يقول فيها: «إننا أسفنا على الفقيد بقدر حبنا له.»
وجيء بجثته إلى القاهرة في 27 أفريل (نيسان) من تلك السنة، ودفن بالتجلة والإكرام والناس يتأسفون على فقده ويستمطرون عليه الرحمة والرضوان.
وكان شريف باشا حسن الخلق والخلق، مهيبا جليلا، ممتلئ البدن، طويل القامة، تظهر في عينيه وجبينه ملامح الذكاء وحدة الذهن، وكان متمكنا من أكثر العلوم العصرية وخصوصا علم الفلك، حليم الطبع لين العريكة، وقد أجمع المصريون على ولائه ونال إنعام الحكومة الخديوية والحضرة الشاهانية، وسائر الدول العظام من الرتب والنياشين ما تتحلى به صدور الرجال، وتفتخر بنيله كرام الأنام رحمه الله وتغمده برحمته ورضوانه.
الفصل الثلاثون
رستم باشا
Halaman tidak diketahui