المقدمة
سيدة عابري السبيل
العكاز الذهبي
وردة الجنة
راهب وملك
الزهرات البيضاء
مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
كتاب الفرض
الناسك
المقدمة
Halaman tidak diketahui
سيدة عابري السبيل
العكاز الذهبي
وردة الجنة
راهب وملك
الزهرات البيضاء
مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
كتاب الفرض
الناسك
طاقات زهور
طاقات زهور
Halaman tidak diketahui
تأليف
إلياس أبو شبكة
المقدمة
هذه صفحات روحية أرفعها اليوم إلى أبناء بلادي، ففي كل صفحة منها عظة لمن يتعظ، وعبرة لمن يعتبر.
إن من يقرأ قصة «سيدة عابري السبيل» تتجسم أمام عينيه عاقبة القاتل الجبان، ويلامس في كل سطر من سطورها رعشة الضمير الهارب من جريمته، ومن يقرأ قصة «راهب وملك» تتراءى له التضحية ومحبة البائسين، ومن يقرأ قصة «مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو» يرى فيها انتصار الفضيلة على الشر، ومن يقرأ قصة «الزهرات البيضاء» يتمثل له جزاء عرفان الجميل، ومن يقرأ قصة «وردة الجنة» يلامس عذوبة التعزية في وسط الآلام، وينكشف له ينبوع السلام يترقرق صافيا بين مفاوز الشكوك وعقبات الحياة.
هذه صفحات روحية ملؤها التعزية والحب، فليتصفحها كل من يشعر بحاجة إلى التعزية!
إلياس أبو شبكة
سيدة عابري السبيل
كانت النار تزفر في الموقد.
وكانت أيدي الأحداث الحمراء من شدة البرد تتزاحم مضطربة فوق المستوقد.
Halaman tidak diketahui
وفي الخارج كانت الرياح تعصف بقوة، والهواء المجنون يزمجر في الأبعاد، جارا خلفه أطواد الثلوج، وأغصان الأدواح من أعالي الجبال.
أما الباب المضطرب فوق رزاته، فقد كان يئن أنينا مزعجا.
اقترب الأحداث من وردة المسنة، التي كانت تبرم دولابها تحت مئزر الداخون، وقال لها فريد، وهو أكبر الأحداث سنا: احكي لنا حكاية يا أم وردة، حكاية طويلة وجميلة.
كانت ليالي الشتاء طويلة كثيرة الساعات، وكان الأهل يرسلون أولادهم في أغلب الأحيان إلى الأم وردة؛ لتعلمهم مخافة الله، ومحبة القريب، وتقص على مسامعهم حكايات قديمة.
فابتسمت الأم وردة لفريد وقالت له: أية حكاية تود أن أقصها عليك يا بني؟ أعصفور النار ... أم سيدة البحيرة الوردية؟
فأجابها الأحداث بحمية: لا، لا، بل حكاية مخيفة يا أم وردة.
فأردفت الفتيات الصغيرات قائلات وهن يضطربن: أجل نريدها مخيفة يا أم وردة.
فتجمعت الأم وردة، وبعد أن ترددت قليلا تركت شفتيها تتلفظان بهذه الكلمات: أصغوا لأقص عليكم ... فريد، انظر هل الباب مغلق ... فلا يجب أن يمر الروح القدس في هذه الساعة ... أصغوا لأقص عليكم حكاية بيلاطوس البنطي.
عندما سمع الأحداث هذا الاسم المخيف حدق بعضهم في بعض بخوف ورهبة ورسموا شارة الصليب على وجوههم.
ثم أكملت الأم وردة حديثها قائلة: أنتم تعرفون حق المعرفة أن بيلاطوس البنطي حكم بالموت على سيدنا يسوع المسيح.
Halaman tidak diketahui
هذا الرجل الملعون كان الحاكم المطاع في بلاد اليهود؛ وكان لا يحتاج إلى أكثر من إشارة يعطيها لجنوده حتى يقهر الفريسيين الكفرة، إلا أنه كان جبانا ومتكبرا ...
أجل كان متكبرا، أتسمعين يا سليمة؟ ...
كان لا يود أن يفقد مركزه في المدينة؛ إذ إن اليهود كانوا يتهددونه بالخلع عن عرشه إذا عرف عاهل روما أنه لم يحكم بالموت على ملك اليهود.
عند ذلك نزل بيلاطوس عند رغائب الشعب اليهودي، وحكم على المسيح بالصلب على خشبة كبيرة بين لصين.
ثم غسل يديه ليوهم الناس أنه بريء من هذا الذنب الفظيع، وأنه لم يثقل ضميره بتلك الجناية التي لا وجه لها من العدل.
إلا أنه لم يستطع أن يضل نفسه، فلم تكد روح سيدنا يسوع المسيح تفيض على الصليب، حتى تمسك الندم بروح بيلاطوس كما يتمسك الخفاش بشباك أحد الكهوف!
وبعد بضعة أعوام طلب العاهل بيلاطوس، ووبخه غاضبا، وقال له إنه لم يبق بحاجة إليه؛ لأنه لم يحسن إدارة الشعب، وزاد على ذلك بأن أمره بالرحيل عن روما، والسكن بعيدا عنها لكي ينسى الجميع حتى اسمه.
إلا أن العاهل قد أخطأ خطأ عظيما يا بني، إذ إن الشعب لم ينتبه إلى بيلاطوس ويذكر جريمته إلا منذ هجر روما.
يتأكد لنا من مصيبة بيلاطوس وأوجاعه أن الله لا يحب الأردياء، الذين يرتكبون الجرائم بجبانة وخوف!
لا تنسوا هذه العبرة يا أولادي، وأنتن يا صغيراتي، عندما تصبحن كبيرات، وتجلسن إلى أبنائكن لتقصصن عليهم حكايات الأم وردة، يجب أن تسردنها كما أسردها أنا على مسامعكن الآن.
Halaman tidak diketahui
فهتف حبيب وسليمة بصوت واحد قائلين: نعم يا أم وردة!
فعادت الأم إلى حكايتها فقالت: تملك اليأس من نفس بيلاطوس فذهب إلى أقاصي الأرض هاربا من الضمير، إلا أن شبح الصليب بقي ماثلا أمام عينيه في كل حين.
ولكي يخنق صوت ضميره أخذ يبحث عن جنوده وشعبه، فلم يجد أحدا منهم، فهام على نفسه في مجاهل الأرض، لا يهدأ له روع ولا يقر له قرار!
فعندما كان يمر أمام الينابيع أو البحيرات كان يغمس يديه في مياهها، تينك اليدين اللتين أشارتا بالحكم على المسيح المبارك، وشفتاه المرتعشتان تتمتمان بهذه الكلمات: أنا بريء من دم هذا الصديق!
أما البشر فكانوا يرونه مجتازا من مدينة إلى أخرى بدون أن يضطربوا منه، أو أن يوجسوا خيفة من شره.
وبعد حين عاد بيلاطوس إلى بلاد اليهود، ووقف في روما مرة أخرى ... وفي أحد الأمساء رآه الشعب «مشنوقا» بعصابة وشاحه، فنزعوه عن الشجرة، ورموه في أعماق هوة مظلمة.
أما الأرض فلم تكن ترضى به طعاما في بطنها فبصقته، واضطر الشعب إلى إرجاعه إليها أولا وثانيا وثالثا، حتى أمر عاهل روما بأن يوضع في كيس مثقل بحجارة ضخمة، ويلقى في نهر التيبر، أحد أنهر روما.
إلا أن النهر لم يلبث أن هيج مياهه، وفاض على شواطئه حتى غمر عدة شوارع من المدينة.
أما المراكب فشرعت تتعالى مع الأمواج المجنونة، وينقلب بعضها على بعض، فخشي البحارة هول العاقبة، فنزعوا الجثة من أعماق المياه، وأخذوها إلى فرنسا حيث حفروا هوة عميقة في جبل قريب من مقاطعة فيان رموا فيها جثة بيلاطوس بعد أن ثقلوها بأطواد هائلة.
إلا أن الصواعق بدأت تنقض وتثور متلفة كل ما يتفق لها أن تجده في طريقها، حتى أحدثت أضرارا أكثر من التي حدثت في روما.
Halaman tidak diketahui
إذ ذاك استولى الشعب على الجثة ورموها في الرون، وهو نهر يضارع السهم بجريانه السريع.
إلا أن النهر لم يلبث أن غضب غضبة أشد من التي غضبها التيبر والجبل القائم في فرنسا والنمسا، فأخذ يطرح الجثة تارة على شاطئه الأيمن، وطورا على الأيسر، حتى دب الخوف في قلوب السكان، فعرضوا أمرهم لشارلمان، الذي كان أعظم ملك في العالم كله.
عند ذلك فكر الملك طويلا يا بني، ثم استشار أساقفته وقواده في الأمر.
إلا أن هؤلاء كانوا أشد تحيرا منه.
أخيرا عندما رأى الملك أن الشعب الفرنسي لم يبق باستطاعته أن يتحمل خوفه ورهبته أصدر أمره بنقل الجثة إلى لوزان.
إلا أن حاكم هذه المدينة لم يتردد بأن استرحم الملك بأن يبعد عنه تلك الجيفة التي أرعبت المدينة بأسرها.
إذ ذاك أشار الملك شارلمان بأن يدفن بيلاطوس في جبلنا العالي، وأن يبقى فيه إلى ما شاء الله.
لم يكن عندنا يوم ذاك من يدافع عنا، يا أعزائي، فجاءوا بالجيفة الملعونة ودفنوها في هذا الجبل الذي أطلق عليه اسم «جبل بيلاطوس».
وهنا توقفت الأم وردة عن الكلام، ثم قالت: لقد مضى هزيع من الليل يا بني، فيجب أن ترجعوا إلى مآويكم، وغدا، إن شاء الله، أكمل لكم قصة بيلاطوس.
فتململ الأحداث لدى توقف الأم وردة عن إكمال الحكاية، وقالوا لها: لا تتوقفي يا أم وردة، وأخبرينا عما جرى في جبل بيلاطوس بعد أن دفنت فيه الجثة، فما من أحد هنا يستطيع أن يقص مثلك حكايات مخيفة، هذا ما قاله لنا أمس رئيس المدرسة.
Halaman tidak diketahui
فتهددتهم الأم وردة بإصبعها، وقالت لهم محدقة من خلال نظاراتها إلى يوحنا الصغير: يا لكم من ملاقين صغار ... ولكن لا بأس فاسمعوا النهاية: عندما دفنت جثة بيلاطوس في جبلنا هذا يبست الأعشاب، وجفت الينابيع، وماتت الطيور، وهربت حيوانات الجبل مذعورة مضطربة، وترامت الأشجار تحت انقضاض الصواعق، وذبلت أجساد السكان وشحبت وجوههم ...
أما الحجارة فكانت تتهير من البروق الزرقاء، وأطواد الصخور تتساقط من قمة الجبل وتترامى في مياه البحيرة الزرقاء، والأرض تتشقق عن لجج عميقة، وكهوف سوداء تشرئب منها أعناق أفاع هائلة وثعابين ذات رءوس عديدة!
أما اليوم، فيقال: إن شبح بيلاطوس يجتاز الجبل في «الجمعة الحزينة» ويمر «بمعبر الشيطان» متبوعا بالأرواح الشريرة!
من هم هؤلاء الأرواح؟ وما شأنهم في الجبل؟ ...
ما من أحد يدري يا صغاري، ولكن ويل للمسيحيين الذين يمرون بمعبر الشيطان، فإنهم يموتون شر ميتة إذا هم لم يستنجدوا بحراس السماء، ولا تجرؤ العقبان أن تأكل لحومهم الدنسة!
ويل للمسيحيين الخطأة، الذين يجتازون الجبل ويلقون في مياه البحيرة حجرا أو قضيبا!
ويل لهم من شبح مخيف، يتمسك بعنقهم ويرفعهم إلى الفضاء، ثم يطرحهم في أعماق اللجة!
لم تكد الأم وردة تصل إلى هذه الكلمة حتى قرع الباب قرعة هائلة، فتضعضع الأحداث وجمدوا في مكانهم من شدة الخوف.
فانتصبت الأم وردة أمام الباب شاحبة الوجه مضطربة الأعضاء ورسمت على وجهها إشارة الصليب.
عند هذا قرع الباب قرعة أخرى، وسمع صوت قائلا: افتحي يا أم وردة! ...
Halaman tidak diketahui
عرفت الأم وردة صاحب الصوت، فجذبت زلاج الباب واندفع رجلان إلى الغرفة، فقالا لفريد: تعال يا فريد، انهض واتبعنا! ...
وفي حين كان الولد يتوارى في الظلمة المتفلعة بالبروق الزرقاء، عكف أحد الرجلين فوق الأم وردة وقال لها: اضرعي إلى الله يا أم وردة ... فوالد فريد سحق تحت صخر هائل في معبر الشيطان ... •••
لم يبق فريد ذلك الولد الضاحك، الذي أطلق عليه فيما مضى اسم «عصفور الغابات» ففمه الحزين كان مستبقيا طية أليمة، وجبهته البيضاء كانت دائما منحنية إلى الأمام، وكانت عينه المغلفة بالدموع مرتسمة عليها معاني فكرة موجعة، هي البحث المستمر عن مشكل لا يدرك!
فعندما كان يذهب إلى ضفاف البحيرة الزرقاء ليرعى مواشيه حسب عادته، كان يرى الجبل صامتا ساكنا لا يجيب إلى أغانيه المفرحة بأغان مفرحة! فالصدى كان أخرس كفريد!
كانت الأشهر الطويلة قد مرت على ذلك اليوم المشئوم، واستحمت الطبيعة بلهاث نيسان الجميل وأنفاسه العطرية العذبة، وتفتحت الأزهار عن براعمها لتستقبل قبلات الشمس الأولى، وأنشدت الطيور أغاني الربيع الزاحف على التلال.
أما مياه البحيرة فلم تبق كما كانت هائجة متلاطمة، بل إنها استعادت جمالها القديم، القديم ... وهدوءها العذب حيث انعكست قمة الجبل البيضاء وزرقة الجلد الصافي.
وأما الأكمات الخضراء فعادت تؤلف زنارا من الأعشاب، تحيط به تلك البحيرة ذات المياه الممتدة إلى أقاصي الخلجان الصغيرة.
هناك، كان جبل بيلاطوس نفسه يعود إلى الحياة محاطا بأبخرة وردية شفافة، ويتبسم عن أجمل ما وهبته إياه الطبيعة، بعد أن كان نذيرا ينذر الأهلين بالويل!
أما فريد فكان منصرفا عن كل ما لا يمت إلى الحزن والألم.
أحيانا كان يجلس على ضفة البحيرة فيدلي رجليه فوق المياه، ويأخذ بنزع طاقات من القصب الذابل المتلاعبة به تموجات الأمواه؛ وأحيانا كان ينتصب على قدميه مقطب الجبين مشتت الأفكار، ويصرف ساعات طويلة شاخصا إلى جبل بيلاطوس، ثم يهز رأسه المفكر، ويستسلم للنحيب والدموع! ...
Halaman tidak diketahui
ذات مساء قرع جرس الكنيسة قرعات محزنة، مذكرا المؤمنين بموت المسيح، فلم يتردد فريد أن أرجع مواشيه إلى المزود، وسجد عند أعمدة سريره، وجعل يصلي أمام تمثال صغير للسيدة العذراء، ثم نهض فجأة وأخذ عصية حديدية بيده وخرج ...
كان فريد يسير في عقبة ذات مسالك صعبة، فيتسلق المنحدرات الوعرة، والأطواد الشاهقة، ولا يلتفت إلى الحصيات المتهيرة تحت أقدامه من مرتفع العقبات إلى أعماق اللجج.
وكانت العقبة تحتجب شيئا فشيئا وراء السرو المنتصب في أطراف الصخور.
أما النهار فكان يضيء الأشياء بشعاع شاحب باهت، وبعد هنيهة وقف الفتى الهائم على نفسه في المفاوز الوعرة، وكان قلبه يخفق خفقانا شديدا فقال: كن عونا لي يا ملاكي الحارس ولا تهملني!
ثم تقدم إلى الأمام بخطى وثيقة، في حين كانت الهوة تفغر فاها عن يمينه، والسرو الشاهق يهزهز أغصانه المستطيلة عن يساره، حتى انتهى به السير إلى مكان خطر رهيب، فخيل إليه أنه يسمع «طقطقة عظام صادرة من بين الصخور»، فاضطرب اضطرابا عنيفا، وحدق بنظره إلى الشفق البعيد فتراءت له مياه البحيرة من خلال شق في الجبل تذيب عليها الشمس أشعتها الصفراء، كأنها قمين من نحاس مذوب.
بعد فترة قصيرة زحف الضباب الكثيف في وسط أنوار بخارية، فامحقت تحته الأشياء، وأقبل الليل على صهوة جواد أدهم، فساد السكون في مطارح الجبل، ولم يبق من متحرك إلا حفيف الأوراق، ورقرقة المياه المتسربة من أعالي القمم.
مرت ساعات عديدة وفريد يضطرب وراء صخر منحن، شاخصا إلى الظلمة بعين تائهة بلهاء.
كان يلعن تهوره المجنون، وغباوته التي لا وجه لها من الحكمة، وود لو استطاع أن يهرب.
وإذ به يبصر مشهدا رهيبا تبسط أمام عينيه.
ذلك أنه رأى أشباحا سوداء، مرتدية ثيابا رهيبة، تزحف بسكون على الحضيض، كان بعضهم ينفخون في أبواق معكوفة، والبعض الآخر يحركون أذرعهم المجردة من اللحم، وهم ممددون في أكفان خفاقة من نسيج أبيض، وكانت شعلة مخيفة تعصب جبين أحد هؤلاء الأشباح، في حين كان تاج من الحديد يسحق بثقله رأس شبح يتثاقل بمشيته.
Halaman tidak diketahui
وكان بين الأشباح دودة قذرة، تعد قطعا من الدراهم، بدون أن ينهكها التعب، فيصعد من تلك القطع النحاسية رنين مزعج مخيف!
كان شبح من هؤلاء الأشباح يزحف مضطربا تائها، ويداه المرتعشتان تتجردان من الجلد شيئا فشيئا، وقد أحاطت به أخيلة رهيبة ذات شكل وحشي.
أما هؤلاء الأشباح، فكانوا يضحكون ضحكا عاليا، فيتصاعد من بين أرديتهم الخفاقة دوي عظام يصطك بعضها على بعض، وتنفذ من محاجرهم المجوفة أشعة حمراء جهنمية.
كانوا يسيرون ببطء على الحضيض، وفريد يتبعهم بسكون وتيهان! فمروا خلال المجاري المتحدرة من أعالي الذرى، واجتازوا اللجج العميقة والسهول الرحبة، فكانت السيول والجداول تجف عند مرورهم، وتيبس الأعشاب، وتجمد الشجر بعد أن تعرى من أوراقها! لقد كانوا مندفعين في جولان لا نهاية له ولا قرار ...
بعد فترة انقضت صاعقة هائلة عقبها بروق أنارت الجبل بلمعانها الغريب، عند هذا توقف التطواف الجهنمي، فأبصر فريد بحيرة سوداء ذات مياه وبائية قامت على جوانبها عمد من الصخور الضخمة، وفي طرف هذه البحيرة حجارة ترتفع فوق قبر أسود، وقف على أحدها شبح متوج.
كانت طائفة من البشر أو من الحيوانات - لا أدري - جاثية على جوانب تلك الحجرة، وقد فغرت أشداقا مخيفة تطاير منها شعلات خضراء أنارت مطارح الجبل.
وكانت سحائب من الأشباح المجنحة تتطاير في مذاهب الفضاء، فوق كوم من السمندر والضفادع المدملة والحراذين المنتفخة ، تدب على الأرض بكل ما فيها من السموم.
أما الشبح التائه، الذي كان يرتعش ارتعاش الأوراق، فصعد إلى حجر عال كأنه كرسي قضاء، وانتصبت تحته الأشباح ذات التيجان الحديدية، وأما الدودة، فقد بقيت تعد قطع الدراهم بدون أن تعي، فيتصاعد منها رنين رهيب.
في تلك الساعة المخيفة صرخت الأشباح والديدان والخلائق ذات الحناجر المفغورة والأفاعي السامة قائلة: يوداص! يوداص! يوداص! ...
عند هذا رمت الدودة الرهيبة، التي أطلق عليها اسم يوداص تلك القطع الفضية من يديها الجشعتين؛ ثم انحنت لتلتقط غنيمتها، وإذا بالأصوات الجهنمية تنطلق صارخة: يوداص! يوداص! يوداص!
Halaman tidak diketahui
عند هذا تشقق الأفق في المشرق، وانتصب الصليب بين هالة من النور، فنزع الخائن حبلا من وسطه وأحاط به عنقه، ثم رمى بنفسه من قمة الصخر إلى الأسفل ... فانشق بطنه وتدفقت أحشاؤه على الأرض.
في تلك الدقيقة فرح الأشباح فرحا عظيما، وانطلق الضحك من أفواههم، وظهر على الصليب رجل مدمى!
فأبصر فريد الشبح الكبير الذي كان جالسا على كرسيه ينتصب على قدميه صارخا: أنا بريء من دم هذا الصديق! ...
وتراءى له طيف في يده قصعة ماء، يسكب منها على يدي بيلاطوس اليائس، فيستحيل ذلك الماء دما على يديه ...
وسمع طائفة الأشباح تهتف بأصوات مرتفعة قائلة: أيها الجبان! أيها الجبان! فيردد الصدى في الأبعاد قائلا: جبان! جبان! ...
ثم رأى الأشباح الرهيبة ذات الشكل الوحشي تعكف فوق قبر بيلاطوس، وتنزع منه بعض عظام نخرة!
أما هذه العظام، فكانت تستحيل تحت لهاث الأشباح إلى أفاع، تحمل على جباهها هذه الكلمة: جبانة!
وتحت لهاث الأشباح الفاسد كانت عظام يوداص تستحيل إلى أفاع تحمل على جباهها هذه الكلمة: خيانة!
وتراءى له أن الأفاعي يشهر بعضها حربا على بعض، حتى إذا استعادت العظام شكلها الأول مزق قيافا رداءه، وصرخ قائلا: لقد جدفت!
وكانت الديدان تفترس صدره، فسقط على الخضيض دفعة واحدة، في حين كان هيرودس يصرخ بملء شدقيه: أنا المجنون! ... أنا المجنون! ...
Halaman tidak diketahui
وكان بيلاطوس وهيرودس وقيافا والفريسيون والكتبة ويوداص «المشنوق» يتخاصمون، ويشتم بعضهم البعض، ويوبخ كل منهم الآخر على إماتة الصديق، مستسلمين لنيران الجحيم.
لم يكن يسمع من تلك الغوغاء المخيفة إلا أصوات الشتائم واللعنات.
بعد فترة قصيرة توارى الصليب، وسمع صوت عظيم من الحجرة الملعونة صارخا: أيتها الأرواح الساقطة، لقد لعننا الله إلى الأبد! ... فقفوا عن النزاع ولنحارب تلاميذ المصلوب ... إلي يا يوداص! إلي يا بيلاطوس! إلي يا هيرودس وقيافا! ... إلي أيها الكتبة والفريسيون ... إلي أيتها الأرواح المتسربة في أعماق الظلمات، ولنثر ضد العدالة والحرية والحقوق! ولننتقم من البشر أجمعين! ... فهذا الجبل الملطخ بهيكلك يا بيلاطوس هو ملكنا! فاقتل ودمر ولا تدع مسيحيا واحدا يفلت من يديك القاهرتين! ... افرح يا بيلاطوس فدونك ضحية!
عند هذا أبصر فريد الشبح المتوج، يشير إليه بإصبعه النارية، ورأى بيلاطوس ينحدر إليه وفي مقلتيه أشعة ملتهبة ... فاضطرب اضطرابا عظيما وصرخ قائلا: إلي يا سيدة عابري السبيل!
ولم يكد يتلفظ بهذه العبارة حتى أغمي على الأشباح. •••
عندما استفاق فريد على ضفة البحيرة الزرقاء، شعر بيد تمسح العرق البارد عن جبينه، فجلس فجأة مضعضع الأفكار، وصرخ صوتا خنقته الرهبة وقال: من هنا؟ من هنا؟
فسمع فريد صوتا يقول له: ألم تنادني يا بني؟ ...
وأبصر سيدة مرتدية وشاحا أبيض، ذات عينين تذوبان جمالا سماويا تنظر إليه بعذوبة وحنو، وكانت نظرات السيدة، تلك النظرات الوالدية، تسير في عروقه دما جديدا، وتمحق من رأسه التائه تلك الرؤى الرهيبة! فانطرح فريد على ركبتيه وصرخ قائلا: أيتها الأم! أيتها الأم، أأنت؟ هل أشفقت على ضعفي، ولم تغضبي من تهوري وجسارتي؟ ...
فابتسمت مريم في وجهه وقالت له: أنا عارفة يا بني أن التطفل ليس هو الذي دفعك إلى اقتحام هذه الأخطار.
فلقد رغبت في معرفة الخطر، حتى تميل إخوتك عنه ... فارتعش قلبي الوالدي يا فريد وأسرعت إلى إنقاذك، وإنقاذ إخوتك ...
Halaman tidak diketahui
فريد، أطلب أن يبنى لي معبد في مدخل معبر الشيطان.
فحار الولد في أمره وأجابها: من أنا؟ ومن يصدقني؟ ... ومن يجرؤ أن يصدقني؟ ... - إن قوة الله تسير إلى جنبك يا فريد ... فوالدك يضرع في السماء! ثم توارت الرؤيا البيضاء. •••
تبسم الرئيس في وجه فريد وقال له: إذن يلزمك معبد يا بني؟ - ولكن يا سيدي الرئيس، ليس أنا الذي يطلب ذلك، فسيدتنا العذراء ترغب في أن يخصص لها معبد في الجبل. - آه! أراك تمتزج بالأرواح السعيدة وتتحدث إليها! ألا تعلم أنه الشرف العظيم للرعية أن يكون بين أفرادها رجل مثلك؟ ...
فأجابه فريد بحزن عميق: لا بأس إذا سخرت مني يا سيدي الرئيس، ولكن ثق بأنني لم أحلم ولم أكذب، فسيدتنا العذراء تريد معبدا لها، وسيتم لها ذلك طوعا أو كرها! - لا تدع الحدة تستولي عليك يا بني، فإذا كانت السيدة ترغب أن يبنى لها معبد فلا بد أن تنال ما ترغب، إذن فلا تغضب وعد إلى قطيعك. •••
شاع في القرية أن العذراء أصدرت أمرها ببناء معبد في مدخل معبر الشيطان ...
أية غرابة في ذلك؟ فالعذراء يحق لها دائما، وفي كل مكان أن تسحق رأس الثعبان الجهنمي! هذا ما ثبتته الكنيسة، وتلفظ به الرئيس مرات عديدة وهو يعظ في الكنيسة أمام المؤمنين.
أليست العذراء القادرة الأم الرحيمة؟ ...
ألم تظهر للقديس منراد بمجد عظيم؟
فلماذا لا تظهر لفريد، وهو ولد تقي مات والده منسحقا تحت صخرة هائلة في معبر الشيطان؟ ...
وهكذا بقيت الإشاعة تتردد من فم إلى فم ...
Halaman tidak diketahui
أما السيد راغب، وهو رجل بدين لين العريكة بالرغم من تصنع في كلامه وأبهة هيئته، فقد قال يوما لكثير من مأموريه إن هذه المسألة تزعجه وتؤلمه، وإنه لا يرى حلا لهذا المشكل الغريب، وزاد على ذلك بقوله إن فريدا مع ما هو عليه من التقاوة وحسن السلوك، لم يخرج عن أن يكون ولدا غير مدرك.
وهنا أخذ السيد راغب يضيع في تآويل شتى عن الأولاد وتهورهم وقصر نظرهم، ثم قال: إذا قدر فريد أن يمهد لي سبيلا أستطيع به أن أؤمن حياة البنائين المعهود إليهم ببناء المعبد، فلا أتردد بأن أقف ما يرغب فيه للسيدة العذراء.
أما فريد فكان يعول على وعد العذراء التي قالت له: إن قوة الله تسير إلى جنبك.
فجعل يتحدث إلى راغب مدة طويلة، حتى عزم هذا أن يبني المعبد، بشرط أن يذهب فريد إلى معبر الشيطان ويعود سالما.
أخذ راغب البدين يحث الجماهير على الرحيل، فلم يمر وقت قصير حتى كان سكان القرية جميعهم - ما عدا الرئيس - في طريقهم إلى الوادي الملعون.
عندما بلغ الجمهور منتصف الجبل، وأطلوا على معبر الشيطان، ترددوا عن المسير خطوة واحدة، فبقي فريد يتقدم وحده إلى أن وصل إلى صخر متداع، فأمر عليه عصيته ثلاث مرات، فدهش الجميع وحاروا؛ إذ إنهم أبصروا خيوطا واهية دقيقة تتصاعد من الأدغال، وتترامى من قمم الأدواح المرتفعة، وهي تلمع لمعان الفضة، وما لبثت هذه الخيوط الواهية الدقيقة أن شبكت الصخر المتداعي وأوثقته على كنف الجبل.
وكان فريد يذهب ويجيء، فيلامس بعصيته الصخور والحجارة والأطواد، فترتجف هذه كلها، وتمحق تحت شباك فضية، ثم تبين موثقة على كنف الجبل!
بعد أشهر قليلة كان معبد أبيض الجدران قائما في مدخل الوادي، وكان على هذا المعبد تمثال العذراء المجيدة، يبارك بذراع مستطيلة جبل بيلاطوس والمضايق العميقة والبحيرة الزرقاء.
ومنذ عام 1585 كلما مر عابر مسيحي من ذلك الجبل، لا يجد بدا من السجود على أقدام سيدة عابري السبيل.
العكاز الذهبي
Halaman tidak diketahui
كان في الزمان القديم كاهن يدعى سليما، يقيم في مدينة صور، وكان يدرك خفايا العلوم، ويعرف أمورا لا يعرفها غيره، فلم تكن السماء ولا الأرض ولا المياه لتستطيع أن تخفي عنه أسرارها مهما كانت غامضة ومبهمة.
صرف الأب سليم قسما كبيرا من شبابه في مطالعة الكتب الغريبة، حتى إن الأب يوحنا لم يكن يستطيع النظر إليه بدون أن يرسم على وجهه إشارة الصليب بخوف ورهبة.
أما علماء الطبيعيات والجهابذة المشاهير والكيماويون النوابغ، فقد كانوا يضطربون ويتهيبون لدى حضور الأب سليم، مع أن أنانيتهم كانت تتألم بشدة من تفوقه عليهم، إذ إنهم كانوا يلتجئون إليه في شكوكهم وارتيابهم، ويستنيرون بحكمته وعلومه.
كانوا ينظرون بعجب وخوف إلى هذا الكاهن الشاب، الذي كثيرا ما أرهب العلماء بمعارفه، وأذهلهم بفصاحته وسلامة بيانه.
ومع ذلك كانوا يتوقون إلى التحدث إليه، ويخضعون أمامه أفكارهم وآراءهم، نازلين بكل رغبة واحترام عند أقل إرشاد يصدر من شفتيه الصفراوين.
بقي الأب سليم يشتغل ويشتغل كثيرا، تحت مقلة الله بدون أن تقرع الكبرياء أو الصلف باب قلبه الوديع، إذ إنه كان ورعا مستقيما.
كان الأب سليم مفخرة الدير، وكان رفاقه الكهنة لا يقسمون إلا به. •••
عندما كان الأب سليم ولدا، كان يسترئي الآفاق والبحار، وكواكب السماء، وأشجار الأحراج ... في حين كان والده يعيش من نتاج شبكته.
ففي أحد الأيام ذهب هذا الوالد في مركبه الصغير ولم يرجع؛ لأن المياه كانت قد ابتلعته ودفنته في أحشائها.
عند هذا تراءى شبح الجوع الرهيب، ووطد مكانا له على عتبة منزل الأرملة المسكينة!
Halaman tidak diketahui
فحارت في أمرها وضاقت الحياة في وجهها، إذ إنها كانت أما لأولاد تسعة.
ذات يوم جميل مر رئيس أحد الأديرة الغنية أمام باب الكوخ الحقير، فأبصر سليما، فأعجبه نظره الوقاد الممتلئ ذكاء، ونجابة، فحدثه، فأجابه الوالد أجوبة أخذت بمجامع قلبه، فوعد أمه بمد يد المساعدة إليها، وأخذ الولد إلى ديره، حيث ألبسوه ثياب مبتدئ بيضاء ورسموا حول جبينه الإكليل الرمزي.
لبث الولد يهز المبخرة الذهبية أمام المذبح، حتى كبر وصار معلما يرجع إليه في حل المشاكل الصعبة، التي كان الكهنة الشيوخ يقفون عندها وقفة العجز.
في ذلك العهد كان يرئس الدير الأب بولس، وهو شيخ مسن بلغ أقصى درجات الفضيلة.
ففي ذات صباح من أيام نيسان، سمعت الأجراس تدق نعيا محزنا! فألبسوا الأب بولس غفارة فضية، وعصبوا جبينه المغضن بتاج من الصوف الأبيض، ثم أرقدوه في ضريح من الرخام، بعد أن خدم الدير خدمة يعجز عن مثلها إلا كل من تشربت روحه الفضائل السامية والإيمان الحي.
بعد ذلك اجتمع الرهبان والمبتدئون؛ ليقيموا خلفا لرئيسهم المتوفى، واتجهوا إلى الكنيسة؛ ليقسموا قسم الطاعة والأمانة للمنتخب الجديد.
كانت شباك الخورس مشرعة الدرفتين، وكان قسيس شاحب اللون ذو نظرات وقادة جالسا على العرش الرئيسي، مرتديا ثوبا تدلت عليه شرائط ثمينة.
يا لأسرار القلب البشري من أسرار غريبة!
كان سليم قد قوي على تجارب الكبرياء، ونذر لله مواهب ذكائه ومعارفه، تلك المواهب التي حالت بينه وبين سائر البشر؛ فعندما رأى نفسه جالسا على ذلك العرش، عندما اتكأ على العكاز العاجي بيد مضطربة، وأتيح له أن يبارك الشعب والكهنة الساجدين على أقدامه، شعر بعاطفة مجد باطل تحرك قلبه الضعيف السكران ...
عندما وصلت بي المرأة المسنة التي كانت تقص على مسمعي هذه الحكاية إلى هنا، قالت لي: لقد عاقب الله الأب سليما عقابا هائلا!
Halaman tidak diketahui
كان الأب سليم يحب مريم العذراء محبة عظيمة؛ ولذلك أنقذته من عذاب جهنم الأليم.
إلا أنه لم ينج من نيران المطهر، حيث قضي عليه أن يكفر عن خطيئة الكبرياء، حتى يحين يوم الدينونة الأخيرة ...
لا تخف يا سيدي إذا أبصرت الأب سليما منتصبا بين الخرائب في منتصف الليل، فكثيرون هم الذين رأوا خياله التائه في مثل تلك الساعة المتأخرة.
ثم رسمت شارة الصليب واستطردت قائلة: لنبتعد الآن، فالليل على وشك الهبوط، ولا يجمل بنا أن نبقى في هذا المكان عرضة للخوف والرهبة.
ولم تكد المرأة المسنة التي قادتني إلى خرائب الدير، تتلفظ بهذه الكلمات، حتى أسرعت بالعود إلى المدينة.
بقيت وحدي مدة قصيرة أتأمل الكنيسة المدمرة، والدير المهدوم، ثم عدت على أعقابي صامتا مفكرا موقظا في مخيلتي ذكريات الماضي، وقد تراءت لي أخيلة الرهبان الذين أنقذوا من الهمجية شعبا جاهلا، وغرسوا في الصدور محبة الله العظيم!
كانت الشمس قد انحدرت إلى مغيبها، فانعكست على قبة الدير أشعة صفراء باهتة.
وكنت أجتاز الأروقة ناظرا إلى الأعمدة المنهارة على أقدامها حجارة ضخمة، كأنها أشباح بيضاء لا حراك لها! حتى انتهيت إلى مكان كثر فيه العوسج، فأبصرت كاهنا ملتفا برداء طويل نحت في رخام أحد القبور! كان رأسه مستندا إلى مخدة هابطة، ويداه قابضتين على عكاز! ...
في تلك الساعة كان القمر يشق الظلمات بصعوبة وعجز، وأشعته الباهتة ترسل إلى الأطواد المحطمة أخيلة رهيبة! فشعرت بخشوع ينتابني أمام هذا المشهد.
ولم ألبث أن اقشعر بدني واعتراني خوف شديد.
Halaman tidak diketahui
دقت الساعة معلنة منتصف الليل، فجمد الدم البارد في عروقي، وسمرتني الرهبة في مكاني؛ وسمعت طقطقة عظام صاعدة من أعماق القبر ...
ثم تراءى لي شبح كاهن أبيض منتصبا أمامي! ... عقبه أشباح كهنة رهيبة، خرجت من قبور لا يحصى عددها! ورأيت اثنين منهم ينحنيان بخشوع أمام الشبح الأبيض، ثم يجرانه إلى المعبد المنهار!
عند هذا سمعت أنغاما ذات تموجات عذبة، تملأ الهيكل المقدس، وأبصرت بخورا يتصاعد من مباخر عديدة، وبدرت مني التفاتة إلى العرش الرئيسي، فرأيت عليه الشبح الأبيض يلبسه الأشباح الصامتون جبة ذهبية، تخللتها جواهر كريمة كاد يرزح تحت ثقلها العظيم!
أما رأسه فكان معصبا بتاج من ذهب، وقدماه ملتويتين تحت ثقل العكاز الذهبي.
وأما الأنغام، فكانت تتصاعد مخيفة من وراء القبر.
بعد فترة قصيرة تقدم الكهنة اثنين اثنين، حتى بلغوا إلى أعمدة العرش، وعوضا عن أن يحيوا الرئيس استمروا منتصبين على أقدامهم لا يبدون حركة، في حين كان هذا ينعكف تحت الثقل ويخضع أمامهم.
ولما انتهت هذه «الرتبة» انحدرت أشباح الكهنة إلى المعبد، فاجتازته إلى أروقة الدير المتلف، حيث لمستني عند مرورها، فشعرت عندئذ بخوف عظيم في قلبي.
كان الرئيس المسكين يتثاقل وراء الأشباح، غير قادر على رفع عكازه الذهبي الثقيل، وكان محجراه المجوفان المنطفئة فيهما المقلتان طافحتين بالدموع.
تسلق الشبح الأبيض أدراج العرش، وحاول أن يرفع يده ليبارك، إلا أنها لم تستطع أن تتملص من العكاز.
عند هذا صعدت من صدره الملتهب تنهدات مختنقة وشكايات باحة، فانتفض انتفاضة أليمة، وصرخ بصوت ضعيف قائلا: يا مريم! يا أمي الحنونة!
Halaman tidak diketahui
فاستطار العكاز الذهبي من يده وتحطم إلى أجزاء عديدة ... وأبصرت مطوقة بيضاء فرت من بين شفتيه، وصعدت في مذاهب السماء ...
في تلك الدقيقة غسل النور مطارح الأشياء، وأغمي على الأشباح ... فاستفقت من غيبوبتي، فوجدتني على ضريح الأب سليم، خائر القوى مضطرب الأعصاب. وكانت الشمس تتلألأ في الأفق!
وردة الجنة
كان الظلام يمتد رويدا رويدا.
وكان هيكل الدير الجاثم كوكر النسر على قمة صخر منيع، يترامى عليه آخر شعاع من أشعة المغيب، فيتألق بمجد لا مجد بعده، في حين كانت الأبراج والشرفات والنوافذ تتصاعد كسنابل من نار، وتشعل في الشفق أنوارا حية.
أما الأحراج العظيمة الممتدة على أقدام جبل كسن، فقد كانت تبرز في وسط بخار من الأنوار البنفسجية الشاحبة، مؤلفة زنارا رحب الجوانب تحيط بذلك الجبل الحصين.
هناك، في منعطف طريق ضيق، كان رجل طويل القامة مرتد جبة سوداء، يفكر بسكون وهدوء، وقد مضى عليه ساعات عديدة وهو مطرق إلى الحضيض، ومستسلم لتأملات رهيبة.
بعد هنيهة اضطرب اضطرابا شديدا!
كان الجرس يدق في الأبعاد مرسلا إلى أصدية الأحراج نداء طويلا يائسا!
نزع القسيس عن رأسه قبعته التي كانت تستر عينيه، واتجه بمهل إلى الدير.
Halaman tidak diketahui