قبل أن تقرأ
تقديم أول
تقديم ثان
بين ذراعي تامارا
استيقاظ مود
أنا الغريبة الجميلة
لا يمكن أن يكون ميتا، فقد تحدث إلي!
أهلا بك!
الحب بالشخص الثالث والثمانين
يوميات زوجة غير مخلصة
الكراسة الذهبية
جامعة الكنوز
سولا «رقيقة من الذهب تحتها مرمر»
القلب النازف
قبل أن تقرأ
تقديم أول
تقديم ثان
بين ذراعي تامارا
استيقاظ مود
أنا الغريبة الجميلة
لا يمكن أن يكون ميتا، فقد تحدث إلي!
أهلا بك!
الحب بالشخص الثالث والثمانين
يوميات زوجة غير مخلصة
الكراسة الذهبية
جامعة الكنوز
سولا «رقيقة من الذهب تحتها مرمر»
القلب النازف
التجربة الأنثوية
التجربة الأنثوية
مختارات من الأدب النسائي العالمي
تأليف
دوريس ليسينج وآخرين
جمع وترجمة
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
تقديم أول
في سنة 1966م، وقع في يدي كتاب أمريكي صدر في نفس العام بعنوان: «النساء الجديدات الجريئات»
The new bold women" Fawcett, 1966
تتنوع مواده بين القصة والرواية والمقالة والمسرحية، ويجمع بينها أمران: أن المؤلف دائما امرأة، وأن الموضوع واحد هو الجنس.
كانت هناك أسماء معروفة بين الكاتبات، تنفي عن الكتاب صفة الابتذال، فعلى رأسهن الإنجليزية دوريس ليسنج
Doris Lessing
التي حققت مكانة رفيعة قبل ذلك بأربع سنوات بروايتها الشهيرة «الكراسة الذهبية»
The Golden Notebook ، والإيرلندية أدنا أوبريان
Edna O’berien
التي تتمتع بشهرة مماثلة.
وفي تبرير هذه المجموعة من الكتابات، كتبت محررة الكتاب تقول، إن سنوات الستينيات شهدت تغيرا عظيما في الطريقة التي تكتب بها المرأة، وفي موضوع كتابتها؛ فقد أصبحت أصلب عودا، وأقل سنتمنتالية، ولم تعد تعبأ برقة التعبير، والأهم من هذا كله، أن كتابتها صارت في أغلب الأحيان كتابة شخصية.
وترى المحررة أن السمة الأخيرة تشكل مظهرا جديدا للنفس المعاصرة التي تستبدل الرؤية الشخصية بالمعرفة الشاملة، وتعكس التغيرات في الأعراف والمحرمات. فبفضل تحول الموضة من الكاتب «الإله»، إلى الكاتب «أنا»، وما تحقق من اختراق لقيود النشر في إنجلترا والولايات المتحدة، «بدأت الكاتبة تستكشف وضعها والعالم بأمانة أكثر، وطبيعية أكثر، وجدية أكثر.» •••
لماذا الجنس؟
ترى محررة الكتاب أن الكتابة الذاتية لا الموضوعية، والكتابة عن الجنس، أمران طبيعيان بالنسبة للمرأة، و«لعل الكتابة بحرية عن الجنس أكثر أهمية للنساء منه للرجال.» فالمرأة تقع في نقطة توتر بين طبيعة بيولوجية لم تتغير على الإطلاق، ورؤية حديثة بعض الشيء عن حرية جديدة، مما يجعلها مشغولة بالمحيط الذي تعمل فيه بيولوجيتها: «الجنس هو مركز هذا المحيط، ولهذا فإن أسبابه ونتائجه، وتأثيراته الاجتماعية والوجدانية، تشكل مادة وجودها. إن التجربة الجنسية لأغلب النساء ليست مجرد تجربة جنسية، وإنما هي محاولة للإمساك بالكون. وسواء كانت حسنة أم سيئة، فإنها تسفر دوما عن كشف.» •••
وبالطبع، فإن الجو الذي ساد العالم في الستينيات، هو الذي دفع المرأة الكاتبة، وأتاح لها، أن تتمعن عالمها الجنسي بحرية.
ولا شك أنه كان عقدا فريدا، شهد فيه العالم أحداثا هائلة: اكتشافات علمية، غزوا للفضاء، ثورات تحريرية (من الجزائر إلى فيتنام)، وتمردات على الأنظمة في الغرب والشرق على السواء (من الثورة الثقافية الصينية وربيع براغ إلى ثورة الطلاب في ألمانيا وفرنسا). كان هناك ضيق عارم بالأوضاع المستقرة، وبالمنظومة الأخلاقية السائدة. وانفجرت الحركة النسوية. واستكشف المنتجون (في الفن والصناعة) إمكانيات التعبير الفردي الجريء (من الملابس إلى السينما). وكما كان الشأن في الانقلابات الكبرى (الثورة الفرنسية 1970م والروسية 1917م) ارتبط الموقف من العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية بالموقف من وضع المرأة وقضايا الجنس. وسواء بالحق أو الباطل، ارتبطت المظاهرات الطلابية التي جابت شوارع أوروبا والولايات المتحدة ضد العدوان الأمريكي على فيتنام، والمؤسسة البرجوازية ذاتها، بتدخين المارجوانا، والموسيقى الجديدة، بمثل ما ارتبطت بالحرية الجنسية.
فإلى جانب اليوتوبيا الاجتماعية السياسية، والتي يحصل فيها الفرد على كل ما يحتاج إليه، ويشارك في صنع القرار العام، وهي التي ألهبت خيال المتظاهرين، كانت هناك يوتوبيا أخرى تحركهم، يوتوبيا جنسية، مؤداها سيادة كل فرد على جسده، وحقه في الاستمتاع به بالشكل الذي يجلب له السعادة، على أي وجه، ودون أي قيد. (مما يلفت النظر، أن عام 1967م وحده، شهد في إنجلترا صدور قانون يبيح الإجهاض، وآخر يرفع التجريم عن العلاقة الجنسية بين رجلين بالغين طالما تتم باتفاقهما الحر، كما شهد العام التالي إلغاء الرقابة على المسرح الإنجليزي، وفي نفس الوقت ألغت الولايات المتحدة القوانين التي كانت تحرم البورنوجرافيا، وتعاقب على نشر الكتب والمجلات والأفلام التي تتناول الجنس بصورة مباشرة وصريحة). •••
لكن «الثورة» لم تستمر طويلا. وسواء أثبتت الأنظمة قدرتها على الثبات في وجه رياح التغيير - ولو إلى حين - أو أن «الحركة» استنفدت قواها، أو ببساطة أن الموضة تغيرت، فإن الطلاب عادوا إلى مقاعد الدراسة، بعد أن حصلوا على بعض المكاسب، وغادروها بعد قليل ليلتحقوا بالمؤسسة، ويتفانوا في خدمتها. وعادوا يعلون من شأن قيد الزواج (والخيانة الزوجية بالتالي!) الذي تمردوا عليه، وخرجت المرأة بالذات، مثخنة بالجراح، ولم يمض عقد إلا وقد انفجر طاعون «الإيدز»! •••
كان صدور كتاب مثل «نساء جديدات جريئات» أمرا طبيعيا إذن في أواسط العقد الفريد، بمثل ما كان اهتمامي به آنذاك.
والحق أنه يمثل «وثيقة» هامة تتعلق بعالم ما زال يحتاج كثيرا من الكشف.
فقد حرصت محررة الكتاب، عند اختيار النصوص الإبداعية، على تحقيق التنوع الذي يسمح بتغطية الحياة الداخلية للمرأة في مراحلها المتعددة وصورها المختلفة، فتتبعتها مراهقة، عاشقة، زوجة، مغامرة، باحثة عن اللذة، أما، ضحية للبرود الجنسي، ومحبطة.
وعندما سافرت إلى الخارج في صيف عام 1968م، كان هذا الكتاب من بين الكتب التي حملتها معي وحرصت على عدم مفارقتها سنوات طويلة. فقد كنت أداعب فكرة ترجمة بعض نصوصه إلى اللغة العربية. وألفيت نفسي بعد قليل مدفوعا إلى ذلك بضغط الحاجة، خلال وجودي ببيروت (رغم الإقامة الآمنة التي وفرها لي زميلي في وكالة أنباء الشرق الأوسط وقتها المرحوم فتحي القشاوي). وعرضت الفكرة على الشاعر أنسي الحاج الذي كان يرأس تحرير مجلة «الحسناء»، ويكتب لها افتتاحيات بأسلوب رشيق يتعمد إلهاب خيال المراهقات، فرحب بالأمر. وقع اختياري على النصوص التالية: «استيقاظ مود»
Maud Awake
من رواية بنفس العنوان للأمريكية مارج بيرسي
Marge piercy
وتتناول سذاجة وكوميدية التجربة الجنسية الأولى. «أنا الغريبة الجميلة»
I am the beautiful stranger ، من رواية بنفس العنوان، تستكشف عالم الرجال بعيون فتاة مراهقة، للأمريكية روزالين دريكسلر (1965م)
Rosalyn Drexler
وهي كاتبة مسرحية وشاعرة ورسامة ومصارعة أيضا! «الحب بالشخص الثالث والثمانين»
Love in the 83
rd
person
للأمريكية جويس إلبرت
Joyce Elbert ، وتصور خواء التجريب الجنسي الذي يأخذ شكل الألعاب الرياضية. «لا يمكن أن يكون ميتا، فقد تحدث إلي!»
He can’t be dead, he spoke to me!
للأمريكية المعروفة رونا جافي
Rona Jaffe ، ترسم فيه صورة ساخرة للعربدة الجنسية التي تبتذل الجانب الإنساني. «أهلا بك!»
Hello Baby
لهارييت سومرز
Harriet Sommers ، التي كانت تشارك في تحرير مجلة
الطليعية، وتتعرض في هذا النص لتجربة الإجهاض في مجتمع يحرمه. «يوميات زوجة غير مخلصة!»
Diary of un Faithful
للإيرلندية إدنا أوبريان
Edna o’Berien
التي شهرها فيلم «الفتاة ذات العيون الخضراء»، المأخوذ عن روايتها «الفتيات الوحيدات»
The lonely Girls . «الكراسة الذهبية»
The Golden Notebook ، وهو مقطع من الرواية الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، والتي وصفت بأنها «واحدة من أهم روايات القرن العشرين» لواحدة من أبرز كتابه هي
Doris Lessing ، التي ولدت في جنوب إفريقيا سنة 1919م وهاجرت إلى إنجلترا في سن الثلاثين. وتتفحص ليسنج في هذه الرواية بكل صراحة، معاناة المرأة العصرية المثقفة، والتناقض الذي تعيشه بين تكوينها العاطفي والنفسي القديم، وبين حياتها الاجتماعية العصرية. فالبطلة كاتبة، تعجز عن مواصلة الكتابة، وتكتشف أنها تواجه إشكالية واحدة في أمور الزواج والحب والأطفال والدين والسياسة والمال تنبع من تمسكها باستقلاليتها من ناحية، وحاجتها لأن تكون مرغوبة من ناحية أخرى. •••
كانت هذه هي النصوص التي اخترتها، وبدأت ترجمتها على الفور، كما بدأ أنسي الحاج في النشر بحماس، وقد أتاحت له ممارسة هوايته اللغوية، فقدم أحدها مثلا على أنه يصور «عالم المراهقات الموحش واللذيذ والوحشي!» لكنه لم يلبث أن قال لي مستنكرا: «أنت تكتب لنا دعارة!» وتوقف النشر. لكني لم أتخل عن مواصلة الترجمة. بل وأقبلت أجمع في اهتمام، طوال الأعوام التالية، النصوص المماثلة، وكأني في رحلتي الشخصية من أجل دراسة وفهم المرأة والسلوك الجنسي عامة، كنت أستكمل، بلا وعي، كتابا أقدمه لقراء العربية ذات يوم.
هكذا التقيت بأناييس نين
Anais NiN .
بدت لي هذه الشخصية الفريدة في مبدأ الأمر غير حقيقية، مختلقة، وشككت طويلا في أن اسمها مستعار، يتخفى وراءه أحد الكتاب المعروفين، إلى أن قرأت يومياتها.
ولدت أناييس عام 1903م (وماتت عام 1977م) من أب إسباني، عازف بيانو ومؤلف موسيقي، وأم دانمركية، وقضت طفولتها في أجزاء مختلفة من أوروبا، ثم تركت باريس في الحادية عشرة من عمرها إلى الولايات المتحدة. وعادت بعد ذلك إلى باريس حيث درست علم النفس على يد العالم المعروف أوتورانك، وتعرفت على الكتاب والفنانين الذين كانت تموج بهم العاصمة الفرنسية في العشرينيات (وهي فترة شبيهة بالستينيات، تكررت من قبل في القرن التاسع عشر، مما يوحي بوجود دورة ما لموجات التمرد والثورة تعقبها فترة من المحافظة يتراوح أمدها بين ثلاثة عقود وأربعة)، من مبتدع المسرح الأسود، أرتود، إلى رائد الأدب الجنسي هنري ميلر.
وفي الحادية عشرة من عمرها، بدأت يومياتها الفذة، على هيئة رسائل إلى أبيها الذي كان قد هجر الأسرة. وظلت تكتب هذه اليومات طول حياتها، بالفرنسية حتى عام 1920م وبعد ذلك بالإنجليزية ، إلى أن بلغ عدد صفحاتها 35000 صفحة! وأتاح لها العمل اليومي في هذه اليوميات، دون قراء أو رقابة ما، القدرة على تسجيل مشاعرها وعواطفها بدقة، وهي القدرة التي بلغت أوجها في فترة علاقتها بهنري ميلر التي بدأت عام 1931م.
وهنري ميلر، أيا كان الرأي في قيمة كتاباته اليوم، هو بلا شك من أوائل الكتاب المعاصرين الذين تحدوا المنظومة الاجتماعية والأخلاقية السائدة، بإصراره على تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام ما سمي بكلمات الأربعة حروف، التي كانت محرمة قبل سقوط قيود البورنوجرافيا في الستينيات، في كتب مثل «مدار السرطان» و«مدار الجدي»، ظلت تطبع سرا في السلاسل الجنسية حتى هل العقد الفريد.
كان التقاء أناييس نين بهنري ميلر أهم حادث في حياتها على الإطلاق. فقد وقعت في أسر كتابته، وفي عشق زوجته! وما إن سافرت الأخيرة إلى نيويورك، حتى بدأت مع هنري علاقة حررتها جنسيا وأخلاقيا، وقوضت زواجها من المصرفي هيوج جويلر، الذي كانت تعتز به، ثم قادتها إلى أريكة التحليل النفسي المعهودة. وخلال ذلك بلغت كتابتها الأوج، فأتمت دراسة عن د. ه. لورانس، وسودت مئات الصفحات من اليوميات، ضمن أولى تجاربها في الكتابة الإيروتيكية أو الشبقية. ورغم تأثرها بهنري ميلر وقاموسه «البذيء» فإن صوتها كان مختلفا تماما، وتميز أسلوبها عن أسلوبه الفظ العدواني، إذ اتسم ببساطة آسرة، وحساسية إنسانية، وإدراك عميق لأغوار النفس البشرية، ولجذور الاستيهام أو أحلام اليقظة، كما يتجلى في مجموعتين من القصص القصيرة، نشرتا بعد موتها، هما: «دلتا فينوس»
Delta of Venus ، و«فتيات صغيرات»
Little Girls .
داعبتني فكرة ترجمة اليوميات، التي تمثل رحلة رائعة من أجل اكتشاف الذات، خاصة بعد نشر أجزاء كاملة منها، بالأسماء الحقيقية للشخصيات الواردة بها، عام 1986م، بعد وفاتها. لكنني اصطدمت بالصعوبة التي تواجه كل من يحاول اليوم ترجمة الإنتاج الأدبي العالمي الحديث إلى العربية، فلن يتبقى شيء من «اليوميات»، إذا جردت من التحليل الدقيق لمشاعر الكتبة، أو من بعض المعلومات الكاشفة عن شخصيات معروفة مثل هنري ميلر (من قبيل انشغاله بصغر حجم أعضائه التناسلية، وهو ما قد يفسر إصرار الراوية في معظم كتبه وخاصة تلك التي كتبها عن عمد من أجل الإثارة الجنسية مقابل دولار واحد للصفحة، على الإشادة دائما بالعكس!) •••
ولم أواجه هذه الصعوبة إلا في القليل، عندما قررت أن أترجم نصا آخر للكاتبة الفرنسية، فرانسواز ماليه-جوريس
Francoise Mallet-Joris ، تتقصى فيه العلاقة بين فتاة مراهقة وامرأة مجربة ذات نزعات سادية، كتبته المؤلفة عندما كانت في العشرين من عمرها (ولدت سنة 1930م)، وأثار فضيحة كبرى عند نشره في العام التالي (1951م)، تحت عنوان «شارع رامبار دي بيجوين
Rampar des beguines »، وبالرغم من ذلك فقد تابعت الكتابة، لكنها لم تلق ما حققته من نجاح بروايتها الأولى، وإن كانت قد نالت جائزة فيمينا الفرنسية عام 1970م عن رواية بعنوان «منزل الورق».
عثرت على ترجمة إنجليزية لهذا النص في مجموعة هامة من الكتابات المتنوعة التي تتناول قضية الجنس المثلي لدى المرأة، صدرت سنة 1960م عن دار
Fawcett
الأمريكية بعنوان
Carol in a thousand cities
من إعداد وتقديم شخصية فريدة أخرى تدعى آن ألدريش
Ann Aldrich ، يمكن وصفها بأنها راعية لهذا الشكل من الحب الذي طالما أثار مشاعر العداء والكراهية ولم يحظ بشيء من الفهم إلا أخيرا. ويتضح دورها من عنواني الكتابين اللذين نشرتهما قبل المجموعة التي نحن بصددها وهما: «نحن أيضا لا بد أن نحب»، و«نحن نسير بمفردنا».
والمجموعة المذكورة تضم بعض القصص القصيرة، منها قصة «لجي دي موباسان»، والدراسات العلمية، منها واحدة «لفرويد» وأخرى «لسيمون دي بوفوار»، وبضع «حالات» واقعية على لسان بطلاتها، بالإضافة إلى مختارات من مجلة تصدرها مجموعة من نصيرات الحب المثلي باسم ،«السلم»
The ladder .
تقول ألدريش في مقدمة الكتاب، إن المرأة المثلية كانت موضوعا مثيرا للأدب من عصر «سافو» في القرن السادس قبل الميلاد، «ولما كان الأدب هو مرآة الحياة، فإن ما تعكسه هذه المرآة يبلور أفكار وآراء أغلبية كبيرة من الناس. ويمكننا أن نعرف الكثير عن موضوع المثلية النسائية بقراءة التعبير الأدبي القصصي عنه، مثلما يحدث عندما نقرأ الدراسات العلمية عنه.»
وتلاحظ ألدريش أن الكتابات المعاصرة لا تتعامل مع المثلية النسائية كحالة شاذة جديرة بالإدانة أو السخرية، وإنما كموضوع واقعي جدير بالاهتمام والفهم. فقد اختفت الصورة القديمة للمرأة المثلية، (الشريرة أو المجنونة وفي أحسن الحالات المسترجلة ذات الشعر القصير والبنطلون) وحلت محلها صورتها الواقعية كامرأة، لا ككائن غريب بين الجنسين. •••
لم تخل رحلتي بين النصوص النسائية، من البحث عن فضاء مغاير لذلك الذي تسكنه وتملؤه ضجيجا الطبقة الوسطى في الغرب. ووجدت ضالتي في كاتبة من جنوب إفريقيا، تدعى بسي هيد
Bessie Head ، ولدت عام 1937م وتوفيت أخيرا، وتدور جل قصصها في بوتسوانا، حيث استقر منفاها.
ففي قصتها الرائعة «جامعة الكنوز»
The collector of treasures ، تعبر بأسلوب بسيط له نكهة خاصة، تقربه إلى القصص الشعبي، عن نمط من الخواء الجنسي، في مجتمع متخلف يمر بمرحلة انتقال، يدفع بالمرأة إلى أقصى درجات اليأس، فتجتز الأعضاء التناسلية لزوجها.
وفي تعليل هذا التطور المأساوي تقول الكاتبة إن أغلب الرجال في المجتمع الإفريقي الحديث مروا بثلاث فترات زمنية. في العصور القديمة، قبل الغزو الاستعماري، كان الرجل يعيش حسب التقاليد والتابوهات التي حددها أسلاف القبيلة. وقد ارتكب هؤلاء الأسلاف أخطاء فادحة، أكثرها مرارة أنهم أعطوا للرجل مركز المتسيد في القبيلة، بينما اعتبروا المرأة، شكلا ناقصا من أشكال الحياة الإنسانية.
ثم جاء العصر الاستعماري، وصحبته ظاهرة النزوح للعمل في مناجم جنوب إفريقيا، فتحطمت سيطرة الأسلاف، وتحطم الشكل القديم التقليدي للحياة العائلية، إذ اضطر الرجل للافتراق عن زوجته وأطفاله فترات طويلة، يعمل خلالها من أجل الفتات كي يجمع من النقود ما يكفي لسداد ضريبة الرأس الاستعمارية البريطانية.
وبدا الاستقلال مجرد بلوى جديدة فوق البلاوي التي نزلت بحياة الرجل الإفريقي. فقد غير نسق التبعية الاستعمارية تغيرا مفاجئا ودراميا. سنحت فرص أكثر للعمل في ظل برنامج المحليات الذي تبنته الحكومة الجديدة، وارتفعت الرواتب ارتفاعا صاروخيا، فتهيأت الفرصة الأولى لحياة أسرية من نوع جديد، أرقى من نظام العادات الطفولي، ومن مهانة الاستعمار، ووصل الرجل إلى نقطة التحول هذه «حطاما هشا، دون أي طاقات داخلية. وكأنما استبشع صورته، فحاول أن يهرب من فراغه الداخلي، ولهذا أخذ يدور مبتعدا عن نفسه، فسقط في دوامة من التبديد والتدمير، أقرب إلى رقصة الموت.» •••
توفر لدي بذلك عدد من النصوص، يكفي لتشكيل الكتاب الذي اكتملت صورته في ذهني. وقررت أن أستهله بنص فرانسواز ماليه، الذي يحقق نوعا من التسلسل الزمني لمحتويات الكتاب، يواكب التدرج في العالم النفسي الذي تصوره.
إلا إني عندما أمعنت النظر في هذه النصوص، راعني أنها ترسم صورة قاتمة لحياة المرأة الجنسية، تخلو من بهجة النشوة أو التحقق الذي نقابله أحيانا على الأقل في الحياة! وأمدتني كاتبة سوداء أخرى، من أمريكا هذه المرة، هي توني موريسون
Toni Morisson ، التي تمارس التدريس الجامعي، وتعتبر من أهم روائيي الولايات المتحدة اليوم، كما وصفت بأنها: «د. ه. لورنس النفس السوداء»، أمدتني هذه الكاتبة بنص جميل تصف فيه لحظة التحقق الجنسي لدى المرأة، بكلمات أقرب إلى الشعر، ورد في روايتها «سولا»
Sula (1973م)، التي تتتبع حياة مطلقتين زنجيتين، نشأتا في بلدة صغيرة، واختارت إحداهما، «نيل»، أن تبقى في مكان مولدها وتتزوج وتنجب وتصبح من أعمدة المجتمع الأسود المتماسك. أما الأخرى، «سولا»، فتهرب إلى الجامعة، وتنغمس في حياة المدينة، ثم تعود إلى بلدتها، ساخرة متمردة. •••
لم يبق إذن سوى العثور على نص ملائم لخاتمة الكتاب. ووجدته في مقاطع من رواية حديثة، صدرت عام 1982م، للكاتبة الأمريكية مارلين فرنش
Marlyn French
التي ذاع صيتها في السبعينيات عندما نشرت رواية «حجرة النساء»
Women’s room . وتعمل مارلين هي الأخرى بالتدريس الجامعي. إذ تحمل دكتوراه في الأدب من جامعة هارفارد.
وبدت لي الرواية المذكورة، وعنوانها «القلب النازف»
The bleeding heart
وكأنها استئناف للحديث الدائر في رواية «الكراسة الذهبية» قبل عشرين عاما! وكأن شيئا لم يحدث، أو كأنما توقفت رحلة المرأة من أجل الاعتراف بمكانتها لتتأمل ما كسبت وما خسرت، فألفت نفسها ما زالت محكومة بعالم الرجل حتى وهي في قمة المجتمع، أستاذة جامعية وامرأة حرة، في أغنى البلاد وأكثرها تقدما، وتتساءل بمرارة: «لماذا تتكرر القصة القديمة دائما؟ فرغم نوايا الجميع الطيبة، فإن المرأة دائما هي التي تدفع الثمن.» •••
وأعترف بأنني ترددت طويلا قبل الإقدام على نشر هذا الكتاب. فالمواجهة المستمرة، طوال العقود الأخيرة، مع قوى الإمبريالية من ناحية، والتخلف والرجعية من ناحية أخرى، دفعت بعديد من القضايا، إن صوابا أو خطأ إلى مرتبة ثانوية، ومنها قضايا بالغة الأهمية، مثل تلك المتعلقة بوضع المرأة والأقليات الدينية والعرقية والجنس. وكان التقدير أن حل القضية الجوهرية، وهي التنمية المستقلة، سيسفر بطبيعته عن حل بقية القضايا.
حسنا! (بلغة الروايات المترجمة)، مرت السنوات دون أن تحل القضية الجوهرية، بل تعمقت التبعية، ونشر الأجنبي مظلته فوق بلداتنا، جنبا إلى جنب العباءة السوداء لقوى الظلام والردة. وتعمق الجهل بأمور صارت من أمد موضع دراسات نظرية وإحصائية ومعملية، وإبداعات أدبية وفنية. وازداد وضع المرأة تدنيا، وجرت محاولة إعادتها إلى ركن التفريخ، لتصبح مجرد «أداة جنسية»، كما كانت في الماضي السحيق، ومحاولة التعمية على مشاعرها وعواطفها، بل وعلى وجهها وملامحها الخارجية أيضا.
كل ما أرجوه من هذا الكتاب، هو أن يزيد من معرفتنا بالمرأة، وفهمنا لأنفسنا، وأن يساهم في تقريب اليوم الذي لا تدفع فيه نساء بلادنا الثمن!
صنع الله إبراهيم
أكتوبر 1992م
تقديم ثان
بعد الانتهاء من مخطوطة هذا الكتاب، وقبل دفعها إلى المطبعة وقع تطوران:
الأول هو أن الكاتبة الأمريكية «توني موريسون»، التي ترجمت لها نصا من إحدى رواياتها، نالت جائزة نوبل للآداب عن عام 1993م. وبرغم أنه سبق ترجمة إحدى رواياتها إلى العربية، فإن النص الحالي المأخوذ عن روايتها «سولا»، هو في رأيي أول نص للكاتبة ينقل كاملا إلى اللغة العربية، وهي مهمة شاقة للغاية بالنظر إلى ما يتميز به أسلوبها من حرية في التعامل مع المادة الأدبية والحياتية على السواء، من شأنها أن تؤذي النفوس التي أرهف الجهل والتخلف حساسيتها، وأظن أن النص الحالي هو الوحيد الذي سينشر لها كاملا باللغة العربية، في مصر على الأقل، وأنها ستنضم إلى قائمة الكتاب العالميين الممنوعين من دخول البلاد، ومن بينهم زميلها في الجائزة، نجيب محفوظ، الذي ما زالت روايته الهامة «أولاد حارتنا» محظورة على المصريين!
التطور الثاني: هو اضطراري للتدخل في بعض الأماكن من النصوص الحالية وخاصة في نص رقيق للغاية هو «استيقاظ مود » الذي أزلت منه مقاطع كاملة واستبدلتها بالنقاط المشهورة التي ألف «إحسان عبد القدوس» أن يزركش بها كتاباته الأولى! فعلت ذلك بكل حزن وألم لكي أضمن وصول رسالة الكتاب الأساسية إلى القارئ المصري، وهي الرسالة التي أشرت إليها في نهاية المقدمة الأولى وأضيف إليها الآن: تقريب اليوم الذي نستطيع فيه أن نكتب عن أدق أمور حياتنا، وننقل الإبداعات العالمية إلى لغتنا، دون أن يتدخل مقص الغباء والجهل وضيق الأفق!
ص. إ
القاهرة
16 أكتوبر 1993م
بين ذراعي تامارا
شارع رامبار جي بيجوين للكاتبة الفرنسية فرانسواز ماليه - جوريس (1951م)
Ramprant des Beguines Par Francoise Maller - Joris 1951 (تبدأ رواية شارع رامباردي بيجوين، بفتاة صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها، تكتشف وجود عشيقة سيئة السمعة لأبيها فتقرر زيارتها. وتجد نفسها أمام مطلقة روسية في الخامسة والثلاثين من عمرها، تدعوها للمجيء مرة أخرى: «الخميس .. حوالي الثالثة أو الرابعة إذا شئت».)
كل ما أعرفه من تامارا جمعته بالتدريج من شذرات المعلومات التي صادفتني في الرسائل القديمة، وألبوم صور، ومما كان يصدر عنها أحيانا من عبارات. لم تكن تحب الحديث الحميم عن نفسها؛ لأنها كانت تمقت الفشل، وكانت تعتقد أنها لم تنجح في حياتها. كانت مزيجا غريبا من الكبرياء الجريح، والطموحات المحبطة التي ما تزال حية، وكانت تجمع بين اللامبالاة التامة والاهتمام المشبوب بالبشر. كل هذا كان ممتزجا بأمور أخرى، ما زالت تحيرني حتى اليوم، وهو غالبا ما جعل سلوكها يفتقر إلى الترابط. على الأقل هذا ما أفسر به الآن ثقتها الغريبة بالنفس، واهتمامها بلقائي، ونفاد الصبر الذي استقبلتني به عندما دققت جرس بابها، كما طلبت مني، يوم الخميس التالي.
جاءت إلى الباب في غلالة، وقد تشابكت خصلات شعرها فوق جبهتها الناعمة، وبدت ناعسة، غاضبة. وقبل أن تسمح لي بالدخول، حدقت في برهة، كأنها لم تعرفني.
وأخيرا قالت: «أوه هذه أنت! كنت نائمة.»
كنت قد ظننت أنها ستطردني. دلفت إلى الغرفة الزرقاء الكبيرة، وأنا ألقي بنظرة حائرة على الفوضى الضاربة في أرجائها. كان المقعدان الجلديان مقلوبين، والمائدة حافلة بأعقاب السجائر، مثل يوم زيارتي الأولى (فتامارا تطفئ سجائرها في أي مكان، وبأي طريقة، ولا تنظف مسكنها غير مرة واحدة في الأسبوع) والكتب والأسطوانات الموسيقية مبعثرة فوق الأرض. ذلك اليوم، بالرغم من اضطرابي، كان بوسعي أن أرى الحليات الصغيرة التافهة الموزعة فوق الأرفف، والتماثيل الزجاجية، والأقنعة الإفريقية. وفي نهاية الغرفة بدا مطبخ أبيض اللون من خلال باب مفتوح.
توقعت أن تقدم تامارا، على الأقل، تفسيرا ما لهذه الفوضى التي لا تصدق، لكنها لم تفعل. لقد أنشأني أبي - إذا كان بالإمكان حقا القول بأني تلقيت تربية ما - على اعتبار النظام واحدة من الخصائص الجوهرية للإنسان، وعلى الاعتقاد بأن انتفاءه يعني انتفاء الإحساس الجوهري بكرامة الإنسان؛ أبسط إحساس بالكرامة. فهل يجب علي أن أستخلص من وضع الغرفة، أنه كان يقول لي ما لا يعتقد؟
تخيلت أنها تبذل بعض الجهد، قبيل زيارته، لعمل شيء من الترتيب في الغرفة. ولم أكن مخطئة تماما في تصوري. ففيما بعد، أدركت أن أبي، دون أن يكون في الأمر نفاق ما، يمكن أن ينفر من الفوضى في منزلنا، بل ويعاني منها جسديا، بينما يميل إلى وجودها في أماكن أخرى، وفي الحالة الأخيرة يعتبرها خلفية تصويرية؛ نوعا من الإطار الذي يضاعف من شعوره بأنه في جو مختلف تماما أثناء وجوده مع تامارا. نفس ما اجتذبني في مثل هذا المنزل الغريب. كان مسليا، مضحكا، لكن أبي ما كان ليرغب في الحياة فيه، أيا كان الثمن. وعندما فهمت ذلك، أدركت أيضا أنه لم يكن يفتقر إلى الخيال، كما سبق أن قررت بحسم، بغرور الفتاة الصغيرة. لكن الخيال لديه كان مجرد لهو وتسلية، ترويح لطيف، بينما جعلت منه أنا، بالتمرينات المستمرة، ودون أن ألحظ الأمر، وحشا التهم كل شيء، حتى قوة إرادتي.
بينما كانت بعض هذه الخواطر تجول في ذهني، أنعشت تامارا وجهها بماء العطر، ثم مشطت خصلاتها الكثيفة في شيء من الشرود، دون أن تلتفت نحوي، كأنما لم يكن لي وجود.
قالت أخيرا بصوت خالص من أي عاطفة: «المسكن غير ملائم. إنه عبارة عن سلسلة من الغرف، سيئة التنظيم، بطول الجناح الخلفي من المنزل.»
مضت إلى المطبخ، وفكرت أنه من اللائق أن أتبعها. وفوجئت به يفتح على غرفة أخرى تقوم بدور المخدع .
كان فرش السرير مطويا، يوحي بأنها غادرته لتفتح لي الباب. وبجوار السرير كان ثمة مطفأة ممتلئة، موضوعة مباشرة على الأرض، قرب كتاب مفتوح. وكان الباركيه يلمع. ولم يكن ثمة سجاد، الأمر الذي كان مفاجأة محببة لي. ففي منزلي كنت أمقت الطريقة التي يظهر بها الآخرون فجأة دون تحذير؛ لأن الأبسطة الوثيرة كانت تخفي أقل الأصوات شأنا. وكانت نافذة كبيرة، كالتي في الغرفة الأخرى، تطل مثلها على البحيرة. وكانت هذه الغرفة أكثر فراغا، فبالإضافة إلى الفراش، لم يكن بها غير مقعد جلدي بذراعين، وصندوق مطعم ذي أدراج.
ألقت تامارا بغلالتها الفارسية فوق المقعد. كانت ترتدي بيجامة شاحبة الزرقة وخفا جلديا. أعجبت بقامتها النحيلة، وبلباسها الذي بدا بالغ الأناقة وأنا أقارن في رأسي بينه وبين ثياب نومي، وهي عبارة عن أشياء قديمة منتفخة، محلاة بباقات صغيرة من الزهور. كانت جوليا تصنعها لي، واحدة بعد الأخرى، كلما بليت إحداها، وكانت جميعا متماثلة.
قالت: «إنه مشهد جميل من هنا. لكني أحيانا أسمع موسيقى المقاهي طول الليل.» «وهل يمنعك هذا من النوم؟» سألتها في أدب، شاعرة أن هناك شيئا غير طبيعي في الطريقة المتصلبة التي أخاطبها بها، أنا التي أمقت أسلوب «الآنسات الحاصلات على تربية جيدة» اللاتي أرغمت على مخالطتهن. لكنها لم تشجعني على مخاطبتها بطريقة غيرها.
كانت قد جلست فوق الفراش. ولم تلبث أن تخلصت من خفها واستلقت بين الملاءات. شعرت بأني مثار سخرية وأنا واقفة أمامها، مثقلة بسترتي وحافظة كتبي، فقد كنت قادمة لتوي من المدرسة، واندفعت الدماء إلى وجهي من الغضب. كانت هي، عمليا، التي أمرتني بالمجيء، وها أنا واقفة أمامها كأني غير مرغوبة. شعرت أنها تستمتع بحرجي. أدركت ما يجب عمله: أن أنصرف، وأعود إلى منزلي، وأتجاهل احتجاجاتها. لكني لم أكن واثقة أنها ستحتج، وهذا هو، للغرابة، ما كبح جماحي. وأخيرا تكلمت.
قالت بهدوء، كأنما وصلت لتوي : «ضعي حافظتك إلى جوار الحائط واخلعي سترتك. ضعيها فوق المقعد. هذا حسن. والآن تعالي واجلسي هنا بجواري.»
عندما جلست فوق الفراش، تفحصتني بتعبير لم أره على وجهها من قبل، أقرب إلى الرقة.
قالت: «عليك أن تقرري الآن يا حبيبتي ألا تحملي أية ضغينة إزائي.» فوجئت بالنغمة الحميمة التي لجأت إليها، كأنما هي عادة قديمة لديها: «أنا لست دائما مرحة. لأسباب كثيرة. على أية حال، ليس الأمر بذي أهمية، ولا تستطيعين شيئا إزاءه. كل ما عليك هو أن تأخذي الأمور ببساطة كما هي، ولا تزعجي نفسك بشأن أي شيء.»
صعقت من أسلوب حديثها، كما لو كنت قد أعلنت للتو أني سأقضي بقية حياتي معها.
قالت بلطف: «خبريني بما كنت تفكرين فيه بالأمس.»
رغم سلوكها المربك، شعرت أني أستطيع الثقة بها. هكذا حاولت أن أشرح لها كل شيء: كيف أشعر أحيانا بأني شخصان، أو أن جزءا مني يتلاشى تماما في بعض الأحيان، وعن ذلك البيت في قصيدة فيدرا الذي يلح علي دائما، والذي تتمنى فيه أن تهبط مع هيبوليت إلى المتاهة.
قاطعتني بعد لحظات: «يا طفلتي العزيزة! لك خيال خصب. خصب للغاية!»
قلت محتجة: «أنا لست طفلة، كما أنك لست كبيرة جدا أيضا.» - «أنا في الخامسة والثلاثين.» - «أوه!» لم أجد ما أقوله ردا على هذا التصريح الذي أدهشني. لكني بعد أن تفحصتها بإمعان، تبينت الخطوط الخفيفة في أركان عينيها ووجنتيها البضاوين، والحلقات السوداء حول عينيها. وما كان بوسع أي ملاطفة أن تترك في أثرا قدر الذي تركته علامات الجمال الزائل هذه. - «خمس وثلاثون سنة. إنها لا تعني لك شيئا. لكنها تعني لي الكثير. كل ما تركته ينساب من بين أصابعي: الزواج، الثروة، حب حقيقي. خمس وثلاثون. ولم أستسلم بعد. ليس تماما. فها أنا ذا يا عزيزتي، أسيرة هذه البلدة الصغيرة. على أية حال، أنا انطلقت من بلدة صغيرة مثل هذه، بل أصغر منها. وهناك كنت أعيش في كوخ، أسوأ من هذا الماخور القديم الذي أعيش فيه الآن.»
أوشكت أن أقاطعها لأقول لها إني أحب هذا المنزل كثيرا، لأسألها عن معنى كلمة «ماخور»، لكني أحجمت خوفا من أن تعنفني، أو تتوقف عن الحديث. كانت تنظر إلي بمودة - أو هكذا ظننت. - «أنت أيضا سوف تخرجين إلى العالم من بلدة صغيرة. لأنك تحلمين بمغادرة هذا المكان، أليس كذلك؟ وإني لأتساءل: إلى أين سينتهي بك المطاف؟! لا يمكنني إسداء النصح إليك. لقد كنت أعرف دائما ما يتعين علي أنا عمله، لكني لم أعمله أبدا! ربما ستكون الأمور أسهل بالنسبة لك؛ فأنت بريئة للغاية.»
أثرت في صراحتها. وتنبأت بصداقة طويلة، تتخللها أحاديث حميمة، مثيرة. وهيئ لي أني قد وجدت أخيرا ملجأ، مكانا بعيدا عن المنزل، يرحب بي وقتما شئت. وقبلت يدها مرة ثانية.
تفحصتني في فضول.
قالت برقة: «اخلعي حذاءك يا عزيزتي.» كأنما ذلك كان شيئا طبيعيا للغاية.
استغرق مني فك رباط حذائي وقتا طويلا للغاية. كانت يداي ترتعشان بشدة، مما أرغمني على تكرار المحاولة إلى أن نجحت. - «والجوبة .. والبلوزة .. هذا حسن. والآن تعالي إلى الفراش.»
كنت أرتعد، دون أن أستطيع السيطرة على نفسي، وأنا أدلف إلى الفراش. وانفكت شبكة شعري، وسمعت صوتها (لم أجرؤ على النظر إليها) يقول بلهجة عادية: «شعرك جميل.»
تلمست كتفها بحركة غريزية لأخفي وجهي به، وشعرت أن شيئا مرعبا على وشك الحدوث. لكنها رفعت ذقني إلى أعلى، وأجبرتني على النظر إليها.
قالت: «مؤكد أنك لست خائفة؟ لا يمكن ... في سنك.»
كانت قد رفعت نفسها قليلا إلى أعلى، معتمدة بمرفقها على الوسادة، وكنت أرقد متصلبة، يغمرني الفزع. لكنها انحنت خارج الفراش، وأدارت فيما يبدو جهازا للراديو، فوق الأرض، لأن الموسيقى الناعمة ما لبثت أن تصاعدت.
قالت: «هذا أفضل، أليس كذلك؟» وجذبت رأسي إلى أسفل فوق صدرها: «لا تقولي شيئا. استريحي.»
أطعتها. وسرعان ما كنت قادرة على الإنصات للموسيقى في شيء من الطمأنينة. وعدت إلى مداركي، فأخذت أتساءل عما أفعله في فراش هذه السيدة بينما أنا في نصف ملابسي.
كنت بالذات منزعجة بشأن ملابسي الداخلية. فبدافع الرغبة في المعارضة، ولأكون مختلفة عن قريناتي، اللاتي لا يفكرن في غير المخرمات والمطرزات والحرائر، كانت ملابسي الداخلية من الكتان الخشن دون تبييض. لكنني اليوم كنت أتمنى أن أكون في ذلك النوع من الملابس الذي أمقته. ومع ذلك، بدأت أشعر بالتحسن تدريجيا بينما كنت أحدق في السقف، ويد تامارا تملس لي شعري.
قالت: «تشجعت الآن قليلا يا عزيزتي؟ أتشعرين بالبرد؟»
هززت رأسي نفيا. - «أرى أنك ما زلت غير مستعدة للحديث. لكن ابذلي مجهودا! احكي لي عن نفسك. ماذا فعلت بالأمس؟»
حاولت لكني لم أستطع التفوه بكلمة. «قولي شيئا ... أيا كان!»
بدت نافدة الصبر بعض الشيء، الأمر الذي أصابني بالشلل. وللمرة الثانية رفعت وجهي إلى أعلى وتأملتني بإمعان: «اصغ إلي يا طفلتي. إذا لم تقولي شيئا خلال خمس دقائق، سأصفعك. قولي شيئا ولو حتى أوه! لك الخيار.»
لم يبد عليها الغضب، لكني أدركت أنها تعني ما تقول.
همست برغمي: «أنا خائفة!»
أجابت بهدوء بالغ: «هذه بداية طيبة.»
لكن الصدمة التي شعرت بها من جراء تهديدها، ضاعفت من خوفي وحرجي، ودفعتني إلى الانخراط في البكاء. وعلى الفور انحنت علي وأخذتني بين ذراعيها. شعرت بجسدها النحيل، ذي العضلات المفتولة، كأنه لصبي. وضعت ذراعا تحتي وهي تهدهدني، وفاضت دموعي فوق رقبتها وصدرها.
كنت دائما أهوى البكاء. وفي الخامسة عشرة كنت أبكي لأي سبب: كتاب، كلب تعرض للدهس في الشارع، كلمة حادة، مشهد طبيعي جميل، كونسير، أغنية حزينة، وعندئذ أشعر بقلبي وقد انشطر إلى جزأين، وتحطم في صدري، محدثا ألما لذيذا. وكانت جوليا تأخذني هكذا بين ذراعيها، وتمدني كلماتها المطمئنة بمتعة غامضة. هكذا ذقت بين ذراعي تامارا بهجة التسرية والعناق، وسماع الكلمات الحانية، والمتعة الطبيعية في القبلة الطويلة التي أعقبتها.
لم يسبق لي أن قبلت أحدا من قبل بهذه الطريقة، ورغم أني طالما أنصت لثرثرة زميلاتي عن فتاة بلا حياء سمحت لكل أولاد المدرسة بتقبيلها في فمها، لم تكن لدي أية فكرة عن القبلة وما تعنيه.
والواقع أني ظللت طوال أسابيع في أعقاب هذه القبلة الأولى، تحت وهم أنها ابتكار رائع لتامارا ذاتها . وذات يوم قررت أن أرضي فضولي، فأمعنت النظر عن قرب إلى عاشقين يتبادلان القبلات في الحديقة العامة، وهو سلوك كنت أتجنبه دوما بدافع من شعور بالاشمئزاز، فزالت عندئذ كل أوهامي.
هكذا كانت تلك القبلة كشفا تاما ورائعا. ولم تكد تكف عن تقبيلي حتى رفعت إليها شفتي من جديد. وفيما بعد، جردتني كلية من ملابسي، ولاطفتني بيدها، كما يداعب الإنسان جوادا، لكني كنت عاجزة عن التفكير في شيء آخر، وبدت لي لذة تقبيلها تامة، كما كنت عاجزة عن التغلب على الارتباك اللذيذ الناشئ عن وجودي بهذا القرب من شخص آخر، وهو أمر لم أتخيل أبدا إمكان حدوثه. وبين القبلات، التي لم أمل منها مطلقا، رويت لها كل شيء، في سيل متدفق من الاعترافات المختلطة، ضمنته كل ما حلمت به أو تخيلته أو رغبت فيه. بل اختلقت بعض الأمور، عندما لمست مدى اهتمامها، وقفزت من مكاني عندما قالت في سلطان هادئ: «حان الوقت لأن ترتدي ملابسك يا عزيزتي وتنصرفي إلى منزلك.»
كنت أترنح من السعادة عندما تركتها، ومضيت أتحسس الجدران والأشجار والثلج. كنا قبل الكريسماس بيومين، وشعرت أني تلقيت هدية من السماء.
هكذا بدأت الأمور بيني وبين تامارا. •••
من النظرة الأولى لصورة إميلي، قد أبدو شبيهة بها. أنا نفسي ظننت ذلك عندما عثرت على الصورة الكبيرة في ألبوم تامارا، الأمر الذي أعطاني نوعا من الصدمة. لكني عندما تأملتها بدقة أكثر، اكتشفت سطحية الشبه. كان لإميلي شعر ذو لون بني خفيف، وعيون كبيرة، وملامح متناسقة - مثلي. لكنك سرعان ما تتبين أن تعبيرها أكثر برودة، ويجب أن أضيف، أكثر ذكاء. فأنا أمتلك - طبقا لرأي تامارا - نظرة بليدة. وقد واسيت نفسي عندما قالت تامارا ذلك، بأن انتحلت لعيني صفة «عيون الثور» التي اعتبرها اليونانيون مقياسا للجمال.
كانت ملامح إميلي أيضا أكثر رقة وتأثيرا من ملامحي. ولا شك أنها كانت مختلفة عني للغاية، وفقا للروايات المختلفة، ولهذا لم يكن بإمكاني أن أطمح إلى منافسة الفتاة التي كانت الحب العظيم في حياة تامارا.
ما عرفته عنها من تامارا (التي كان يؤلمها الحديث في هذا الموضوع) كان أقل مما علمته من قراءة الرسائل القديمة التي احتفظت بها، وتركتها بإهمالها المألوف، في الأدراج المفتوحة لمائدة زينتها. وكان بوسعك أن تتبين على الفور الفرق بين خطينا، وأن خط إميلي هو النقيض التام لخطي. كان كبيرا ثابتا، حاد الزوايا، مدت الخطوط العرضية لحروفه بإحكام ينطق بالعزم والعناد. أما خطي أنا، يا للسماء! فكان خط تلميذة، ينطق بالجهد: الحروف مستديرة ومهتزة قليلا، نوع الخط الذي تطالعه في الكراسات المدرسية المسطرة، حيث تتوقع أن تقرأ تحته هذه الملاحظة: «جيد، لكنه متيبس بعض الشيء». طالما عانيت من خطي، كما كان الأمر مع وجهي، فرغم أن الآخرين قد يرونه شبيها بوجه مادونا ألمانية، كان يبدو لي مجردا من الشخصية تماما. كان ثمة شيء عارم وشيطاني في وجه إميلي، بينما كان وجهي، إذا لم يكن منفعلا من جراء عاطفة قوية، يبدو كأنما يعكس رصانة تامة.
لم أر إميلي مطلقا. لكني ظللت مهووسة بوجودها عدة شهور، لهذا يجدر بي أن أحكي القليل عنها وعن تامارا، قبل أن أظهر في حياتها.
كانت تامارا قد تركت قريتها في روسيا، وفقرها هناك، لتنتقل إلى باريس، عروسا ليهودي أرمني يدعى عزرا سولر، كان معجبا بها. كانت آنذاك في السادسة عشرة من عمرها، لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولا تتكلم غير لهجة دارجة يصعب على الروس أنفسهم فهمها. كانت رائعة الجمال في ذلك الحين، وكان التاجر مسرورا بجهلها وهمجيتها. وكان قد اشتراها عمليا عندما تزوجها، وظن أنه قيدها إليه بالزواج، لكنها بعد خمس سنوات في باريس، صارت قادرة على القراءة والكتابة والحديث بالفرنسية في طلاقة. ومنذ تلك اللحظة صارت تستطيع الترويح عن نفسها من دونه، فتخرج بمفردها، وتختار ملابسها بنفسها.
كان سولر فخورا بها، كأنما هي من خلقه. لم يقدمها أبدا إلى أصدقائه دون أن يتباهى بما أجراه عليها من تحسينات، كأنها حيوان أليف. وسرعان ما ضايقها هذا المسلك، وكانت قد تبينت أنه في الخمسين من عمره، نحيف وأصلع، وأن ذكاءه من النوع المدمر. كان سلوكه في المجتمعات لطيفا، لكنه كان يحتقر الجميع. وكان يحب إسداء الخدمات، لكنه كان يفعل ذلك بدافع من ساديته، فقد كان يسر عندما يحتاج إليه من يزدريهم، ويجد في خنوعهم مبررا لازدرائهم. كان يردد أن هذه الخاصية سمة لجنسه، لكن هذه السخرية ذاتها كانت تثير حنقها. واكتشفت أيضا أنه ثري، وأتاح لها كرمه أن تستفيد من ثرائه. فحصلت لنفسها على شقة كبيرة، وفرشتها بأثاث فاخر، ذي ذوق رصين، واشترت سيارة، وحصانا.
راقبها سولر بفضول واستمتاع، تاركا إياها تفعل ما تشاء. توقع أن تكشف عن ذوق همجي، وترتمي فوق الجواهر والشرائط والملابس المعقدة. لكنها بدلا من ذلك كانت تنزع إلى البدلات المحاكة، أو البنطلونات الفضفاضة في المنزل، رافضة أن تكشف عن كتفيها الجميلتين في أردية السهرة، كما عكست شقتها نفس الرصانة والعزيمة. وابتسم سولر لنفسه عندما شاهدها تخطو في غرفتها ببنطلون الفروسية، وترمي بقفازاتها السميكة، أو بسوط الركوب، فوق مائدة واطئة، وقد أمتعته هذه البوادر الرجولية. كان يحب غرفتها، ويدعوها ضاحكا بالحظيرة، أو بالجاراج، لكنه شعر بأن رغبتها في الاستقلال موجهة بلا وعي ضده، فوجد لذة خبيثة في تحطيم أي وهم بالحرية يدور بخلدها، بمجرد وجوده. فتعود أن يتناول طعامه، ويروح عن نفسه، في حلبة أحدث المعجبات بها، ولاحظ كيف تعامل كافة صديقاتها بتعال نابع من شعور لا واع بالانتقام. فحدث نفسه، إن نزعات تامارا ونزواتها، مدعاة للطمأنينة. واكتفى بأن يذكرها بوجوده، بين الحين والآخر، بكلمة لاذعة يشحب لها وجهها من الغضب. وحدث نفسه أنه يتسلى بترويضها بهذه الصورة، فلم يدرك أنه يحبها.
وقد استقبل إميلي بنفس الطريقة التي اتبعها مع صديقات زوجته الأخريات، ولو أنه دهش قليلا من صغر سنها - فلم تكن قد بلغت العشرين بعد - والحرية الغربية التي أتاحها لها أبوها. كانت قد جاءت من جزيرة جيرسي إلى باريس لتتعلم الفرنسية وستبقى بها عامين. أعجبه وجهها الجميل المعبر، لكنه اعتبرها بغير ذات أهمية. لهذا لم يكن لذهوله حد عندما تركته تامارا لتعيش مع إميلي. ومع ذلك استمر يقدم لتامارا دخلا صغيرا، متظاهرا بأنه يفعل ذلك بدافع النبل الخالص، بينما كان ذلك في الواقع بأمل استعادتها ذات يوم.
أقامتا في مسكن صغير مشمس، أقرب إلى الدير، حيث عكفت الفتاة الشابة على دراستها. وكان المبلغ الذي أعطاه سولر لتامارا محسوبا بدقة: إذ يكفي بالكاد ليحول بينها وبين العمل؛ فقد كان يعرف جيدا مدى حماقتها وطيشها وأنها لن تفكر في العمل إلا إذا دفعتها الحاجة الماسة إلى ذلك. وجه آخر لحسبته الدقيقة، أن يجبرها على الاقتراض منه كل شهر. وفي كل مرة تأتي إلى مكتبه من أجل النقود، كان يحصيها ببطء، وهو يرقب وجهها، بحثا عن تورد عابر، أو طرفة عين، تكشف عن شعور بالمرارة أو الأسف. لكن تعبير تامارا وهي تتأمل الأثاث المطعم، واللوحات، ومنافض السجائر الفضية، لم يكشف إلا عن قناعة جذلة، كأنما تقول: «لا يمكن الحصول على كل شيء.»
لا أعرف سوى القليل عن علاقتها بإميلي: أنها استمرت سنتين ونصف السنة، وكانت مشبوبة، عاصفة وجامحة، لكن سعيدة في إجمالها. وقد قرأت الرسائل التي كتبتها إميلي لتامارا عندما افترقتا ذات صيف، فاحمر وجهي خجلا. وأخيرا تركتها إميلي إلى «شاب ممتاز»، مهندس بلجيكي، كان ذاهبا إلى الكونغو. وأعرف أقل من ذلك عن الفترة التي أعقبت هذا الأسى العظيم في حياة تامارا، والتي سبقت لقائي بها. فمن إشارات عابرة منها، استنتجت أن تلك الفترة تميزت بالغرف المفروشة، والمطاعم الرخيصة، وبطاقات الدرجة الثالثة بالقطارات. وكان علي أن أحدس الجوانب الخفية في تلك الفترة، من التعاسة اللامبالية، والدائنين اللحوحين، والبوابين عكري الأمزجة، والملابس التي يتعين رهنها أو بيعها، والغرامات الوجيزة الضرورية.
ما الذي أتى بها إلى هنا؟ كيف التقت بماكس فيلار، الفنان الذي هيأ لها، بدافع الشفقة، هذا المسكن في شارع رامبار دي بيجوين؟ أسئلة ظلت بلا إجابة. وعندما التقيت بها، كان قد مضى عليها في هذه الشقة سنتان، أنفق أبي عليها خلالهما، على نطاق ضيق. وبين زياراته، كانت تشغل وقتها بالكتب التي كانت تلتهمها التهاما، والشاي، والسجائر التي تفرط في تدخينها - وهي بلا شك السبب فيما كان يعتريها من كآبة - وفي بعض الأحيان تجرع زجاجة ويسكي كاملة.
في زيارتي الثانية لها، قامت بأكثر من تقبيلي، وما لقنتني إياه ظل مبعث قلقي لأمد طويل فيما بعد.
ذات مرة، حدثتني إحدى المدرسات بصورة ضبابية عن العادات السيئة التي تدمر الصحة وتتسبب في أمراض مرعبة. ولم أعر هذا الحديث اهتماما كبيرا وقتها (وأظنها الآن ترجع شرودي الدائم ولامبالاتي إلى تلك العادات). وما إن أدركت المقصود بتلك العادات، حتى أصبحت نهبا لمشاعر قلق ضاعف منها الغموض الذي أحاط بها. حتى المتعة التي أمدتني بها تلك الملاطفات، بدت لي من علامات المرض، ولم أجرؤ على الحديث عنها مع تامارا (خوفا من سخريتها)، فأشبعت نفسي قلقا دون أن أعرف ماذا أفعل.
أما الوساوس الأخلاقية، فلم يكن لدي منها شيء. في أول يوم، كنت أرتعد وأنا جالسة مع أبي إلى المائدة، خوفا من أن يرتفع عنه الحجاب فجأة، ويتبين من وجهي ما جرى. وفي المدرسة كنت أخشى أن يشير إلي أحد بإصبع العار لأن وجهي خانني. لكني سرعان ما أدرك أن أحدا لم ير شيئا. وعلى العكس، بدأ الآخرون يهنئونني على أني لم أعد أغرق في الأحلام، وأني أصغي بانتباه أكثر لما يقال لي. هكذا انتصر الفسق! وتحسنت درجاتي في الصف الدراسي، وهو ما أثار حرجي. فبعد أن كنت متخلفة دائما بشكل يثير الرثاء، ارتفعت إلى درجة تنبئ بأني، لأول مرة، لن أضطر لتكرار امتحان نهاية العام.
وأخيرا ساهمت خطوة وقحة من جانبي في تبديد ما تبقى من مخاوف. فقد كان لأبي صديق طفولة، هو فريدريك فان برج، يتمتع بسمعة سيئة. فدون أن يتمكن أحد من إثبات شيء قيل إنه عشق العديد من سيدات المجتمع الراقي في البلدة، وغرر ببعض الفتيات الصغيرات، وإنه يشاهد دائما في ملاهي «فيرسان»، البلدة الكبيرة المجاورة.
افترضت أن هذا الرجل الغارق في الملذات سيتقبل سوء سلوكي، وقدرت أنه ليس هناك من يستطيع أكثر منه إحاطتي بنوع الأخطار التي أخشاها. لهذا مضيت إليه في مكتبه. وكان، مثل أبي، يملك مصنعا. لكنه ورث ثروة كبيرة، فحد من نشاطه، وشغل نفسه بالمضاربات. لكنه كان يذهب كل يوم في نفس الموعد إلى مكتبه بضاحيتنا، من الثالثة إلى الخامسة. وأشيع أنه يحتفظ فيه، أيضا، بمسكن خاص.
هكذا كان الذهاب إليه مغامرة مجنونة. وكان المفروض أن تحول صداقته لأبي بيني وبين الإقدام على هذه الخطوة. لكن أملي فيه لم يخب. فقد تلقى كل شيء كأنه يستمع إلى نكتة، وبدا عليه الاستمتاع بما رويته له، وفي النهاية طمأنني. لم يكن حتى مضطرا لأن يعدني بكتمان الأمر عن أبي. كان له مسلك المتواطئ، وبدت له علاقة تامارا بأبي مثل التوابل المضافة إلى مغامرتي الغريبة. أما أنا، فأعترف بأني لم أفكر أبدا في هذا الجانب من الأمر. فلم يخطر ببالي أبدا أن أبي يستمتع بلحظات مماثلة من الحميمية مع تامارا، ولم يزعجني هذا الخاطر مطلقا، رغم ما قد يبدو في ذلك من غرابة. فلأن وقت أبي كان محدودا، وبدافع أيضا من كياسة طبيعية، لم يكن يقدم على زيارتها قبل أن يخطرها بنيته تليفونيا. ونادرا ما كانت زياراته تتعدى المرة أو المرتين في الأسبوع .. «لأسباب صحية»، هكذا أوضحت لي تامارا، التي لم يبد عليها أبدا الشوق لهذه الزيارات. ومع ذلك كانت تستعد لها بإزالة أعقاب السجائر، وبأن تجمع كل ما هو مبعثر على الأرض، وتدسه في أدراج الدولاب ثم تغلقها. وبهذا الشكل تحتفظ الشقة بطابعها البوهيمي، وتصبح نظيفة ومرتبة في الوقت نفسه. لكن هذه الاستعدادات لم تثر لدي سوى الشعور بأن تامارا تقوم بعمل مضجر.
تخلص مني فان برج بقرصة في خدي، عارضا علي في مرح أن آتي لزيارته، إذا سئمت المتع التي أنالها من تامارا. قال إنه سيعرف كيف يحملني على تقدير أنواع أخرى من المتع!
شعرت بمزيد من الراحة عندما غادرته، ومنذ تلك اللحظة نظمت حياتي كلها حول شارع رامبا دي بيجوين. •••
انصرم الشتاء في سلام. وقرب نافذتي، خشخشت فروع شجرة الليمون في مهب الريح. وظلت القطة مكانها قرب المدفأة . ومضى الأطفال يتزحلقون في الشارع. وكنت أصل المنزل دائما مع حلول الظلام، لكني لم أعد أخشى اختباء بعض الأشرار بين شجيرات المنتزه. فقد شعرت أني أصبحت شخصا ناضجا.
كنت قد أقلعت عن الانغماس في الحالة «الشاعرية»، كما أطلقت على ألعاب الخيال، ذلك التشويه للحياة الذي أوشك أن يصبح طبيعة ثانية لي. فرغم أني لم أكن قد قرأت شعر رامبو بعد، فقد كنت أستخدم المصطلح الذي التقيت به في كتاباته بعد ذلك، لدهشتي الساذجة، وهو تعبير «التشويش المنتظم». وكنت أومن أنه عن طريق التشويش المنتظم لخيالي، سأتمكن من بلوغ الحالات العليا للوعي الشعري. والحاصل أن حالات الغياب عن الوعي لم تتمخض عن شيء على الإطلاق، وكان المفروض أن يبصرني ذلك بالأمر. لكني ظننت أنه من الطبيعي ألا تعبر «الشاعرية» عن نفسها بأية وسيلة، وأنها في حالة كمون داخلي. إلى أن أتاح لي الاختفاء السريع لكافة هذه الخيالات، تقدير قيمتها.
لكني لم أضع وقتا في هذه الاعتبارات، ولا فكرت طويلا في الخطر الذي أفلت منه بالتخلي عن هذه الممارسات الخادعة. فكما سبق أن قلت، كنت أحيانا ما أفقد السيطرة على خيالي المريض، فيتملكني لدرجة أعجز معها عن التفكير السليم.
بعد أن احتلت تامارا المكانة الأولى في عقلي بفترة وجيزة - وهو أمر لم يستغرق أكثر من بضعة أسابيع - بدأ أبي يمتدح ما أسماه «صحوة شخصيتي». فقد أصبحت أكثر انتباها، وأقل فتورا في المشاعر، كما قال. ونجحت هذه التعليقات أخيرا في إزالة القليل من مشاعر الندم التي كانت تخالجني. كان أبي مبتهجا برؤية ما اعتراني من تغير، ناسبا كل ذلك إلى اجتيازي «للسن الحرجة». هنا أدركت أنه كان دائما في قلق بشأن عقلي البليد ونوبات الشرود المفاجئة التي تنتابني. وأدهشني هذا الاكتشاف، إذ لم يخطر لي من قبل أنه يعطي أقل اهتمام لوجودي. وكان من شأن سروره بما طرأ علي من تغير أن يدفعني إلى التفكير، لكني لم أكن أملك الوقت لذلك، إذ كنت أفكر في شيء آخر.
عندما أقول إني لم أعد أستسلم لأحلام اليقظة، أعني بذلك حالة التبلد التي لا ينتزعني منها شيء. لكن رغم أني لم أعد أسعى للهرب من الواقع - وكنت على العكس أنغمس فيه بكل سرور - فما إن أبتعد عن تامارا، حتى أجدني أفكر طول الوقت في اللحظات التي أمضيناها سويا، والتي شكلت بدورها نوعا من أحلام اليقظة، ولو أن موضوعها كان أكثر موضوعية مما دارت حوله أحلام يقظتي في السابق.
على أية حال، لم أعد بحاجة إلى تشييد حياة متخيلة، لأن كل دقيقة من حياتي الحقيقية كانت تدهشني بغرابتها. فقد ظل منزل «رمباردي بيجوين» يجتذبني بقوة. وكنت أقوم بتحليله كل يوم، فاكتشفت تفاصيل جديدة: زاوية حجر، خطا من الطحالب البحرية لم ألمحه من قبل، نقطة نظر جديدة تبدو منها ابتسامة حوريات البحر الخليعات مختلفة، ساخرة أو رقيقة، قطعة منسية من الزخارف المطلية بالذهب، أو الفسيفساء المتآكلة.
انتشيت بدراسة كل هذه الأشياء وأكثر منها. كانت للمنزل ست شرفات، وأربعة طوابق، وثماني شقق، وكان ارتفاعه تسعة عشر مترا، وطوله اثني عشر. أعجبني تناسق قياساته، وضخامة تصميمه وجرأته، واللون الأخضر للسلم الرخامي، وعاهدت نفسي أن أمتلك منزلا مشابها إذا أصبحت ثرية، وألا أنسى أو أتجاهل فسيفساء واحدة أو تمثالا واحدا من تلك التماثيل التي عهد إليها بدور الأعمدة للبناء.
كيف يمكنني إذن أن أصف شعوري إزاء حياة تامارا؟ كيف أعجبت بفوضاها، ونوبات حزنها المفاجئة، ولحظات مرحها؟
كنت أنهض أحيانا في الخامسة صباحا لأذهب معها إلى مدرسة الفروسية، حيث تمتطي حصانا اقترضته. كنا نخرج دائما قبل الفجر. فتخطر إلى جواري، بجسدها اللدن، وعزيمتها القوية، وخطواتها الواسعة، في سراويل الركوب، وحذاء بلون الظباء، فتبدو رائعة الجمال، وأكاد أبكي من الإعجاب. أتذكر كيف كانت تؤرجح سوط الركوب بغير اكتراث، وتصفر بلا مبالاة. كانت مدرسة الفروسية على حافة السهل، لهذا كنا نضطر إلى المشي نصف ساعة بين صفين من المنازل الساكنة في شوارع مهجورة، ما زالت مصابيحها تومض ثم تخبو. لكن مدرسة الفروسية في تلك اللحظة تكون في أوج نشاطها. وعلى الضوء الخافت لمصباح كهربائي ، تمر أشكال معتمة، خلف عربات محملة بالأعلاف. أحببت رائحة الحظائر، وصهيل الجياد في مرابطها، وفوق كل شيء حفيف القش عندما يحركونه بالمذراة في بطء ، ثم يتساقط بتنهيدة رقيقة تشبه تراجع الأمواج. أنا التي أستطيع التفكير دون عاطفة ما في علاقة تامارا بأبي، كنت أغار من مدرس الفروسية، وأكرهه. كان هذا الجوكي السابق، هوارد، بقامته النحيفة، وحجمه الضئيل، مجردا من أي جاذبية، لكن ما إن تلج تامارا الجانب المخصص للفرسان - بينما أبقى أنا خلف الحواجز الخشبية - حتى يجري نحوها ويناديها في ألفة تثير حنقي: اسمعي يا فتاتي! لا يمكنني أن أعطيك بلزاك اليوم! فقد خرج به العجوز فرات ليلة أمس، وما زال متعبا وعصبيا، وفمه ملتهبا. خذي بوميون أو قيصر. قيصر يألفك. هل أدعوه لك؟»
وتوافق تامارا على اقتراحه، دون أن تظهر ضيقا بطرحه الكلفة معها، وتبتسم للرجل البشع الضئيل بطريقة رفاقية لا تستخدمها معي. كانا يتحدثان عن السباقات، ويناقشان القفزات، ويذكران مباريات وددت لو أهتم بها لكني لم أفعل لأني لم أفهم شيئا بشأنها.
ثم يقول: «ها هو حصانك. دعيه يقفز قليلا ليحافظ على لياقته. وداعا يا جميلة!»
وبعد أن يربت على ظهرها، يبتعد.
ترتقي السرج بمهارة، وتتأكد من موضع الركاب، وفي اللحظة التي تستقر فيها بمقعدها، ويقرقع الجلد تحتها، أشعر بألم في قلبي كأنما ستهجرني إلى الأبد. «هيلين! ماذا تفعلين؟ لماذا بقيت؟ أراك غدا.» ودون أن تنظر إلي، تمضي خببا نحو السهل، حيث تبقى أحيانا فوق الحصان عدة ساعات.
كانت تعشق الجياد. وهذا أيضا كان يثير غيرتي، لأني لم أفهم هذا العشق. كانت تطلب مني أحيانا أن أنتظرها في مدرسة الركوب، وعند عودتها يكون وجهها متوهجا بالسرور، وقبل أن ترتدي سترتها، وهي لا تزال في بلوزة وحسب رغم البرد، تقود الحصان إلى حظيرته، وتمسح الزبد عن فمه، ثم تربت عليه في مودة، وتتحدث إليه بعض الوقت.
كان هوارد يستلطفني. وكان يظن صمتي نابعا من الخجل فيتحدث إلي أثناء ذلك: «صديقتك تحب الجياد بالتأكيد! وتعرف كيف تعاملها. مشهد ممتع! أتعرفين أني أتركها تركب دون مقابل؟ هذا لصالح الجياد إذ يحافظ على لياقتها. قليل من الناس يأتون الآن للركوب. وإنها لمتعة أن يراها المرء في السرج! لو لم تكن امرأة لكانت قد أصبحت جوكيا، وجوكيا ذا شأن.»
كانت هذه الأحاديث الحميمة تشعرني بعدم الارتياح. كأنما كنت أستمع إلى حديث عن حياة تامارا الغرامية. بل أسوأ من ذلك، لأن هوارد كان يتحدث عن عالم ليست لي فيه أية أهمية. •••
خلال الأسابيع الهنيئة التي تلت ذلك، لم يكن يشغلني سوى أمرين: كيف أذهب إلى «رمبار دي بيجوين» وأعود دون أن يراني أحد، وكيف أمنع أبي من تلقي البطاقات المرسلة من مدرسة مدموازيل «بالدي» للاستفسار عن أسباب تغيبي. ولم أعد أشغل نفسي كثيرا بحياة تامارا. كانت معي دائما متمالكة لنفسها، ساخرة قليلا، تستوقف بكلمة واحدة أية بادرة عاطفية من جانبي. ومع ذلك، تكون أحيانا رقيقة، فتمزج شعري البني المائل إلى الحمرة بخصلاتها السوداء، وتدفن وجهي في كتفها، مغمغمة: «اسكتي»، في حنان يكسب كلماتها حبا مقطرا.
ولأنها كانت تحتضنني، ولا تبخل علي بقبلاتها، خلتها - لسذاجتي - تحبني. ربما أقل من حبها لإميلي، لكن حب فريد، حنون، مثل حبي لها. لم تفه بحبها أبدا، أو على الأقل لم تفعل ذلك إلا في لحظات النشوة، لكني لم أعبأ. ولم تستوقفني غرابة التقاءاتنا الصامتة، والطريقة التي تريني بها الباب في نهايتها: كانت تحبني، وأنا أحبها، وكنا نستمتع سويا، وكان هذا هو كل ما يعنيني.
كانت انطباعاتي عنها في بعض الأحيان، كما في مدرسة الركوب، سريعة التبخر، وإذا كنت أتذكرها الآن، فإني نسيتها بمجرد أن خطرت لي وقتها. كما أني نسيت ما عرفته عن حياتها، عندما كانت تبقى أحيانا في الفراش، تدخن وعيناها نصف مغمضتين في شيء من التبلد، ووجهها خال من التعبيرات، غير مكترث، فأربض عند قدميها بلا حراك، في احترام هياب كذلك الذي نشعر به إزاء شخص فائق الجمال عند موته.
جربت أن أحذو حذوها، باستخدام لهجة جافة أو فظة، وبانتحال الإيماءات الرجولية التي تبدر منها كثيرا، والتظاهر بازدراء التقاليد، فنلت إعجاب زميلاتي في المدرسة بجرأتي. لكني أمام تامارا نفسها كنت ألزم الصمت في حصافة، خوفا من ابتسامتها الساخرة التي أتمنى معها أن تنشق الأرض وتبتلعني.
وبين الحين والآخر، كنت أثوب إلى رشدي. عندما تزجرني بتعليق أو هزة كتف، على كلمة رقيقة بدرت مني، أدرك على الفور فجأة بمرارة، أنني لست الشخص الذي تود سماع هذه الكلمات منه. لكني سرعان ما كنت أطرد هذه الأفكار، فإذا أمعنت في جفائها، أكدت لنفسي في سذاجة، أن الأمر بغير ذي أهمية «لأني لا أحبها إلى هذه الدرجة!»
حل شهر فبراير، دون الأمطار المألوفة، واخضرت أحواض المنتزه مرة أخرى، في ربيع سابق لأوانه. وبدا كل شيء طازجا ووضاء، عند مغادرتي للمنزل صباحا، في طريقي إلى المدرسة أو إلى تامارا. كانت مصاريع النوافذ تصطفق في مرح، وكل شيء يلتمع ويبرق، من عربات الخضراوات في الشارع إلى برج الكنيسة المستدق الطرف، كأنما اكتسى طلاء جديدا، عاكسا أسنة رماح صغيرة من ضوء الشمس. ولم تعد العجائز الثرثارة في حاجة إلى مرآة عند النافذة، من أجل التجسس على الآخرين، فقد صار بوسعهن الآن التظاهر باستنشاق الهواء النقي، ومتابعة المارة من خلال نوافذ مفتوحة على مصاريعها، وهن مختبئات خلف الستائر المطرزة بالدانتلا.
لم يعد أبي المشغول بطموحاته السياسية يكتفي بالحديث إلى مواطني الحي في قاعات الاجتماعات أيام الآحاد، فبدأ يجذب خيوطا أخرى لتحقيق أهدافه، وقلت بالتدريج فرص لقائنا. فإما أن يكون في رحلة صيد بالسهل، بصحبة محام ذي نفوذ، أو في رحلة بحرية مع أحد قباطنة الصناعة، أو حتى في سيارة بالريف مع أحد أعضاء نقابة المحامين أو رئيس لإحدى الجمعيات، تصحبه في أغلب الأحيان جمهرة من الأطفال الذين يحملون قضبان صيد السمك والساندوتشات.
لكن مثل هذا ما كان يمكن أن يستمر، وبالتدريج شعرت أن شيئا ما في سبيله للحدوث. كان ابن عم جوليا، بائع اللبن، قد ذكر لها في براءة أنه رآني في «رمبار دي بيجوين» فتساءلت عما يدعوني للذهاب إلى هذا الحي ذي السمعة السيئة . كما بدأت فتيات باسافان، اللاتي يصنعن الملابس بالنهار، يتساءلن عن سبب عودتي متأخرة في الأمسيات. وسألني مساعد الأسقف، الذي يقطن شارعنا، بحسن نية: ألا أخرج كثيرا في أيام العطلة؟ لم أعرف ماذا يدور بذهنه على وجه التحديد. ولعله أراد فقط أن يحذرني من الإهمال والكسل. هذا، على الأقل، هو ما قاله. لكن أسئلته كانت موجهة بطريقة غامضة، ومفعمة بالتلميحات، مما أرسل الرعدة في أوصالي.
كان ثمة علاج لكل هذا، كما ذكرت تامارا ذات مرة. فيمكنني استباق الإشاعات، بأن أذكر لأبي أني أراها بين الفينة والأخرى، وأطلب إذنه في مواصلة زيارتها. وما من شك في أنه لن يعترض، ومن ناحية أخرى سيستاء بالتأكيد لو علم من الآخرين بأمر هذه الزيارات التي يجهلها. لكن نصيحة تامارا بمصارحة أبي جاءت عرضا، وبدا لي أنها لا تخشى، إلا بقدر ضئيل للغاية، من الافتضاح، وفي الواقع لا تشعر بالخوف - أو بالأحرى لا تفكر بالأمر - ولهذا تركت الوقت يمر دون أن أعمل بنصيحتها. ولم أكن أملك، على أية حال، الشجاعة الكافية لإثارة الموضوع أثناء اللحظات الوجيزة التي أقضيها مع أبي.
كانت تامارا نفسها تهمل دائما اتخاذ الحيطة إهمالا تاما، وعندما نصحتني بمصارحة أبي، خلت أنها مدفوعة في ذلك بحس الواجب، لهذا كانت دهشتي مضاعفة عندما سألتني بجدية عما إذا كنت قد قمت بما أشارت به علي.
أجبتها بلا تردد: «كلا، لم أجرؤ.»
سألتني بحدة: «قولي من فضلك، لماذا لا تفعلين أبدا ما أشير به عليك؟ منذ شهور وأنا أتحدث إليك عن هذا الأمر، وأنت دائما تؤجلين! هل ستظلين مهملة دائما هكذا؟»
أفعمتني لهجتها المستاءة ذعرا. أردت أن أدافع عن نفسي، ملتمسة عذرا ما، لكني تلعثمت تحت وقع نظراتها الباردة. بدت لي مخاوفي مضحكة، وانتهى بي الأمر أن أشحت بوجهي ولزمت الصمت. شعرت أنه ليس عدلا منها أن تلومني على عدم الطاعة، طالما أنها لم تتحدث عن هذا الأمر إلا عرضا. وبالرغم من ذلك شعرت بالإثم؛ لأنها حتى لو كانت أمرتني، فربما كنت وجدت الشجاعة كي أعترف بسلوكي الخفي لأبي.
تأملتني ببرود، وانتظرت أن أتكلم، وعندما لم أفعل قالت: «أعترف بأني لم أكن واضحة في حديثي. لكن لتفهمي الآن: أمامك أسبوع تتحدثين فيه إلى أبيك. فإذا لم يسمع خلاله ...»
لم تستكمل تهديدها. لكني تخيلت أنها تتوعدني بأن تتحدث إليه بنفسها. وكان هذا الحل، في الواقع، يناسبني تماما.
أجبت: «لماذا لا تخبرينه أنت بنفسك؟» كنت مستاءة من اللهجة المتسلطة التي استخدمتها، خاصة وأني لم أكن قادرة على إبداء أي مقاومة.
كررت دون أن تجيبني: «أسبوع واحد!» وانتقلت إلى موضوعات أخرى.
خلال الأسبوع الذي تلا ذلك، حاولت فعلا، عدة مرات، استجماع شجاعتي لأتحدث إلى أبي. وكأنما تحالفت جميع العناصر ضدي، فلم يحدث أن كان أبي منشغلا بالصورة التي بدا عليها وقتئذ: كان دائم الذهاب والمجيء، يتلفن، ويرتب موعدا ...
لم تذكر تامارا الأمر ثانية، وظلت ودودة كعادتها، بلحظات الصمت والبرود المألوفة. لهذا لم أشعر بالقلق لعجزي عن طاعتها. وقدرت أن جل ما ستفعله إذا استاءت، هو أن تمتنع عن رؤيتي عدة أيام. ورغم بهجتي المتزايدة بصحبتها، فإني كنت أراها بكثرة تحتمل فراقا وجيزا. بل إن الابتعاد عنها يتيح لي أن أفكر فيها، وفي الأحداث الأخيرة، ويؤدي بها إلى الضجر بكل هذه السرية، فتتحدث بنفسها إلى أبي، وتكفيني عناء هذا الواجب.
انتظرت، مؤجلة المهمة من يوم إلى آخر، وعندما سألتني أخيرا، كأنما عرضا: «هل عرف أبوك؟» فوجئت، وتضرج وجهي، فلم تعد مضطرة لانتظار إيضاحاتي المتعثرة. بدا عليها التفكير لحظة ثم قالت: «إذا أعطيتك أسبوعا آخر، هل ستجدين الشجاعة؟»
لم تظهر عليها أمارات الغضب. ولأني كنت لا أزال أعتقد أنها ستتولى الأمر بنفسها في النهاية، أجبت مؤكدة: «كلا. لن أجد الشجاعة أبدا!»
وقبل أن تتاح لي فرصة للحركة، أو أدرك ما سيقع، صفعتني مرتين، وبعنف. وصعقت.
لم يصفعني أحد من قبل مطلقا، ولا أبي. فإذا أراد عقابي وأنا صغيرة، كان يغلق علي باب غرفتي. جمدت في مكاني، يخنقني النشيج الغاضب، وأحاول التقاط أنفاسي، وأدرك ما حدث. أما هي فقد تطلعت إلي في هدوء.
قالت: «لن أعطيك أسبوعا آخر. يومان فقط. وإذا لم تنصاعي لأوامري هذه المرة، ستنالين المزيد!»
أثار هدوءها جنوني. لم تكن تملك حتى عذر الاستسلام لنزوة غضب. فقد صفعتني بتعمد، بدافع الخسة المطلقة!
صحت في صوت مختنق: «كلا، لن أطيعك! سأذهب. ولن تريني ثانية!»
انصرفت جريا، وصفقت الباب من خلفي.
عندما بلغت المنتزه، انهرت فوق أريكة، وأنا أهتز من النشيج، وقد غمرني شعور بالظلم وسوء الحظ لدرجة لم أعهدها من قبل.
أدركت أنه لا بد من الذهاب إلى المنزل، لكني بقيت في مكاني، لا أدري كم من الوقت. وأخيرا تذكرت أن المساء قد حل، وأن جوليا تحتفظ لي بعشاء، فبدأت مسيرتي نحو المنزل في بطء، وفكرة تعاستي تستولي علي كل عشر ياردات، فتخنقني الدموع، وأستند إلى الجدار لأبكي، قبل أن أنطلق من جديد. ولحسن الحظ، لم أصادف أحدا من معارفي، فما كنت سأتمكن من السيطرة على نفسي، فأفضي بكل شيء التماسا لشيء من الراحة.
عندما ولجت شارعنا، أبصرتني مدام لوسيت، وانتابها الهلع من مشيتي المتعثرة، فجرت من حانوتها ونادتني.
سألتني وهي تقودني داخل الحانوت، الذي لم يكن به أحد لحسن الحظ: «ماذا حدث يا عزيزتي المسكينة؟» كنت قد بدأت أتمالك نفسي بعض الشيء، لكن كلماتها الشفوقة أثارت فيضا جديدا من الدموع. كنت عاجزة عن التفوه بحرف. فماذا كان بوسعي أن أخبرها؟ أغلقت الباب بسرعة وشدت رتاجه ثم قادتني إلى الغرفة الخلفية، قائلة في رقة وهي تتطلع حولها بحثا عن مكان أستلقي فيه: «بوسع الزبائن العودة في الغد!» لم يكن هناك غير كرسي مفكك الأوصال، بلا ظهر أو مسندين، ومقعد كبير من القش قرب المدفأة، حيث تستريح عادة. وعندما لم تجد مكانا غيرهما، جلست في المقعد، وأخذتني فوق ركبتيها، كأني طفلة.
واصلت البكاء عدة دقائق كما لو كان قلبي يتمزق، وأنا أفكر في تفسير لتعاستي أقدمه لها. وأخيرا، مدفوعة بشيطان ما، نهنهت في رثاء وإشفاق قائلة: «أبي له عشيقة!»
بدا كأن هذه العبارة البسيطة قد نفذت إلى قلب مدام لوسيت. والواضح أنها كانت تعتقد أن فتاة شابة مثلي من حقها أن تصدم وتحزن عندما تعلم بأمر كهذا. ولم أحاول العثور على عذر آخر.
غمغمت وهي تضمني بين ذراعيها: «يا عزيزتي المسكينة! يا طفلتي العزيزة المسكينة!» شعرت أن ما أثر في مشاعرها أكثر من أي شيء آخر هو براءتي، ففي نظرها، تكشفت كافة مباذل العالم لي عندما عرفت بالحياة المزدوجة التي يعيشها أبي، وتخيلت أن ذكرى أمي ضاعفت من حزني. حدست كل هذا من تعليقاتها.
قالت: «يا حملي الوديع! لا تبك هكذا يا ملاكي الصغير! المسكينة، البائسة، ويتيمة الأم!»
بدا لي أنها وجهت الكلمات الأخيرة إلى السماء، التي دعتها لأن تشهد تعاستي. هنا شعرت بشيء ما زلت أذكره بكل خزي. كان حزني قد خف مؤقتا، وجفت دموعي، فأدركت أنني يجب أن أعود إلى المنزل دون تأخير، لكني مضيت أنتحب دون رغبة حقيقية، لمجرد أن أستدر مزيدا من شفقة مدام لوسيت.
قلت: «وأمي المسكينة كانت طيبة للغاية. كيف يستطيع نسيانها؟ إن هذا يشعرني أني يتيمة حقا!»
حصدت ما سعيت إليه: فقد اغرورقت عيون المرأة الفاتنة، وإذا بها تنهض واقفة، وقد تذكرت فجأة أني في السادسة عشرة، ولا يجوز احتضاني هكذا بين ذراعيها. لكنها جذبتني من جديد إلى كتفها، ومزجت دموعها بدموعي، وهي تحاول التسرية عني.
ساعدني هذا على أن أنسى تامارا تماما لبرهة. ففي الغرفة الخلفية الصغيرة المعتمة، إلى جوار النار المتأججة، ووسط الروائح النظيفة المحببة للورق والأقلام والصلصال، بينما التصقت بكل قوتي بهذا الشخص الجميل الحساس الذي كان يحاول إعادتي إلى صوابي، مسترخية تماما بصورة ممتعة بعد الانفجار العنيف لدموعي، شعرت بالسعادة التامة، ولم تساورني غير أمنية واحدة: أن أطيل أمد هذه اللحظة. ويعلم الله كم من الأمور البشعة كان بوسعي اختلاقها من أجل ذلك، ضد أبي المسكين. لكنني لم أكن بحاجة إلى ذلك. فقد ألفت مدام لوسيت، منذ هجرها خطيبها في الثانية والعشرين من عمرها، أن تتحدث عن كافة الرجال باعتبارهم أوغادا أنذالا. هكذا مضت توجه اللوم إلى أبي، قائلة إنه من العار أن يتركني وحيدة ليجري خلف النساء، ونصحتني بأن أتوسل بالشجاعة، وأتقبل كل شيء، وأكدت لي أن أبي، عندما يتقدم به العمر، سيكتشف أني الشخص الوحيد الذي أحبه وبقي على وفائه.
لم يرق لي هذا المستقبل كثيرا، على أني لم أكن مصغية لصوتها الرقيق وهو يردد هذا الهراء. كان خدي ملتصقا برقبتها البيضاء، التي بللتها دموعنا، وبين الفينة والأخرى كنت أطبع عليها قبلة، مثلما يفعل الأطفال. كانت رائحتها تشبه رائحة الحبر، ورائحة الكعك المسكر. وتبدي ثدياها المستديران الأبيضان من فتحة بلوزتها. شعرت كأنما هدهدت، وأرضيت، وووسيت. وفكرت ساخرة أن ما اجتذبها في للأسف هو براءتي، فقد كان جمالها حليبيا، ناعما، يغري بالالتهام، مختلفا كلية عن جسد تامارا ذي العضلات القوية.
أخيرا أعانتني على السير، وقادتني إلى الباب.
قالت: «اذهبي الآن يا هيلين. فلا بد أنهم قلقون عليك. أفضل حل لك أن تكوني باردة مع أبيك. لا تحدثيه عن شيء، فلن يألو جهدا في الدفاع عن نفسه، وربما نجح في إقناعك، خاصة وأنك شغوفة به هكذا إلى درجة العبادة!»
لم أقل أبدا إني أعبد أبي، لكن مدام لوسيت أولت حزني على هذه الصورة. فقد ظنت أن ما يعذبني أساسا هو خوفي على أبي من الخطيئة. وكانت تراني أحيانا في الكنيسة، التي كنت أذهب إليها لأستمتع بموسيقى الأرغن ورائحة البخور. كانت الكنيسة وقتئذ تشغل فضاء كبيرا في خيالي، وآخر أقل منه بكثير في اهتماماتي الروحية. وعلى أية حال، فقد أقلعت عن الذهاب إليها كلية بعد أن تعرفت إلى تامارا، فلم أعد بحاجة إلى التماس النشوة في مكان آخر.
كانت دموعي قد جفت، وتمالكت نفسي، عندما بلغت المنزل. لم يكن المستقبل يشغل سوى حيز ضئيل للغاية من تفكيري. ولم تترك في الوجبة الصامتة، عبر المائدة من أبي، أثرا ما. كنت أفكر في مدام لوسيت، فذكراها كانت لا تزال طازجة، وأقبلت أستعيد تفاصيلها على مهل.
أويت إلى الفراش في هذا المزاج السعيد. كانت النافذة مفتوحة بسبب اعتدال الطقس. وسمعت خلالها من يتدرب على السلم الموسيقي فوق بيانو. لم تتجاوز الساعة التاسعة عندما ولجت حجرتي، لكني كنت منهوكة القوى من جراء بكائي، أشعر بوهن في ساقي، فاضطررت إلى الرقاد. كان فراشي إلى جوار النافذة. وظللت أمدا طويلا مفتوحة العينين، لا أفكر في شيء ما محدد، أتطلع إلى السماء المعتمة، وأنوار المنازل المجاورة، تتلألأ وراء شجرة الليمون، ويتسلل ضياؤها خلال خيمة أوراقها الخفيفة، فيحولها إلى شجرة من أشجار عيد الميلاد. كان بوسعي أيضا أن أرى مزراب الأمطار، مثل لسان جاف مستقيم، وقد انزلق فوقه شبح قطة، وبعيدا، فوق تل منبسط القمة، شجرة وحيدة ملتوية، مثل أشجار الشرق الضامرة. كم حاولت خلال جولاتي أن أعثر على تلك الشجرة، بلا جدوى.
قبل أن أفيق تماما في الصباح التالي، وبينما كنت ما أزال بين النوم واليقظة، أخذت أتقلب في فراشي، كأنما كنت أتشبث بالنعاس، لأتجنب شيئا يقبع في انتظاري، شيئا انحنى فوق فراشي، ولمس وجهي. استيقظت مأخوذة. ما الذي أعطاني الإحساس بأن شيئا رطبا لمسني؟ لعل قطرات مطر تسللت من النافذة، أو ربما ... عندما لمست خدي أدركت أنه مبلل بالدموع، وفكرت: «لن أرى تامارا مرة أخرى على الإطلاق.» لم أتذكر أني تدبرت هذه الإمكانية بالأمس في شيء من الإذعان. بل إني كنت أفكر، أمس، في ضروب أخرى من الراحة واللذة. فلماذا بعث حزني فجأة من جديد؟ بل كيف انطلقت هذه الكلمات من فمي على حين غرة: «لن أرى تامارا مرة أخرى على الإطلاق.» بالأمس، لم تحرك هذه الفكرة شيئا، ولم توقظ أية مشاعر. لعلها كانت مثل الجراح التي لا يشعر بها المرء فور حدوثها، ولا يتألم منها إلا بعد ساعات. كنت عاجزة عن الفهم، فالدموع التي ذرفتها في المنتزه، دموع الغضب والحزن والخزي، جفت بسرعة. لقد عرفت هذه الدموع من قبل، عندما كان أبي يزجرني، أو توجه جوليا اللوم لي، لكن حزني ساعتها كان حزن الطفل المعاقب، الذي يمكن تخفيفه بكلمة رقيقة. وعندما استغرقت في النوم بالأمس، كنت أشعر بالسكينة وبشيء من الخدر. لم أحلم، ولم أستيقظ أثناء الليل. ومع ذلك، ها هي الآن الكلمات المرعبة: «لن تشاهدي تامارا ثانية.»
بكيت بدرجة أقل بكثير من الليلة الفائتة، لكني أخذت أذرع حجرتي جيئة وذهابا، والألم يمزقني، ورقدت ثم نهضت من جديد عشرات المرات. جربت أن أقرأ أو أدرس، دون جدوى. وفي ثورة غضب جنونية، مزقت نقشا قديما كنت أعتز به. وأنا أردد: «غير ممكن، غير حقيقي!» لكني كنت مضطرة للاعتراف بأنه ممكن وحقيقي، فشعرت من جديد بالأسى والحيرة والعذاب. غضبت من نفسي، ومن كلماتي البلهاء: «سأذهب، ولن تريني ثانية!» .. هذه الكلمات البلهاء التي فهت بها. وتلقتها بجدية ولا شك. والمؤكد أنها لن ترغب في أن أتراجع عنها. استأت أيضا من عجزي عن تذكر ما شعرت به من غضب عندما صفعتني. استعدت ما دار بيننا من حوار قبل أن تفعل، لأتبين ما دفعني إلى الانصراف وصفق الباب. ولم أشعر بغير المزيد من الأسف. ثم أضيف الخوف إلى يأسي. فماذا لو أن تامارا، بدافع الانتقام، لم تكتف بأنها لن تراني مرة أخرى. وأخبرت أبي بكل ما دار بيننا؟ وماذا لو أنه حبسني عند ذلك في المنزل أو أرسلني إلى الدير، أو حال بيني، بطريقة ما وبين رؤية تامارا مرة أخرى! فلا أراها مطلقا بعد الآن! لكن ماذا يدعوني إلى التفكير بهذا الشكل طالما أني، بالفعل، لن أراها بعد الآن؟
عند هذه النقطة، أصبحت عاجزة عن التفكير. كان من المستحيل تخيل المستقبل بدونها. كنت عاجزة عن أن أتصور نفسي في الشوارع التي كانت تقودني دائما إليها، أو عابرة للمنتزه الذي طالما قطعته جريا لأنضم إليها بأسرع ما يمكن. كنت عاجزة عن احتمال وجودها بالقرب مني، في ذلك المنزل الذي ما زال قائما. وعن تقبل مغادرتها لمنزلها في الصباح، كعادتها، في ملابس الفروسية، وسيرها بمفردها في الشارع. كنت عاجزة عن تصورها في القطار كل يوم سبت، ذاهبة إلى البلدة المجاورة، أو تتناول غذاء خفيفا من البسكويت والشاي، وتمارس كل شيء كالعادة، بينما أقصيت تماما من حياتها. شعرت أني كنت قادرة على احتمال الأمر ، لو أن زلزالا ابتلع رامبار دي بيجويين وحوريته المغوية، بئر السلم عميق الغور وتامارا ذاتها، بحليها وزخارفها الهشة المثيرة للسخرية، وأقنعتها الأفريقية، وتمائمها المصنوعة من ألياف النخيل.
استعرضت في رأسي كل الأشياء الصغيرة التي تملكها والمكدسة في صناديق الحلوى أو المبعثرة فوق الأرفف، أشياء أعطيت لها، تذكارات، صناديق حياكة من الصدف، وسائد دبابيس، طلاء أظافر، زجاجات عطور، دمى دقيقة في الملابس الإقليمية. كانت تامارا، من وقت لآخر، تحطم بعضا من هذا كله، تلك التي لم تنجح في حمايتها ذكرى سارة، ثم تستبدلها بغيرها، فتحل آنية الزهور البراقة الصغيرة مكان الجوهرة الصينية، ويظهر الجواد الزجاجي حيث كان منظف المداخن الخزفي. لا أعرف لماذا كان أصدقاؤها يصرون على إهدائها هذه الحلي التافهة التي لا تتسق مع شخصيتها. لكنها كانت مغرمة بها، تستمتع بها في لحظات الضجر، كما يحدث عندما يتعلق أحد السجناء بعنكبوت.
أوه. تامارا! تفجعت على كل قطعة من أشيائك، ندبت المنزل والشارع وضوء المصباح الطازج فوق السهل الذي تنطلقين فوقه، ندبت مدرسة الفروسية وهوارد النحيف، وكل واحد من الجياد التي تحبينها - بلزاك، عيسى، هيروندل ... وصوت القش يتساقط في نعومة، مثل منديل يطوى، الخبب الخفيف لجوادك متجها إلى السهل، الشمس والمطر فوق وحدتي المفاجئة وأنا واقفة إلى جوار الحاجز الخشبي، شاعرة بالفراغ الذي خلفه غيابك حتى اليوم التالي. بكيت على حزني عند اختفائك، كأنما كان اختفاء أبديا، وفي المرات التي تحدثت فيها إلي عن إميلي، بقسوة متعمدة، وعندما تقولين، لغير ما سبب على الإطلاق: «كلا. لن أراك غدا.»
لكن ما أحلى تلك الأحزان التي تلاشت في اليوم التالي بين أحضانك! لأنه كان هناك أيضا ذراعاك، ونوبات غضبك الرقيقة، وجسدك النحيل الفاتر إلى جوار جسدي، واللحظات التي تنتابك فيها فورة من الحنان، فتتحدثين إلي في رقة، وأنت تغطين عيني بيدك، بدافع من إحساس غريب بالخجل. وكان هناك فمك العنيف فوق فمي، ونشوتي ونشوتك. كنت عاجزة عن تقبل فكرة حرمانك من لذتك أكثر من فكرة فقداني أنا للذتي. تذكرت كيف يتلاشى الهدوء المألوف لوجهك فجأة، عندما تومض البسمة فوقه، وتنفرج شفتاك عن أنات رقيقة، لا تكاد تسمع، بينما تنظرين إلي بعينين نصف مغمضتين، كأنك تغرقين في حنان سائل، وأسمع من جديد تلك الصيحة الحميمة، منطلقة من أعماق كيانك، أسمع أصواتا كالهديل تنتهي بعويل، بينما أنيابك الحادة تعض على شفتك الشاحبة، ولا تعودين قادرة على إخفاء نشوتك الخبيثة بل الحيوانية. أجل، كل هذا كان اللب المتأجج، الحريف، الذي يتفطر له القلب .. لب حبي لتامارا .. النار التي أدفأت عقلينا، واخترقنا سخونتها خلال جولاتنا على الأقدام، وأثناء الساعات التي كنا نقضيها سويا في القراءة إلى جوار المدفأة، أو عندما كنا نذهب إلى مدرسة الفروسية - السهل، الصباحات، النهر، المنزل، السماء نفسها ... الجميع تلقوا دفئها. كان النهر سيبقى مجرد نهر، والسماء مجرد سماء، والصباح مجرد صباح، لو لم يغتسل كل منهم في ذلك الضوء المتأجج: وجه تامارا في نشوتها. •••
عشت هذا الجحيم ثلاثة أيام. ادعيت أن الأنفلونزا هي التي ألزمتني الفراش. وجاء أبي لرؤيتي، وقد بدا عليه الانشغال أكثر من المعتاد، فلمس جبهتي وعندما وجدها ملتهبة نصحني باستدعاء الطبيب. رفضت هذا. وفي اليوم الثالث، شعرت بقليل من التحسن، وإذا بحادث يعيدني إلى هوة اليأس. فلكي أبرر بقائي في الفراش، شكوت الأرق، فجاءتني جوليا بفنجان من شاي الليمون المحلى قليلا بطعم الفانيليا. وكانت تامارا، في لحظات رقتها العارضة، تقدم لي شاي الليمون ثم تضيف إليه بعض الفانيليا. وعندما أشربه، كنت أشعر بلذة انتهاك المقدسات؛ لأنه كان يذكرني بما تعده لي جوليا، وهو ما كان يجسد لي راحة الحياة الأسرية. كما كان يبدو لي، وأنا أتناول الفنجان من يدي تامارا، إن حبي القلق، الرعديد، والمشبوب لها، ينضح، بطريقة ما، حبي البنوي لجوليا. وهكذا ما إن أبصرت الفنجان في يد الخادمة وشممت تلك الرائحة، حتى بهت وانفجرت بالبكاء.
تفاقمت حماي، وأعلن أبي أنه لا بد من عرضي على الطبيب في الغد، أحببت ذلك أم لم أحبه. وبالصدفة، نمت جيدا في الليل، وعندما رآني الطبيب في اليوم التالي، منتعشة، فيما عدا قليل من الشحوب، أعلن أني لا أشكو من شيء ذي بال، وأمرني بحزم أن أعود إلى المدرسة وأكف عن التمارض.
صدعت بالأمر، وظللت عدة أيام أجر قدمي من البيت للمدرسة، قائمة بالتفافات سخيفة لأتجنب شارعا أو منزلا قد يذكرني بتامارا. ولم أعد أتمشى في المنتزه أو أقترب من قوارب الميناء. لم أعد أتسكع أمام واجهات الحوانيت، حيث تتملكني الرغبة في آلاف الأشياء: أقنعة المهرجانات، رءوس المغازل، الرخام الملون. لم أعد أقرأ، لم أعد أفعل أي شيء. وإذا جلست إلى المائدة، كنت دائما أكسر كوبا أو طبقا. فإذا ما غادرتها لأحضر منشفة نظيفة، كنت أتعرض للحظة من الشرود، فما إن أصل إلى الدولاب حتى أكون قد نسيت تماما ما أبحث عنه. لم يعلق أبي بشيء، لكنه كان يرقبني في قلق.
في نهاية أحد الأسابيع، لم أعد قادرة على تمالك نفسي، وقررت الذهاب إلى مدرسة الفروسية. كنت آمل أن ألتقي بتامارا، فاقتفيت أثر الطريق الذي تسلكه عادة إلى هناك. لكني لم أبصر سوى بعض العمال فوق دراجاتهم، متجهين في صمت وسرعة إلى أعمالهم، وصوت عجلاتهم يتردد في السكون مثل رفيف أجنحة. هل أقلعت تامارا عن الركوب في الصباح؟ أم اتبعت طريقا أخرى، لتتجنبني؟ بلغت البوابات الدوارة، دفعتها في رفق كي لا أحدث صوتا، كي أرى دون أن يراني أحد. فقد خشيت أن تكون هناك وتراني فتغضب وتعنفني أمام هوارد. لكن البوابة أطلقت صريرا مرعبا، جاء بهوارد نفسه من أحد المرابط بحثا عن السبب.
قال: «أوه، هالو يا مدموازيل!» وبدا لي صوته أقل طبيعية وسماحة من ذي قبل.
قلت متلعثمة: «هل .. هل مدام سولر هنا؟»
تأملني في فضول ثم قال: «كلا .. لا أعرف إذا كانت ستأتي اليوم .. هل تحبين الانتظار؟»
هالتني فكرة المشهد الذي قد يراه الجوكي فقلت: «كلا، كلا.» وهربت في حالة يرثى لها.
ما إن بلغت ناصية الشارع حتى رأيت تامارا. كانت تتقدم ناحيتي، غارقة في التفكير، وهي تضرب حذاءها ذا الرقبة بسوط الركوب. تسمرت في مكاني عاجزة عن الحركة، واقتربت هي دون أن تلمحني. ورغم عذاب الخوف والحزن، لم أتمالك نفسي من التطلع بفضول إلى وجهها. أردت أن أرى كيف تبدو عندما تظن أنها بمفردها . بدا لي أقل صلابة، مستغرقا في تفكير حاد، بومضة عذوبة فوق الوجنتين. أكانت تفكر بي؟ كاد يغشى علي عندما تخللت شعرها بأصابعها، كما تفعل عادة. وأخيرا، عندما أصبحت على مبعدة عشر ياردات أو أكثر، استقرت عيناها فوقي. لم تجفل، وواصلت تقدمها بنفس المشية المتمهلة وهي تنظر إلي. تمنيت أن أهرب، أو أغوص في باطن الأرض، لكني لم أستطع حراكا. كنت مسمرة لصق الحائط بفعل قوة غامضة. وخطر لي أنها قد تلطمني على وجهي بسوطها، لكن هذا الخاطر لم يمدني بالقوة على الحركة. مرت بي دون أن تنبس بكلمة، وهي تنظر إلي كأني أحد المارة المجهولين، ثم اتجهت إلى المدرسة. ورنت مسامير نعلي حذائها فوق الحجارة بصوت واضح مجرد من أي شفقة. سمعت صرير البوابة، ثم اختفت. بقيت في مكاني، في ناصية الشارع، الذي كان ما زال غارقا في الظلمة، أسفل ضوء المصابيح المضطرب. وبعد دقائق ظهرت، ممتطية صهوة بلزاك، وانطلقت نحو السهل دون أن تلتفت لتتبين ما إذا كنت في مكاني ما زلت.
همت على وجهي طيلة الصباح في الناحية، مثل كلب ضال، تأخذني البغتة عندما يدخل أحد الجياد الحظائر أو يخرج منها، على أمل أن ألمحها، متوارية عن أنظار هوارد، الذي قيل له ولا شك إنها لا ترغب في رؤيتي مرة أخرى. لكني لم ألمح لها أثرا. فلا بد أنها مضت إلى جانب السهل، ملتفة حول البلدة، بحذاء السور والميناء، كي لا تصادفني. انتهى كل شيء فعلا.
اتجهت إلى منزلي. كنت قد غادرته في السادسة صباحا، وبقيت في الشوارع المتربة حتى الظهر. ولهذا كنت في حال تعسة، متسخة، منهكة، وبلا أمل. تمنيت أن أصاب بمرض خطير يهدد حياتي. وعندئذ تأتيني تامارا تائبة، لتنحني فوق فراشي وتغمغم: «اغفري لي! لم أقدر حبك حق قدره!» وبهذه التخيلات تمكنت من هدهدة حزني حتى بلغت المنزل، حيث يمكنني أن ألجأ إلى فراشي وأبكي كما أشاء.
وجدت جدي في غرفة المائدة، جالسا فوق مقعد من الدمقس، أحمر اللون، وساقاه الطويلتان ممددتان أمامه، وفي فمه غليون.
يعيش الآن جدي، الذي كان صائد سمك في شبابه، متقاعدا برفقة شقراء في الأربعين من عمرها، يدعوها بمدبرة منزله. كان عكر المزاج، غير مبال بنظافته أو هندامه عن عمد، ساخطا على بطالته الإجبارية (بعد أن فقد ذراعا في حادثة)، يزدري ابنه الذي ارتقى في المراتب الاجتماعية إلى مكانة «صاحب عمل». لهذا كان يجد لذة خبيثة في مضايقة أبي بين الحين والآخر، بإغارة على منزلنا يعقبها دائما شجار عنيف. «حسنا! جئت أخيرا، أليس كذلك؟ اعتقدت أنكم هجرتم المنزل كما تفعلون دائما عندما ترونني قادما. لكم طريقة خاصة في الترحيب بالمرضى والمعوقين! أين رينيه؟»
أجبت متلعثمة: «أظنه خرج.» فقد حالت دهشتي دون ابتكار عذر ما؛ إذ كنت على يقين أن أبي هرب عندما علم بمقدم أبيه.
قال: «بالطبع! لو لم يفعل لدهشت! لقد تلفنت هذا الصباح لأقول إني قادم ولم تكوني بالمنزل. لو كنت «لخرجت» أنت الأخرى ولا شك.» لم أعبأ بإنكار ذلك لأني لا أصغى عادة لما يقوله. كنت ما أزال أرى تامارا تقترب مني دون كلمة، تبدو لا مبالية، كما لو أننا لم نلتق، ولم نتبادل الحب .. وفكرت فجأة: لعلها لم تحبني مطلقا. لعلها كانت تتسلى وحسب، لتملأ فراغ بعد الظهر الطويل. ربما كانت تهزأ بي منذ وقت بعيد. كلا، لم يكن هذا ممكنا. كانت حنونا معي ورقيقة، أحيانا. ذات يوم أحضرت لها زهورا فقالت في رقة بالغة: «يجب ألا تفعلي هذا أيتها الطفلة العزيزة الغبية.» وفي مرة أخرى طلبت مني أن أسجل قائمة كبيرة من الكتب لأقرأها. وتذكرت شيئا. قالت لي ذات مرة، ونحن مستلقيتان جنبا إلى جنب فوق أريكة غرفة المعيشة: «هذه هي المرة الأولى، يا أعز الناس، التي أشعر فيها بالسكينة منذ جئت إلى هذا المكان.» كانت تدعوني بأعز الناس لديها، بواحتها الصغيرة في الصحراء. أجل، لقد أحبتني فعلا، لا شك في هذا. وأراني إلى جوارها مرة أخرى، نتمشى، ونقرأ سويا، وقد أشرق وجهها بالبهجة، وأرى من جديد يديها الجميلتين تسحقان أعقاب السجائر فوق المائدة، أو تحيك في حرص بالغ، كأنها ملاح يصلح شراعا. أوه، وجهها، دائما وجهها ... لكن كيف يسعها، لو كانت تحمل لي أقل قدر من الحنان، أن تعاملني بهذه القسوة، وتتظاهر بأنها لم ترني، ولا تلتفت لتتبين ما إذا كنت ما أزال هناك، تائبة هدها الحزن ... أجل، كنت أنا التائبة! فمهما حاولت إقناع نفسي باني لست مذنبة في شيء، كنت نادمة في أعماقي على انصرافي المفاجئ وكلماتي الغاضبة.
ومرة واحدة، بصورة فظة، منطقية، غير متوقعة، مثل شعاع ضوء، خطرت لي فكرة: إنها لم تحرم علي العودة! أنا التي فرضت على نفسي الحرمان بنفسي! لماذا لم أدرك منذ ذلك اليوم البغيض، أني أستطيع العودة إلى مسكنها؟ لأني تصورت أنها ستأخذ بجدية كلماتي القاطعة، بأني لن أزورها مرة أخرى. عندما فهت بتلك العبارة، شعرت أني نطقت بحكم إعدامي، وكانت تعاستي، التي تمخضت عن عبارة «لن أرى تامارا مرة أخرى على الإطلاق.» من الحدة بحيث حالت بيني وبين أن أدرك، خلال الأسبوعين الماضيين، أني أنا، وليست هي، من قالتها. إذن ... لعلها انتظرت عودتي؟ وربما كانت تعيسة مثلي، لكن كبرياءها منعتها من اتخاذ الخطوة الأولى؟ ربما ما زالت تحبني! هذا الأمل، الذي انتعش، في نفس اللحظة التي اعتقدت فيها أن كل شيء قد ضاع، رفع معنوياتي إلى السماء. كل شيء الآن يمكن تفسيره. لقد انتظرت عودتي طوال أسبوعين، ولهذا تجاهلتني بدافع من غضبها المشروع. كانت غاضبة مني لأني تركتها، ولعلها ظنت أني لم أعد أحبها، مثلما ظننت أنا أنها لم تعد تحبني. فهمت كل شيء، وصفحت عن كل شيء، واغتفرت كل شيء. حتى العنف الذي مارسته معي، وأثار حفيظتي، بدا لي الآن مشروعا. لعلها ظنت أني عازفة عن إمتاعها، أو أني أشعر بالعار من صحبتها، أو ... أيا كان الأمر، كنت على استعداد لمغادرة المائدة، والاندفاع إلى رمبار دي بيجوين، لأحيط عنقها بساعدي، وأحدثها عن مدى حبي لها، وعن تعاستي، وعجزي الغبي عن الفهم. لكن ما كان بوسعي أن أترك جدي، الذي جلس هناك، يأكل في صمت، صورة مجسمة للاستياء.
أكل بشراهة، ومسح شاربه عدة مرات؛ لأنه كان طويلا يتخلل الحساء. لكني كنت أتأمله في سماحة. كنت مذهولة من غبائي، ومعاناتي المروعة نتيجة شيء لا وجود له. وبدأت أشعر بالسعادة لأني عانيت إلى هذه الدرجة، طالما أنه لم يكن ثمة مبرر، وطالما أني، بعد ساعة، إذا لم تكن تامارا بالخارج، سأستمتع مرة أخرى بالسعادة التي خلت أني فقدتها إلى الأبد، وستكون سعادتي أكثر لأني قادرة الآن على تبين مداها.
نظرت إلى منكبي جدي الكبيرين، ويده الوحيدة، وقد بدا ضخما، تعوزه رشاقة الحركة والتعبير، مثل وحش غريب، ووجهه المغضن، وعينيه الصغيرتين الرماديتين الحذرتين، وأدركت فجأة أني عاجزة عن كتمان ما بقلبي:
قلت: «أتعلم يا جدي؟ أنا جد مغرمة بك.»
رفع رأسه في دهشة، فلم تكن عادتنا أن نتبادل كلمات الحب. سألني في شيء من التبرم: «أأنت مريضة؟» لكنه فيما يبدو ندم على وقاحته في الحال ومال نحوي قائلا: «أجل يا طفلتي. وأنا مغرم بك. ليس بك الكثير من أبيك، وتبدين أحيانا مثل واحدة من فتياتنا.» وكان يعني بذلك الصيادين، مقابل بنات أصحاب الأعمال، الأعداء. اعتبرت حديثه من قبيل الثناء. لكني التمست عذرا، بعد الحلوى مباشرة، للانصراف.
قلت: «إنهم ينتظرونني في المدرسة الآن.»
قال: «آه! أنا أعرف ماذا تعنين بالمدرسة. حسنا، حذار أن تحملي وإلا أنت تعرفين ما سينالك من أبيك!»
تضرج وجهي بشدة، على ما أظن. لكني لم أعبأ بنصيحته. شعرت أنه مسرور من فكرة قيامي بأفعال ما من وراء ظهر أبي.
قلت: «وداعا يا جدي.»
قال وهو يمسكني من خاصرتي: «لينا، إذا واجهتك أي متاعب، تعالي إلى جدك العجوز، وسوف يصلح كل شيء. والآن، اذهبي أيتها التافهة التي لا تصلح لشيء.»
لم يحدث أبدا من قبل أن تخلى عن تحفظه. وأدركت أني فزت بعطفه. وشجعني ذلك، إذ اعتبرته إشارة من السماء.
مضيت دون إمهال إلى رامبار دي بيجوين. وارتقيت الدرج جريا، دون أن ألقي نظرتي الودودة المعتادة إلى التماثيل الأنثوية، وضغطت جرس الباب. فعلت ذلك دون تفكير، ودون حتى أن أنتظر حتى ألتقط أنفاسي.
فتحت تامارا الباب بعد برهة.
كانت خطتي الوحيدة أن ألقي بنفسي بين ساعديها، وأترك العنان لدموعي، ثم تتولى الصدفة أمر الباقي. لكنها وقفت بعيدا، فعجزت عن تنفيذ ما نويته، وبقيت أمامها في بلادة، أحدق في خطوط الأرضية. فاضت عيناها، الباردتان عادة، بنظرة ساخرة. لكنها تكلمت، كما اعتقدت، بشيء من الرقة. «آه ... ها أنت قد جئت!»
قلت: «أجل، فكرت .. اعتقدت ...» وتلعثمت، عاجزة عن التعبير، وأنا في مكاني عند المدخل.
تراجعت إلى الوراء، مفسحة لي الطريق، وقالت: «ادخلي لحظة.»
وجدت نفسي أخيرا وسط الحجرة. وبأمل التوصل إلى مصالحة، خطوت نحو الأريكة لكنها جلست فوق ذراع مقعد واستوقفتني قائلة: «أنا أمنعك من الجلوس. أجيبيني أولا. هل تغلبت على نوبة غضبك الصغيرة؟ هل ندمت على انصرافك؟»
غمغمت: «أجل.» كانت تتأملني من أعلى إلى أسفل، فشعرت باضطراب شديد، وارتعدت خوفا من ألا تتطور الأمور بيننا كما تمنيت. «تريدين العودة؟ كأن شيئا لم يحدث؟»
أطرقت برأسي. «حسنا جدا. اطلبي الصفح.»
وكانت تعبث دون اهتمام بنرد. «إذا أردت البقاء، فيجب أن تنحني فوق ركبتيك، وتطلبي المغفرة.»
لم يكن هذا بوسعي. ليس بدافع الخزي أو العناد. فلم يكن بإمكاني الركوع وسط هذه الغرفة، وأمام هذه المرأة، التي كانت تتأملني بتهكم، وتسألني التوسل طلبا للمغفرة على شيء ارتكبته هي في حقي. هكذا وقفت مكاني بلا حراك، أناشدها بعيني ألا تطالبني، وأن تدرك أني نلت كفايتي من العقاب لو كنت أستحقه، وأني أحبها.
اعتدلت واقفة، وتقدمت مني في عزم، ودون أن تضيف كلمة، استغلت بغتتي، وأمسكتني من كتفي ثم دفعتني نحو الباب. وعندما صرت في الخارج، أغلقته خلفي.
بقيت وحدي في بئر السلم الذي ساده الصمت. وجاءني صوت ارتطام متتابع من الفناء. لا بد أن أحدا كان ينفض سجادة. لم أعد قادرة على احتمال المزيد. فبعد ما عانيت من عذاب ، راودني الأمل المجنون، وأخيرا هذا السقوط من جديد في هاوية التعاسة، التي لن يكون لها حد هذه المرة. فلن تتراجع عن موقفها، ومهما توسلت وناشدت، سيبقى بابها مغلقا إلى الأبد في وجهي. إلى الأبد.
ضغطت الجرس من جديد. لم تفتح الباب. فالتصقت به: «تامارا! إنها أنا! افتحي الباب، أتوسل إليك! سأفعل كل ما تطلبين!»
انتظرت مدة طويلة في سكون مطبق. كانت في الغرفة ولا شك. فعندما دخلت كان الباب المؤدي إلى المطبخ مغلقا، وما كان بوسعها أن تفتحه دون أن أسمع صوت احتكاكه بالأرض. ومعنى هذا أنها لا تزال في الغرفة، خلف هذا الجدار، وأنها سمعت صوتي. كنت أعرف أن أي شيء يحدث عند العتبة، يسمع بسهولة في الداخل. ومع ذلك لم تفتح لي! كانت تتعمد تعذيبي، وتريد أن ترى إلى متى سأبقى متوسلة أمام الباب المغلق. لكن ذلك لم يكن بذي أهمية كبيرة. فلن أنصرف قبل أن أراها. فما كان بوسعي أن أواجه مرة أخرى أياما كتلك التي مضت. يستطيع المرء أن يتقبل نازلة ما، عندما لا يدرك كنهها بالضبط، عندما تأتي بشكل مفاجئ، وتهبط فوقك كثقل هائل لا فكاك منه. لكن عندما تعرف التفاصيل الكاملة لها. وتكون قد قضيت أسبوعين تحت وطأتها، وعانيت كافة مراحلها: المرض، الآمال الزائفة، الذكريات، الانتظار القلق والمثير للسخرية، وعندما تكون قد تجاوزت هذا الجحيم، وشعرت بأنك قد نجوت، وأصبحت على أهبة أن تقدم شفتيك لفرح جديد، تكفي كلمة واحدة لأن تقضي عليك، ولهذا لا يمكن احتمالها. إذ كيف يمكنك الاحتفاظ بصفاء التفكير، كيف يمكن أن ترفض أية تضحية، أو ترفض التوقيع على حكم إعدامك؟
توسلت إليها: «تامارا!» وفي مواجهة هذا الصمت فقدت كل سيطرة. كان لا بد من إجبارها على الاستجابة، ومن رؤيتها مرة أخرى، مرة واحدة أخرى. فإذا كان الفراق محتما، فلا يجب أن يتم الأمر هكذا، دون وداع، وبلا إيضاح. انتابني هياج بالغ، وتمنيت لو أطلقت العنان لغضبها، وانفجرت ثائرتها، واتهمتني بشيء ما على الأقل! «تامارا! افتحي الباب. سأطلب الصفح والمغفرة ! تامارا! يجب أن أراك!»
ضغطت الجرس مهتاجة، وخبطت على الباب، وأنا أنشج وأتوسل. لم أعبأ بأن يسمعني السكان الآخرون، ولم تعد تامارا نفسها بذات أهمية. فقد استحوذت علي فكرة واحدة: لا بد من فتح الباب. «سأظل هنا حتى تفتحي! سأبقى طول الليل!»
غصصت بالدمع. وبلغ بي الأمر أن ضربت الباب بحذائي، ظنا مني أنها ستفتحه عندئذ اتقاء للفضيحة. وأخيرا، خانتني قواي، فتهاويت على أرض البسطة، وأنا أردد في هيستيرية كلمات غير مفهومة، وأعض منديلي، وأتمرغ على الأرض، وأضرب رأسي في الحائط، هذا الباب المغلق.
وفجأة، أسكت وشل كياني: فقد خرجت تامارا إلى البسطة. انحنت فوقي، فأنهضتني فوق قدمي، وقادتني وهي تسندني إلى الداخل، نحو المطبخ، قامت بكل هذا في برود، أدركت معه أن سلوكها نابع من الضرورة. واصلت البكاء في صمت، بمثل ما واصل قلبي الدق، وكدت أختنق بدموعي المكظومة وأنا أسعل وألتقط أنفاسي. كان ثمة صنبور يقطر في بطء. كنت خائفة، شاعرة بالخزي، وكلما نظرت إليها عاودني السعال والنشيج بشكل لا إرادي. وبعد دقائق أمسكتني من رقبتي، ودون أن تعبأ بمقاومتي، وضعت رأسي أسفل صنبور الماء البارد، بعد أن فتحته على سعته. وأخيرا أطلقتني، وانتظرت في صمت حتى انتهيت من تجفيف وجهي وعنقي، ثم أشارت لي أن أتبعها إلى غرفة المعيشة. وهناك أومأت إلى وسط الأرضية وقالت بإيجاز: «اركعي.»
هذه المرة ركعت دون تردد. ففي تلك اللحظة كان بوسعها أن ترغمني على أي شيء.
قلت في ذلة: «اصفحي عني!»
نظرت إلي لحظة.
قالت: «طيب.»
ثم تقدمت مني. ظننت أنها تنوي الاستمرار في تعذيبي، وأنها ستصفعني، وعاهدت نفسي على الخضوع والقبول بكل شيء. لكنها ركعت إلى جواري، واحتوتني بين ذراعيها، وقبلتني، ببطء، ودربة وحلاوة، إلى أن دفعتني إلى الخلف، ورقدت بين ذراعيها فوق الأرضية. •••
لم أعهد مطلقا من قبل لذة أكثر حدة من تلك التي عرفتها في ذلك اليوم الذي ظننت فيه أني فقدتها. ولم أدرك من قبل بمثل هذا الوضوح، مدى سلطانها علي، واللذة الشريرة التي تستمدها من استخدامه .
استيقاظ مود
للكاتبة الأمريكية مارج بيرسي (1966م)
Maud awake by Marge Piercy 1966
بعد الحمام، جلست في قميصي الداخلي أمام مرآة زينة أمي. بدا أن جوا احتفاليا يخيم على الغرفة الصغيرة بجدرانها الوردية القديمة. قوست عنقي، وشددت قاماتي بقدر ما أستطيع، لأبدو أطول ما يمكن أمام المرآة، مجللة بالرغبة، أميرة وكاهنة في آن واحد. طقس الوحدة الذي سيصهرنا في كائن واحد. كان بوسعي أن أتبين في صفحة وجهي، شحوب التركيز، قوة العزم والقرار. لو فقط كنت أبدو أكبر سنا. هل أقترض مساحيق أمي؟ كم من المرات تخيلت هذه الليلة، بأبطال عديدين مختلفين، في مدن محاصرة، في سجون وقصور وخيم. يفعل الحب - يا لها من عبارة متوترة. ها أنا الآن في بؤرة مشهد: أريد استعدادات أكثر دقة، مونولوجا، موسيقى تتصاعد حتى الذروة، كورسا من المشاهدين. (تجلس أمام المرآة في الدقائق الأخيرة الضئيلة من تمالك النفس والانفصال كشجرة بينما فراشة الخوف تخفق في عنقها.) «لم تنته بعد من ملابسك؟» تغلق أمي الباب، فتصطفق حمالات الثياب، وتحف أربطة عنق أبي. «لماذا تتلكئين؟ لست من أنصار ترك الرجل ينتظر.»
هل تنصرف إذا ما تجاهلتها؟ اذهبي، أرجوك.
تنظر إلى الرداء الملقى فوق الفراش، بلوزة سوداء اشتريتها في الصيف الماضي لأذهب فيها إلى العمل: «ماذا سترتدين؟»
أستجمع شجاعتي: «هذه بالطبع.»
أرتدي البلوزة، فتنزلق الأزرار الصغيرة الفاحمة السوداء، من بين أصابعي الساخنة. «أسود؟ لماذا ترغبين في مظهر كئيب؟» وتزيل بأظافرها في سخط، نسالة وهمية من الجوبة.
أنكمش، في محاولة لتجنب لمستها: «لا بأس من ارتدائها فلون بشرتي فاتح.» لماذا أدافع عن نفسي؟ «كأنما مات أبواك! أسود أسود أسود! حتى تشبعي من الجنازات.» وترتمي فوق البنش بتنهيدة راحة، معتمدة بذراعها على حافة المزينة: «ماذا ينتوي هذا الفتى .. مايكل؟» - «التدريس في الجامعة.» - «هؤلاء لا يكسبون كثيرا.» - «لا شأن لي يا أمي، فلن أتزوجه!» - «بالطبع لا. ألا يمكنني أن أعلق بشيء؟» وتلتقط شعرة من فوق كتفي ثم تشد ردائي: «وأبوه، ماذا يفعل؟» - «كان طبيبا، لكنه مات.» - «مسكين». وتنحني لتقرص ذراعي هامسة: «يهودي؟»
أطرقت برأسي مؤمنة.
تستدير إلى المرآة، ترمق نفسها وتتخلل شعرها بالفرشاة: «أبوك لن يحب ذلك. هل هو من الأصوليين؟» - «كلا.» - «أنت تعرفين المشكلة التي كانت مع جدتك. كان بابا يقول دائما: نحن في حاجة إلى أساليب جديدة في الأرض الجديدة. كان رجلا متقدما للغاية. كان يقرأ خمس لغات، وكانت إنجليزيته تامة.» - «مايك متخصص في اللغة الإنجليزية.»
تترك يديها تسقطان فوق فخذيها وهي تهز رأسها: «لم أر أبدا أي نفع عاد به ذلك على أبيك، وهو يبيع من باب لباب، ويعمل في دكان أحذية، ثم يموت تاركا لنا كل هؤلاء الأطفال. إنها حياة صعبة، يأكل فيها الكلب أخاه، فلا تنصتي لهؤلاء الأساتذة عندما يقولون لك شيئا مختلفا.» تجلس محملقة لحظة، ثم تنفجر كأنما عارضتها: «لكنه كان رجلا ألمعيا، لا تنسي ذلك!»
لماذا لا يأتي؟ أعبث بشعري. تلمسني مرة أخرى لتصنع به شيئا ما. يقشعر جلد رأسي، وتنتقل منه شرارة إلى يدها: «هكذا كنت أصفف شعري في سنك يا حبيبتي. سيبدو شعرك حلوا للغاية بهذا الشكل. دعيني أقصه لك.»
قوة الإغراء في صوتها الملاطف: اتركي نفسك لي، وسيكون كل شيء رائعا في حديقة ما كان. لا أجرؤ على تذكر كم كنت أحبها عندما كنت صغيرة فوق حجرها: «مايك يحبه هكذا.» لماذا تحدق في بذلك التوق العارم، ليس لي. وإنما خلالي، لتجعل مني شبحا يجسد أحلام يقظتها؟ عندما تؤطرنا المرآة، نحن الاثنتين، جنبا إلى جنب، لا أستطيع النظر إلى نفسي بموضوعية.
يرن جرس الباب بدقاته الثلاث، الوسطى معطوبة ومكتومة، دينج تونك دونج. أنهض وأجري إلى الباب. «الآن تسرعين.» وتمرق إلى جواري، محتكة بي، نحو الدوران المؤدي إلى غرفة المعيشة، وهي تربت على شعرها.
أبي يهز يد مايك، وقد بدا الاثنان متجهمين، بينما تقافزت أمي متوردة بالفضول: «لا بد أنك مايكل! تكلمت مود كثيرا عنك!» «كيف حالكم؟» لو كان مايك قد دق بمسمار إلى الجدار، ما بدا أكثر تصلبا. فقد تجمد وجهه في رسمية عمياء، ناظرا إلى الأمام مباشرة، إلى لا شيء. يجلس في المقعد الذي عينته، إلى جوار التلفزيون. يبدو موصدا في مواجهة منزلنا. أحن إلى الرسوم المدورة على شكل العجلة فوق الأذرع العظيمة للأريكة، والطواويس المذهبة المختالة فوق العتبات العالية، والفوضى الخزفية المبهرجة فوق الأرفف ذات الحليات الدقيقة التافهة. هذا المنزل، المزخرف بالحواشي والأجهزة، يطفو مثل فقاعة فوق سطح كبرياء أبوي وزهوهما. لم أرهما من قبل أكثر عرضة للانتقاد من الآن، أمي في المقدمة، فوق الأريكة، وأبي في الخلفية، وراء سحابة من الدخان، يتساءل، ولا شك، لماذا لم أظل في العاشرة من عمري، أو لماذا لم أكن صبيا. لكنه يتحامل على نفسه، ويسلك حنجرته: «ماذا تدرس في المدرسة؟» - «الأدب يا سيدي.»
يطرق أبي برأسه: «هل تعمل والدتك؟» - «إنها متخصصة في المكتبات.»
تفور رغبتي في حمايته وأنا أشهد التوتر يتزايد حول فمه وعينيه: «سوف نتأخر على العرض». وأجذب سترتي، فأصطدم به عندما قفز واقفا، متأخرا بعض الشيء، ليساعدني.
قرقت أمي بلسانها: «مايكل! أعرف أننا لسنا بحاجة لأن نطلب منك ألا تبقي مود بالخارج حتى وقت متأخر. أنا واثقة أنك فتى طيب، وأنت تفهم أننا سنشعر بالقلق عليها. ثم إنك لن تسوق بسرعة.»
أشعر بنا نتحول، تحت نظرتها التي تشع بهجة وسعادة، إلى مراهقي الرسوم المتحركة. وأخيرا نصبح في الخارج ومايك يهرولني نحو السيارة. «يا سلام! حلو الخروج. أليس كذلك؟» لا يرد علي. «ماذا كنت تفعل؟» مرة أخرى لا إجابة. لماذا؟ لا بد أنه غاضب لأن أبوي وجها إليه هذه الأسئلة الكبيرة. يقود السيارة كأنما يهرب من أحد، منطلقا في شوارع جانبية بصورة عشوائية، في دوائر عفوية، لكنها تزداد اتساعا. التوتر العصبي رفيق ثالث بيننا. ليس هذا صمتنا الجميل، لكنه صمت فج، وضيع. يسلك حنجرته دون أن يتفوه بشيء. لا أجد ما أقوله وأذيب به جمود وجهه. إنه لا يحبني. أسرته استعادته بأن سرقته مني.
أخيرا: «قولي شيئا!» - «ماذا تريدني أن أقول؟» - «ألا تعرفين؟ فكري.» ويدفن عقب سيجارته في المطفأة فينبعث منها دوش من الشرار الأحمر .. «تهنا.» «سأنتبه إلى لافتات الشوارع.»
يقود ببطء أكثر وهو منحن إلى الأمام . يقود متطلعا أمامه مباشرة، وأجلس إلى جوار النافذة أرقب الأضواء تومض مبتعدة، خائفة لو نظرت إليه أن يتهمني بالتحديق فيه. ماذا فعلت؟ «ربما كان الأمر هكذا: كل عملية الترقب والواقع. الخيال يذوي متحولا إلى حقيقة.»
ألمح لافتة شارع شبرمان، لكني لا أجرؤ على مقاطعته. كرة من الزئبق البارد الزلق تتشكل في معدتي. - «ما رأيك لو انتحرنا الآن؟ قبل أن نذوق الواقع؟ من يعرف إلى أي درجة سيخيب أملنا؟» كل ما أفهمه أنه لا يريدني. أتمنى لو أن حائطا سقط وغطى عاري. تزداد ظلمة الشارع أمامنا ونحن نقعقع فوق معبر لخط حديدي: مصانع ومخازن صغيرة بواجهات مصمتة مقبضة. - «أجيبيني! أأنت هنا، هل مللت؟» - «أنا تعيسة. ماذا تريد؟ أنا هنا، وراغبة. لماذا تعاقبنا؟» أميل بخدي على الزجاج. موقع انتظار خال. - «لماذا لا تقولينها؟» - «أقول ماذا؟» - «ماذا تتصورين؟ لا شيء غير أنك تحبينني. إذا كنت.»
أحدق فيه وهو في انحناءته العدائية فوق المقود: «بالطبع أحبك». يتوقف إلى جوار منحدر الشحن لمبنى مظلم: «لماذا لا تقولينها؟» - «متى؟ أنت لم تعطني الفرصة أبدا.» - «لأنك دخلت السيارة وجلست أبعد ما يمكن.» - «لكنك ... دعنا نبدأ من جديد. طاب مساؤك يا مايك.» - «يا إلهي. لقد افتقدتك هذه الأيام الثلاثة. من لحظة نهوضي في الصباح دون أن يكون تليفونك هو الذي أيقظني.»
ظلمة، فيما عدا ضوء الشارع الأزرق الشاحب، ووهج الساعة التي يخلعها ويلقي بها فوق لوحة القيادة. صمت معدني يحيط بدقات أصابعه فوق المقود. يلمس كتفي ونتبادل القبلات في خجل. ملاطفات بطيئة ونحن نتظاهر بعدم حاجتنا إلى العجلة. أشعر بثقل تنفسي. يقبل عنقي، ويمس شعره الحريري شفتي .. أزرار قميصه صغيرة وخانعة لأصابعي، كأنها تختفي من تلقاء نفسها. تحته يبدو عاريا، بشعر أصفر يحدث دغدغة. - «لماذا هذا التجويف وسط صدرك؟»
يتعمد مضايقتي: «ولماذا ليس لديك مثله؟»
تحرير كل واحد منا يختلف عن الآخر. تبدو ملابسه الداخلية، للمفاجأة، مألوفة؛ لأنها تشبه ما تبتاعه لي أمي في الأوكازيون: أقطان، بيضاء، طفولية. أجذب بخرق، فيتحرر. أمر كوميدي: ذات مرة أعطاني عمي علبة صغيرة، تزيح غطاءها فينبثق رجل يحمل مطرقة وينهال بها على أصابعك.
يتحسس بطني في رقة: «بشرتك ملساء وبيضاء، كأنها من القمر. لكنك أكثر دفئا.» ••• - «أرشديني .» - «لماذا تتوقع مني أن أخبرك. المفروض أنك أنت الذي يعرف كيف.»
يئن: «يا إلهي!» يعتدل جالسا وهو يدعك ظهره: «المقود اللعين يكاد يخترق عمودي الفقري. تعالي ننتقل إلى الخلف.»
نتكئ، كل منا على الآخر، شاعرين بالحنق والغيظ. يداعب شعري. وأمد يدي إلى علبة سجائري، فأشعل واحدة نتبادل تدخينها. - «مايك، هل أنا مختلفة عن الأخريات جسديا؟» - «وكيف أعرف؟» - «ألم ...» - «خبرتي قدر خبرتك بالضبط.» يحول وجهه بعيدا. - «أرجوك. انظر إلي. أنا مسرورة. لأننا متساويان.» - «تحاولين التهوين من الأمر.» - «يجب أن تكون مسرورا أنت الآخر. لو كان لك ماض، لأصبتك بالجنون من كثرة الأسئلة.»
يضمني إليه: «على كل .. المفروض أن تأتي مزودة بالإرشادات الضرورية. مثل كل الأشياء الجديدة.»
على الأقل، في هذا الوضع يمكننا أن نبتسم لبعض. أدفن ركبتي في فرش المقعد. ••• - «على الأقل نجحنا يا صديقتي العجوز.» يمسك بكتفي: «أنت محاربة ممتازة. تودين أن نكتفي الليلة؟ أشعر بالرغبة في ساندوتش بسطرمة ساخن.» - «أظن أني اكتفيت، إذا لم يكن لديك مانع.»
أتبعه حول السيارة حتى المقعد الأمامي، ونجلس متجاورين. - «كم الساعة الآن؟» - «الحادية عشرة فقط»، وبابتسامة ملتوية: «سنعيدك في الثانية عشرة والنصف. أليس هذا هو الحد؟»
أنا الغريبة الجميلة
للكاتبة الأمريكية روزالين دريكسلر (1965م)
I am the beautiful Stranger by Rosalyn Drexler 1965
من يحبني الآن وأنا أكره العالم؟ ليس غير علبتي الحجرية. أوه، أعرف أنها لا تفعل في الحقيقة، لكني أخرجها من حقيبة المخيم القديمة، وأضعها على قاعدة النافذة. أقول لها: «تبدين في ميعة الصبا. لم يتقدم بك العمر على الإطلاق. سأريك معنى المعاناة.»
رفعت صخرتي من يد إلى يد متلمسة ثقلها، وفجأة أفلتت مني لتستقر فوق إصبع قدمي. حطمته وظهرت آثار الدماء على جوربي. (ما زلت أتألم عندما أرتدي حذاء بكعب مرتفع). بكيت وفعلت كما أفعل في المدرسة. قولي لي يا تعويذتي: هل تريدينني أن أبكي؟ الذين يريدون بكائي هم: هاري فلتر، ديانا فلتر، أمي ، أبي، ومسز فوركين.
أختي لوسيل تكره بكائي. فهو يصيبها بالهوس. إنها شديدة الحساسية. سمعت صوت الضجة التي أحدثتها، فجاءت وجلست بالقرب مني. أينما ذهبت في الحجرة تتبعني محاولة أن تربت على يدي. قلت لها أن تذهب إلى الجحيم وتكف عن السير في أعقابي كالكلب، وعندما لم تفعل سألتها: «أتريدين حقا أن تخففي عني؟ أتريدين أن تكوني قديسة؟» وقبل أن تخيم فوقي من جديد، أسقطت الصخرة فوق إصبع قدمها، فجرت عاوية، وهو أسلوبها هي أيضا. سيلقنها هذا درسا. لا أريد أن أكون أختها الكبرى أو أي شيء كبير بالنسبة إلى أي شخص أو أي شيء. •••
يبعثون بي إلى المخيم مرة أخرى. لا يعرفون ماذا يفعلون بي.
كانت أمي التي بدأت جمع التبرعات من أقاربنا تحت شعار «أرسلوا سلمى إلى المخيم». ليس أقاربنا بالكرماء، لكن أمي تمكنت من جمع القدر الكافي. فهي تحب أن تتوفر لي أفضل الفرص. وأعز أحلام يقظتها (وأنا أيضا) هو أن تتبناني أسرة ثرية.
لم أعد أتحدث مع ديانا. يؤلمني هذا أكثر من الصخرة. هاري أيضا أصبح بعيدا عني. اتصل بي البارون. يعرف ما يريد. أكره رغباته. تصوروا، ظن أن بوسعي أن أجد فتاة أخرى لموعد مزدوج. أرفض هذا. سأتقيأ من قبل ومن بعد. فضلا عن أنه ليست لي صديقات، ولو كان لي ما قبلن بالخروج مع كهول أثرياء وتحقير أنفسهن. أريد أن أقتل نفسي مرة أخرى، ومرة أخرى لن أفعل. أفكر في شارلي روجن: لم تتح له فرصة، لكنه يضع الخطط للمستقبل. أتيحت لي كل الفرص، لكن الأمر يبدو لي كأنه سقوطي. •••
المخيم الذي سأذهب إليه أشبه بمخيمات النقابات. رخيص. اقترحه العم جريشا. كعقاب على طردي من المدرسة. لن أسمح لنفسي بالكتابة. على الأقل حتى عودتي. أمس بكت أمي على مائدة المطبخ. أعدت لي ساندوتشا من السلامي عندما دخلت. قالت إن أبي لا يطلعها على المكان الذي يعمل به الآن. تعتقد أنها تعرف رقم الهاتف، وأنه يغير صوته ولهجته، عندما تتصل به، ليبدو إيطاليا. تقول إنه يحتفظ بمجموعة كاملة من الملابس في منزل آخر. •••
عدت من المخيم. كان الوقت قصيرا. ماذا حدث؟ انتبهوا الآن. كلا، ما لم تكونوا على استعداد. لأي شيء؟ الحب العظيم. ماذا كان شكله؟ كان؟ كان ممثلا.
كان رثا باليا: رائحة فم كريهة، رأس أصلع، وأحذية من القماش لها نعل من المطاط بلون الملبن. ورغم ذلك كانت له جاذبية جنسية. كانت حوله هالة منها. أول ليلة أقيم حفل راقص في الكازينو. رقصت الفالس نصف ساعة مع أحد المنظمين النقابيين. وبينما كنا نرقص، كان يتحدث عن الفوائد الصحية لعصير الجزر وعسل النحل. رقصت بأسرع ما يمكن حتى أصبحت أقوده، آملة أن أتغلب عليه. لكنه صمد. قدم جون (الممثل) نفسه إلي بعد الرقصة بينما كنت عاكفة على تهوية إبطي ونفخ الهواء البارد فيهما.
قال: «لا يجب أن تفعلي ذلك.»
سألته: «لم؟»
أجاب: «الأظرف أن يقوم رجل بذلك .. هكذا.»
قلت محرجة: «لم أعرق هكذا من قبل.»
قال: «أنت حيوان صغير في صحة جيدة.» ووضع ذراعه حولي: «ما رأيك بنزهة في القارب؟»
غمغمت موافقة، فذهبنا.
ووقعت من القارب.
قال: «كل هذه الملابس ستتسبب في غرقك.» ونزع عني ملابسي بينما كنت أعبث بالماء، وألقى بها في القارب، ثم عانقني وهو يعبث بالماء أيضا، وسألني: «تنامين معي الليلة؟»
قلت وأنا أهز رأسي: «ما رأيك في الرابعة غدا؟»
وافق: «غدا في الرابعة إذن.» •••
في الرابعة تماما وصلت وأيقظته من قيلولته، كان الفراش جميلا ودافئا ومتهدلا في الوسط.
قال: «انتظري. سأضع وسادة تحت ساقيك.»
قلت: «لست رومانسيا على الإطلاق. ثم يجب ألا تتحدث إلي بهذه الطريقة.»
قال: «كما تشائين يا سيدتي. لن تنبس شفتاي مرة أخرى بالألفاظ التي تؤذي مسامعك.»
ضحكت ساخرة لأن كل ما أمكنني منه كان رأسه الأصلع .. وربما يتعين على المرء أن يربي ذوقه على أشياء مثل هذه (كما نفعل مع أصناف الطعام).
كانت هناك نافذة صغيرة تغطيها ستارة فوق الفراش، تسللت منها أشعة الشمس. وقال إني أذكره بصباحات أبريل. وقال أيضا إني ناعمة مثل القطيفة. تشبيهاته ليست أصيلة .
صرنا نقضي فترات القيلولة سويا. وذات مرة رقد زميله في الغرفة مع فتاة على الفراش المقابل. لم أنظر إليهما، لكن يا له من مسلك. •••
كانوا يبثون التسجيلات الموسيقية بعد ظهر كل يوم. كنا نجلس على العشب وننصت. وذات مرة مارسنا الحب ونحن نستمع إلى موسيقى «إيرويكا» تتردد في كل الأنحاء أسفل التل. أتذكر وقع الموسيقى على مسمعي. كم هو محزن أن الحياة تواصل مسيرتها. لم أكن بالضبط إنسانا آليا، كنت متفرجة تشارك. كنت أرقب كل حركة دون أن يحركني شيء. (يسمون ذلك الصيف التجريبي. ما الذي يجعل القيام بشيء ما تجربة؟) يا له من حبيب قلب، جون هذا! كاد يمزق لي شريانا عندما اكتشف أني استخدمت فرشاة شعره. كان شديد التدقيق في هذه الأمور، أبله.
ظنه الجميع شريرا لأنه يتلف طفلة رقيقة مثلي. لم يكن. تلك كانت حياته وطريقته. هكذا قلت لهم. وعلى حال، حدث لي شيء غير عادي معه. في الأسبوع الثاني كنا في الكازينو نشترك في غناء جماعي. وقال لي جون إن فتاة سحاقية من معارفه ستزوره وسيحاول مساعدتها على التخلص من هذه العادة. لم أفهم حديثه. كان يقصد أن أبتعد عن كابينته لأنه سيكون مع واحدة غيري. جئت أطرق الباب، فلم يفتح لي. رقدت على التراب وأخذت أصرخ وأبكي. كنت ثملة من بضع زجاجات بيرة (أنا سكيرة رخيصة). أخذت أصرخ وأقول إنه وعدني بالزواج (فعل ولم يفعل). أردت أن أجعله شريرا أكثر مما هو في الواقع. فتحت الباب تلك الأنثى الضخمة في رداء الحمام وقالت: «كفى عواء يا حبيبتي. إذا أردت الدخول، تعالي.» قلت إني لن أفعل إلا إذا طلب مني جون ذلك. كان جالسا فوق الفراش ولم يفه بكلمة. شعرت أني لو دخلت فإنهما سيمزقانني. قمت واستدرت وعدت في هدوء إلى كابينتي.
أمي، لا تبكي من أجلي.
يوم رحيلي من المخيم تناولت إفطاري مع جون على مائدة الإدارة. كان يخفي هدية لي أسفل غطاء المائدة. كانت جزرة بساقين وذراعين من عيدان الكبريت. وفوق الهدية قصاصة من الورق تقول: «في خدمتك.» وضعتها في الجيب الداخلي لحقيبتي وبالأمس فقط عثرت عليها ثانية وقد تعفنت واكتست لونا داكنا واخترقت عيدان الكبريت غلاف الورق الشمعي. نوع التذكار الذي يناسبني. •••
مات تشارلي روجان. كتبت لي «ليلا» أنه كان في سيارة وأفلت قيادها. طول ذلك الوقت كنت أهدهد أملا في أن نرتبط يوما ما، أما الآن فالفكرة تجعلني أقشعر. أهذا إذن ما كبر من أجله، ليكون جثة مراهقة؟ لن يضطر بعد الآن أن يضرب أحدا في مؤخرته بساقه ليثبت أنه قوي الشكيمة. الموتى لا يرفعون أبدا إصبعا أو قدما، فلو فعلوا لانتصبت الأرض مثل كعكة هائلة متعفنة.
لا يمكن أن يكون ميتا، فقد تحدث إلي!
للكاتبة الأمريكية رونا جافي (1963م)
He can’t be dead, he spoke to me by Rona Jaffe 1963 (نحن نشعر بالحزن عندما نعلم أن صوت الإنسان ودفء جسده يمكن استبدالهما الآن بالآلة. يسمونها الآلة-الأم، وتستخدم في عدد من دور حضانة الأطفال، لكن البالغين يجب ألا يشعروا بالتجاهل؛ لأن العلم سرعان ما سيجد لهم رفيقا آليا. وإلى أن يتحقق ذلك، يوجد البديل المعروف باسم «أحد المعارف»، أو «مرافق السهرة»، أو «الصديق» في بعض الأحيان، ولا يحتاج هذا النوع من المنتجات إلا إلى عناية بسيطة لا تتجاوز قليلا من الطعام بين الحين والآخر. وهو ذاتي الشحن، فعندما يصيبه الإجهاد، يمكن توصيله بأي قابس في غرفة خالية لمدة أسبوع أو عشرة أيام، وعندئذ يصير كالجديد تماما. المعلومات اللازمة عن أماكن توافر «مرافق السهرة» أو «الصديق»، يمكن الحصول عليها بالكتابة إلى ...) •••
كانت الساعة قد شارفت على العاشرة والنصف عندما بلغ ثلاثتهم المطعم، في «القرية» (حي في نيويورك يشبه الحي اللاتيني في باريس)، قبل أن يغلق المطبخ أبوابه. كانت هي فتاة ثرية تبدو كالراقصات. وكان هو نائبا لرئيس وكالة إعلان صغيرة ويبدو نائبا لرئيس وكالة إعلان كبيرة. وكانت صديقتها ممثلة تبدو أشبه بنجوم السينما الصامتة. كانوا راضين عن مظهرهم. هو ثمل بعض الشيء، أما الفتاتان ففي وعيهما الكامل. ولهذا السبب كانتا لا تزالان تضحكان وتصخبان، وكان هو يميل إلى الدقة والحذر. وعقب الكأس الرابعة شرع يحرك يديه كما لو كان يربت على جوبة خالية، فكرت صديقتها أنه ربما كان لواطيا، أما هي فكانت تعرف أنه ليس كذلك، وأنه لا يحب أحدا على الإطلاق، لا الرجال ولا النساء ولا الأطفال ولا الحيوانات. كان يحب البوربون والمارتيني.
طلبت هي وصديقتها عشاء كاملا لكل منهما. وأمر هو بشراب وزجاجة نبيذ. كان يسير على نظام خاص في الأكل لينقص من وزنه. وقد فقد بالفعل عشرة أرطال، وبقي أمامه ما يماثلها. كانت تعرفه منذ سنتين، وتعرف الممثلة منذ ستة شهور فقط، لكنها كانت تعرف الممثلة.
كانت ليلة سبت، وهو أمر لم يكن بذي أهمية لدى أي منهم. لكنه كان بالغ الأهمية بالنسبة للآخرين في المطعم. وكان هذا يتألف من قاعدة طويلة ضيقة احتل البار مقدمتها، بينما وضعت الموائد في الخلف، وفصل بين الجانبين حاجز علق فوقه هاتف. ولم يكن هناك من يأكل غير ثلاثتهم، لكن البار كان غاصا بالزبائن.
قال: «سيأتي صديقي في الحادية عشرة. أرجوكما ألا تصدما عندما تشاهدان رفيقته.»
قالت: «ولماذا نصدم؟» - «سوف تريان. إنها موهوبة في الإيقاع بأصحاب الملايين. وكانت تأخذ من أحدهم 700 دولار في الأسبوع، مقابل أن تصحبه في جولة حول الخزان بعد ظهر كل أربعاء. لا تفعل شيئا آخر معه. لا جنس.»
قالت: «مهووس خزانات.»
قالت الممثلة: «أوه يا إلهي، كم أنا جائعة، جائعة!» وقالت هي: «سأموت من الجوع، فلم أتناول شيئا طيلة اليوم. أيها الساقي، أحضر لنا من فضلك خبزا وماء، الآن.»
ابتسم الساقي الذي كان شابا، ويبدو مثل مغن شعبي عاطل. ابتسم لهم جميعا وأحضر سلة من الخبز الإيطالي الطازج وثلاثة أقراص من الزبدة فوق ثلاثة مربعات من الورق.
قالت: «ليس هذا مطعما راقيا. تعرفونه من زبدته الرخيصة.»
قال: «بوسعك أن تأخذي قطعتي. فلست بحاجة إلى زبدة أو خبز أو أي طعام. لا شيء سوى الشراب. الخمر لا تسبب السمنة.»
قالت الممثلة: «بالعكس، إنها أكثر مجلبة للسمنة من أي شيء آخر. اسأل أي إنسان.»
قالت هي: «المارتيني يقتل.» - «من يقول هذا؟» - «آن لاندروز. دوروثي كليجان. دكتور روز هاوسفراو. بول ف. بول.»
سأل: «من هو بول ف. بول؟»
قالت: «طبيب الأمراض الجلدية الذي أتردد عليه.»
أحضر الساقي الباسم (كان يبتسم لأنه سيعود سريعا إلى منزله وعروسه الشابة الجميلة التي لم ينقض على زواجه منها أكثر من ثمانية شهور. سيفاجئها مع ساق يوناني وسيطلق عليه النار من مسدس المبارزة الذي كان يستخدمه جده وسيخطئه)، أحضر صحنين من اللحم وزجاجة من نبيذ كاليفورنيا الأحمر ومارتيني.
ترك أحد الرجال البار واستخدم الهاتف. كان بوسعهم أن يسمعوه بسهولة، فأصغوا إليه متظاهرين بأنهم لا يفعلون.
كان يهتف: «هالو، هالو، يا للمسيح!»
ضحكت الممثلة. وتدحرجت العملات بصوت موسيقى عندما وضع الرجل السماعة. تحسس شعره بيده وهو يهتف: «ما إن نقول هالو حتى يختفوا.»
ضحكت الممثلة مرة أخرى، في شيء من الهيستريا وقالت: «هذه هي قصة حياتي. تقول هالو فيختفون على الفور.» وضحكت هي ثم ضحك هو لأنهما كانتا تضحكان، لكن الرجل الواقف بجوار الجدار، الذي كان يبدو وحيدا للغاية، وضع مزيدا من العملات في الهاتف: «سنترال .. كنت أتكلم مع ميلبانك، نيوجرسي، وانقطع الخط. كلا، ليسوا هم الذين قطعوه. أنت الذي فعلت. حسنا، حاول مرة أخيرة.»
قالت: «يا للمسكين. لا تضحكوا. أريد أن أسمعه.» «هالو، سالي موجودة؟ أوه .. جيم، آسف لأني أيقظتك، كلا، لا شيء، أعتقد أنها ستكلمني غدا.» وتثاقل صوته في كآبة ثم وضع السماعة وعاد إلى البار.
احتل مكانه عجوز كان يقف في الانتظار، يرتدي معطفا، وله لكنة ألمانية: «عزيزتي، ماذا تعنين بأنك لا تستطيعين الخروج؟ لكن سأعطيك درس الإنجليزية. سآتي. أوه حسنا. إذن سأراك خلال الأسبوع المقبل. كل ما في الأمر أن أمس كان الجمعة وقد كنت أراك دائما ليلة الجمعة، ولهذا فكرت .. حسنا، ربما في الجمعة المقبلة. أتمنى لك حظا سعيدا في درس اللغة الإنجليزية.»
غنت الممثلة بالألمانية: «إيش بين فون كوبف بيس فوس.»
قالت هي: «أنا من .. مكان ما.» - «لا. أنا من الرأس إلى القدم، هكذا أنا. غنتها مارلين ديتريش في الملاك الأزرق.» - «ظننت «كوبف بيس فوس» مدينة.» - «لا. برلين هي المدينة.» - «هذه صورة جميلة: إنها كما هي، ثم تذمر العجوز المسكين، صح؟» - «صح.»
مضى الرجل ذو اللكنة الألمانية والمعطف عائدا إلى البار. وقالت الممثلة: «ألا يكون الأمر مضحكا لو كان الاثنان يحدثان الفتاة نفسها؟»
شرحت لها: «لديها صديق شاب، ألماني. وهذا أكبر سنا.»
قال رجل الإعلان: «عندما كنت صبيا صغيرا في المدرسة كتبت رسالة غرامية إلى فتاة. وما زلت أذكر نصها. قلت: أحبك يا جيرالدين. هل تحبينني؟ إذا كنت لا تحبينني، أعطي هذه الورقة إلى هارييت.» وضحك. - «لماذا كتبت ذلك؟» - «لا أعرف. ربما أردت أن أثير غيرة جيرالدين.» - «تصور هارييت عندما تتلقى الورقة.» - «لم أفكر في ذلك أبدا.»
قالت: «تعجبني، تعجبني هذه الورقة: أحبك يا جيرالدين. إذا لم تكوني تحبينني، فاعط هذه الورقة إلى هارييت.» - «ليس هذا هو ما قلته. لقد قلت ...» - «لا يهم ما قلته. العبارة تعجبني. فهي قصة حياتي.» - «أوه، أي واحدة منهما أنت؟» - «لم أقرر بعد. أنا لا أحب غير العواطف.» - «مضحك.» - «فعلا. بل رائع. سأسجل هذه العبارة.» وأخذت قلما من كيسها وبدأت تكتب على حافة قائمة الطعام.
قال: «تأكدي من أنك تكتبين العبارة صحيحة. أحبك ياجيرالدين، فهل تحبينني؟ أوه. ها هم قد وصلوا». ولوح لزوجين ولجا القاعة. •••
كان هناك هز للأيدي وتعريف بالأسماء وتحريك للمقاعد. وكانت الفتاتان حوريتين بشعر طويل يصل إلى الخصر، وجسدين رشيقين ووجهين مليحين بلا زينة. والاثنتان ترتديان بلوزتين من القطن وجوبتين من التويد. أما الرجلان فكان أحدهما أمريكيا والثاني إنجليزيا. وكانا ثملين.
قالت الحورية الشقراء: «أرى أنكم أكلتم.»
وقالت الحورية ذات الشعر الأسود: «نحن لم نأكل. قطعة بيتزا فحسب وشيء آخر نسيته.»
قال الأمريكي: «سوف تأكلين يا زهرتي الصغيرة. سوف آخذك إلى أفخم الأماكن ... فيما بعد.»
فقالت حورية الشعر الأسود بحبور: «أوه، طيب.» وابتسمت له.
طوت القائمة التي سطرت فوقها رسالة جيرالدين، ودستها في كيسها. ونظرت طويلا وفي دقة إلى حورية الشعر الأسود وهي تتساءل عن ذلك الذي تفعله مع أصحاب الملايين عند الخزان ويساوي سبعمائة دولار في الأسبوع. ولاحظت أن الحورية كانت تنظر طويلا وبدقة إلى الممثلة. ولم يكن في نظرتها أثر للمنافسة الأنثوية. أسقطت الممثلة بعضا من كأسها، فظهرت بقعة فوق غطاء المائدة، وأبدى الجميع اهتمامهم.
وضع الساقي منشفة نظيفة فوق بقعة النبيذ، وأتوا على ما تبقى من الزجاجة.
قالت: «أوه يا إلهي. انظروا ماذا تفعل هذه الفتاة.»
كانت الحورية الشقراء قد عرت صدرها من فوق الخصر.
قال الأمريكي: «قالت إن السوتيان يؤلمها. وكان لا بد أن تخلعه في الحال.»
عادت الحورية ترتدي بلوزتها القطنية وتثبت أزرارها في بطء، ثم رفعت السوتيان ليتداوله الجميع ويروا شكله. كان من النوع الجديد الذي يبدو كأنه جعل لطفل، ولا يمكن أن يسبب ألما على الإطلاق ما لم يكن معقودا حول عنقها.
قال الأمريكي: «انظروا إلى هذا السوتيان. أليس طريفا؟» ولم تكن الحورية قد رفعت عينيها عن وجه الممثلة طول الوقت، وكانت ما تزال تبتسم.
غمغمت الممثلة في غضب: «الجميع يظنونني سحاقية. لماذا يعتقد الجميع هذا دائما؟»
قالت الحورية الشقراء: «أنا أحب سوتياني.» كان صوتها حلوا ناعما. ورفعت طرف بلوزتها كاشفة عن صدر فخم ومشد أسود من الدانتلا. ابتسم الإنجليزي في مزيج من شعور التملك والزهو.
لكزت هي صديقتها، التي كانت لا تزال تغمغم ساخطة على الذين يظنونها سحاقية، وأومأت إلى الشقراء، وبدأتا لعبة الأسماء: ميرنا حليب، نورا المرضعة، تيريزا نهد، وندى الراغبة، إيثيل المتلهفة.
سأل رجل الإعلان: «عم تتهامسان؟» كان قد اكتشف أن كأس المارتيني الأخير ممزوجة بالماء، فأشار إلى الساقي أن يحضر كشف الحساب.
قال الإنجليزي: «أرأيتم أن أحدا لم يلحظ ما حدث؟ لم يلتفت حتى أحد من الجالسين إلى البار.»
قالت هي: «إنهم لا يفعلون هذا أبدا.» وانطلقوا من باب جانبي إلى الطريق، وقد تقدمت السيدات الرجال. وشعرت هي فجأة بكل ما ترتديه تحت ثوبها الصوفي .. كيلوت بكيني (اليزابث أردن، حرير)، لا جوارب (ساق مجملة مزينة)، لا قميص داخليا، استدارات جسدها أسفل الثوب الضيق كما تبدو للرجال، كما لو كانت بطاقة هوية جديدة. لكنها لم تكن مهتمة بالرجال الثلاثة. كانت مهتمة بنفسها، كما لو كانت على شاشة فيلم وبين المتفرجين في نفس الوقت، تجلس بين الجمهور تتأمل وتتفرج عليهم ينظرون إليها.
مشوا في هواء الليل البارد إلى منزل كان مقررا أن تقام فيه حفلة. وعندما دقوا جرس المدخل السفلي، خرج إليهم زوجان أشارا إليهم بالابتعاد: «الحفلة انتهت وليس هناك أحد فوق.» - «جاء رجال الشرطة وفضوها.» - «لماذا؟» - «بسبب الضجة. من يعرف؟»
قالت: «لنصعد. أنا أحب رجال الشرطة. إنهم كاملون، لا يخافون، مقدامون، مخلصون، يمكن الثقة بهم. وهم يتميزون بالوسامة.» - «لقد ذهبوا.»
فقال شخص ما: «إذن تعالوا نصعد.» - «لن تجدوا أحدا. تأخرتم كثيرا.»
كانوا قد كسبوا واحدا من الزوجين: شابا أحول العينين، في قامة ستيف ريفز، وشقراء نحيفة في سترة طلابية. وكانت معهما سيارة.
قالت الممثلة وهي تضحك: «هل يمكنه أن يرى الطريق حتى يقود سيارة؟»
انطلقوا إلى منزل الحورية ذات الشعر الأسود: شقة عالية السقف، أشبه بالكهوف، تضيئها الشموع، وتبرز من أركانها نتوءات سوداء من أثاث قديم، وينتصب فيها تمثال متألق من الرخام الأبيض لامرأة يونانية، وأشجار نخيل حية في أصص، وثلاث شرفات ومدفأة في كل غرفة، وأرضيات خشبية لامعة وسجاد من فراء القندس. وكان المرحاض عاطلا عن العمل.
كان ثمة جهاز ستريو مخبأ في دولاب. وأدارت المضيفة أسطوانة تويست. وسأل رجل الإعلان: «أيوجد هنا ما يشرب؟» لكن أحدا لم يجبه. أصبحت حركات يديه الآن أكثر وضوحا، فقد بدا كأنه يسير حاملا فنجانين من الشاي. أضاف: «أبحث عن شيء.» - «في منزل غريب؟» - «المطبخ .. المطبخ.»
قالت له الممثلة: «ماذا تتوقع من حورية؟ أعطها كوب ماء وستعيش عليه أسبوعا كاملا.»
نزع الرجال ستراتهم. كانت الحورية ذات الشعر الأسود ترقص التويست بمفردها برشاقة ولم تكن ترتدي سوى جسدها الأبيض الطويل وجوب التويد والحذاء الجلدي الأسود. وكانت قامتها ترتفع ستة أقدام. وبسبب شعرها الطويل، المنساب في استقامة حتى رباط خصرها، بدت الجوب غير ملائمة، أليق بمشرفة مدرسة أو رئيسة لمنظمة نسائية في ولاية كونيكتيكت.
قال الأمريكي: «خذوا راحتكم.»
سألته حورية الشعر الأسود: «تريد أن أعلمك التويست؟» - «ولم لا؟» - «ها هي. ليس هناك شيء آخر.» - «هذا مسكن جميل. من أين جئت بهذه الأنتيكات الرائعة؟» - «أوه من هنا وهناك .»
تجولت الحورية الشقراء في أنحاء المكان في سوتيان من الدانتلا السوداء، وجوب، وعقد من اللؤلؤ، وقرطين من اللؤلؤ، ثم انطلقت إلى المخدع.
وتبعها كل من الإنجليزي والأمريكي، وكان هرقل الأحول يبحث عن شراب، بينما عثر رجل الإعلان على نصف زجاجة صغيرة من الفودكا، لكنه لم يجد كأسا يشرب منها. وأحكمت الشقراء النحيفة إغلاق سترتها حتى العنق. وكانت الممثلة، التي لا تدخن أبدا، تنفث في عصبية دخان عقب سيجارة عثرت عليه في مطفأة، وهي تتفقد الأنتيكات.
ذهبت إلى الحمام الذي كان مدهونا باللون الأسود، وتطلعت في صندوق الإسعافات، فوجدت به كحلا، وكريما للبشرة، وصابونة، وقلادة من الزجاج (مهشمة)، وكولونيا، وشفرة صدئة، وسبع فرش أسنان مستعملة، وفي حالة جيدة.
مضت إلى المخدع. كان الضوء خافتا ومصدره الشموع التي وضعت فوق قواعد النوافذ، وخلفها كانت السماء سوداء. لم تكن هناك ظلات أو ستائر. وكان الأثاث غريبا ورائعا: سرير نحاسي في حجم طراز الملكة ماري، ودولاب يسع ثلاثة عشاق، أو أزواج، ضخام الأجسام، و«بيديه» مخلوع زرع بالزهور الحمراء. وكان هناك شخصان على الفراش، وآخران على الأرض. وفي البداية ظنتهم موتى، ثم تبينت أن الحوريتين فقط هما الميتتان. ولأنه كان من الصعب التمييز بينهما في بياضهما، فقد بدا للوهلة الأولى أن كلا منهما مع رفيقها الأصلي، ثم أدركت أنها لحظة التعبير عن كرم الضيافة. فقد كانت الحورية ذات الشعر الأسود مستسلمة للإنجليزي الذي كان أقصر منها بقدم. وكان عاشقها الأمريكي يكاد يصيب بالاختناق الحورية الشقراء التي كانت لا تزال ترتدي قلادتها وقرطها.
قالت هي: «انظروا ماذا يفعلون. يجب أن أحضر نظارتي.»
وعندما عادت مرتدية نظارتها، كانت الحوريتان قد شرعتا تؤكدان أنهما ليستا من الموتى، ببعض الأصوات اللبقة. وولج الآخرون الغرفة، واحدا بعد الآخر، وبقوا دقائق ثم عادوا إلى الموسيقى. وفتحت الفتاة النحيفة ذات السترة الطلابية، الباب الخارجي في هدوء واختفت.
عاد رجل الإعلان إلى المخدع وأخذها من يدها: «تعالي معي، أريد أن أقول لك شيئا.»
مضيا إلى غرفة المعيشة. قال: «لست أحب هذا .. لا أجد فيه أية تسلية .. هناك شيء .. لا أعرف.»
قالت: «لست أحبه أنا أيضا.»
كانت الممثلة تتبادل القبلات مع الفتى الأحول (الذي كانت قوة إبصاره موضع شكها) فوق الأريكة.
سألها: «أتريدين شرابا؟» - «كلا، شكرا. ترى ألديها أسطوانة دايز أفينادو؟» - «رأيتها تضعها على الجهاز.» - «أوه. طيب.» - «تريدين شرابا؟» - «أوه .. طيب .. أخ.» أعادت إليه الزجاجة: «الفودكا غير المثلجة تحرق قلبي.» - «أعائدة أنت إلى هناك؟» - «لألقي نظرة فقط .. سأعود فورا.»
عندما ولجت المخدع ألفت الأربعة جميعا فوق الفراش النحاسي، ولوحوا لها هاتفين بمرح: «انضمي إلينا.» - «كلا. شكرا.» - «تعالي، تعالي. الجو بارد عندك.»
هزت رأسها فعادوا إلى لعبتهم. كان الرجلان والحورية ذات الشعر الأسود، يعتنون بالحورية الأخرى التي لم تبدر عنها حركة واحدة منذ وصولهم. •••
تأملتهم من جلستها غير المريحة فوق المسند الخفي للفراش الضخم، وهي تتفحص شعور اللامعقول الذي انتابها .. الإثم، الفضول، وفوق كل شيء، الملل. «أنا بصاصة قذرة.» هكذا رددت لنفسها. وانتظرت عبثا أن تشعر بتأثير الكلمات. «لم يعد لدي ما أقوله للمحلل النفسي.» ألفت نفسها تتثاءب. كانت الساعة الثانية صباحا. بوسعها أن تشتري «الصنداي تايمس» في طريق عودتها.
رفعت إليها الحورية ذات الشعر الأسود وجهها الأبيض المجرد من كل تعبير قائلة: «أنت تشعرينني بالحرج. إذا خلعت ملابسك يكون هذا أفضل. ويمكن أن تحتفظي بالنظارة.» - «آسفة. لن أنظر إليكم بعد الآن.» - «أوه، بوسعك أن تفعلي. لكنك تبدين مختلفة جدا في هذا الرداء. لو كنت فقط مثل كل إنسان آخر، لما انتبهنا إليك.»
هبطت من فوق مسند الفراش، وتقدمت من المرآة لتتأمل زينتها. وجاء رجل الإعلان في جلده الخجول تسبقه أكبر كأس في العالم، حملها كما لو كانت ورقة تين. قال معتذرا: «لم أرغب في التخلف عن الركب.» وارتمى بسرعة في مقعد من طراز لويس السادس عشر: «تعالي تحدثي معي.» - «كيف يمكنك أن تفعل شيئا كهذا؟»
قال : «آسف. إنه خطأ في التقدير. لقد قلت لك. أما زلت غاضبة؟ كان الأمر في نيتي ثم نسيت أن أذكره لسكرتيرتي.» - «أما زلت تفكر في موضوع تذاكر المسرح ؟ قلت لك إن الأمر ليس بذي أهمية. كنت أقصد خلعك لملابسك.» - «أوه. الملابس. هذا ما كنت تقصدينه؟» - «طبعا.»
خفض صوته: «بيني وبينك .. أمثال هذه الحفلات تجعلني عنينا.»
كانت الجماعة قد انتهت من الفقرة الراهنة. وظلت الحورية الشقراء ممددة على ظهرها، وقد التمعت اللآلئ فوق عنقها الأبيض. ثم رفت بعينيها المظللتين للإنجليزي الذي قام، بصفته مرافق سهرتها، بالجانب الأكبر من العمل، وقالت في دماثة: «كان ذلك لطيفا.»
تساءلت الحورية ذات الشعر الأسود: «لا أعرف لماذا لا تنضمين إلينا؟ إننا جميعا أصدقاء.»
قالت: «أفضل الاختيار. ولا أحب أن أهين أحدا.» - «أوه. ليست هناك إهانة ما. فأنا مضيفة ممتازة، وصدقيني أن أحدا لا يرغم على شيء في منزلي. أعني أني ما كنت لأدعو أحدا يحاول فرض نفسه على واحد من ضيوفي. فإذا كنت لا ترغبينني، لن أفكر أبدا في أن أفرض نفسي عليك.»
قالت هي: «الأمر يصعب شرحه.»
ودق جرس الباب.
صاح رجل الإعلان: «الشرطة! لا تجيبي!»
وقالت حورية الشعر الأسود: «سخف.» ومضت إلى الباب.
لم يتحرك أحد عدا رجل الإعلان بكأسه الكبيرة، وكان عاجزا عن الاختيار بين الدولاب والحمام، فجثم مشلولا بينهما.
رجعت الحورية ذات الشعر الأسود وقالت: «إنها تلك الفتاة التي انصرفت إلى منزلها. لم تتبين الطريق، فأعددت لها فراشا فوق الأريكة.» - «لم تتبين طريقها إلى منزلها؟»
أجابت في رقة: «أجل. كانت ثملة.» وقفزت إلى الفراش.
مضت هي إلى غرفة المعيشة تبحث عن صديقتها. لكن الممثلة والصبي الأحول كانا قد اختفيا. ثم لحظت أن حاجزا من قطع الأثاث قد أقيم في ركن الغرفة، ودلي فوقه ستار. وشعرت لأول مرة بعاطفة ما، بالوحدة.
نهضت فتاة الصبي الأحول، التي كانت تغط في النوم فوق الأريكة، وتطلعت حولها وأبصرت الحاجز، فانطلقت نحو الباب، وغادرت المسكن من جديد دون أن تنبس بشيء.
قال رجل الإعلان وقد جاء يبحث عن زجاجة: «ماذا حدث؟» - «تلك هي الفتاة الوحيدة التي أتيح لها أن تتخلى عن فتاها مرتين في ليلة واحدة.»
قال لها: «تحدثي إلي.» وجلس فوق الأريكة خلف الكأس والزجاجة، مثل طفل عملاق ولد من جديد. وجلست بجواره في ردائها الصوفي. وبرزت الممثلة من خلف الستار، في نصف ثيابها، وإن كان شعرها مرتبا غير مضطرب.
قالت الممثلة وهي تتنفس الصعداء: «لقد ناقشنا الأمر وقررنا ألا نفعل شيئا.»
وهمس هو: «يا للصبي المسكين!» وأشار إلى الحاجز الذي برز منه الآن كنج كونج بعينين زائغتين. «الفتيات يطاردنه لأنه يبدو فحلا. وكل ما يبغيه هو فتاة تريده لنفسه ولا تستغله.»
قالت الممثلة: «هذه هي أنا .. أم الجميع.»
تبين الفتى أنه وقع في غرامها، فأخذ يردد في سعادة: «انظروا إلي. لقد نلت أجمل فتاة في الحفلة. أفضل وأجمل وأروع فتاة في الغرفة كلها.»
قالت الممثلة: «هالو ماما.» وجرعت قليلا من زجاجة الفودكا. - «أجمل فتاة في المكان كله. تعال نخرج لتناول الإفطار.»
وكان رجل الإعلان يقول: «هذه السنة سنتي. سأحقق فيها أحلامي. أترك عملي وأكتب كتابا. إن نجمي في صعود. وعندما يكون في صعود أعرف ذلك. هذه السنة نجمي في صعود.» كان ثملا للغاية. «أعني .. أنتم تفهمون بالطبع .. يكون لديك المال وتعرف كيف تغير حياتك. ولسوف يكون لدي الكثير منه هذه السنة. إنها سنتي. وسأصبح ثريا .. لأن نجمي في صعود.»
نظرت إليه الممثلة ثم هربت إلى المخدع ويدها على فمها.
قالت هي: «ما رأيك في أن ترتدي ثيابك؟ سيخرج الجميع لتناول الإفطار.» - «لا أفطر أبدا. لنذهب إلى منزلي ونحتسي شرابا.» - «لا بد أن أنام. نحن الآن في الرابعة والنصف.»
ارتدى ملابسه وأقبلت الحورية السمراء وشرعت تبسط الملاءات فوق الأريكة.
سألتها: «ستنامين هنا؟» - «كلا. لكن ربما فعل أحدهم.»
عادت الممثلة وقد ارتدت قفازها. - «طابت ليلتكم. شكرا جزيلا.» - «أتغادرين الآن؟»
تصافحوا جميعا. أربعة منهم في ملابس الطريق والمعاطف، والحورية ذات الشعر الأسود رطبة، أخاذة، رشيقة، وساحرة. كانت على راحتها تماما حتى بدت وكأنها مغطاة بالثياب. قالت: «كان لطيفا لقياكم. آمل أن أراكم مرة أخرى.» - «هذا ما نرجوه. شكرا. طابت ليلتكم.»
ظلت الحورية الشقراء (التي لم تتحرك منذ خمس ساعات) في المخدع. وفتحت الحورية ذات الشعر الأسود الباب الأمامي.
لم يقل أحدهم شيئا. لكنهم عندما بلغوا الطريق شاهدوا الستارة المخملية للنافذة الأمامية تنحسر عن أجساد بيضاء، ولمحوا مضيفتهم والأمريكي يلوحان مودعين وهما يبتسمان في مرح. لوحوا لهما بدورهم. وضحكوا في ارتياح لأنهم أصبحوا أحرارا.
تفرق الجمع عند الكافيتريا الليلية القريبة. واستقلت هي سيارة أجرة مع مرافق سهرتها .. رجل الإعلان الشاب الذي كان نجمه في صعود. لم ينبس أحدهما بكلمة بعض الوقت. وانسابت السيارة في شوارع صباح الأحد الهادئة. وأخيرا مال ناحيتها قائلا: «لا أحب المراوغة. نعم أم لا؟»
قالت: «لا.»
تراجع إلى الخلف وقد بدت الحيرة والألم على وجهه: «ترفضينني!»
وقطعا بقية الطريق إلى مسكنها في صمت.
أهلا بك!
للكاتبة الأمريكية هارييت سومرز (1966م)
Hello, baby by Harriet Sommers 1966 (1) فورت ميلو، هافانا، يوليو 1960م
هذه المرة، لم تكن هناك نواد ليلية، ولا رقص، أو تسابق مجنون إلى الشواطئ، أو رجال زنوج، طوال القامة، أثرياء، يدعونني في تهذيب إلى قضاء بعض الوقت في سياراتهم. وصلت المطار وحيدة وقلقة، أخشى الحديث مع أحد، خريطتي في جيبي، وعلى عيني نظارة سوداء، غامضة بشكل لافت.
شيء ما بدأ في داخلي ذات ليلة سكرى، منذ شهرين، شيء ما لا يلحظ. أقل أثرا ولا يقاس بحجم أزمة الحب التي بدأت حينذاك، وانتهت الآن، وكانت تستحوذ على كل اهتمامي.
وأنا أنتظر الأتوبيس. سألني رجل ناحل، مقنع هو الآخر، (كنا في آخر الليل)، عما إذا كنت في حاجة إلى طبيب. وأجابه زجاج قناعي الصامت. فقد حذروني من سماسرة الإجهاض الذين ينتظرون في المطار. كنت أعرف وجهتي جيدا. وكان موعدي في الصباح التالي.
استقبلتني الابتسامات في بهو فندق «ماريبوسا». فقد كان الجميع، من موظفة الاستقبال، إلى صبي المصعد الزنجي الظريف الذي حمل حقيبتي إلى حجرتي، يعرفون بالضبط سبب مجيئي وما أحمله معي، وكيف ستكون حالتي عندما أغادرهم.
وفيما بعد خرجت أتناول العشاء في كافيتريا صينية. شربت كأسين من كوكتيل باكاردي، واحدة طلبا للحظ، والثانية وداعا للغريب الفاتح. وفي الصباح، حملت خريطتي، وارتديت ثوبا صيفيا عاديا، يصعب تمييزه، كما أمروني أن أفعل. بل إني حملت آلة تصوير ومشيت إلى كاتدرائية لا أهمية لها على الإطلاق، وتظاهرت بتفحصها، والتقطت لها صورة (دون فيلم). ثم تسللت إلى مكتب الدكتور «إنكاتو»، غير مرئية مثل عنكبوت أسفل أوراق الأشجار.
يا لبراءة غرفة الانتظار تلك! الصور العائلية المصفرة داخل إطاراتها القذرة، والمناشف المطرزة فوق الموائد وظهور المقاعد، والمجلات، وأناس كل يوم، المرضى الحقيقيون، ورجل عجوز وطفل ينتظران الطبيب. كانت السيدة البدينة التي ترتدي ثوبا كوبيا ملونا بفتحة واطئة عند الصدر، والتي تقدمت لتحيتي، حقيقية أيضا. قادتني إلى الغرفة الداخلية دون أن تصدر عن أحد من الجالسين شكوى. وهناك كان كل شيء أبيض كالمألوف، وإن كانت الغرفة معتمة قليلا. وكانت للطبيب نظارة سميكة وابتسامة رقيقة. كنت بلا سراويل (وفقا للتعليمات) ومستعدة بقدمي في الركاب (جميل أنك تتحدثين الإسبانية! وابتسم)، وقلبي يدق بسرعة، وعيناي تنطبقان بتأثير الحقنة، بسرعة لم تسمح لي بأن أرسم شارة الصليب، استعدادا للرحلة.
في البدء ألم شديد في مركز جسدي، ثم أصوات غامضة بلغات مجهولة، ثم وجوههم، وكأس من عصير البرتقال البارد، ومزحة رقيقة، والطبيب يؤنبني في رفق: «كان أكبر مما قلت يا سنيوريتا» (لغز غامض للتفكير فيما بعد) ثم حان وقت الذهاب، وأنا ملفوفة بال «كوتكس»، وثوبي النايلون دون تجعيدة واحدة. تصافحنا. كانت لزوجته ثلاث أسنان ذهبية في مقدمة فمها. قالت «أديو» ولم تقل «هاستا لافيزتا». أصبحت في الشارع الملتهب أتلمس مترنحة الطريق إلى الفندق. أمامه كان بائع متجول خلف أهرامات دقيقة التكوين من البرتقال. اشتريت منه دستة. ولم يبد أن أحدا لحظ ما جرى لي. (كيف كنت أبدو؟) وأخذني صبي مصعد لا مبال إلى حجرتي. كنا في الظهر، كما قال، بعد ساعتين وطفل واحد، عندما عدت إلى الفراش واستغرقت في النوم.
الخادمة الحلوة التي جاءت تسألني في رقة، ما إذا كنت أحتاج شيئا، أخبرتني أن الساعة دقت الثالثة. وعندما تركتني تذكرت أنه يجب أن آخذ حبة دواء، ونظرت إلى نفسي في مرآة الحمام الزرقاء. بدا وجهي شاحبا قليلا، لكن رقيقا، حسن القسمات. لم يشعر جسدي بشيء (يا للمسكين، ألم يدرك ما حدث؟) وانتصب نهداي في جرأة، جميلين، متضخمين، ما زالا مستعدين، يترقبان. شعرت بالأسف لأجله، ذلك الجسد أسفل الوجه. لكن يا إلهي، كم شعرت بالراحة. أنا حرة مرة أخرى.
عدت إلى الفراش. قشرت برتقالة وأكلتها، وأنا أتذكر من أنا، والرجل الذي ينتظرني، الحب الجديد الذي يبدأ الآن، الذي يمكنه أن يبدأ الآن بعد أن أصبحت حرة. (2) واشنطون. د. س. فبراير 1961م
على الهاتف: «كيف سأعرفكم؟» - «لا تقلقي، سنعرفك نحن.» لم تكن لهم أسماء أو أرقام. كانوا غير مرئيين. أنا فقط كنت معروفة، أنا «المجرم». وهم أعوان الشيطان الخفيون.
كان صباحا غائما بالضباب والجليد، وجيمي غارق في النوم، بينما كنت أرتدي ملابسي. أعددت القهوة، وأحدثت صوتا بالصحون والفناجين، آملة أن يستيقظ. لكنه لم يفعل؛ لأنه قال كل ما كان سيقوله، تاركا الأمر لي كلية. عندما ارتديت معطفي، وجذبت حقيبتي بال 300 دولار التي تم تدبيرها بشق الأنفس، توهج الألم داخلي كاللهب. أن أذهب هكذا، وحدي دون وداع .. إنه طفله هو أيضا. - «جيمي!» - «هم، ييه؟» - «جيمي!» - «هم، ييه؟» - «جيمي، أنا ذاهبة الآن، ذاهبة إلى واشنطون، أتذكر؟» - «أجل، ييه». واعتدل جالسا: «ييه ... حسن، اعتني بنفسك، واتصلي بي حالما ينتهي الأمر. سأقابلك في المحطة. كل شيء سيكون على ما يرام.»
الحب الجبان. حبي الجبان. كم تمنيت لو لم أكن أنا الأخرى جبانة.
من هم كل هؤلاء الذاهبون إلى واشنطن في هذا الصباح؟ لا يمكن أن يرغب أحد في الذهاب إلى هناك. يا للمساكين، لا بد أنهم، مثلي، مرغمون. اشتريت صحيفة «نيو يوركر» لأجلس خلفها. وجلست قرب نافذة، وانكمشت في معطفي الأسود، بوجهي الأبيض الجامد الذي يقشعر بردا. كانت هناك حقول ساطعة من الجليد تعكس منازل صغيرة أنيقة، وأطفال يلعبون على المنحدرات، وكلاب مجنونة تنبح، وبرك متجمدة يتزلق فوقها أناس في قمصان صوفية حمراء.
كانت المحطة رمادية وباردة، الردهة الكابية المؤدية إلى المقبرة الضخمة بشواهد قبورها الهائلة. وقفت قرب مكتب الاستعلامات، وحقيبة يدي الجلدية السوداء الكبيرة مدلاة أمامي، كما طلب مني ، وياقة معطفي الأسود مرفوعة. دخنت ثلاث سجائر. يا إلهي، ألم يتعرفوا علي بعد؟ كل من كان يتقدم من مكتب الاستعلامات ليسأل عن شيء يبدو لي الرسول المنتظر. وعندما يتجاوزني ألقي به جانبا، وأتحول إلى الشخص التالي. وأخذت يدي الحاملة للسيجارة ترتعش.
ثم تقدمت امرأة مني مباشرة وابتسمت قائلة: «هاللو»، وهي تأخذ ساعدي في مودة كأنها عمتي. أجبت «هاللو» وأنا أتنفس الصعداء. لم تكن تبدو كإحدى عماتي. كانت تضع طبقة كثيفة من المساحيق، وطلاء متشققا على الأظافر والشفتين، ولم تكن رائحتها تشبه في شيء رائحة أحد من أسرتي؛ فما هب من ناحيتها لم يكن غير رائحة الخمر. قادتني في ثقة إلى الخارج عبر قاعة الانتظار، نحو عربة ستيشن واجون فاغرة الباب، وحشرتني في المقعد الخلفي إلى جوار ثلاث فتيات أخريات لهن وجوه شابة مذعورة. ولم تنظر أي منا إلى الأخرى.
استقرت عمتنا في المقدمة قرب شخص من النوع الجامعي، أمسك بالمقود. «هذا هو ابني يا أطفال وهو يعرف كل شيء عن الأمر.» وأرانا الصبي لمحة من جانب وجهه المنمش وعليه تعبير غريب بارد (استنكار؟) «أطفال»، هكذا أسمتنا. وقبلنا في خجل التصنيف المشترك. كانت إحدانا شقراء، جميلة وجريئة. أما الأخريان فكانتا متشابهتين بصورة غريبة، نحيفتين، شاحبتين، بنفس الابتسامة المذعورة. عبرت بنا السيارة وسط واشنطون، مرورا بتمثالي واشنطن ولينكولن، اللذين اكتسى بياضهما بالرماد في غبشة الغروب. ثم غادرنا المدينة إلى ما بدا أشبه بضاحية، و«العمة» تواصل ثرثرتها المرحة عن العميلات السابقات، والحالات الغريبة، وكيف أننا محظوظات حقا لأننا وقعنا في أيد ماهرة، إلخ. وعندما مررنا بمقبرة، قالت في مرح، إن واحدة من عميلاتها لم ينته بها الأمر إلى هذا المكان. عبرنا حدود الولاية-ماريلاند. وفكرت بحس سياحي غريب أني لم آت إلى هنا من قبل. أشرفنا أخيرا على ما يشبه ضاحية جديدة . منازل من ثلاث طبقات، وجاراجات. كانت جديدة ولم تستخدم بعد. أشباح منازل لمستأجرين لا يأتون.
صاحت العمة: «وصلنا. اقفزوا يا أطفال». ولجنا طابقا أرضيا مؤثثا، وإن بدا غير مسكون. وأخذتنا إلى غرفة نوم، لم ينم فيها أحد من قبل. «اخلعن كل الثياب والسراويل والسوتيانات، واذهبن إلى الحمام. احتفظن فقط بالقمصان الداخلية.» وألقت علينا ابتسامتها الصفراء، كأنما تدعونا إلى حفل.
تبادلنا حديثا مقتضبا. كانت الشقراء سويدية، بطنها أكثر بروزا من بطوننا. وكانت الفتاتان الأخريان زميلتين في غرفة واحدة بالجامعة، حملت إحداهما من شقيق الأخرى.
ظهرت العمة عند الباب، مرحة ومتوهجة، وقالت: «والآن، من منكن تريد أن تكون الأولى؟» لا بد أنها تناولت قليلا من الخمر عندما تركتنا. أضافت: «لا داعي للخجل.»
قلت: «سأذهب أنا.» كنت أريد أن أنتهي. فأنا الوحيدة بينهن المجربة.
قالت العمة وهي تربت على ذراعي: «أنت فتاة طيبة.» وانتقلنا إلى الحجرة الأمامية. كان هناك جهاز تلفزيون يتعثر في الإرسال. ومائدة مطبخ كبيرة تغطيها ملاءة. تمت الإجراءات المالية بسرعة، وأصبحت فوق المائدة، وقد ثبت قدماي في الركنين. صاحت: «كل شيء على ما يرام يا دكتور.» فظهر هو، رجل بلا رأس، يطل مصباح كهربائي عار من حيث يجب أن يكون وجهه. غمغم: «استريحي.» وأدار شخص ما خلفي جهاز التلفزيون عاليا. كان يتحدث دون لغة. حاولت أن أنصت لكني لم أفهم شيئا. وقفت العمة قربي تربت على ذراعي وتتنفس خمرها في وجهي، بينما الرأس الكهربائية تعبث بين فخذي. لم أشعر بألم. لكن ما شعرت به كان غريبا، كأن هناك من ينفخني من الداخل (منفاخ دراجة) وفجأة أدركت أنهم لم يخدروني، لكن فات أوان الشكوى. وفكرت بعقلي العملي الذي ما زال يقظا: 300 دولار ولا تخدير؟ وسرعان ما نسيت ال 300 دولار؛ لأنه كان ينفخني وينفخني حتى أصبحت مثل البالون، على وشك الانفجار، بينما ألصقت العمة قناع أوكسجين بوجهي وقالت: «تنفسي»، فتأوهت ودفعته بعيدا لأني أوشكت أن أختنق، وفكرت أنهم سيفجرون جسدي فتأوهت، وعلا صوت التلفزيون الذي لا يفهم، والعمة قابضة على يدي تقول : «تماسكي، تماسكي، أوشكنا أن ننتهي.» ثم رأيت بين ركبتي المصباح الكهربائي يرتفع، تتبعه اليدان المقفزتان، مغطاتين بدماء سوداء تنز منهما في بطء، وبدا كأنه يغسل عنه دمائي، يغسل قفازيه. وساعدتني العمة على الترجل والذهاب إلى الحمام، برفقة «كوتكس» القديمة المعهودة، بينما الأجراس تدق داخلي. ثم قادتني إلى غرفة نظيفة مجردة من أي أثر للحياة، مثل غرفة نوم في موتيل، حيث وضعتني في فراش، وضغطت الأغطية من حولي، وأعطتني قرصا، فسقطت في السكينة، حيث نز مني الألم في بطء، ولم أنزف تقريبا. بعد ذلك انضمت الفتاة السويدية إلي في الفراش، وتبادلنا ابتسامة باردة. ثم أيقظتنا العمة، وقد ارتدت معطفها وقبعتها، قائلة: «هيا يا فتيات، سنعيدكن إلى حيث التقطناكن. عندئذ تصبحن حرات، ولا بد أنكن ترغبن في العودة إلى بيوتكن.»
في المحطة، وقد سرني أني أصبحت وحدي أخيرا، تلفنت لجيمي. قال إنه سيقابلني في محطة جراند سنترال. تكومت على جانبي، فوق مقعد القطار الليلي الساطع، وروحي المعنوية عالية، بفضل جرعة من الكودايين، بينما كانت حافظة نقودي الفارغة ملقاة في إهمال على الأرض، ورحمي الفارغ مجرد من كل إحساس، ونمت حتى نيويورك.
كان الوقت متأخرا بالليل، وكنت عائدة من مكان بعيد جدا، ودون أن يدري فعلا رحب بي في خجل. شربنا كأسين احتفالا بخسارتنا، وكنا نشعر بالحرج كأننا غريبان التقيا في جنازة شخص ثالث. وفي الصباح بدأت آلامي، وارتفعت درجة حرارتي. وقضيت أسبوعا أصرخ وأنا أقرأ «أليس في بلاد العجائب» بصوت عال بين صرخاتي، وأنزف قطعا كبيرة مخيفة من الحطام. (3) هذه المرة: الآن «أوه، سأنطلق في هذه الطريق الكبيرة وحدي، سأنطلق فيها وحدي. وإذا لم تأت معي يا طفلتي، سآخذ شخصا آخر.»
قال الزنجي الثمل في حديقة ميدان واشنطن: «يبدو أنك في مأزق يا فتاتي. وقعت هذه المرة بالتأكيد.»
وصاح الصبية من سيارة في الشارع الثامن: «نحن نعرف ماذا كنت تفعلين.» وابتسمت في كل جزء مني، لأن ذلك النتوء الغريب كان يسير أمامي. في الليل، في فراشي، أشعر بك تلكزني وتستدير لترقب الارتعاشة المجنونة في كوخ جسمي المستقل، حيث ترقص وتصطاد وتستحم في دمائي، وتتدحرج في الكهف المظلم الذي بنيته لك، لا تفكر في غير وجودك، وترقب نفسك وأنت تصير حمامتي الأنانية.
في مكان آخر، ينام جيمي إلى جوار فتيات غريبات، وصيحات ثملى: «سوف يصبح لي طفل.» وأحلام عن رجال عواجيز ومحيطات تجري بعيدا. أيامه مجردة من أي فكر، وأحلامه تتزاحم، أو هكذا أتخيل.
كيف يمكن لامرأة أن تصور لكم، أيها الرجال الأغبياء، متبلدي الحس، متابعة العنكبوت الدقيق وهو يبني من جديد نسيجه الذي حطمته الأمطار، وشجيرات البلوط الصغيرة ترتفع متطاولة نحو الشمس؟ في البدء، كنت أنا، أيضا، خائفة.
جيمي يزفر، والمحلل النفسي يطمئنني، أصدقاء يبدون قلقهم، ورجال غريبو الأطوار يعربون عن دهشتهم، وغرباء يحنون رءوسهم فوق بطني ليسمعوا ما يجري في الداخل. في البارات. قال أحدهم: «كنت أظنك بنية عاقلة. ما الذي أوقع بك هذه المرة؟»
صديق: «يا للشجاعة!» آخر: «أنت مجنونة.» كيف يمكن لامرأة أن تشرح لكم (العالم البارد المؤلف من الظروف، وربما، ولماذا) هذا الاستسلام الذي يحيرني أنا أيضا؟
في الليلة التي أخبرت فيها جيمي وكنت ثملة. كنا في بار. وكان ثملا هو الآخر. قال: «ليس مني.» وغادرني ثم عاد بعد دقائق لأنه كان يعرف أو أراد أن يعرف. تصايحنا، وبكيت واهتز في الساقي قلب رجل الأسرة الإيطالي فحمل على جيمي ووقف إلى صفي.
تصارعنا طويلا، وكنت أنت طوال ذلك الرعب تبني نفسك داخلي، هادئا، وادعا، كسمكة، مشغولا بنفسك.
هكذا قلت لك: «نعم.» وأنا تحت تأثير المارجوانا أو الخمر بعثت إليك برسائل مجنونة. وأنا وحيدة أو في حفل، كنت تتحرك داخلي، تذكرني ... بعد الأورجازم قفزت أنت من الفرح.
تمطني فأفقد شكلي. أنظر إلى هذه الصورة. مأواك المحدب يرتفع أمامي، وابتسامة بلهاء كبيرة على وجهي. سرة بطني، التي كانت عميقة، مضمومة وغامضة، أصبحت فجوة ضحلة. وثدياي يوشكان على الانفجار وقد خططتهما عروق زرقاء لامعة. لا بيكيني هذا الصيف. أجلس في رصانة فوق الصخور الباردة، العجوزة، المباركة. زكيبة فضفاضة من الفخذين حتى عظمة الكتف. أنا، عاشقة العري، والعنف والزحام، دجاجة أخرى الآن.
وأنت تبحر في قنوات دمائي، ملاحا صغيرا، ونحن الآن أنت وأنا، أنت وأنا. وأنا أتعلم، فقط أتعلم، كيف أحب.
الحب بالشخص الثالث والثمانين
للكاتبة الأمريكية جويس إلبرت (1966م)
Love in the 83
rd
person by Joyce Elbert 1966
قالت: «أحب جاك يا دكتور أبلسون.»
قال: «أوه؛ في ذلك الصيف كان الجميع يقودون سيارات بويك من النوع ذي السقف المتحرك ... لديك هذا الصباح الكثير من السطور الأولى لروايات جديدة. أنت مضحكة للغاية، ومهووسة. أرأيت كيف كنت تقفزين في أرجاء المكان؟»
رقدت بلا حركة: «أنا هكذا دائما.»
قال: «كلا يا عزيزتي. كنت أقصد عندما جريت إلى البقال منذ دقائق. ما كنت أملك مثل هذه القوة والنشاط أبدا. الظاهر أن رد فعل الإنهاك يختلف من شخص إلى آخر.»
رددت: «الظاهر أن رد فعل الإنهاك يختلف من شخص إلى آخر.» كانت الغرفة مظلمة ورطبة، والجدران لونها غير محدد بين الأزرق والأخضر. وعلى المائدة المجاورة للفراش راديو
FM
تنبعث منه موسيقى إسبانية، من بقايا إحدى حفلات مصارعة الثيران القديمة. وعلى الأرض زوج من السراويل ورداء صيف بلا أكمام، وكوبان من مكعبات الثلج الذائبة. وعلى الفراش جسدان شديدا البياض في الأماكن المعهودة لثوب الاستحمام، ركنا فجأة إلى الهدوء التام، ثم امتدت يده الآن تجذب الستائر وتضيء وجهها.
قال: «أنت جميلة رائعة. منذ سنة وأنا أريدك.»
قالت: «أمس قلت سنتين.» كانت عيناها مغلقتين وعلى شفتيها شبح ابتسامة «يبدو أننا فقدنا سنة أثناء الليل.»
قال: «أنت رائعة، بديعة، مثيرة، رقيقة. لم أتصورك أبدا على هذه الدرجة من الرقة.»
قالت: «الذين لا يعرفونني يظنونني فظيعة. لكني لست هكذا في الحقيقة.»
قال: «لست فظيعة على الإطلاق. في الحقيقة أنت لا تشبهين في شيء كل ما تخيلته عنك. كنت أظنك أكثر نحافة. تبدين كذلك وأنت بملابسك. بالطبع تعرفين ذلك. قيل لك من قبل. لم يعد بوسع أحد أن يذكر شيئا مبتكرا في الفراش.»
قالت: «أليس هذا فظيعا؟ لم يعد هناك ما يذكر دون أن يبدو أسطوانة مكررة.»
قال: «لا تقولي شيئا يا عزيزتي. ضميني فقط!»
ضحكا سويا وهما يتطلعان إلى السقف. ومدت يدها إلى المائدة، فعلت صوت المحطة الإسبانية.
صرخ المذيع: «راديو و - أ - د - و. أليجريا! أليجريا!»
قالت: «الأغاني الإسبانية دائما هكذا .. مي كورازون، مي فيدا، مي ألما، أوناكو، ماس، أليجريا، أليجريا .. هل لاحظت ذلك؟»
مال عليها وقبل فمها. حاولت أن تنظر إليه فقبلها من جديد: «حبيبة القلب. أنت مثيرة للغاية.»
قالت: «أنا مجنونة بك.» ومدت يدها: «أنت كبير جدا.» •••
قالت: «أدر جهاز التكييف من فضلك. سأغلق الباب. وسأعد لنا كأسين.»
انسلت من الفراش، وعبرت الصالة، التي تضيئها أشعة الشمس، إلى المطبخ. كانت هناك قنينتان فوق المائدة، وتحمل إحداهما بطلاء الأظافر أحمر اللون حرف
V ، وتحمل الأخرى باللون الأحمر حرف
G . ملأت كأسين طويلتين بالثلج، وصبت من القنينة الثانية، ثم من إناء به عصير برتقال، وجذبت الدرج الأيسر من الخوان، وأخذت منه ملعقة كبيرة حركت بها الكأسين، ثم غسلت الملعقة ونادت: «أحب مسكنك. فأنا أعرف مكان كل شيء تماما.»
عادت تعبر الصالة إلى الغرفة. أغلقت بابها بإحكام وقالت: «الأمر أشبه بالتقمص. فأنا أعرف تماما أين أجد ما أريده. يجب أن تراني جينا الآن.»
تناول إحدى الكأسين وحرك الثلج بأصبعه: «ما أخبارها؟» - «لم نعد نلتقي. المرة الأخيرة التي تناولنا فيها طعام الغداء سويا قالت إننا يجب ألا نلتقي بعد الآن. وهذا ما حدث.» - «أمر سيئ. كنتما صديقتين حميمتين.» - «كلا. كنا متصادقتين، لكننا لم نكن أصدقاء بالفعل. ولا في الصيف الماضي عندما أقمت هنا.» - «كانت تشعر بالرغبة في حمايتك. هذا شأنها عندما تميل إلى أحد.» - «إنها مزعجة. كانت تتصرف كأنها مديرتك.»
أزيز جهاز التكييف، والموسيقى الإسبانية ولا شيء حتى قال: «اشتهيتك للمرة الأولى في الصيف الماضي، عندما كنت تنامين هناك على هذه الأريكة، وذات ليلة كدت أقول لجينا أن تذهب وتأتي بك. ثم بدا لي أن ذلك لا يليق، عدا أن جزءا مما أردته كان أن تريدك هي أيضا، وكنت أعرف أنها لن تفعل أبدا، لهذا استغرقت في النوم، ونسيت الأمر كله. لكني لم أنسه في الحقيقة.» - «إما هذا أو أنك مارست الحب مع جينا ونسيت الأمر كله.» - «كلا يا عزيزتي. لم نكن نمارس الحب كثيرا. كانت جينا ودودة وعاطفية للغاية، بطريقتها الخاصة، لكنها لم تكن تثيرني. كانت هادئة تماما في الفراش، مستسلمة تماما، وهذا هو كل شيء.» - «إنها تشاهد الآن مع بارني.» - «بارني كيجان؟» - «هذا ما ذكرته لي عندما كنا نتناول الطعام. كان بارني يراها جذابة منذ أحضرته معي إلى هنا في الصيف الماضي. هو من النوع الأمريكي تماما والذي تفضله جينا. كما أنه كان أيضا فتاي ذات مرة.» - «جينا وبارني.» - «هل تشعر بالغيرة؟» - «من (جاك دكتور أبلسون) فقط. وسيارات البويك أيضا.»
قالت: «الغيرة انقرضت.»
همس بطريقة ذات مغزى: «لاحظت هذا بنفسي.»
لم تبتسم.
قال: «هاي. ماذا حدث؟»
قالت: «أعصابي ثارت فجأة.»
وضع كأسه على الأرض وقال: «تعالي هنا يا حبيبتي. ليس هناك ما يثير الأعصاب. إنه زمن الأليجريا.»
قالت: «أظن أني عصبية جدا الآن. سيمنعني هذا من المجيء.» واختفت بين ذراعيه. •••
قال: «لا أفهم أبدا ماذا يعجبك في بارني. إنه شخص لطيف لكن متخلف للغاية. فهو رغم أعوامه الستة والثلاثين ما زال يعيش في فقاعة. جئت أنت وفجرت الفقاعة. عندئذ لم يعرف المسكين ماذا يفعل بنفسه.» - «كنت في حاجة إلى بارني لأتمكن من الانفصال عن جان بول. أحيانا تضطر النساء إلى الذهاب إلى الفراش مع رجل ليتمكن من نسيان رجل آخر. كان لا بد من نسيان جان بول. الواجهة الشاحبة لحياتنا، التظاهر. هل تعرف أنه ظل يتظاهر بحبي حتى آخر لحظة؟» - «ربما.» - «لا تكن مضحكا. كان يكرهني. فقد ظل يعاني من العنة شهورا طويلة. كان الأمر فظيعا. ولم أتقبل فظاعته إلا بعد مدة، فأنشأت تلك العلاقة مع بارني.» - «ألم تكوني ساخطة عليه؟» - «بارني؟» - «لا. جان بول. لأنه كان يرفضك.» - «كنت أشعر بالأسف من أجله. كان في حالة فظيعة. ولهذا أنت لم تحبه أبدا. كان مصابا بانهيار عصبي عندما التقيتما.» - «لا أحد يصاب بالانهيار العصبي الآن. فهي حالة دائمة. ثم إني لم أنفر منه . كل ما في الأمر أني لم أحب رؤيته معك. لم يكن يبدو عليكما أي انسجام. وطالما تساءلت كيف قبلت الزواج منه.» - «لم أعرف في حياتي رجلا قال كلمة طيبة عمن سبقوه من الرجال.» - «هذا ليس صحيحا يا حبيبة قلبي. بوسعي أن أفهم زواجك من المجنون أوكنور. فهو على الأقل شخص مسل، رغم أنه يسلبني دولارين في كل مرة نلتقي فيها. دولاران حقيران. وكان هذا يصيب جينا بالجنون لكني كنت أقول إنه يتيح لنا أمسية مسلية بهذين الدولارين. لا يمكن للمرء أن ينفر من شخص هذا شأنه. ماذا صار إليه أمر هذا المجنون؟» - «كان يقيم في المكسيك طوال السنين القليلة الماضية مع فتاة بشعة من نيويورك. مصممة ملابس. أعتقد أنها تتكفل بنفقاتهما الآن من صناعة ملابس الفلاحات في شابالا.» - «أعجب لماذا ذهبا إلى هناك. فالبحيرة جافة تماما.» - «كذلك أوكنور وهذه الفتاة.» - «لقد قابلتهما. كانت مهووسة به. وكثيرا ما كانت تتصل بالهاتف في منتصف الليل لتعرف إن كان معنا. ذلك النوع من الهيستريا. أراد أوكنور أن أنام معها، وقد فعلت ذات ليلة، لكني كنت ثملا إلى درجة لم أتذكر معها شيئا في الصباح التالي سوى إحساس غامض بأنه كان موجودا طول الوقت.» - «لم يكن هذا مجرد إحساس.» - «لا بد أن زواجكما كان يفيض حيوية.»
انقلبت على بطنها وكظمت صوتها بين الملاءات: «كيف يمكنك أن تغار من ألف امرأة يسبحن في زجاجة جن؟»
أعادها فوق ظهرها وانتقلت شفتاه من جبهتها إلى جفونها إلى فمها: «يا أعز الناس، لشد ما يشبه صوتك صوت زوجتي السابقة.»
ثم قال: «أنت محظوظة اليوم إذ أمكنك الحصول على عطلة. فأنا أكره أيام الجمع.» - «أنت المحظوظ، فبوسعك أن تتصل بمكتبك وتقول إنك ستأتي ظهرا ولن يعبأ أحد.» - «ماذا تنوين عمله اليوم؟» - «سوف أذهب إلى المحلل النفسي للمرة الأخيرة قبل أن يبدأ عطلته.» وتطلعت على غير هدى في أرجاء الغرفة. «وبعد ذلك لا أعرف. ماذا ستفعل أنت؟» - «سأذهب إلى عملي. يحسن بنا أن نتناول إفطارنا الآن.» - «حسنا.» - «قبليني أولا.» - «أوه يا حبيبي.» - «كانت ليلة رائعة. من سنة وأنا أحلم بها. سنة كاملة. هل تدركين؟» - «من سنتين. أم أنك كنت ثملا عندما قلت لي ذلك ليلة أمس؟» - «بالطبع كنت ثملا. كنت عصبيا . ألم تكوني أنت أيضا كذلك؟» - «إلى درجة الهيستريا.» - «تماما يا عزيزتي. كان بوسعي أن أحس التفاعل.»
قبل ثديا عاريا، وجذب الملاءة عن الآخر، وقبله، وجرى بيده فوق استدارات ردفيها، وهمس في أذنها، ثم أقامها في وضع الجلوس.
قال: «اذهبي واقلي البيض.»
عبرت الصالة مرة أخرى إلى مطبخ جينا القديم. وبدأت تعد القهوة.
ناداها: «أجلي التوست. سأحلق ذقني أولا.»
كسرت خمس بيضات في إناء وأضافت قليلا من البقدونس المجفف ومسحوق الثوم والفلفل الأحمر الحار، وخضت المزيج. وبدأت القهوة تغلي. توست وزبد ومربى. وذهبت تعد المائدة في غرفة المعيشة. وفي الدقيقة الأخيرة أضافت قطعا من اللحم المقدد إلى البيض، وذاقت القهوة، ثم خففتها بالماء المغلى.
قالت: «كل شيء ناضج إما أكثر مما يجب أو أقل مما يجب.» - «هذا هو الواجب.»
كان يرتدي قميصا مخططا بالأزرق والأبيض، ورباط عنق بلون البحر، وسروالا رماديا، وحذاء أسود بلا رباط، وسترة بحرية بأزرار نحاسية وكان قد جرح نفسه أسفل ذقنه: «هذا ما يحدث لي دائما.»
قالت: «كنت أظن دائما أنك ستتزوج جينا. لقد راهنت على ذلك مرة وخسرت خمسة دولارات.» - «ما الفائدة عندما تخبو الإثارة الجنسية؟» - «هل خبت لديها أيضا؟» - «لا أعرف يا عزيزتي. فلم تكن جينا تتحدث كثيرا عن نفسها.» - «ألا يمكنك أن تخمن؟» - «لا. كانت جينا ريفية في أعماقها. مغلقة على نفسها تماما وهادئة.» - «كانت تتكلم معي كثيرا.» - «كانت تتكلم دون أن تقول شيئا.» انحنى وأزال برفق بقايا قطعة من البيض التصقت بذقنها «لماذا لا ترتدين ملابسك ونركب سويا إلى المدينة. سأتولى أنا تنظيف المائدة.»
نادته من الحمام بعد دقائق: «هل لك أن تعطيني قلما؟»
وفي سيارة الأجرة التي أقلتهما إلى المدينة سألها: «ماذا كنت تريدين من القلم؟» - «حاجباي.» - «ظننتك ستكتبين لي كلمة وداع.»
طافت عيناها بحقيبة العطلات الصوفية التي كانت بجوارها على المقعد ثم سألته: «إذا كنت رغبت بي منذ عام، فما الذي أخرك طول هذا الوقت؟» - «التعقيدات يا عزيزتي. الحقيقة أن ما حدث أمس، وقع قبل أن أتوقعه. فأنا مشغول الآن بعقد أواصر علاقة أخرى.» - «كذلك أنا.» - «ويللر؟»
أطرقت برأسها. - «ألم تكن لك به علاقة منذ سنين عدة بعد انفصالك عن أوكنور؟»
أطرقت مرة أخرى.
قال: «كنت أعرف زوجته السابقة.»
قالت: «أعرف.»
توقفت السيارة في طريق ماديسون. وعاونها على مغادرتها. كانت الطرقات الجانبية حاشدة بزحام فترة تناول طعام الغداء. نظرت مرتابة إلى رداء الليلة الماضية، وإلى أظافر قدميها التي برزت من خف المساء الصغير، وإلى الكيس الدقيق الذي يحوي المفاتيح وأدوات التجميل. ثم رفعت بصرها إليه، فوقها ببضع بوصات، أزرق وأبيض بذقن حليق في ضوء الشمس.
تناول يدها ورفعها إلى فمه: «أنت رائعة، جميلة، حبوبة.» - «أوه، اصمت.»
قال: «ألا أستطيع الإفصاح عن شعوري؟» - «آسفة.»
كانت شفتاه مزمومتين. لمستهما بأصابعها. - «أنا اليوم عصبية قليلا. لم أقصد ما قلت.» - «لا يجب كبت الآخرين يا ملاكي.» - «أنا آسفة حقا. أنت تعرف شعوري نحوك.» - «كيف؟» - «أنا مجنونة بك.» - «أحقا يا حبيبتي؟» وقبلها بسرعة على وجنتيها: «سأتصل بك يوم الإثنين.» - «كلمني في المكتب.»
توقف الأتوبيس على بعد أقدام قليلة أمامها.
قالت: «لا بد أن أذهب الآن. اتصل بي.»
قال وهي تستدير وتجري بحذاء الليلة الماضية نحو أتوبيس طريق ماديسون المزدحم الذي كان بالانتظار: «تحياتي إلى محللك النفسي.»
يوميات زوجة غير مخلصة
للكاتبة الإيرلندية إدنا أوبريان (1966م)
Diary of an unfaithful wife by Edna O’berien 1966
كان قرطي ضائعا. بحثت عنه فوق الأريكة وخلف الوسادة. وقلت كأنما أخاطب نفسي: «سأفتقده.» كان عبارة عن قطعة فيروز مثبتة في سلسلة صغيرة من الذهب. نزع «ب» القرط الآخر وسألني، في رقة، ما إذا كان ثقب أذني يؤلمني. قلت له: «كلا، إلا إذا عبث أحد بقرطي.» وسرعان ما كنا نتبادل القبلات من جديد. وفيما بعد وضع يده في جيبه فوجد القرط، وقال: «هل أنت التي وضعته؟» استأت من تفكيره بأن في وسعي أن أفعل شيئا كهذا. كان واعيا لأول مرة بخطر افتضاح أمرنا. فقد كان أمنه «مهددا» (تلك الكلمة مرة أخرى).
لم يحدث أن رقصنا أو لعبنا التنس أو أخذنا الباص سويا.
رعشه طويلة: من خلف عنقي حتى عقبي. أفكر في سياج من الأسلاك شحنت بالكهرباء لتبعد الخراف. وتنمو الفكرة معي. أغلب من أعرفهم من الخراف. قد لا يكونون كذلك في أعماقهم، لكني أقصد نفوسهم التي يعرضونها على الملأ في حفلات العشاء وغيرها من المناسبات. بوسعي أن أتصور وجه «ب» الآن، وفي البداية كان غالبا ما يتلاشى من ذهني حال ظهوره. عندما تلتقي عيوننا ونحدق النظر، نفعل ذلك بطريقة تجعلنا أكثر حياة وأكثر موتا. الموت بالنسبة إلى العالم الخارجي، والحياة بالنسبة إلى أنفسنا. هل هذا هو ما فعله نارسيس في البحيرة؟ هل هذا هو الحب؟
قال: «عندما لا تتحدث النساء في الفراش، تزيد قدرة الرجل على تذكر الجسد.» لعل «هي» تطبق فمها.
كنت أول من وصل هناك. لا أستطيع أن أضبط وقت هذه الأمور. كما هو الحال في السمنة أو النحافة - فلم يحدث أبدا أن كنت سمينة أو نحيفة، لأني دائما في الطريق لأن أكون كذلك. كانت الردهة مزدحمة. وكانت هناك لوحات ملونة عن رحلات إلى أماكن أخرى. الريفيرا زرقاء وكذلك أثينا. عندما دخل «ب» قلت له: «دعنا نذهب إلى أثينا الزرقاء.» كان بودي أن أذهب معه بعيدا لمدة أسبوع. مجرد أسبوع واحد نعرف أنه سرعان ما ينتهي. كانت قاعة الطعام ضخمة. وطلبت مائدة في الركن لأني شعرت أني سأقع لو جلسنا في الوسط. لا أستطيع مضغ الطعام أمامه. عندما نفترق يبدو دائما سعيدا، بينما أكون مكتئبة. يعجبني هذا فيه. ويعجبني الرجال. أنا معجبة بزوجي أيضا. ليس بسبب رقته، وإنما بسبب عمله، فهو يقضي اليوم كله بين السجلات والملفات والناس.
أتأرجح بين السعادة وأقصى درجات اليأس. التقيت صغيري جيريمي بعد المدرسة. تأخرت خمس دقائق. انصرف جميع الأطفال الآخرين. كان موشكا على البكاء. قال «انحل رباط حذائي.» لم يكن هذا صحيحا. الأطفال خبثاء.
أمسية تسكنها أمسيات جميلة أخرى. وأنا أستعد للقاء «ب» فكرت في الاستعداد لزوجي، وبدا كل شيء سليما وكاملا ومتناسقا. كان مخدعي باردا لأن الأنابيب أصيبت بشيء من التلف، وفكرت في ورقة نعناع تجمد الصقيع فوقها، واختلطت هذه الفكرة بزخارف الكعك وحشيشة الملائكة. كان شعورا جميلا في تلك الأمسية الباردة اللاهثة، أن أكون قادرة على التفكير في غصن نعناع غطاه الصقيع، وفم «ب» عندما نلتقي ويمتد ليلمس فمي بدلا من أن يقول هاللو. ما كان يجب أن أطلب ذلك منه. قال: «أكتب إليك؟ لماذا يجب أن أفعل ذلك؟» لعله ظن أني أطالب ببرهان على حبه. ويبدو أنه كان على حق.
أظنني أخون «ب» بتدوين كل هذا. إنما الأمران غريبان حقا: يقظته وإهمالي. فهو يتلفت حوله عندما نكون في مكان عام. وعادة ما تكون ياقته ضيقة للغاية مما يؤلم عنقه عندما يتطلع حوله. كأنه متزوج وأنا لست كذلك.
عندما نكون أنا و«ب» في أحسن حالاتنا معا، يتحتم علينا دائما أن ننصرف. ويتملكني الخوف. أندفع إلى منزلي. أروي الأكاذيب لسائق التاكسي. وأفكر فيما يمكن أن أرويه له ليضاعف سرعته. ويكاد زحام المرور يصيبني بالجنون. إنها أسوأ اللحظات، لا يخفق فيها قلبي وحده، بل كلي.
المقاهي، الحدائق، المقاهي. يقول إننا لو ذهبنا إلى الكوخ، فإن المرأة، امرأة ما، ستذهب قبلنا بيوم وتوقد نارا. توقد نارا! أريد الأمر باردا، لنجلس تحت الأغطية، كالمرضى، ونرتشف الويسكي. لا أريده دافئا ومريحا كالبيت.
أعطى «ب» هبة للساقي. قلت: «ما أغرب أن تفعل هذا!» قال إنه لا بد من ذلك. قلت: «أنت محدث نعمة.» وساد الصمت. أظن أنني جرحته. (صبي مسكين قام بعمل طيب. أحقا لا يتخلصون من هذا الشعور؟) وعندما غادرنا المكان كانت السماء تمطر. ووقفنا ننتظر سيارة. قال: «خذي أنت أول سيارة.» لم يقل هذا أبدا من قبل. كان يرافقني عادة بعض الطريق ثم يغادر السيارة. ربما كان المطر هو السبب. أتيت البيت غارقة في العطر. أحمل زجاجة معي لأغطي رائحته بعد أن أتركه. أدخل منزل زوجي تفوح مني رائحة الجرم.
يقطن «ب» منزلا عاليا: مطرقة باب من الطراز الجيورجي، أربع زجاجات من الحليب في اليوم (حسب الزجاجات الفارغة خارجه)، وستائر من الحرير الشفاف. أعرف كل هذا. أعرف رقم هاتف منزله. ولا يعرف أني أعرف. بحثت عنه في دليل الهاتف. وذات ليلة مضيت لأرى المنزل. كما لو كانت رؤيته ستشفيني. قال زوجي عندما عدت: «كانت نزهة طويلة.» قلت: «ذهبت إلى هامبستيد لأرى كيف تبدو.» «وكيف كانت تبدو؟» قلت في شيء من المزاح: «تبعث على الاهتمام.» لكن البرد في الغرفة كان شديدا. قلت: «يجب أن نفعل شيئا بشأن هذه الدفايات.» قال «أ»: «حسنا، لديك اليوم كله، أليس كذلك؟» اندفعت خارجة من الغرفة لأعد الشاي. الآخرون قد يفقدون أعصابهم أو ينهارون أو ينتحرون، أما أنا فقد صنعت الشاي باعتداد شديد. وحملته إلى «أ» مع بعض التوست. وأدرت أسطوانة صلوات يهودية. تحدثنا في ود، لكن لم يكن في الإمكان التخلص من برد الحجرة. كان وجه جيرمي دافئا في الفراش. من عادته أن يقلص أنفه عندما أعطيه قبلة النوم. أضأت النور لأرى بقع النمش المنتشرة على أنفه. وجدتها قاربت على الاختفاء. سألني «أ» لماذا أضأت النور. قلت لأرى بقع النمش. قال إن النمش كان هناك في الساعة الثامنة عندما مضيت إلى الخارج، أو إني لم أفكر في ذلك؟
نعش منعزل من الوحدة. - «الدخول في حياة شخص آخر أمر مرعب.» هارولد بينتر. «عدم الدخول في حياة شخص آخر أمر قاس للغاية.» أنا. عندما أقع في الحب فإنه الربيع أيا كان الوقت. لا أهمية للأوراق المتساقطة، فهي تنتمي إلى فصل آخر.
حاولت أن أمزح من أجل «أ» حدثته عن عجوز في التسعين تضع على مكتبها لوحة تحمل هذه الكلمة: «الشبق». قلت لعلها تشد من أزر نفسها. قال: «الاحتمال الأغلب أنها نصيحة شفرية لمراهنات الجياد.» هذا الاتجاه للتقليل من المبالغة في الأشياء والذي كنت أحبه في «أ» هو الذي أكرهه فيه الآن كثيرا. خرجنا لنزهة قصيرة سيرا على الأقدام. لم يحدث أبدا أن مشى ثلاثتنا سويا. فإما أن يكون جيريمي معه في المقدمة وأنا في أثرهما. أو نكون أنا وجيريمي معا بينما يستغرق «أ» في خواطره. كانت أمامه قضية طلاق، وأفكر كم هو غريب أن يعرف أسرار الجميع ماعداي. وأنظر إلى زوجي وأود أن أركع أمامه وأسأله المغفرة.
أيام الآحاد التي أقضيها مع أسرتي هي أسوأ الأيام.
رأيت إعلانا عن فيلم فيه صور أربع نساء وتحتها سطر يقول: «مراهقة، زوجة قلقة، شيطانة، عاهرة.» أنا كل أولئك.
نبأ مذهل في الصحيفة. ارتاب رجل في أن زوجته تخونه. وحدس أنها أرسلت برقية إلى عشيقها. فكر أنها لا بد كتبت مسودة البرقية أولا وألقت بها في سلة المهملات بمكتب البريد. ذهب إلى المكتب وعثر على المسودة. كانت تقول: «أحبك، أفتقدك، أراك يوم الثلاثاء.» قطعت النبأ وتركته على مكتب «أ» ليكون مزحة وتغطية في الوقت نفسه. لم يعد المطر يخفي رائحة الجرم.
ضغطت يد «ب» فأجفل. كنت قد ضغطت على قطعة من اللاصق؛ فقد جرح إصبعه أثناء الحلاقة. قلت إني قرأت مرة أننا إذا اعتصرنا الليمون فوق المحار، فإنه يجفل وينكمش، رغم أن ذلك لا يظهر للعين المجردة. طلبنا دستتين من المحار وكمية من الليمون، وكانت تلك من المرات التي كنا فيها قساة مع كل شيء. ما عدانا نحن. ولهذا كان الأمر على ما يرام. - «إنها في حرب مع قدرها. ماذا كانت تملك غير أن تموت شابة، مقيدة، محبطة؟» هذا ما قالته فيرجينيا وولف عن شارلوت برونتي. حسنا، لن يقول أحد إني مت مقيدة ومحبطة. كل شاب يصفر لي الآن أبتسم له. إذا كانت علاقتي مع «ب» ستعيدني إلى مراهقتي. فلأكن مراهقة في كل شيء.
أنا وجيريمي نأكل الكعك ونلعب.
بوسعي الآن أن أرى كيف تلغي الحرب التزام الشرف اليومي، وكم في هذا من راحة وخلاص؟ قرأت الصحف، حروب كثيرة، لكن في الجانب الآخر من العالم. «أ» و«ب» في خندق واحد يحملان صورا لي، كما نرى في الأفلام. ذهبت أربع مرات لأرى فيلم جان لوك جودار «امرأة متزوجة». إنه في صفي. فكلا الرجلين يتكشفان عن مغفلين والمرأة - حتى - لا تحمل.
يتملكني شعور فظيع بأن الأمر سينتهي بطريقة غبية. مثلا، لا يظهر «ب» في أحد مواعيدنا، أو لا أظهر أنا، ثم لا نتمكن أبدا من الاتصال ببعضنا البعض لنتفق على موعد آخر. ممكن. كتبت إليه رسالة واحدة. سألته زوجته: «ممن؟» قال: «الناشر.» قالت: «في يوم أحد؟» وانتهى الحديث - كما ذكره لي - عند هذا الحد. انتظرت إباحة أخرى، خيانة ثانية لها - مثلما ينتظر المرء عملية شنق - لكنه لم يفعل. أشعر الآن بالسرور لذلك، رغم أني وقتها كنت ساخطة. قال: «ستكون جميلة هذه الرسائل، لكن الأفضل ألا تفعلي.» قلت: «ستكون جميعا رقيقة للغاية وعميقة مثل نتف صغيرة من نثار الورق (كذب)، لكن الأفضل ألا نفعل.»
قبلتنا الأولى - من بين جميع الأماكن في مدخل جاراج - كانت مضحكة. كان الجاراج مغلقا وفوق بابه لافتة تقول: «حد الارتفاع 8 أقدام و6 بوصات». تظاهر بأنه يقيس طولي ثم قبلني وتراجع إلى الخلف قائلا: «والآن قبليني.» قلت: «لا أستطيع. لا أعرف كيف.» ومع ذلك فعلت. وتناولنا العشاء. رويت له كل الأشياء المضحكة التي خطرت ببالي، وكانت تتدفق طول الوقت. ضحكنا كثيرا وشربنا نبيذ القران. اضطجع في المقعد الذي كان يشبه الأريكة وابتسم. كانت بيننا وسادة فرفعها وقال: «تلقيت عرضا بشلن واحد مقابل هذه الوسادة.» ثم انحنى وأزال إحدى فردتي حذائي ووضع الوسادة تحت قدمي. كان الأمر لذيذا. قال إنه كان يجب أن تكون هناك غرف في الطابق الأعلى. قلت: «كلا. إذا كان سيحدث شيء بيننا، فيجب أن يكون مرحا، أخلاقيا، جذلا.» «مرحا؟» قال مدهوشا. قلت: «أكان هذا سوقية مني؟» قال: «كلا على الإطلاق، لكن يبدو أنك فتاة حزينة. حزينة.» كنت مهرجانا من الضحك في تلك الليلة بالذات. كان يجدر به أن يراني في حالتي العادية. بالطبع لم أقل له ذلك (هذا هو الفخ: نحن نخفي الجانب الأصدق من نفوسنا عندما نحب). ابتسمت بحزن. فمتى ظنوك شيئا تبدئين في تمثيله بجنون. ظل يداعب قدمي فوق الوسادة ولا أذكر أني شعرت بقلق ما على تأخر عودتي إلى البيت.
ولج «ب» الحفل واضعا نظارته، وخلعها، ثم وقف وظهره إلى الجدار، ثم وضعها من جديد. فكرت: هذا الرجل عصبي ووسيم. كان هناك ستون شخصا يتناولون العشاء. أظنها كانت مقاعد مستأجرة . المقاعد الصغيرة المذهبة التي تراها في المطاعم الأنيقة. كنت أجلس إلى مائدته، ليس بجواره مباشرة وإنما أمامه. لم يكن يأكل شيئا. وقلت عبر المائدة: «لماذا لا تأكل؟» قال: «لا آكل لحم الكندوز.» بعد ذلك تبادلنا النظرات. رفض البودنج وكذلك أنا (بودنج جميل بالكستناء تعلوه الكريمة وتحيط به قطع البسكويت من الجوانب). نظرة متورطة تذهب بالشهية. وفيما بعد، في المخدع، كانت هناك نسوة يتحدثن. لا أذكر سوى الرداء دون الوجه. كان رداء طويلا من المخمل الأسود. وبعد ذلك رأيتها تتحدث إلى «ب» وتنصرف. سألت: «من هذه؟» وقال لي شخص ما إنها زوجته بينما كانت تمضي بعيدا. كان ظهرها نحوي ولهذا لم أر وجهها أبدا. يبدو أنها تغني في ناد ليلي. عندما اختفت اقترب مني. قدم إلي مسواك أسنان، مازحا. قلت: «إنها من الخشب ولست آكله.» قال: «الفكرة أن شذراتها تعلق بأسنانك ويتعين عليك أن تتخلصي منها بالإضافة إلى بقايا الطعام.» يكتب روايات. إنها هكذا. تفيض بأشياء غريبة مضحكة، لكنها حزينة من وراء هذا كله. اقترب منا آخرون ليلتفوا من حوله، وفقدته. ثم لم أفقده. شعرت أنه يدبر أمرا. وجاءني بعد قليل: «نحن ذاهبون إلى مباراة بوكر وقد دعي زوجك إليها.» قلت دون أن يبدو شيء على وجهي: «حسنا.» وراعيت أن أذهب إلى السيارة في رفقة «أ»، وكان من السهل أن أكون سعيدة. تدخين متواصل وشراب متواصل ولا أثر لرغبة في النعاس.
لست أنكر هذه الرغبة الوحشية. أريد أن يكون الجميع في حب. إنه جبن وضعف وقذارة. لكنه عظيم. يبدو أني أتناول بالتفصيل تلك المرحلة من حياتي لأن حياتي قبلها كانت مجدبة.
أبكي قليلا، أضحك قليلا، أجري، أجل أجري في الطريق مع جيريمي كما لو كنت في التاسعة. أتمدد وأظن أني قادرة على لمس النجوم. أتنفس بعمق، أتحدث كثيرا جدا. أترك نفسي أنطلق في فورات انفعالية، ثم أظن أني أتصرف في سخف أو يظن أحد ذلك بالنيابة عني، وأكف.
كان الحب دائما يوجه حياتي. أعرف أن هناك مغامرات ليس أبطالها من الرجال ، وليست حسية، لكن لا شأن لي بهذه المغامرات. إنها ليست لي. أريد دائما أن أحب، فالقبر هو البديل. العقل بالتأكيد يتدخل ويحدثني عن الهدف من الحياة، وعن الأمومة والمسئولية. لا بد وأن أعترف أن الكثير من الآباء والأمهات جادون. أغلبهم كذلك، وبالرغم من ذلك، فإن الكثير من الأطفال تعساء. لماذا؟
لا أتمكن من الخروج للنزهة، لكن الأمر يخطر لي: الزنا. زناهم، زناي، زنا الجميع. ذهبت إلى الحديقة في الصباح. في أحد الأكواخ الصيفية رأيت عربة صغيرة تحمل طفلا. وبالقرب رجل وامرأة. ظننتهما زوجين سعيدين خرجا سويا لينزها طفلهما. وعندما اقتربت منهما رأيتهما يتبادلان القبلات. وظللت أعتقد أنهما زوجان سعيدان. وعندما سمعا وقع خطواتي فوق أوراق الأشجار - وكنا في الخريف - انفصلا في سرعة وعنف. خطواتي جعلت منهما عدوين. الإحساس بالإثم شيء فظيع. ولا يجعلني هذا أكف عن رؤية «ب». لعله يشجعني على ذلك وإن كان يحول بيني وبين الاستمتاع بالأمر. أردت أن أقول لعاشقي الحديقة: «استمرا. تبادلا القبلات. كونا سعيدين.» لكني بالطبع لم أقل شيئا.
سيكون الأمر رائعا لو عدت شابة من جديد ونظمت حياتي بصورة مختلفة. وهنا يثور بالطبع السؤال: من منهما كنت أتزوج؟ الإجابة ليس لها معنى مثل الإجابة التي سأحصل عليها من انتزاع أوراق الأقحوان. واحدة نعم. وواحدة لا. ينتابني شعور فظيع بأني ما كنت سأتزوج أحدا منهما. أنا مشوشة في أعماقي. أليس الجميع كذلك؟
يطاردني شعور بأن الأمر سينتهي بطريقة غبية.
أعرف الآن أن الغيرة هي النتيجة المباشرة للخيانة. يقول «أ»: «قد أتأخر هذا المساء.» ويبدأ قلبي في الخفقان، وأقول: «لماذا؟ متى؟ أين؟» في اندفاع. وأظنه سيتركني في الغد، أو سيلتقي بإحدى المطلقات اللاتي يترددن عليه.
دائما أفكر إلى الأمام. أعد طعام العشاء بحيث يكفي ليومين في حالة ما إذا اتصل بي «ب» واحتجت إلى الخروج فجأة. أذهب لرؤية أناس لا أريد أن أراهم كي أعطي الأكاذيب مظهرا من الصدق. رأيت امرأة مضجرة أمس، حدثتني عن مغامرة لها فوق باخرة، وكيف أنها لم تستطع لأنها لو فعلت لشعرت بأنها مومس بينما يختلف الأمر لو جرى في منزلها. مراعاة المكانة والوقار! مضيت إلى الهاتف لأتصل به. على الجدار هذه العبارة: «أحب لسلي وجوان.» حدثت «ب» عن العبارة. قلت: «ألا تظن أنها معقولة؟» قال: «جدا.» إنه أكثر عمقا مني فهو لا يتحدث كثيرا.
الغذاء مع «ب» في مشرب. كنت أتسوق. أخجلني أن ألجه حاملة مشترياتي. ظننت أن الأمر سيبدو بيتيا تماما أو لعلني خشيت ألا أصبح مثيرة للاهتمام؟ جلسنا متلاصقين بسبب الزحام. الحركة وسط النهار شديدة. لم أشهدها قط من قبل. تحدثنا عن البساتين. كان له واحد ذات مرة وزرعه تفاحا. قال: «أتعرفين أن هناك ورودا لها رائحة التفاح؟» قلت: «كلا.» قال: «هل تعرفين أن للورود الحمراء قلوبا بيضاء؟» قلت: «كلا.» قال: «اعتدت أن أفتش فيها بحثا عن الآفات.» كان ذلك جميلا.
يضع نظارته ثم يخلعها من جديد. أظن أن عينيه ضعيفتان. تبدوان أحيانا متعبتين ولهذا يبتسم في شحوب، في تناقض واضح مع ذقنه البارز مثل النتوء الجبلي.
مسكينة «إما بوفاري».
هناك صخرتان في اليابان (على ما أعتقد)، تقعان على جانبي البحر، ويمتد بينهما حبل. فهم يعتقدون أنهما صخرتا عاشقين، أو أن العاشقين تجسدا فيهما بعد موتهما، أو غير ذلك من الأساطير التي تناسب حالتي وأنا تحت سلطان الحب.
شممت رائحة النرجس، لكني لم أر شيئا منه إلا في الرأس. مرج كامل، أبيض، برائحته المرة الجميلة. كان معطف «ب» في لون الغبار، ولمسته أول مرة عند القبلة الأولى حيث كانت اللافتة تقول: «8 أقدام و6 بوصات». كأني كنت ألمس زهرة من الورق. الآن اختلط كل شيء في رأسي: مرج النرجس، الغبار فوق الطرقات الجبلية، سترته، الرمش الذي سقط فوق الحافة السفلى لعين نظارته اليسرى، معطفه الذي يشعرني بالورق، وقبلته التي تشعرني بالزهرة. المرة الأولى دائما مجنونة. أعرف ما يمكن أن يكون عليه شعور مدمني الخمر في الثانية التي تسبق اقترابهم من الشراب، وما يشعر به لصوص المتاجر عندما تطبق أيديهم على سلعة، لأني أعتبر نفسي من هؤلاء، هؤلاء المغامرين الخائفين الشرهين .
حجراتنا. غاباتنا. مطاعمنا. حرارتنا وأشواقنا التي لا يشهد عليها سوى الأثاث. في إحدى الغرف كان هناك سقف مزخرف أعجبت به. لم أقل ذلك. فيما بعد قال «ب»: «سقف جميل.» قلت: «لا أستطيع أن أشير إلى الأشياء التي أراها أو أقول الأشياء التي أفكر فيها عندما أحب شخصا ما.» قال: «هذه وحدة، وحدة يائسة.» وفكرت: هو وزوجته يتشاركان الأشياء ولهذا يبقى معها وسوف يبقى معها. أأنا مهووسة وبلهاء؟ كان المسكن لأحد أصدقائه، ومرتبا بصورة لا تصدق.
كان قد تناول العشاء في الخارج. قال إن الحديث دار حول الحمامات وطرزها ... إلخ. قلت إن الأزواج الأثرياء يسبغون خيالا ومالا فائقين على الحمامات. سألته ما إذا كانت هناك علاقة بين ذلك وبين الجنس، ألا يظن أن كل هذه المرايا، وكل هذه الزجاجات الزرقاء، وكل هذه الأحواض، كل هذه الأوراق البديعة التي تغطي الجدران، هي محاولة لصنع هالة جنسية جميلة؟ تطلع إلي باهتمام وقال إن الأمر محتمل، ثم نزع نظارته، ودلك عينيه، الأمر الذي يفعله عادة عندما يكون ضائقا بشيء أو متعبا. أظن أني وضعت قدمي على الأمر. أعتقد أن «لديهما» حماما جنسيا. حاولت مصالحته فقلت: «عندما أحب أفضل الأماكن الموحشة المهجورة، المطاعم الرخيصة، والبيرة المرة بدلا من الويسكي.» قال: «يجب أن أتذكر ذلك.» قالها ببذاءة. كان الزعل الأول بيننا. لم يكن زعلا بل خلاف في الرأي حول الحمامات. يا إلهي! لا أملك فكاكا من ديانتي وأساطيرها. فقد نشأت عليها.
عندما ذهبت مع زوجي لنلعب البوكر، لم ألعب لأني لا أعرف. أجلسوني بجوار «ب» كي أكون قريبة من الباب، فأفيد في إحضار الشراب إليهم، كنت الشخص الوحيد الذي لا يلعب. ومع ذلك دون لي ما تجمع لديه من أوراق رابحة. أول ما كتب: «زوج»، ثم «زوجان». وقلت: «أليس الأمر حميميا للغاية ؟» فضحك بخبث وكف عن الكتابة، وترك الورقة أمامي، وكانت هذه الإيماءة البريئة في الظاهر، مثل حلف عقد بيننا. وازداد اللاعبون استغراقا وصمتا. وفكرت: إنهم يكشفون عن نفوسهم الحقيقية في هذه اللعبة. وقلت له: «إنك لا تبدو شديد العدوانية.» نظر إلي وإلى يدي المبسوطة على المائدة، ثم وضع يده إلى جوارها، ورغم أنه لم يلمسها، فإنه كان بهذه الإيماءة يراودني عن نفسي لأول مرة. لم نفه بكلمة. نظرت إلى «أ». كان قد استدار إلى شخص ما يسأله: «ماذا لديك؟» وفكرت: لن أنسى هذه اللحظة مطلقا. يد «ب» ويدي متلامستان رغم أنهما غير متلامستين. ذهني، أطرافي، وعيي، كلها تطير مثل أذهان وأطراف ووعي في حالة انفلات مرح. لعبوا طويلا، وقبل أن نفترق كتب إلي «ب» على ظهر ورقة: «هل تقابلينني غدا صباحا في الكنكو على طريق كنج؟ لا بأس إذا لم تتمكني، لأني أذهب هناك على أية حال لأشحذ قريحتي.» قرأتها، وراقبني وأنا أقرأها، ولم يكن أحدنا مدهوشا.
لا أسر بشيء لأحد، ليس غير هذه المفكرة التعسة. اليوم سأغسل الستائر، سبعة عشر زوجا منها، وأنشي ما يحتاج منها إلى تنشية، وأكويها كلها ثم أعلقها من جديد وأكون متعبة للغاية بحيث لا أحتمل التفكير في الأمر.
سألني «ب»: «ماذا فعلت بالأمس؟»
قلت: «شممت رائحة السنط، ورأيت الأوراق تتطاير في رأسي، بكافة الألوان، وعندما رقدت في المساء، لم يكن بوسعي أن أطرد الأوراق والألوان من رأسي.»
قال: «حلوة، فتاة حلوة.» لا بد أنه يظن الحياة معي ستكون شاعرية، بالأوراق التي تتطاير، والروائح والمشاعر، وألا يكون المرء مضطرا إلى تقطيع الجزر. هذا هو الانطباع الذي أعطيه. لا شفاء لي.
أتأرجح بين السعادة وأقصى درجات اليأس. جشع، أكاذيب، إمساك، أكاذيب، ويمثل الحب جانبا ضئيلا وسط هذا كله. ترى كم هناك من أنواع الحب؟ كم شخصا من الذين أعرفهم قادر حقا على الحب؟
حدث ما كنت أعتقد طول الوقت أنه سيحدث. كنا سنلتقي في البهو ولم يأت. وبعد ساعة وأكثر تقدمت من مكتب الاستقبال. سألت عما إذا كانت هناك رسالة لي. لا شيء. بعد ساعة أخرى عدت إلى البيت.
في اليوم التالي، عندما لم يتصل بي، طلبته أنا. ردت علي امرأة. وضعت السماعة. لا بد أنه فهم. فقد طلبني بعد قليل . أنكرت أني حاولت الاتصال به. قال إن زوجته شعرت بالأمر وقالت إنه لو رآني مرة أخرى فسينتهي كل شيء بينهما. قلت «هذا لا يعقل.» قال: «الناس هكذا .. يجب أن نكف عن اللقاء بضعة أسابيع.» كان يبدو خائفا. قلت: «هل يمكن أن نلتقي مرة واحدة فقط.» قال: «بعد أسابيع.» هكذا انتهي الأمر، بصورة عبثية.
يقول كامي: «لا آسف على شيء، وبهذا أعرف أنه كان حسنا.»
لست بآسفة. ما زلت أحتفظ بذكرى شيء حسن لكنه لم يكتمل. آمل أن يتصل بي. لن يفعل. بل إن الأمل في هاتف منه غاض. وأصبحت أعزي نفسي بأن هناك أياما يحتاجني فيها، لكنه لا يملك شيئا حيال ذلك.
أصنع كعكا. كعك ماديرا وحساء باردا. أظن أني حامل. أميل إلى هذا الظن رغم ما يتوفر من أدلة على العكس. عاد جيريمي من المدرسة. قلت: «لدينا كعك بيتي.» وقال: «مذاقه بشع.» خاب أملي فيه؛ لأنه لم يحب الكعك ثم خاب أملي في نفسي؛ لأني عولت على هذه السخافة: أن يحسن الكعك من صورتي في عيني ابني. لديه حسن الإدراك أكثر مما لدي. يريدني سعيدة، ولا يعبأ أبدا بالكعك البيتي أو الملاءات النظيفة، فهو يريد أن يبقى في عالمه الخيالي الخاص. يريد أخا. يا إلهي، إذا كنت حاملا فلا بد من اختبار دم.
قرأت مرة أن سقوط كافة الرجال العظماء، والزعماء، والرجال الصغار، الذين سقطوا، كان جزءا من شخصياتهم. أنا أومن بذلك، كما يؤمن المرء عندما يثبت لنفسه شيئا. ليلة أمس بعد أن أطفأنا النور شرعت بالبكاء وقال «أ»: «هذا البكاء أصبح عادة لديك.» قلت: «لقد انتهى الأمر تقريبا.» قال: «ماذا؟» وأخبرته. رويت له الأمر مباشرة. قال: «لقد حدست.» قلت: «لماذا لم تسألني؟» قال: «لم أكن أود أن أعرفه.» أدركت عندئذ أني ما كان يجب أن أخبره، وأني بذلك ضاعفت من سوء الموقف. فقد حقرته. قال: «آمل ألا ألتقي به أبدا.» قلت: «لماذا؟» (أسئلتي بلهاء). قال: «لأسباب واضحة.» شهقت وعندئذ غادر الفراش وأضاء النور وتناول الكتب من فوق المنضدة المجاورة للفراش، وأخذ أيضا زجاجة الأسبيرين، وغادر الحجرة. وتبعته بملاءة. قدمتها إليه في غرفة الضيوف. حاولت أن أعتذر فقال: «لا تفعلي!» كنت أعرف أن أفضل شيء هو أن أغادر الغرفة وأتركه بمفرده وأترك الأمر يصلح نفسه بنفسه، لكني لم أستطع. ظللت واقفة أردد: آسفة، آسفة، رغم أني أعرف حماقة ذلك. لم أتمكن من الحركة. هذا الشلل، هذا الفشل لإرادتي في أن تحرك جسدي، أرعبني. ألقى بالملاءة خلفي .. فاستقرت على الأرض في كومة. لم أستطع جذبها معي. بالكاد قدرت أن أحمل نفسي. تساءلت ما إذا كان سيقتلني.
لم يفعل. ما زال في حجرة الضيوف. أعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام في هذا الوقت من السنة المقبلة. اتصلت بواحدة تعرف «ب» وزوجته وسألتها: «هل ترينهما؟» قالت: «إنهما لا يقابلان أحدا، خوفا من أن يفقد أحدهما الآخر.» خطر لي أنه من المستحيل أن أكون قد عرفته ذات يوم، وأن أحدا لا يعرف أني عرفته، وأحببته، وتلقيت حبه. إنه سر سيأتي وقت - وسوف يأتي هذا الوقت - يتلاشى في عالم الأحلام. مثل أبطال فيلم «العام الماضي في مارينباد» لم أعد واثقة إذا كان شيء قد حدث فعلا، أو هو شيء قلت لنفسي إنه حدث كوسيلة لقضاء الوقت. ليس لدي شيء يخصه، لا ذكرى، ولا حتى إحدى رواياته تحمل توقيعه. أملك بالطبع التواء جسده فوق جسدي. لو كانت الأجساد كالأحجار، أو الخشب، أو أواني السكر الفضية، لاحتفظ جسدي بكل علامات جسده، لكان جسدي مثل سطح مائدة، يحمل ويحتفظ بالدليل على كل ما جرى له.
عدم المعرفة هو أسوأ ما في الأمر. لو أرسل ورقة أو برقية، أو أي شيء بكلمة واحدة: «انتهينا.» لتحملت الأمر، لكني ما زلت أتعلق، مثل قطعة من صحيفة مبتلة متشبثة بسياج. التعلق بالأمل هو الذي يحطمني . لو أمكنني أن أكف.
كونه كاتبا هو بالتأكيد ما دفعه لصحبتي. إنهم يمتصون الآخرين، ثم يضعونهم على الورق ويقضون عليهم بذلك قضاء مبرما.
مرة واحدة فقط سألني عن «أ». وقلت: «إنه وحيد لا أصدقاء له.» ما كان يجدر بي أن أقول ذلك.
كم أنا كئيبة!
جرحت نفسي على حافة علبة كمثرى من الصفيح، وتركت الجرح يتعفن، وبذلك رفعت من شأن نفسي في عيون أسرتي، وحقرت من نفسي في عيني.
كم أنا كئيبة!
طول اليوم كنت حزينة، رغم أني ثملة.
ذهبت إلى المدرسة، المدرسة التي يتردد عليها طفله. كنا مرة نتناول الغداء وقال إنه يجب أن يذهب ليكون أمام باب المدرسة في الثالثة والنصف. رافقته جانبا من الطريق ثم تواريت. كانت المدرسة في منزل عادي بميدان، وعندما عدت أبحث عنها، لم أكن واثقة أني سأستدل عليها. لكن الأمر لم يكن صعبا. كان العنوان في الخارج، منقوشا فوق لوحة نحاسية. وصلت في الثالثة والنصف تماما، ومع ذلك لم يكن ثمة أثر لطفل واحد. ظللت واقفة وقلبي يخفق بسرعة. مرت خمس دقائق دون أن يظهر أي طفل. ثم فكرت: إنهم لا يخرجون قبل الثالثة والأربعين دقيقة مثل بقية المدارس. لكنه قال الثالثة والنصف بدافع الحرص. وكرهته بسبب كذبه. أول طفل ظهر عند الباب قد يكون طفله: أسمر، يفتقد إلى الشمس؛ لأن بشرته تحمر بسهولة، وتصفر في الطقس المعتم. استقل سيارة قادتها امرأة. أطفال آخرون، أمهات، سيارات: انصرفت قبل أن يخرج الجميع. وبدا لي الأمر كله - ذهابي هناك - دليلا على فساد الذوق. لا يمكنني أن أفعل هذا ثانية. الآمنون يثيرون حفيظتي، لكن الأغبياء مثلي يثيرونها أكثر.
بوسعي أن أجد عذرا ما؛ أن أرسل له هذا العذر، وأؤكد ذلك بأمانة كاملة: يمكنني أن أفعل لو تأكدت أنه سيصله هو، وهو وحده. لكن إذا وقع في يد شخص آخر يكون هذا غدرا. والغدر هو الشيء الوحيد في نهاية الحب الذي يلغيه تماما .. بشكل ما، الحب الذي يتغير أو يخبو، أو يتلاشى، طبيعي، أما الحب الذي ينتهي بالغدر فلا تعود له في الذهن أية علاقة بالحب على الإطلاق.
روعة. عاد جيريمي من المدرسة وقلت: «أحدث اليوم شيء لطيف؟» قال: «أجل، أفلت أحد حيوانات الهامستر من صندوقه وأكل كل زخارف عيد الميلاد .» انطلقنا نضحك. وفكرت فيما بعد أنها أول مرة منذ شهور تخطر ببالي فكرة لا علاقة لها ب «أ» أو «ب». قلت لنفسي: لتكن هذه أولى لحظات كثيرة حرة، وتناولنا أنا وجيريمي الحلوى والشاي، وضحكنا. لا أطلب أن يكون اليوم مثل الأمس أو مثل الغد. أريد أن أعيش من أجل اللحظة، من أجل التجربة الخاصة التي لا تتكرر. قد تكون ضحكا، أو حبا أو ألما، أو لذة، أو أي شيء. أريد أن أكون حرة. لن أحقق هذا أبدا، لكن أحدا لا يسعه أن يقول إني لم أحاول.
الكراسة الذهبية
للكاتبة الإنجليزية دوريس ليسنج (1962م)
The Golden notebook by Doris Lessing 1962
والآن، اتخذت قرارها. كرت عائدة إلى الفندق، في الناحية الأخرى من باريس، وحزمت حقائبها، وأبرقت إلى جوليا وإلى باتريشيا، ثم استقلت السيارة إلى المطار. كان هناك مقعد خال في طائرة التاسعة، أي بعد ثلاث ساعات. أطلت متمهلة على مطعم المطار. وقرأت حزمة من المجلات النسائية الفرنسية بعناية، وهي تسجل الموضوعات والقصص التي قد تفيد باتريشيا. كانت تقوم بذلك بنصف عقلها بينما تفكر: «حسنا، علاج هذه الحالة هو العمل. سوف أكتب رواية جديدة. لكن المشكلة أني عندما كتبت روايتي السابقة لم أقل: سأكتب رواية. لقد وجدت نفسي أكتبها. حسنا، لا بد أن أضع نفسي في الحالة الذهنية ذاتها، حالة الاستعداد الطليق أو الانتظار السلبي. فربما وجدت نفسي، ذات يوم، أكتب. لكني، في الحقيقة، لم أعد أعبأ بذلك. لو أن بول قال: سأتزوجك بشرط ألا تكتبي حرفا واحدا بعد الآن. يا إلهي، كنت فعلت! كنت مستعدة لشراء بول. لكن ذلك سيصبح خداعا مزدوجا. أنا لست سعيدة لأني فقدت شيئا من استقلالي، بعض حريتي. لكن حريتي لا علاقة لها بكتابة رواية، إنها تتعلق بموقفي من رجل، وهذا ما تبين كذبه، لأني صرت حطاما. كانت سعادتي مع بول أكثر أهمية من أي شيء آخر، فإلى أين أدى هذا بي؟ ها أنا ذا وحيدة، خائفة من الوحدة، بلا حيلة، أهرب من مدينة مثيرة لأني لا أملك الطاقة المعنوية لأتلفن لأي واحد من اثني عشر إنسانا يسرهم (أو على الأقل ربما) أن أفعل.
المرعب أنه عقب انتهاء كل مرحلة من مراحل حياتي، لا يتبقى منها أكثر مما يعرفه الجميع. وهو، في هذه الحالة، أن عواطف النساء ما زالت كما هي، لا تصلح إلا لنوع من المجتمعات لم يعد له وجود. عواطفي العميقة، الحقيقية، تتصل بعلاقتي برجل. رجل واحد. لكني لا أعيش هذا النوع من الحياة، وأعرف قليلات يفعلن ذلك. ما أشعر به سخيف لا جدوى منه. دائما أنتهي إلى أن عواطفي الحقيقية غبية. يجدر بي أن أكون مثل الرجل، أهتم بعملي أكثر من اهتمامي بالناس. يجدر بي أن أضع عملي في المحل الأول، وآخذ الرجال كما هم، أو أجد لنفسي واحدا عاديا مريحا، لأسباب تتعلق بالخبز والزبدة. لكني لن أفعل، ليس بوسعي أن أكون هكذا.»
نادى الميكروفون على رقم الرحلة. وسارت «إيللا» مع الآخرين إلى الطائرة، واستقرت في مقعدها بعد أن لاحظت أن المقعد المجاور لها قد شغلته امرأة، وتنفست لذلك الصعداء. لو حدث ذلك منذ خمس سنوات لشعرت بالأسف. واستعدت الطائرة للإقلاع. لكن خللا ما طرأ عليها. وسئل الركاب أن يغادروا الطائرة حتى يتمكن العمال من إصلاح «عطب صغير في المحرك». وعاد الركاب إلى المطعم حيث أعلن عاملوه عن تقديم وجبة من الطعام.
جلست «إيللا» بمفردها في ركن، ضجرة متضايقة. كان الجميع صامتين يفكرون في الحظ الحسن الذي كشف عن العطب في الوقت المناسب. أكلوا جميعا، قضاء للوقت، وطلبوا شرابا، وجلسوا يتأملون، من النوافذ، الطائرة وقد أحاط بها العمال تحت الأضواء الساطعة.
ألفت نفسها في قبضة شعور عرفت كنهه عندما تفحصته: وحدة. كما لو أن مساحة من الهواء البارد امتدت بينها وبين جموع الناس. كان للشعور برودة جسدية، عزلة جسدية، ووجدت نفسها تفكر في بول من جديد. حتى بدا لها أمرا مستحيلا ألا يظهر فجأة عند الباب ويتقدم منها. كانت تشعر بالبرد المحيط بها يذوب من اقتناع قوي بأنه سرعان ما يكون إلى جانبها. بذلت جهدا لتنتزع نفسها من هذا الوهم. فكرت في رعب: «إذا لم أتمكن من إيقاف هذا الجنون، لن أصير نفسي مرة أخرى، لن أشفى أبدا.» نجحت في إبعاد صورة بول وشعرت بالفراغ البارد يتفتح من حولها ثانية، وداخل البرد/العزلة جلست تقلب أكوام المجلات الفرنسية دون أن تفكر بشيء.
كان يجلس بالقرب منها رجل انهمك في تصفح مجلات طبية. كان يبدو، للوهلة الأولى، أمريكيا. كان قصيرا، عريضا، يتوفز حيوية ونشاطا، ذا شعر مقصوص لامع مثل حذاء بني اللون. وكان يجرع كئوس عصير الفاكهة، الواحدة تلو الأخرى، دون أن يبدو عليه الاهتمام بالتأخير الذي أصاب الرحلة. التقت عيونهما، بعد أن تفقدا الطائرة القابعة في الخارج، فقال بضحكة عالية: «يبدو أننا سنقضي الليلة كلها هنا.» وعاد إلى نشراته الطبية.
وفجأة نشب شجار بين العمال. كان أحدهم، وهو الرئيس على ما يبدو، يعنف الآخرين أو يشكو من شيء وهو يحرك ذراعيه ويهز كتفيه بشدة. في البداية، ردوا على صياحه بصياح، ثم لجئوا إلى الصمت، وسرعان ما انسحبوا إلى المبنى الرئيسي، تاركين رئيسهم وحده أسفل الطائرة. وما لبث هذا أن هز كتفيه وتبعهم.
تبادل الأمريكي وإيللا النظرات من جديد. قال في استمتاع واضح: «لست أعبأ بشيء.» ودعا الميكروفون الركاب إلى صعود الطائرة، فقاما إليها سويا. قالت إيللا: «لعله يجدر بنا أن نرفض الذهاب!» فقال الأمريكي كاشفا عن أسنان سليمة شديدة البياض، بينما تدفق الحماس من عينيه الزرقاوين الطفوليتين: «لدي موعد صباح الغد.» ولا بد أنه كان موعدا بالغ الأهمية حتى يستحق هذه المخاطرة بالموت. أما الآخرون، وأغلبهم شعر بما جرى بين العمال، فقد عادوا في استسلام إلى مقاعدهم، وهم يبذلون جهودهم للتظاهر بعدم المبالاة. بل إن مضيفة الطائرة، التي كانت تبدو في الظاهر هادئة، أوحت حركاتها بشيء من العصبية. وداخل الطائرة الساطع الضوء، جلس أربعون شخصا في قبضة الرعب، وهم يحاولون إخفاء مشاعرهم. كلهم، هكذا فكرت إيللا، عدا الأمريكي الذي استقر إلى جوارها الآن، واستغرق في كتبه الطبية. أما هي فقد صعدت إلى الطائرة وكأنها تصعد إلى غرفة الإعدام. لكنها إذ فكرت في هزة الكتف التي صدرت عن رئيس العمال، ألفتها تجسد شعورها الخاص. وعندما شرعت الطائرة تئز، فكرت: «سوف أموت، محتمل جدا، وإني لمسرورة بذلك.»
لم يكن هذا اكتشافا جديدا: «أنا منهكة للغاية، متعبة كلية، من الأساس، فإذا عرفت أني لم أعد بحاجة للاستمرار في الحياة، شعرت بالارتياح. يا للغرابة! وكل هؤلاء، عدا هذا الشاب الفائر المتوثب قوة وحيوية، يخافون أن تتحطم الطائرة، ومع ذلك ولجوها جميعا طائعين. فلعلنا جميعا نطوي جوانحنا على الشعور نفسه.»
تطلعت في فضول إلى بقية الركاب. واستوت الطائرة أخيرا في الجو فعلق الأمريكي مبتسما: «حسنا، لقد نجحنا.» وعاد إلى القراءة. أغلقت عينيها وفكرت: «أنا مقتنعة تماما بأننا سنتحطم. أو على الأقل هناك فرصة كبيرة لذلك. ماذا يكون إذن من أمر ميشيل؟ لم أفكر حتى فيه. حسنا، سوف تعنى به جوليا.» كان خاطر ميشيل حافزا للحياة لم يستمر سوى لحظة، ثم فكرت: «أن تموت أم في حادث طائرة أمر محزن، لكنه غير مدمر. ليس مثل الانتحار. غريب قولنا إننا نعطي الحياة للطفل، بينما هو الذي يعطي الحياة لأبويه عندما يقرر أحدهما أن يعيش لمجرد أن الانتحار سيلحق الأذى بالطفل. ترى كم من الآباء والأمهات قرروا الاستمرار في الحياة، فقط، لأنهم أرادوا عدم الإساءة إلى أطفالهم؟ (كان النعاس يداعب جفونها الآن) .. أشعر كأنما ولدت بحمل من التعب حملته طول حياتي. الوقت الوحيد الذي لم أكن أجر فيه حملي الثقيل إلى أعلى التل، كان عندما كنت مع بول. كفاني من بول ومن الحب ومن نفسي. معجزة هي تلك العواطف التي نقع في إسارها ولا نملك منها فكاكا، مهما رغبنا بذلك.»
نامت ثم استيقظت لتجد الطائرة قد استقرت على الأرض، والأمريكي يهزها. كانت الساعة الواحدة صباحا. وكانت مخدرة، مثقلة بالتعب والبرد. وظل الأمريكي إلى جوارها، مرحا ، قادرا، يومض وجهه المورد العريض بالصحة. ولم يكن من السهل العثور على سيارات أجرة في ذلك الوقت من الليل، فدعاها إلى أن تشاركه سيارته.
قالت وهي تحاول أن تجعل صوتها يبدو مرحا كصوته: «ظننت أننا سنلقى حتفنا.» ضحك مبرزا كل أسنانه: «أجل. كان الأمر يبدو كذلك. عندما رأيت ذلك الرجل يهز كتفيه بجوار الطائرة قلت لنفسي: يا للهول! لقد حلت النهاية. أين تقيمين؟»
ذكرت له أين تسكن ثم أضافت: «لديك مكان تذهب إليه؟» قال: «سأجد لنفسي فندقا.» قالت: «في هذا الوقت من الليل لن يكون الأمر سهلا. بودي أن أعرض عليك المجيء معي لكني لا أملك سوى حجرتين ينام ابني في إحداهما.» قال: «هذا جميل منك، كلا، لست قلقا.» كان الفجر على أهبة البزوغ، ولم يكن لديه مكان للنوم، ومع ذلك كان يتوثب حيوية ويبدو منتعشا كأنه في بداية الليل.
أنزلها أمام منزلها قائلا إنه يسعده أن تتناول معه طعام العشاء. ترددت ثم وافقت. سيتقابلان إذن في المساء التالي أو على الأصح مساء اليوم نفسه. صعدت إلى مسكنها وهي تفكر في أنهما لن يجدا حديثا يتبادلانه وبدأت فكرة الأمسية القادمة تثير ضجرها. ألفت ابنها نائما في حجرة أشبه بكهف حيوان صغير، فقد كانت تنبعث منها رائحة النوم الصحي. سوت الأغطية من فوقه، وجلست ترقب الوجه المتورد الصغير في ضوء الفجر. فكرت: إنه من طراز أمريكي. لكن الأمريكي يثير نفوري جسديا. ومع ذلك لا أكرهه.
مضت إلى فراشها، ولأول مرة منذ ليال كثيرة لم تستجلب ذكرى بول. كانت تفكر في أربعين شخصا، اعتبروا أنفسهم في عداد الموتى، يرقدون الآن أحياء في أنحاء مختلفة من المدينة.
أيقظها ابنها بعد ساعتين متوهجا بمفاجأة عودتها. كانت لا تزال في عطلتها لهذا لم تغادر المنزل إلى المكتب، وقضت اليوم بمفردها تنظف وتطبخ وتعيد ترتيب المسكن وتلعب مع الصبي عندما عاد من المدرسة. وفي المساء اتصل بها الأمريكي، الذي تبين أنه يدعى «ساي ميتلاند»، ليسألها عن المكان الذي تحب أن تتناول العشاء فيه. ذكرت له اسم مطعم، ثم وضعت جانبا الرداء الذي اختارته من قبل للمساء. وكان ثوبا من طراز جريء لم تكن تجرؤ على ارتدائه مع بول، وصارت ترتديه منذ ذلك الحين في تحد. ارتدت الآن جوبة وبلوزة. وراعت أن تبدو في صحة جيدة وليس كامرأة ذات شخصية.
كان ميشيل جالسا في فراشه وسط المجلات المصورة: «لماذا تخرجين وقد عدت للتو من الخارج؟» أجابته مبتسمة: «لأني أود ذلك.» كان يجلس منتصبا متورد الوجنتين، شديد الثقة بنفسه وعالمه في هذا المنزل. «لماذا عدلت عن الثوب الذي اخترته أول الأمر؟» أجابته: «قررت أن أرتدي هذا بدلا منه.» قال ابن التاسعة في عظمة: «يا للنساء وملابسهن!»
وجدت ساي ميتلاند في انتظارها بالمطعم، منتعشا، متوثبا حيوية، لا يشوب عينيه الزرقاوين الصافيتين أثر من عدم النوم. شعرت وهي تجلس إلى جواره بالتعب: «ألا يغلبك النعاس أبدا؟» قال على الفور بلهجة المنتصر: «لا أنام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات في الليلة.» «لماذا؟» «لأني لن أبلغ ما أريد إذا أضعت الوقت في النوم.» قالت: «حدثني عن نفسك ثم أحدثك عن نفسي.» قال: «هذا حسن.» وطلب أكبر قطعة ستيك في المحل مع كوكاكولا وعصير طماطم، وعزف عن البطاطس لأنه يريد أن يفقد جانبا من وزنه. سألته: «ألا تشرب الخمر أبدا؟» «أبدا، عصير الفاكهة فقط.» قالت: «أخشى أنك ستأمر لي بنبيذ.» «بسرور.» وطلب زجاجة من أفضل الأنواع. «الآن إلي بقصة حياتك.»
ولد فقيرا لكنه كان يتميز بالذكاء فحملته المنح الدراسية والجوائز إلى حيث أراد. جراح للمخ، وزواج ممتاز وخمسة أطفال. مركز ومستقبل عظيمان، قالها بنفسه. وكان زهوه بنفسه بسيطا طبيعيا بالنسبة إليه حتى بدا أبعد ما يكون عن الزهو. وسرعان ما انتقلت حيويته إلى إيللا فنسيت أنها متعبة. وعندما قال إن الوقت قد حان لتحدثه عن نفسها، أجلت ما أدركت الآن أنه سيكون محنة. لسبب واحد. فقد خطر لها أن حياتها لا يمكن وصفها بسلسلة متتابعة من البيانات: كان أبواي كذا وكذا، عشت في هذا المكان وذاك، أعمل كذا وكذا. سبب آخر: أدركت أنها مالت إليه، وأزعجها هذا الاكتشاف. فعندما وضع يده البيضاء الكبيرة على ساعدها، شعرت بنهديها يرتفعان وابتل فخذاها. لم يكن بينهما شيء مشترك، ولم يكن بوسعها أن تتذكر مرة واحدة في حياتها، شعرت فيها باستجابة جسدية لرجل لم يكن قريبا إليها بصورة ما. كانت تستجيب دائما لنظرة، لابتسامة، لنغمة صوت، لضحكة. أما هذا الرجل فلم يكن غير متوحش ذي صحة جيدة، وها هي ترغب في مشاركته الفراش. شعرت بالضيق، مثلما كان شعورها عندما كان زوجها يحاول إثارتها على الرغم منها، بالمداعبات الجسدية، مما انتهى بها إلى البرود.
قال الأمريكي: «لدي اقتراح. أمامي نحو عشرين مكالمة هاتفية، وأريد أن أقوم بها من فندقي. تعالي معي. سأقدم لك شرابا، وعندما أنتهي من مكالمتي، تحدثينني عن نفسك.» وافقت ثم تساءلت عما إذا كان سيفسر هذا القبول، بأنه استعداد للذهاب معه إلى الفراش. لم يبد عليه شيء من ملامح هذا الشعور. وخطر لها فجأة أنها، على غير عادتها مع الرجال الذين تلتقي بهم في عالمها، لم يكن بوسعها أن تحدس ما يدور في ذهن هذا الرجل. وإذا كان هذا شأنها، لا بد أنه بالمثل لا يعرف شيئا عنها، لا يعرف مثلا أن حلمتي ثدييها، في هذه اللحظة، ملتهبتان.
في غرفته بالفندق، قدم لها كأسا من الويسكي ثم جذب الهاتف إليه وأجرى، كما ذكر من قبل، نحو عشرين مكالمة، وهي عملية استغرقت نصف ساعة. وسمعته يرتبط بعشرة مواعيد على الأقل في الغد، تضم أربع زيارات لمستشفيات لندن المعروفة. وعندما انتهى أخذ يذرع الغرفة في توثب ويهتف: «يا للمجد! أشعر بأني في أحسن حال!»
سألته: «لو لم أكن هنا، ماذا كنت تفعل؟» أجاب: «أعمل.» كان ثمة كوم كبير من المجلات الطبية إلى جوار الفراش. «هل تقرأ شيئا خارج مجال عملك؟» ضحك وقال: «كلا. زوجتي هي التي تهتم بالثقافة. أما أنا فلا وقت لدي.» «حدثني عنها.» فأخرج على الفور صورة لشقراء جميلة ذات وجه طفولي محاطة بخمسة أطفال: «يا إلهي! أليست جميلة؟ إنها أجمل فتاة في المدينة كلها!» «أهذا هو سبب زواجك منها؟» «بالطبع» ثم تبين لهجة سؤالها فضحك معها من نفسه وقال وهو يهز رأسه كأنما يعجب لنفسه: «بالطبع! قلت لنفسي سأتزوج أجمل وأرقى فتاة في البلدة وقد فعلت.» سألته: «هل أنت سعيد؟» أجاب على الفور بحماس: «إنها فتاة عظيمة. ولدينا خمسة أطفال. كنت أود لو كانت لدي طفلة، لكن الأولاد ممتازون. أتمنى لو أتيح لي مزيد من الوقت أقضيه معهم، فعندما أفعل أشعر بالسعادة.»
كانت تفكر: لو وقفت الآن وقلت إني ذاهبة، لوافقني دون أن يحمل أية ضغينة. ربما أراه مرة أخرى. وربما لا. فلن يعبأ أحدنا. لكن يجب أن أتولى القيادة الآن لأنه لا يعرف ماذا يفعل بي. يجدر بي الذهاب .. لكن لماذا؟ بالأمس فقط قررت أنه مما يدعو للسخرية أن تنطوي جوانح نساء مثلي على عواطف لا تتلاءم مع نوع الحياة التي يعشنها. لو رجل في الموقف الراهن، ذلك النوع من الرجال الذي أود أن أكونه لو كنت ولدت رجلا، فإنه سيأوي إلى الفراش ولا يفكر في الأمر.
كان يقول: «والآن يا إيللا، لقد تحدثت عن نفسي، وأشهد أنك تجيدين الإنصات. لكني لا أعرف شيئا عنك مطلقا.»
الآن، فكرت إيللا، الآن.
لكنها ناورت: «هل تعرف أن الوقت تجاوز الثانية عشرة؟» «كلا. أحقا؟ أمر سيئ. فلست أذهب إلى الفراش قبل الثالثة أو الرابعة وأقوم في السابعة. كل يوم هكذا.»
الآن. المضحك أن يكون الأمر عسيرا هكذا. أن تقول ما قالته الآن كان ضد أعمق غرائزها، ودهشت عندما خرجت الكلمات من فمها، كأنما جاءت بوحي من الصدفة في الظاهر، وإن كانت تشي بقليل من التوتر: «أتحب أن تنام معي؟»
نظر إليها مبتسما. لم يدهش. كان مهتما. أجل، فكرت إيللا أنه مهتم. وأحبت هذا فيه. وفجأة دفع رأسه الكبير، المفعم صحة، إلى الوراء وهتف: «يا للهول! أحب؟ أجل يا سيدتي، إيللا. لو لم تقولي هذا ما كنت أعرف ماذا أقول.»
قالت: «أعرف.» وابتسمت متظاهرة بالرصانة (كان بإمكانها أن تتمثل ابتسامتها المتحفظة، وتعجبت منها). قالت برصانة: «أظن يا سيدي أنك يجب أن تفعل شيئا الآن.»
ابتسم. كان يقف أمامها، عبر الغرفة. وبدا لها كتلة من اللحم، جسدا من اللحم الدافئ، الوفير، المفعم بالحيوية. حسنا جدا إذن، هذا ما سيكون. (كانت إيللا قد انفصلت عن إيللا، وانتحت جانبا، ترقب وتتعجب).
نهضت واقفة وهي تبتسم، وشرعت تنزع رداءها بينما خلع هو، مبتسما، سترته، ثم تجرد من قميصه.
في الفراش، كانت صدمة بهيجة من اللحم الدافئ المتوتر (كانت إيللا تقف جانبا وهي تفكر بسخرية: حسنا، حسنا!) اخترقها على الفور وتلاشى بعد ثوان. وأوشكت أن تهون عليه، عندما اعتدل فوق ظهره وهو يطوح بذراعيه إلى أعلى ويهتف: «يا للمجد!» (في هذه اللحظة أصبحت إيللا ونفسها شخصا واحدا، يفكر كلاهما كواحد).
رقدت إلى جواره مبتسمة وهي تحاول السيطرة على إحباطها الجسدي.
قال: «أوه! يا للمجد! هذا هو ما أفضله. فليس ثمة مشاكل معك.»
فكرت ببطء في معنى عبارته، وذراعاها تحيطان به. ثم انطلق يتحدث عن زوجته: «هل تعرفين أننا نذهب إلى النادي ونرقص مرتين أو ثلاثا في الأسبوع. إنه أفضل ناد في البلدة. ويتطلع إلي كل الرجال وهم يفكرون: يا للوغد السعيد! إنها أجمل فتاة هناك، برغم الأطفال الخمسة. إنهم يظنون أننا نقضي وقتا حافلا. وكثيرا ما أفكر: ماذا لو ذكرت لهم الحقيقة؟ لدينا خمسة أطفال. وقد فعلناها خمس مرات منذ زواجنا. حسنا، إنني أبالغ قليلا، لكن هذا هو الواقع فهي لا تعبأ بهذه المسألة رغم أنها تبدو على عكس ذلك.»
سألت إيللا في رصانة: «ما هي المشكلة؟» - «ليتني أعرف. قبل الزواج، عندما كنا نتواعد، كانت متوقدة بما فيه الكفاية. أوه، يا إلهي، عندما أفكر بذلك.» - «كم استمرت فترة التواعد هذه؟» - «ثلاث سنوات. ثم استمرت خطبتنا أربعا أخرى.» - «ولم تمارسا الحب خلال ذلك؟» - «نمارس الحب .. أوه، فهمت. كلا، لم تكن لتسمح لي، وما كنت لأريدها أن تفعل. لكنها كانت ملتهبة في ذلك الوقت. ومن شهر العسل تجمدت. والآن لا ألمسها قط. حسنا، أحيانا إذا ما أكثرنا الشراب في إحدى الحفلات.» وأطلق ضحكته الفتية القوية وهو يقذف ساقيه الكبيرتين الداكنتين إلى أعلى ثم يتركهما تسقطان: «ونذهب لنرقص وقد تزينت لتصرع. وكل الرجال ينظرون إليها ويحسدونني. وأفكر: لو يعرفون!» - «ألا تعبأ بالأمر؟» - «يا للجحيم، بالطبع. لكني لن أفرض نفسي على أحد. وهذا هو ما يعجبني فيك. تقولين: لنذهب إلى الفراش. هذا لطيف وسهل.»
رقدت إلى جواره مبتسمة. كان جسده الكبير الفائر ينبض بالصحة والرضا. قال: «انتظري قليلا. سأقوم بجولة أخرى. أظن أني أفتقد شيئا من المران.» - «أكانت هناك نساء أخريات؟» - «أحيانا، عندما تتاح لي فرصة. لست أطارد أية واحدة. ليس لدي الوقت.» - «مشغول بتحقيق أهدافك؟» - «تماما.»
مد يده وأخذ يتحسس نفسه. - «تحب أن أفعل أنا ذلك؟» - «ماذا؟ ألا يسوءك هذا؟»
قالت مبتسمة وهي تعتدل على مرفقها: «يسوءني؟» - «يا للجحيم، زوجتي لا ترضى بلمسي. النساء لا يحببن ذلك.» وانفجر ضاحكا مرة أخرى: «لا يسوءك الأمر إذن؟»
بعد لحظة شرع وجهه يتغير ويكسوه تعبير من الحسية المتعجبة: «يا للجحيم! يا للمجد!»
قالت أخيرا: «والآن لا تكن متعجلا.»
قطب مفكرا، وكان بوسعها أن تدرك أنه يتدبر عبارتها. حسنا، إنه ليس غبيا. لكنها كانت تتساءل عن زوجته وعن النساء الأخريات اللاتي نام معهن. وعندما جاءها كانت تفكر: لم أفعل هذا من قبل أبدا .. أنا أعطي اللذة. أمر شديد الغرابة، فلم يسبق لي أن استخدمت هذا التعبير أو فكرت به. مع بول كنت أقع في الظلمة وأكف عن التفكير. جوهر الأمر أني واعية، ماهرة، وحريصة: إني أعطي اللذة. لا علاقة بين ذلك وما كان بيني وبين بول. لكني في الفراش مع هذا الرجل.
تحرك بسرعة ودون حذق، وللمرة الثانية لم تأت، بينما كان هو يزأر مسرورا، ويقبلها هاتفا: «أوه! يا للمجد!، يا للمجد!»
كانت تفكر: مع بول، كان الأمر سيحدث في هذه اللحظة. إذن أين الخطأ؟ لا تكفي أن أقول إني لا أحب هذا الرجل. وأدركت فجأة أنها لن تأتي أبدا معه. فكرت: «بالنسبة إلى أمثالي من النساء، ليس الكمال في العفة والإخلاص، أو أي من تلك الكلمات القديمة . الكمال هو الأورجازم. إنه شيء لا أملك عليه أية سيطرة. ولن يحدث أبدا مع هذا الرجل. كل ما يسعني هو أن أعطيه اللذة. لكن لماذا؟ ألن أستمتع أبدا إلا مع من أحب؟ ما أقسى الصحراء التي أحكم بها على نفسي لو كان هذا صحيحا!»
كان سعيدا بها للغاية، كريما في التعبير عن تقديره، يشع رضا وصحة. وكانت هي مسرورة من نفسها؛ لأنها أسعدته.
وعندما ارتدت ملابسها لتنصرف إلى منزلها، وتلفنت من أجل سيارة أجرة، قال: «ترى، كيف يكون الزواج من واحدة مثلك .. يا للجحيم!»
قالت في رزانة: «ستحب ذلك؟» - «سيكون الأمر .. يا للمجد! امرأة يمكن الحديث إليها، والاستمتاع معها في الفراش أيضا .. لا يمكنني أن أتخيل روعة ذلك.» - «ألا تتحدث إلى زوجتك؟»
قال مترويا: «إنها فتاة ممتازة. أنا أعزها للغاية هي والأطفال.» - «هل هي سعيدة؟»
فاجأه السؤال، فاعتمد على مرفقه ليتدبر الإجابة. وتطلع إليها مقطبا في جدية. وألفت نفسها تشعر نحوه بمودة بالغة. جلست على حافة الفراش وهي تتأمله في مودة. قال، بعد تفكير: «لديها أفضل منزل في البلدة. وكل ما طلبته من أجل المنزل. ولديها خمسة من الصبية. أعرف أنها ترغب في فتاة، لكن ربما يتحقق هذا المرة القادمة .. وهي تقضي وقتا طيبا معي .. فنخرج للرقص مرة أو اثنتين في الأسبوع، وهي دائما الألمع والأبرز بين الفتيات أينما ذهبنا. ثم لديها أنا. وأنا أقول لك يا إيللا .. لست أتفاخر (أرى من ابتسامتك أنك تظنين هذا) لكن لديها رجلا ناجحا بمعنى الكلمة.»
ورفع صورة زوجته من مكانها إلى جوار الفراش وقال: «هل تبدو امرأة غير سعيدة؟»
نظرت إيللا إلى الوجه الدقيق الجميل وقالت: «كلا.» ثم أضافت: «لم يعد بوسعي أن أفهم امرأة مثل زوجتك.» - «فعلا، لا أظن هذا بإمكانك.»
كانت سيارة الأجرة في الانتظار، فقبلته وانصرفت بعد أن قال: «سأتلفن لك غدا. فلا بد أن أراك ثانية.»
وقضت إيللا المساء التالي معه. ليس بدافع الأمل في أية متعة، وإنما بدافع من شعورها بالمودة نحوه. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شعرت بأنها لو رفضت لقاءه، فإن ذلك سيؤذي مشاعره.
تناولا العشاء في المطعم نفسه. (قال لها في عاطفية: «مطعمنا يا إيللا.» كما لو كان يقول: «أغنيتنا يا إيللا.»)
تحدثا عن عمله. - «وعندما تجتاز كل الفحوص وتحضر كل المؤتمرات، ماذا بعد ذلك؟» - «سأرشح نفسي لعضوية الكونجرس.» - «ولم لا ترشح نفسك للرئاسة؟»
ضحك معها، من نفسه، بروح طيبة، كدأبه. «كلا، رئيس لا. سيناتور، أجل. أقول لك يا إيللا: انتبهي لاسمي. ستجدينه بعد خسمة عشر عاما على رأس مهنتي. لقد قمت بكل ما قلت إني سأقوم به حتى الآن، أليس كذلك؟ ولهذا أعرف ما سأفعله في المستقبل. السيناتور ساي ميتلاند .. تراهنين؟» - «لست أراهن أبدا عندما أعلم أني سأخسر.»
كان عائدا إلى الولايات المتحدة في اليوم التالي بعد أن قابل دستة من كبار الأطباء في مجاله، وشاهد دستة من المستشفيات، واشترك في أربعة مؤتمرات. لقد انتهى من إنجلترا.
قال: «أود لو أذهب إلى روسيا. لكني لا أستطيع، بسبب الأوضاع الراهنة.» - «تعني مكارثي؟» - «سمعت عنه إذن؟» - «أجل، سمعنا عنه.» - «هؤلاء الروس، إنهم متقدمون للغاية في مجالي، أنا أتابع ما يكتبونه، ولست أمانع في رحلة، لكن ليس في الظروف الراهنة.» - «عندما تصبح في الكونجرس، ماذا سيكون موقفك من مكارثي؟» - «موقفي؟ أتمزحين؟» - «أبدا.» - «موقفي .. حسنا، إنه على صواب، فلا يمكن أن نسمح للشيوعيين بالاستيلاء على السلطة.»
ترددت ثم قالت برصانة: «المرأة التي تشاركني المنزل شيوعية.»
شعرت به يتصلب، ثم يفكر، وعندئذ لان. قال: «أعرف أن الأمور مختلفة هنا. ولست أفهم ذلك.» - «لا أهمية للأمر.» - «كلا. أتأتين معي إلى الفندق؟» - «إذا أنت أحببت.» - «إذا أنا أحببت!»
ومرة أخرى أعطت اللذة. كانت تستلطفه، ولا شيء غير هذا.
تحدثا عن عمله. كان متخصصا في جراحة استئصال الجزء المسئول عن الشعور في المخ: «لقد شققت مئات الأمخاخ إلى نصفين!» - «ولا يزعجك هذا؛ ما تفعله؟» - «ولماذا يزعجني؟» - «لكنك تعلم عندما تنتهي هذه الجراحة أنها نهائية، وأن أصحابها لن يعودوا أبدا كما كانوا من قبل.» - «لكن هذه هي النقطة. فأغلب هؤلاء الناس لا يريدون أن يعودوا كما كانوا من قبل.» ثم، بدافع من روح الإنصاف التي يتميز بها، أضاف: «أعترف بأني أنزعج أحيانا لهذه الفكرة.»
قالت إيللا: «لن يوافقك الروس على ما تفعل مطلقا.» - «ولهذا لا أمانع في القيام برحلة إلى هناك، لأرى ما يفعلونه بدلا من هذه الجراحة. قولي لي، كيف عرفت بشأنها؟» - «كانت لي مرة علاقة عاطفية بطبيب نفسي. وكان متخصصا أيضا في الأمراض العصبية. لكنه لم يكن جراح مخ. وقد ذكر لي أنه لا يوصي بتلك الجراحة إلا نادرا جدا.»
قال فجأة: «منذ أن قلت لك إني متخصص في تلك الجراحة لم تعودي تستلطفينني كثيرا.»
قالت بعد لحظة: «لا. لكن لا حيلة لي في ذلك.»
فضحك وقال: «طيب، أنا أيضا لا حيلة لي في الأمر.» ثم قال: «تقولين: كانت لي مرة علاقة عاطفية، هكذا ببساطة؟ هل أحببته؟»
لم تكن كلمة الحب قد استخدمت بينهما من قبل، ولم يستخدمها عندما تحدث عن زوجته.
قالت: «جدا.» - «ولم ترغبي في الزواج؟»
قالت برصانة: «كل امرأة ترغب في الزواج.»
أطلق عاصفة من الضحك ثم تحول إليها مفكرا: «أتعرفين أني لا أفهمك؟ لا أفهمك على الإطلاق. لكني أدرك أنك من النوع المستقل تماما.» - «أجل، أعتقد كذلك.»
عندئذ أحاطها بذراعيه وقال: «إيللا، لقد علمتني أشياء.» - «يسرني هذا. آمل أن تكون أشياء سارة.» - «أجل، كانت كذلك أيضا.» - «جيد.» - «أتسخرين مني؟» - «قليلا.» - «لا بأس، فلست أبالي. أتعرفين أني ذكرت اسمك اليوم لأحد الأشخاص وقال إنك كتبت كتابا؟» - «كل إنسان كتب كتابا.» - «إذا ذكرت لزوجتي أني قابلت كاتبة حقيقية، لن تتحمل الصدمة، فهي مجنونة بالثقافة وكل هذه الأمور.» - «ربما يحسن ألا تخبرها.» - «ما رأيك لو قرأت كتابك؟» - «لكنك لا تقرأ كتبا.»
قال مداعبا: «بوسعي أن أفعل: ماذا يتناول؟» - «.. دعني أرى .. إنه يتحدث عن نفاذ البصيرة، والكمال، وعدة أشياء أخرى.» - «أراك لا تأخذينه بجدية.» - «بالطبع آخذه بجدية.» - «أوكي إذن. أوكي. لا يمكن أن تكوني ذاهبة؟» - «يجب أن أنصرف، فسوف يستيقظ ابني بعد أربع ساعات، كما أني، على العكس منك، أحتاج إلى النوم .» - «حسنا. لن أنساك أبدا يا إيللا. إني لأعجب، كيف يكون الزواج منك.» - «لدي شعور أنك لن تحب هذا كثيرا.»
كانت ترتدي ملابسها، بينما رقد هو على الفراش يرقبها مفكرا. ثم ضحك وبسط ذراعيه: «لعلك على حق.»
قالت: «أجل.»
وافترقا في ود.
مضت إلى منزلها في سيارة أجرة، وصعدت السلم في حذر كي لا تزعج جوليا. لكن الضوء كان يتسلل من أسفل بابها، وسرعان ما نادتها: «إيللا؟» - «أجل. كيف كان ميشيل؟» - «لم أسمع له صوتا. كيف كان الأمر معك؟»
أجابت إيللا عامدة: «لا بأس.» - «لا بأس؟»
ولجت إيللا المخدع. كانت جوليا مكومة فوق الوسائد، تدخن وتقرأ. وتأملت إيللا في إمعان.
قالت إيللا: «كان لطيفا للغاية.» - «هذا حسن.» - «وسأشعر باكتئاب شديد في الصباح. الواقع أني أشعر بذلك من الآن.» - «لأنه عائد إلى أمريكا؟» - «لا.» - «شكلك فظيع. ماذا حدث، ألم يكن موفقا في الفراش؟» - «ليس كثيرا.» - «أوه. هل لك في سيجارة؟» - «كلا. سأذهب لأنام قبل أن تحل بي الكآبة.» - «لقد أصابتك بالفعل. لماذا تذهبين إلى الفراش مع رجل لا تميلين إليه؟» - «لم أقل إني لم أمل إليه. الفكرة أنه لا فائدة من ذهابي إلى الفراش مع أحد غير بول.» - «سوف تتغلبين على ذلك.» - «أجل، بالطبع. لكن ذلك يستغرق وقتا طويلا.»
قالت جوليا: «يجب أن تصمدي.»
قالت إيللا: «هذا ما أنتويه.» وألقت عليها تحية المساء ثم صعدت إلى جناحها.
جامعة الكنوز
للكاتبة الأفريقية بيسي هيد (1977م)
The Collector of treasures by Bessie Head (1977)
كان سجن الدولة المركزي، المخصص للعقوبات الطويلة، في جنوب البلاد، على مسافة يوم سفر كامل من قرى الجزء الشمالي. غادروا قرية بولنج في التاسعة صباحا، وظلت شاحنة الشرطة تهدر طول اليوم، وهي تسرع جنوبا فوق الطريق الواسع المترب الذي يربط طرفي البلاد. وعبر شبكة السلك التي غطت الباب الخلفي للشاحنة، بدا العالم اليومي المؤلف من الحقول المحروثة، والماشية الراعية، والمساحات الشاسعة من الآكام والغابات، لا مباليا لعيون السجينة الجوعى. وكأنها بلغت فجأة قرار الشعور بالألم والوحدة، فقد تهاوت ببطء إلى الأمام، دون أن تعي بغير ألمها. وغربت الشمس ، ثم حل الغسق، وتبعته الظلمة، وما زالت الشاحنة تهدر غير مبالية.
في البداية، تجلى الوهج البرتقالي لأضواء بلدة الاستقلال الجديدة جابوروني، شاحبا في الأفق، مثل شبح مدهش في الظلمة الماحقة للآكام، إلى أن بلغت الشاحنة طرقا مرصوفة، وأضواء نيون، ودكاكين، ودور سينما، فغرق الشبح في الضوء الوهاج. كل هذا مر دون أن تشعر بما استغرقه من زمن، ودون أن تتتبعه، ولم تتحرك عندما توقفت الشاحنة أخيرا خارج بوابة السجن.
لطم ضوء الكشاف جانب وجهها مثل ضربة مؤلمة. وظن الحارس أنها نائمة، فناداها في حدة: «استيقظي. لقد وصلنا.»
صارع القفل في الظلام، ثم جذب الباب السلكي. وزحفت خارجة وهي تتألم في صمت.
صعدا سويا بضع درجات، وانتظرا حتى طرق أحدهم برفق فوق الباب الحديدي الثقيل. انفرج الباب عن ثغرة ضيقة أطل منها الحارس الليلي ثم اتسعت الثغرة لتسمح لهما بالولوج. وقادهما الحارس الليلي إلى مكتب صغير، ونظر إلى زميله متسائلا: «ماذا لدينا اليوم؟»
أجاب الآخر في غير مبالاة وهو يناوله ملفا: «إنها قضية مقتل الزوج في قرية بولنج.»
أخذ الحارس الملف وجلس إلى مائدة تحمل دفترا كبيرا مفتوحا. وفي خط كبير سجل التفاصيل: ديكيليدي موكوبي. التهمة: ذبح رجل. العقوبة: مدى الحياة. وظهرت حارسة ليلية فقادت السجينة إلى غرفة جانبية، وطلبت منها أن تخلع ملابسها.
سألتها وهي تناولها رداء قطنيا أخضر اللون، هو بذلة السجن: «معك نقود؟»
فهزت السجينة رأسها نفيا دون أن تنبس بحرف.
قالت الحارسة في شيء من التفكه: «إذن قتلت زوجك؟ ستجدين نفسك في صحبة طيبة. فلدينا أربع أخريات بنفس الجريمة. أضحت «مودة» هذه الأيام. تعالي معي.» وقادتها في دهليز، ثم اتجهت يسارا، وتوقفت أمام بوابة حديدية فتحتها بمفتاح، وانتظرت حتى تقدمتها السجينة، ثم أغلقت الباب بالمفتاح مرة أخرى. ولجتا فناء صغيرا ذا جدران بالغة الارتفاع، اصطفت في ناحية منه عدة مراحيض وأدشاش ودولاب. مضت الحارسة إلى الدولاب، فاستخرجت منه لفافة سميكة من البطاطين التي تنبعث منها رائحة النظافة، ناولتها للسجينة. وكان ثمة باب حديدي ثقيل في طرف الفناء المسور، يؤدي إلى زنزانة. مضت الحارسة إلى هذا الباب، وطرقته بصوت مرتفع وهي تصيح: «الشمعة يا مسجونات.»
رد صوت من الداخل: «طيب.» وتردد صوت احتكاك الثقاب. أولجت الحارسة مفتاحها من جديد، ففتحت الباب، وقفت تتابع السجينة وهي تبسط بطاطينها على الأرض. وكانت السجينات الأربع المحتجزات في الزنزانة قد اعتدلن جالسات، وأخذن يحدقن صامتات في رفيقتهن الجديدة. وعندما أغلق الباب، وجهن إليها التحية بهدوء وسألتها إحداهن: «من أين جئت؟»
أجابت الوافدة الجديدة: «بولنج.» اكتفت النسوة بهذه الإجابة الموجزة، فأطفأن النور، ورقدن ليواصلن النوم. وكأنما بلغت السجينة الجديدة نهاية رحلتها، فقد استغرقت أيضا في نوم عميق بمجرد أن سوت البطاطين من حولها.
دق جرس الإفطار في السادسة من صباح اليوم التالي. وأقبلت النسوة على روتينهن اليومي. فنفضن البطاطين، ثم طوينها وصففنها في أكوام مرتبة. وصلصل مفتاح حارسة النهار في القفل، وسرعان ما أطلقت السجينات إلى فناء أسمنتي صغير ليقمن بطقوس الاغتسال الصباحية. ثم ظهر سجينان عند البوابة، ترافقهما جلبة ما يحملان من دلاء وصحون. وقدم الرجلان لكل امرأة صحنا من العصيدة وكوبا من الشاي الأسود، فاقتعدن الأرض الأسمنتية، وأقبلن على الأكل. والتفتت إحداهن، المتحدثة باسم المجموعة، إلى رفيقتهن الجديدة، وقالت لها في رقة: «خذي بالك، فالشاي بدون سكر. ونحن نتحايل على ذلك بأن نكشط السكر من فوق العصيدة ونضعه في الشاي.»
رفعت المرأة ديكيليدي، رأسها وابتسمت. كان الرعب الذي ساورها في انتظار المحاكمة، قد جعلها أقرب إلى الهيكل العظمي. وكان جلد وجنتيها يحدث صريرا من جراء ما هو مشدود.
ابتسمت المرأة الأخرى كدأبها. كان وجهها يحمل دائما تعبيرا ساخرا من التفكه الغريب. وكان لها جسد ممتلئ ريان. قدمت نفسها ورفيقاتها: «اسمي كيبوني. وهذه أوتستسوي، والأخرى جاليبوي ثم مونوانا. وأنت ما اسمك؟» «ديكيليدي موكوبي.»
قالت كيبوني: «ولماذا هذا الاسم المأساوي؟ لماذا أسماك أبواك بالدموع؟»
قالت ديكيليدي: «مات أبي عند مولدي، فأسموني بدموع أمي.» ثم أضافت: «وماتت أمي بعد ذلك بست سنوات، فتولى عمي تنشئتي.»
هزت كيبوني رأسها في رثاء وهي ترفع في بطء ملعقة عصيدة إلى فمها. وبعد أن ابتلعتها سألت: «وما هي جريمتك؟» «قتلت زوجي.»
قالت كيبوني: «كلنا هنا لنفس الجريمة.» ثم سألت بابتسامة ساخرة: «أأنت نادمة؟»
أجابت: «ليس كثيرا.» - «كيف قتلته؟»
قالت ديكيليدي: «اجتززت كل أعضائه الخصوصية بسكين.»
قالت كيبوني: «أنا فعلت المثل بموسي.» وتنهدت ثم أضافت: «كانت حياتي صعبة.»
ساد الصمت بعض الوقت بينما انهمكن جميعا في الأكل، ثم استطردت كيبوني في تأمل: «رجالنا لا يظنون أننا نحتاج إلى حنان ورعاية، كان زوجي يركلني بين ساقي عندما يشاء. ومرة أجهضت بسبب ذلك. لم أكن أستطيع التهرب منه إذا مرضت، لهذا قلت له مرة إنه يستطيع الإتيان بامرأة أخرى لأني عاجزة عن إشباع كافة رغباته. كان مسئولا تعليميا، وكل سنة يوقف حوالي سبعة عشر مدرسا لأنهم تسببوا في حمل التلميذات، بينما كان يفعل مثلهم. وفي آخر مرة جاءني أبوا الفتاة يشكوان. فقلت لهما: اتركا الأمر لي. فقد فاض بي الكيل. وقتلته.»
أكملن طعامهن في صمت، ثم حملن الصحاف والأكواب ليشطفنها في المغسل. وجاءت الحارسة بدلو ومكنسة. لم يكن ثمة أثر وسخ في أي مكان، لكن لا بد من غسل أماكن النوم بالماء الغزير، فهو روتين السجن. ولا يتبقى بعد ذلك سوى جولة تفقدية من المدير. وهنا تحولت كيبوني إلى القادمة الجديدة محذرة: «خذي بالك عندما يأتي المدير للتفتيش فهو مجنون بشيء واحد .. انتباه! قفي معتدلة! يداك إلى جانبك! فإن لم تفعلي فقد صوابه وكال لك السباب. إنه لا يهتم بغير ذلك.»
ما إن انتهى التفتيش حتى أخذت النسوة، عبر عدد من البوابات، إلى فناء مكشوف مشمس، يحيط به سور مرتفع من السلك الشائك، حيث يقمن بعملهن اليومي. كان السجن مركزا للتأهيل، ينتج فيه السجناء السلع التي يعرضها حانوت السجن للبيع. فتصنع النساء الملابس والصوف، والرجال أشغال النجارة والجلود والطوب والخضراوات.
كانت ديكيليدي تجيد عدة أعمال، فهي تطرز وتحيك وتغزل. وكانت النسوة الموجودات منهمكات في تطريز الملابس الصوفية، وبعضهن يعملن ببطء لأنهن ما زلن يتعلمن. تطلعن إليها في اهتمام عندما تناولت كتلة الصوف وإبر التطريز، وأنجزت غرز الصف الأول بسرعة. كانت يداها ناعمتين رقيقتين، كأنهما بلا عظام، وتتميزان بقوة غريبة، فشكلت بهما أعمالا جميلة. وعندما انتصف النهار، كانت قد أتمت الجانب الأمامي من الجرسي، فتوقفن جميعا عن العمل ليبدين إعجابهن بالتصميم الذي ابتكرته.
قالت كيبوني في إعجاب: «أنت موهوبة حقا.»
أجابت ديكيليدي بابتسامة: «هذا ما تقوله صديقاتي. فأنا المرأة التي لا ترشح المياه من قش نسجته. ولهذا تلجأ إلي كل صديقاتي عندما يبغين إعداد أكواخهن. فهن لا يستطعن ذلك بدوني. كنت دائما مشغولة، مستخدمة، لأني بهاتين اليدين كنت أطعم أطفالي وأتولى تنشئتهم. تركني زوجي بعد أربعة أعوام من الزواج، لكني تمكنت من تدبير أموري وإطعام أفواههم. وإذا عجز أحد الناس عن دفع أجرتي نقدا، كان يعطيها لي هدايا من الطعام.»
قالت كيبوني: «الأمور ليست سيئة هنا. فبوسعنا أن ندخر بعض المال من مبيع منتجاتنا. إذا اشتغلت هكذا ستحصلين على مال لأطفالك. كم لديك منهم؟» - «ثلاثة أولاد.» - «هل هناك من يرعاهم؟» - «أجل.»
غيرت كيبوني موضوع الحديث مرة أخرى: «أنا أحب طعام الغداء. إنه أفضل وجبات اليوم. جريش ذرة ولحم وخضراوات.»
هكذا انقضى اليوم بين الثرثرة والعمل، وعند الغروب أقتيدت النسوة من جديد إلى الزنزانة بعد أن حان موعد إغلاقها. فبسطن البطاطين، وأعدت كل واحدة فراشها، ثم واصلن الحديث قليلا في ضوء الشمعة. وعندما أوشكن على الرقاد، أومأت ديكيليدي برأسها في رقة لصديقتها الجديدة كيبوني وقالت: «أشكرك. فقد كنت جد لطيفة معي.»
أجابت كيبوني بابتسامتها الساخرة المتفكهة: «لا بد وأن نساعد بعضنا البعض. فهذا عالم فظيع. ليس هنا غير البؤس.»
هكذا استهلت المرأة ديكيليدي المرحلة الثالثة من حياة أحالتها الوحدة والمرارة إلى رماد. لكنها كانت تجد الذهب دائما وسط الرماد، فيصل الحب بين قلبها وقلوب الغير. ابتسمت لكيبوني في حنان؛ لأنها أدركت أنها عثرت على حب مشابه. فقد كانت تهوى جمع هذه الكنوز. •••
هناك نوعان من الرجال في المجتمع. أحدهما هو الذي يخلق التعاسة والفوضى، فيوصم أمام الكافة بالشر. فإذا ما راقب المرء كلاب القرية تطارد إحدى إناثها الهائجة، تجدها تتحرك في مجموعات من أربعة أو خمسة. وعندما يبدأ الجماع، يحاول أحد الكلاب السيطرة على الموقف، ويبعد الآخرين عن فرج الأنثى. وتقف بقية الكلاب، سيئة الحظ، على مقربة وهي تنبح وتطبق فكيها، بينما ينهمك الكلب المتسيد في فيض متواصل من الأورجازمات، نهارا وليلا، حتى يصاب بالإنهاك. ولا بد أنه، خلال هذا الإنجاز الهرقلي، سيتصور أنه القضيب الوحيد في العالم، وأن هناك تدافعا بالمناكب من أجله. هذا النوع من الرجال يعيش قرب المستوى الحيواني، وسلوكه على نفس الشاكلة. ومثل الكلاب والثيران والحمير، لا يتقبل أي مسئولية عن الصغار التي ينجبها. ومثل الكلاب والثيران والحمير، يدفع الإناث إلى الإجهاض. ولما كان هذا النوع من الرجال يمثل الأغلبية في المجتمع فإنه يحتاج إلى قليل من التحليل؛ لأنه مسئول عن الانهيار التام للحياة الأسرية.
يمكن تحليله طبقا لثلاث فترات زمنية. في العصور القديمة، قبل الغزو الاستعماري، كان يعيش حسب التقاليد والتابوهات التي حددها أسلاف القبيلة للكافة. لم يكن يملك من الحرية الفردية ما يعينه على تقويم هذه التقاليد؛ لأنها كانت تتطلب الطاعة العمياء. فهي نظم فضفاضة، تستهدف صالح المجتمع ككل، ولا تراعي إلا قليلا الميول والاحتياجات الفردية. لقد ارتكب الأسلاف أخطاء كثيرة، أكثرها مرارة أنهم أعطوا للرجل مركز المتسيد في القبيلة، بينما اعتبروا المرأة، بالمعنى الخلقي، شكلا ناقصا من أشكال الحياة الإنسانية. وما زالت المرأة حتى يومنا هذا تعاني من كافة الكوارث التي تتعرض لها أدنى أشكال الحياة الإنسانية.
ويمثل العصر الاستعماري، وفترة العمالة التعدينية النازحة إلى جنوب إفريقيا، بلوى أخرى أصابت هذا الرجل. فقد تحطمت سيطرة الأسلاف. تحطم الشكل القديم التقليدي للحياة العائلية، واضطر الرجل للافتراق عن زوجته وأطفاله لفترات طويلة، يعمل خلالها من أجل الفتات في أرض أخرى كي يجمع من النقود ما يكفي لتسديد ضريبة الرأس الاستعمارية البريطانية. فلم يتمخض هذا الاستعمار عن إثراء حياته إلا في أقل القليل. عندئذ أصبح مجرد «صبي» للرجل الأبيض، وأداة من أدوات مناجم جنوب إفريقيا.
وبدا الاستقلال الإفريقي مجرد بلوى جديدة فوق البلاوي التي نزلت بحياته. فقد غير الاستقلال نسق التبعية الاستعمارية تغييرا مفاجئا ودراميا. سنحت فرص أكثر للعمل في ظل برنامج المحليات الذي تبنته الحكومة الجديدة، وارتفعت الرواتب ارتفاعا صاروخيا في الوقت نفسه. وتهيأت بذلك الفرصة الأولى لحياة أسرية من نوع جديد أرقى من نظام العادات الطفولي، ومهانة الاستعمار. وكان على الرجال والنساء، في سبيل البقاء، أن يتحولوا إلى الداخل، إلى طاقاتهم الكامنة. وكان الرجل هو الذي وصل إلى نقطة التحول هذه، حطاما هشا، دون أي طاقات داخلية. وكأنه استبشع صورته، فحاول أن يهرب من فراغه الداخلي، ولهذا أخذ يدور مبتعدا عن نفسه، فسقط في دوامة من التبديد والتدمير، أقرب إلى رقصة الموت.
هكذا كان شأن جاريسيجو مكوبي، زوج ديكيليدي. فطوال أربع سنوات قبل الاستقلال، عمل كاتبا في إدارة الناحية، بمرتب ثابت مقداره خمسون روبية في الشهر. وبعد الاستقلال قفز راتبه إلى مائتي روبية. كان يميل، حتى في أيام فقره، إلى النساء والشراب، فصارت لديه الآن الإمكانيات للانغماس في الملذات. لم يعد أحد يراه في منزله، إذ أصبح يعيش وينام متنقلا من امرأة إلى أخرى. ترك زوجته وثلاثة أبناء - بانوبوثي، الأكبر وعمره أربع سنوات، إينالامي وعمره ثلاث، والأصغر، موتسومي الذي لم يتجاوز العام - يدبرون أمورهم بأنفسهم. ولعل السبب في سلوكه هذا، يرجع إلى أن زوجته كانت من النوع التقليدي، نصف الأمي، الذي يبعث على السأم، بينما وجدت، بكثرة، أخريات، جديدات، مثيرات. فقد صنع الاستقلال الأعاجيب.
وكان ثمة نوع آخر من الرجال في المجتمع، يمتلك القوة على إعادة خلق نفسه من جديد. وجه هذا النوع كل قواه، العاطفية والمادية، نحو حياته العائلية، ومضى في طريقه بإيقاع هادئ كنهر. إنه قصيد من الحنان.
هكذا كان شأن بول ثيبولو، الذي انتقل مع زوجته كيناليبي، وأطفالهما الثلاثة إلى قرية بولنج في عام 1966م، عام الاستقلال. كان قد حصل على نظارة المدرسة الابتدائية بالقرية. وخصص له ولأسرته حقل فارغ بجوار فناء ديكيليدي موكوبي، يبني فيه منزله الجديد.
يشكل الجيران مركز العالم بالنسبة لبعضهم البعض. فهم يتبادلون المساعدات في جميع الأوقات. ويقرضون بعضهم البعض السلع المختلفة. هكذا تابعت ديكيليدي باهتمام فناء جيرانها الجدد. في البداية ظهر الرجل مع بعض العمال لإقامة السور، الذي شيد بسرعة وكفاءة. وترك الرجل لديها انطباعا حسنا في الحال، عندما ذهبت تقدم نفسها، وتعرف القليل عنهم.
كان طويلا، عريض العظام، بطيء الحركة، بالغ الوداعة لدرجة أن ضوء الشمس وظلها كانا يتلاعبان بعينيه، ويجعلان من العسير تحديد لونهما الفعلي. وعندما يقف ساكنا، ويبدو مستغرقا في التفكير، يتسلل ضوء الشمس إلى عينيه، ويعشش بهما، فيعطيهما لون الظل في أحيان، ولونا بنيا خفيفا في غيرها.
التفت نحوها مبتسما في ود عندما قدمت نفسها، وقال إنه نقل هو وزوجته من قرية بوبونونج. وإنها ما زالت هي وأطفالها، لدى أقاربهما في القرية إلى أن ينتهي من إعداد الفناء. كان يتعجل الاستقرار؛ لأن الفترة الدراسية تبدأ بعد شهر. وقال إنهم سيشيدون كوخين من الطين أول الأمر، ثم يقيمون منزلا صغيرا من الطوب فيما بعد، وستأتي زوجته بعد أيام مع بعض النسوة، لإقامة الجدران الطينية للكوخين.
قالت ديكيليدي: «أحب أن أساعدكم. فإذا بدأنا العمل في ساعة مبكرة من الصباح، وكنا ست نساء أمكننا أن ننتهي من إقامة الجدران في أسبوع. وإذا رغبت في أن يكون أحد الكوخين من القش، فإن الجميع يعرفون أني المرأة التي لا تتسرب المياه من قشها.»
أجاب الرجل مبتسما أنه سينقل هذه المعلومات إلى امرأته، وأضاف بعذوبته معربا عن ثقته في أنها ستحبها عندما تلتقي بها، فهي ودودة تحظى بحب الجميع.
عادت ديكيليدي إلى فنائها بمعنويات عالية. لم تكن تتلقى زيارات كثيرة. فمنذ تركها زوجها لم يعد أحد من أقاربها يتردد عليها خوفا من أن تطلب منه شيئا. واقتصر زائروها على المتعاملين معها في شأن من شئونهم، فهم إما يريدون منها حياكة ملابس لأطفالهم، أو تطريز جرسيات للشتاء. وعندما تجد نفسها بلا عمل تصنع السلال ثم تبيعها. هكذا استطاعت أن تقوم بأود نفسها وأطفالها الثلاثة، لكنها ظلت محرومة من الأصدقاء الحقيقيين.
أثبتت الأيام صدق الزوج، فقد كانت زوجته لطيفة المعشر. كانت طويلة بعض الشيء ونحيفة، ذات شخصية مشرقة ومفعمة بالحيوية. ولم تحاول إخفاء ما تتمتع به من سعادة. وتحقق ما وعدت به ديكيليدي. فقد نجح فريق العمل المكون من ست نساء في إقامة جدران الكوخين الطينيين في أسبوع واحد، وبعد أسبوعين اكتمل إعداد الكساء الخارجي المصنوع من القش. وانتقلت أسرة ثيبولو إلى مقرها الجديد كما انتقلت ديكيليدي إلى أكثر فترات حياتها ازدهارا وسعادة، صنعت فيها منحنى كبيرا، منفرجا إلى أعلى. وتجاوزت علاقتها بأسرة ثيبولو حدود التبادل الودي بين الجيران، إذ كانت علاقة غنية وخلاقة.
لم يمض وقت طويل حتى نشأت بين المرأتين صداقة من ذلك النوع العميق، الودود، الذي يتضمن المشاركة في كل شيء، ولا يعقد أواصره غير النساء. وبدا أن كيناليبي في حاجة إلى عدد لا حصر له من الأثواب لها ولبناتها الصغيرات الثلاث. ولما كانت ديكيليدي قد رفضت أن تتقاضى أجرا نقديا على هذه الخدمات، بحجة المنافع العديدة التي تتلقاها من جيرانها الطيبين، فقد رتب بول ثيبولو الأمر بحيث تأخذ أجرها على صورة سلع منزلية، بحيث اطمأنت ديكيليدي إلى توفر احتياجاتها من الذرة والسكر والشاي واللبن الجاف وزيت الطهي، لعدة سنوات قادمة. وكانت كيناليبي أيضا من ذلك النوع من النساء الذي يجعل العالم كله يدور حولها، فشخصيتها الجذابة كانت تجتذب عديدا من النساء إلى فنائها، وبالتالي عديدا من الزبائن لصديقتها صانعة الثياب؛ ديكيليدي. وسرعان ما أصبحت الأخيرة مثقلة بالعمل واضطرت لابتياع ماكينة ثانية للحياكة، والاستعانة بمساعدة. وألفت الصديقتان القيام بكل شيء سويا، فهما دائما معا، في مناسبات الزواج، والجنازات، واحتفالات القرية. وفي ساعات الفراغ كانتا تبحثان أمورهما الحميمة، بحيث أصبحت كل منهما تعرف تفاصيل حياة الأخرى معرفة تامة.
وذات يوم قالت ديكيليدي في أسى: «أنت حقا محظوظة. فليس هناك زوج مثل بول.»
قالت كيناليبي في سعادة: «أجل. إنه رجل أمين.» كانت تعرف القليل عن بلاوي ديكيليدي فسألتها: «لماذا تزوجت رجلا مثل جاريسيجو؟ لقد تأملته جيدا عندما عينته لي في ذلك اليوم ، وتبينت من الوهلة الأولى أنه من هواة الملذات.»
أجابت ديكيليدي: «أظن أني كنت أريد الخروج من فناء عمي، فلم أحبه أبدا. فبرغم ثرائه كان قاسيا، شديد الأنانية. كنت مجرد خادمة لديه، وكان يسيء معاملتي. التحقت به في السادسة من عمري، عندما ماتت أمي، ولم أكن سعيدة عنده. وكان أطفاله يزدرونني لأني كنت خادمتهم. ودفع عمي نفقات تعليمي طوال ست سنوات، ثم طالبني بترك الدراسة. وكنت أود الاستمرار، لأن التعليم، كما تعرفين، يفتح أبواب العالم أمام الواحدة. وكان جاريسيجو صديقا لعمي، والوحيد الذي تقدم إلي. وناقش الاثنان الأمر فيما بينهما ثم قال لي عمي: «الأفضل لك أن تتزوجي من جاريسيجو؛ لأن وجودك هنا أصبح مثل السلسلة حول رقبتي.» فوافقت كي أبتعد عن هذا الرجل الفظيع. وقال جاريسيجو ساعتها إنه يفضل الزواج من واحدة مثلي على الاقتران بمتعلمة؛ لأن المتعلمات يتميزن بالغباء، ويرغبن في السيطرة على الرجل. والحق أني لم أرفع صوتي بالاحتجاج أبدا عندما بدأ يلعب بذيله. أنت تعرفين ما تفعله الأخريات. فهن يطاردن رجالهن من كوخ إلى آخر، ويضربن العشيقات. والنتيجة؟ أن ينتقل الرجل إلى كوخ جديد. وبذلك لا تكسب الواحدة شيئا. وما كنت لأسلك هكذا. فيكفيني أن لدي أطفالا. إنهم نعمة وبركة.»
قالت صديقتها وهي تهز رأسها في تعاطف: «كفاية. لا أفهم الطريقة التي توزع بها الحياة عطاياها. البعض يحصلون على الكثير جدا، والآخرون لا ينالون شيئا على الإطلاق. لقد كنت دائما محظوظة. يوما ما سيزورني أبواي، اللذان يعيشان في الجنوب، وسترين كيف يهتمان بشأني. وهو ما يفعله بول. إذ يعنى بكل شيء فلا يساورني القلق، ولا أنشغل بهم.»
اجتذب الرجل، بول، كثيرا من الأصدقاء مثل زوجته. وكان الاثنان يستقبلان الضيوف كل مساء، رجالا أميين يريدون منه أن يدون لهم بيانات الضرائب أو يكتب لهم الرسائل، أو رفاقا راغبين في مناقشة القضايا السياسية، فمنذ الاستقلال أصبح ثمة جديد كل يوم. وكانت المرأتان تستمعان لهذه المناقشات بآذان مسحورة، لكنهما لم تشتركا فيها أبدا. وإنما كانتا تلوكان المناقشات في حكمة وجدية . فتقول كيناليبي: «عقول الرجال غريبة: فهي تطوف بعيدا وبجرأة. إنني أرتعد عندما أسمعهم ينتقدون حكومتنا الجديدة بحرية. هل سمعت ما قاله بطرس بالأمس؟ قال إنه يعرف كل أولاد الزنا هؤلاء، وإنهم ليسوا سوى حفنة من اللصوص المحتالين ! ارتعدت كثيرا عندما سمعت ما قاله. فالطريقة التي يتحدثون بها عن الحكومة تشعرك في عظامك بأن هذا العالم ليس آمنا، ليس مثل الأيام القديمة عندما لم تكن لدينا حكومات. وقال لينتسوي إن عشرة بالمائة من السكان في إنجلترا يتحكمون في ثروة البلاد بينما يعيش الباقون تحت حد الجوع. وقال إن الشيوعية ستحل كل هذه المشاكل. وفهمت من الطريقة التي ناقشوا بها هذه النقطة أن حكومتنا لا تحبذ الشيوعية. وارتجفت كثيرا عندما اتضح لي ذلك.» وصمتت برهة ثم ضحكت في زهو: «لقد سمعت بول يكرر عدة مرات أن البريطانيين لم يحكمونا سوى ثمانين سنة. ولا أدري لماذا هو مغرم بترديد هذه العبارة؟»
هكذا انفتح عالم جديد تماما أمام ديكيليدي. بدا لها عالما شديد الثراء، يفيض بالسعادة، فانغمست فيه يوما بعد يوم، متغاضية عن جدب حياتها الخاصة. لكن هذا الأمر ظل مثل الصداع المزمن في رأس صديقتها كيناليبي.
قالت لها ذات يوم مستحثة: «يجب أن تجدي رجلا آخر. فليس من صالح المرأة أن تعيش بمفردها.»
فأجابتها ديكيليدي التي لم تعد تستسلم للأوهام: «ومن يكون؟ لن يتمخض عن ذلك سوى المتاعب لي ولأولادي، بينما كل شيء الآن على ما يرام. فابني الأكبر يذهب إلى المدرسة وأنا قادرة على تسديد نفقاتها. هذا هو في الحقيقة كل ما يعنيني.»
قالت كيناليبي: «أقصد أننا جئنا لهذا العالم لنمارس الحب ونستمتع به.»
أجابت الأخرى: «أوه. لم أعبأ أبدا بهذا الأمر. فعندما تجربين أسوأ ما فيه، تفقدين الرغبة كلية.»
اتسعت حدقتا كيناليبي: «ماذا تعنين بذلك؟» - «أعني أن الأمر لم يكن أكثر من قفزة! وكنت دائما أتساءل عن مغزاه وجدواه. وصرت أنفر منه.»
قالت كيناليبي مصعوقة: «أكان جاريسيجو هكذا؟ إذن فهو لا يعدو أن يكون مثل ديك يقفز من دجاجة إلى أخرى . ترى ماذا يفعل مع كل هاته النسوة .. أنا متأكدة أنهن لا يسعين إلا وراء نقوده، ولهذا يتملقنه.» وصمتت برهة ثم أضافت في جدية: «هذا سبب آخر يحتم عليك البحث عن رجل آخر. آه لو تعرفين حقيقة الأمر لجننت من اللهفة عليه، أقول لك. أحيانا أظن أني أستمتع بهذا الجانب من الحياة أكثر مما يجب. فبول يعرف الكثير عن ذلك. ولديه دائما جديد يفاجئني به. وهو يبتسم بطريقة معينة عندما يكون قد فكر في شيء جديد، فأرتعش قليلا وأقول لنفسي: «ترى، ماذا ينوي بول هذه الليلة!»
صمتت كيناليبي ثم ابتسمت لصديقتها في خجل وقالت: «يمكنني أن أقرضك بول إذا شئت.» ورفعت يدها لتوقف ما ظهر على وجه صديقتها من احتجاج: «سأفعل ذلك لأني لم أنعم في حياتي بصديقة مثلك أثق فيها إلى هذه الدرجة. لقد عرف بول فتيات عديدات قبل أن يتزوجني، ولهذا فالأمر بالنسبة إليه ليس غريبا، فضلا عن أننا كنا نمارس الحب قبل الزواج، ولم أحمل أبدا، فهو يراعي هذا الجانب أيضا. لا مانع لدي في أن أقرضه لك، لأنني أنتظر طفلا جديدا هذه الأيام، وأشعر أني لست على ما يرام.»
نظرت ديكيليدي طويلا إلى الأرض، ثم رفعت إلى صديقتها عينين مبللتين بالدموع وقالت بتأثر: «لا يمكنني أن أقبل هدية كهذه منك. لكن طالما أنك متعبة، سأتولى عنك غسيلك وطهيك.»
لم تعبأ كيناليبي برفض صديقتها للعرض السخي، وناقشت الأمر مع زوجها في نفس الليلة. وفوجئ بول بموضوع لم يتوقعه، فبدت عليه الدهشة ثم انفجر في ضحك مدو، استمر طويلا حتى بدا عاجزا عن التوقف.
سألته كيناليبي في دهشة: «لماذا تضحك هكذا؟»
واصل الضحك، ثم بدت عليه فجأة الجدية، واستغرق في التفكير بعض الوقت. وعندما سألته عن محور تفكيره أجاب: «لن أخبرك بكل شيء. أحب أن أحتفظ ببعض أسراري لنفسي.»
وفي اليوم التالي روت كيناليبي لصديقتها ما جرى بينها وبين زوجها من حوار متسائلة: «ماذا يعني بقوله إنه يريد الاحتفاظ ببعض أسراره لنفسه؟»
قالت ديكيليدي مبتسمة: «أظنه مغرورا بعض الشيء . كما أن الشخص عندما يحب بقوة، لا يميل إلى الاعتراف بذلك ويفضل الصمت.»
بعد ذلك بقليل، أجهضت كيناليبي، ودخلت المستشفى لإجراء جراحة بسيطة. وأوفت ديكيليدي بوعدها «أن تغسل وتطهو» لصديقتها. فدبرت أمور منزلها، وتولت إطعام الأطفال، وحافظت على كل شيء في نظام. وبالإضافة إلى ذلك، كان الناس يشكون من ضآلة غذاء المستشفى، فأخذت على عاتقها الطواف بأرجاء القرية كل يوم بحثا عن البيض والدجاج، وبعد أن تعد ما حصلت عليه، تحمله إلى كيناليبي، كل يوم، ساعة الغذاء.
وذات مساء، اصطدمت ديكيليدي بعقبة غير منتظرة، اعترضت روتينها اليومي.
كانت قد أعدت الطعام لأطفال صديقتها، وأفرغته في الصحون، عندما جاءتها زبونة تطلب تعديلا عاجلا في ثوب زفاف. وكان الزفاف مقررا في اليوم التالي. فتركت الأطفال يأكلون حول النار ومضت إلى كوخها. وبعد ساعة، كان أطفالها قد خلدوا للنوم، فقررت أن تمضي إلى فناء جارتها لتطمئن على الأمور. ولجت كوخ الأطفال ورأت أنهم التجئوا إلى فراشهم واستغرقوا في النوم، بينما تبعثرت صحون العشاء حول النار دون غسيل. وكان الكوخ الآخر الخاص ببول وكيناليبي غارقا في الظلام. معنى هذ أن بول لم يعد بعد من زيارة المساء المعتادة لزوجته. فجمعت الصحون وغسلتها، ثم صبت مياه الغسيل القذرة فوق رماد النار المتوهج في الفناء. وكومت الصحون بعضها فوق بعض وحملتها إلى الكوخ الثالث الإضافي الذي يقوم بدور المطبخ. وفي تلك اللحظة ولج بول ثيبولو الفناء، ولمح ضوءا وحركة في كوخ المطبخ، فمضى إليه وتوقف في مدخله المفتوح.
خاطبها في ود باسم ابنها الأكبر باناثوبي، كما جرت العادة: «ماذا تفعلين الآن يا أم باناثوبي؟»
أجابته ديكاليدي في سعادة: «أنا أعرف جيدا ما أنا فاعلة.» واستدارت نحوه لتقول إنه ليس من الصواب ترك الصحون الوسخة حتى الصباح، لكنها فغرت فمها مدهوشة. فقد طالعتها في عينيه بحيرتين صافيتين من الضوء السائل، ومر بينهما شيء بالغ الحلاوة، فائق الجمال، كأنه الحب.
قال برقة: «أنت امرأة طيبة يا أم باناثوبي.»
كانت تلك هي الحقيقة. وقدمت الهدية ككتلة من الذهب. لا يستطيع تقديم هدايا كهذه سوى رجال من طراز بول ثيبولو. أخذت الهدية وأودعت قلبها كنزا جديدا. ثم أحنت ركبتيها بالتحية التقليدية وابتعدت في هدوء نحو منزلها. •••
انقضت ثماني سنوات على ديكيليدي في إيقاع هادئ من العمل، والصداقة التي ربطتها بأسرة ثيبولو. وانفرجت أزمة ابنها الأكبر باناثوبي. فقد كان يواجه امتحان الشهادة الابتدائية في نهاية العام. وبتأثير هذا الحدث الهام، أفاق الصبي لنفسه، بعد أن كان، مثل بقية الصبية، مغرما باللعب. فأحضر كتبه إلى المنزل وقال لأمه إنه يرغب في استذكار دروسه بالأماسي، ويريد أن ينجح بدرجة «أ» ليسرها. حكت ديكيليدي القصة لجارتها في انفعال وزهو.
قالت: «باناثوبي يقرأ دروسه كل مساء الآن. ولم يكن يهتم بها من قبل. لقد ابتهجت كثيرا بمسلكه فابتعت له مصباحا إضافيا، ونقلته من كوخ الأطفال إلى كوخي حيث يمكنه أن يستمتع بشيء من الهدوء. ونحن نسهر كل ليلة حتى ساعة متأخرة: أنا أحيك الأزرار وذيول الفساتين، وهو يستذكر.»
كما أنها افتتحت لنفسها حسابا ادخاريا في مكتب البريد ليتوفر لديها المال الكافي للإنفاق على تعليمه الثانوي. فمصاريفه عالية بعض الشيء: 85 روبية. ورغم كل ما ادخرته، وجدت في نهاية العام، أنها تحتاج عشرين روبية إضافية لاستكمال المبلغ. وعندما أعلنت النتائج في عطلة الكريسماس، نجح باناثوبي بدرجة «أ». فانتاب أمه فرح هستيري. لكن ما العمل؟ كان الابنان الآخران، اللذان يصغرانه سنا، قد بدآ المرحلة الابتدائية، ووجدت أنها عاجزة عن تدبير مصاريف الثلاثة من مدخراتها، فقررت أن تذكر جاريسيجو موكوبي بأبوته للأولاد.
لم تكن قد رأته في الثماني سنوات، إلا كما ترى أحد المارة في طرقات القرية. وكان يلوح لها أحيانا، لكنه لم يتحدث إليها أبدا أو يستفسر عن حياتها أو عن أطفالهما. فلم يكن شيء من هذا يعنيه. كانت تمثل له شكلا دنيئا من أشكال الحياة الإنسانية. وإذا بهذا الشيء البغيض يظهر أمام مكتبه ذات يوم، بينما كان في طريقه لتناول طعام الغداء. كانت قد سمعت من ثرثرة القرية أنه استقر أخيرا مع امرأة متزوجة ذات أطفال، بعد أن طرد زوجها في واقعة مثيرة من الوقائع المألوفة في القرية تخللها العراك والسباب. والغالب أن الزوج لم يعبأ بما حدث، إذ توجد دائما سواعد مفتوحة لأي رجل، طالما أنه يبدو كذلك. أما ما اجتذب جاريسيجو إلى هذه المرأة بالذات، فهو طبقا لما ذكره عشاقها السابقون ضاحكين، أنها مولعة بأشكال الجماع العنيفة مثل العض والخمش.
غادر جاريسيجو موكوبي مكتبه، ونظر في ضيق إلى هذا الشبح من ماضيه، زوجته. أدرك أنها تريد أن تتحدث إليه، فمشى نحوها وهو يتطلع إلى ساعته طول الوقت. وكان قد صار له، مثل كافة «الرجال الناجحين» كرش ضخم، وعينان محتقنتان، ووجه منتفخ، تحف به رائحة مختلطة من بيرة الليلة الماضية وجنسها.
خاطبها بصبر نافد: «قولي ما تريدينه بسرعة، ففسحة الغداء قصيرة، ولا بد أن أعود إلى مكتبي في الثانية.»
لم يكن بوسعها أن تتحدث إليه عن زهوها بنجاح باناثوبي، ولهذا قالت ببساطة وهدوء: «جاريسيجو. أتوسل إليك أن تساعدني في سداد مصاريف المدرسة الثانوية لباناثوبي. إنه ناجح بدرجة «أ»، وكما تعرف فإن المصاريف تدفع في اليوم الأول من الدراسة وإلا طردوا التلميذ. وأنا من جانبي جاهدت طول السنة لتدبير النقود، لكني ما زلت في حاجة إلى عشرين روبية.»
قدمت إليه دفتر النقود البريدي، فتناوله وألقى عليه نظرة، ثم أعاده إليها وهو يبتسم في تكلف ابتسامة ذات مغزى. قال وهو يظن أنه يوجه إليها ضربة في وجهها: «لماذا لا تطلبين النقود من بول ثيبولو؟ الجميع يعرفون أن له بيتين، وأنك امرأته الاحتياطية. الجميع يعرفون بأمر زكيبة الذرة التي يأتيك بها كل ستة شهور، فلماذا لا يدفع نفقات المدرسة أيضا؟»
لم تنكر شيئا أو تؤكده. وطاشت الضربة عن وجهها الذي رفعته إلى أعلى في كبرياء. ثم مشت مبتعدة.
التقت المرأتان بعد الظهر كمألوف عادتهما، وروت ديكيليدي الحديث الذي دار بينها وبين زوجها، فهزت جارتها رأسها في غضب وهتفت: «الخنزير! يظن الرجال جميعا مثله. سأذكر الأمر لبول، فلا شك أنه سيقوم بتأديبه.»
وهو ما حدث لجاريسيجو. كان في أعماقه مومسا نسائية، يستمتع مثل كل المومسات المحترفات بالفضيحة والتشهير؛ لأنهما يخدمان تجارته. فابتسم في دماثة وبلا تحفظ عندما اندفع بول ثيبولو غاضبا إلى باب المنزل الذي يسكنه مع محظيته. واجه جاريسيجو أمثال هذا الموقف كثيرا، وكان يعرف عن ظهر قلب ما سيدور من حوار.
صاح بول ثيبولو: «يا ابن العاهرة! زوجتك ليست محظية لي، هل تسمع؟»
قال جاريسيجو: «لماذا إذن تزودها بالطعام؟ الرجال لا يفعلون ذلك إلا للمرأة التي ينكحونها! فهي لا تفعل ذلك بغير مقابل.»
استند بول ثيبولو بإحدى يديه إلى الجدار وهو يرتجف من الغضب وقال في توتر: «أنت تدنس الحياة يا جاريسيجو موكوبي. ليس في عالمك غير الدنس. أم باناثوبي تحيك الملابس لزوجتي وأطفالي، ولا تقبل مني نقودا، فكيف إذن أدفع لها أجرتها؟»
أجاب الآخر بوضاعة: «وهذا ما يؤكد القصة من كل الجوانب. فالمرأة تفعل هذا للرجل الذي ينكحها.»
أطلق بول يده الأخرى في لكمة عنيفة لإحدى عينيه الباسمتين، وانصرف. من يستطيع إخفاء عين زرقاء متورمة؟ كان يرد على كل استفسار بلهجة الضحية: «إنه عشيق زوجتي، بول ثيبولو.»
جلب هذا إليه اهتمام القرية كلها، وهو كل ما يبغيه حقيقة. فأمثاله من الرجال يحتلون الدرك الأسفل من الحكومة ويتوقون خفية للرئاسة، حتى تتجه إليهم الأعين. ولهذا أضاف جاريسيجو المزيد من الوقود إلى الفضيحة، معلنا أنه سيتكفل بمصاريف دراسة ابن محظيته، لكنه لن يدفع مصاريف ابنه هو، باناثوبي.
لم يعترض أهالي القرية على تلطيخ سمعة بول ثيبولو؛ لأنه كان إنسانا كاملا فوق كل تصور، مما يصعب عليهم تصديقه. فوجدوا لذة في أن يجعلوه موضوعا للقيل والقال، ومع ذلك عنفوا جاريسيجو قائلين: «ربما تحصل زوجتك على أشياء من بول ثيبولو، لكن ليس هناك من يستطيع أن يدفع كلا من مصاريف دراسة أطفاله، ومصاريف دراسة أطفال رجل آخر. وما كان باناثوبي سيوجد لو لم تتول أنت إنجابه، فواجبك إذن أن ترعاه. وبالإضافة إلى هذا، فإن زوجتك إذا التحقت برجل آخر، تكون أنت المسئول لأنك تركتها وحيدة سنوات طويلة.»
عاش الناس مع هذه القصة أسبوعين، لأنهم أرادوا أن يكون بول ثيبولو من عالمهم، ومثلهم بلا أخلاق ثابتة. لكن القصة تطورت في اتجاه درامي أثار الرعب في أوصال الرجال، وانقضت أسابيع عدة قبل أن يجدوا الشجاعة على مشاركة نسائهم الفراش.
كانت طريقة جاريسيجو في التفكير هي التي أدت به إلى الهلاك. فقد أيقن فعلا أن رجلا آخر دق وتده في حظيرة دجاجه، وكأي ديك كانت هذه الفكرة كفيلة بإثارة شعر رأسه. فقرر أن يذهب إليها - الحظيرة - مؤكدا حقوقه. وما إن زال ورم عينه بعد أسبوعين، حتى استوقف باناثوبي في القرية وسأله أن يحمل إلى أمه ورقة ويجلب منها ردا. كانت الورقة تقول: «الأم العزيزة، سأعود إلى المنزل لأسوي خلافاتنا. أرجو أن تعدي لي طعاما وبعض الماء الساخن لحمامي.»
تلقت ديكيليدي الورقة وقرأتها فارتجفت من الغضب. كانت تلميحاته واضحة، فهو قادم من أجل الجنس. فلم تكن بينهما أية خلافات، ولم يدر بينهما أي حوار.
قالت لابنها: «باناثوبي. هل لك أن تلعب قليلا في الجوار؟ أريد أن أفكر قليلا قبل أن أبعث معك بالرد.»
لم تكن أفكارها واضحة. كان ثمة شيء لا تستطيع أن تضع يدها عليه في الحال. فقد أصبحت تقدس الحياة التي عاشتها في السنوات الأخيرة، وكافحت خلالها لتقوم بأود نفسها وأطفالها. وهي حياة امتلأت بكنوز المودة والحب التي جمعتها من الآخرين. كل هذا أرادت الآن أن تحميه من التلوث على يد الرجل الشرير. وبدافع الرعب خطر لها أن تأخذ أطفالها وتهرب من القرية. لكن أين تذهب؟ لم يكن جاريسيجو يريد طلاقا، فقد تركت له أن يفاتحها في هذا الصدد، ولم تسمح لنفسها أن ترافق رجلا آخر. قلبت الفكر بلا جدوى، حتى أيقنت أنه لا مفر من مواجهته. وهنا ظهرت على وجهها نظرة متأملة متمعنة. وأخيرا، اطمأنت نفسها، ومضت إلى كوخها فكتبت الرد: «سيدي، سأعد كل شيء كما طلبت، ديكيليدي.»
كان النهار قد انتصف عندما جرى باناثوبي بالرد إلى أبيه. وانهمكت ديكيليدي بعد الظهر في الاستعداد لمجيء زوجها. وجاءت كيناليبي تتأمل في ذهول الاستعدادات الضخمة، وإناء الماء الحديدي الكبير الذي امتلأ بالماء. وتوهجت النيران أسفله، وأواني الطهي الإضافية فوق النار. ولم تنتبه للسكين إلا فيما بعد، فلم تر منه سوى لمحة عابرة. كان من سكاكين المطبخ الكبيرة التي تستخدم في تقطيع اللحوم، وقد أمسكت به ديكيليدي، وركعت أمام حجر رحى، وراحت تصقله في أناة. ما استحوذ على اهتمام كيناليبي عندئذ هو التعبير المأساوي على وجه صديقتها المتلع إلى أعلى. أصابها الارتباك. وألفت نفسها عاجزة عن الاشتراك في الثرثرة النسائية المألوفة. وعندما قالت ديكيليدي: «أنا أقوم ببعض الاستعدادات من أجل جاريسيجو. فهو قادم الليلة.» هرعت إلى كوخها مذعورة. كانت تدرك أن الأمر يعنيها هي وزوجها، وعندما ذكرت له النبأ، قضى بقية اليوم شاردا، قلقا، يفعل كل شيء بالمعكوس، لا يرد على سؤال، ويترك كوب الشاي حتى يبرد، وبين الحين والآخر ينهض واقفا، ويخطو جيئة وذهابا، وهو غارق في التفكير. وبلغ بهما القلق ذروته مع حلول المساء، فلم يعودا قادرين على إخفاء مشاعرهما خلف ستار من الحديث. وجلسا بكوخهما في صمت. وحوالي الساعة التاسعة، بلغ مسامعهما الخوار الوحشي لعذاب الاحتضار، فاندفعا سويا إلى فناء ديكيليدي موكوبي. •••
جاء البيت مع الغروب، وألفى كل شيء معدا له كما طلب، فاتخذ مجلسه عازما على الاستمتاع بحياة الرجال. كان قد جلب معه حزمة من علب البيرة، فجلس في الخارج يرتشفها على مهل، وعيناه تستقران بين الفينة والأخرى على فناء ثيبولو. لم يلمح غير امرأته وأطفالها، أما الرجل فكان غائبا عن الأبصار. وابتسم جاريسيجو لنفسه، وقد سره أنه قادر على الصياح، مثل الديك، بأعلى ما يستطيع من صوت دون أن يتحداه أحد.
وضعت ديكيليدي أمامه حوضا من الماء الدافئ ليغسل يديه، ثم قدمت إليه طعامه، وفي ركن آخر، قدمت الطعام لأطفالها، ثم أمرتهم بالاغتسال والاستعداد للنوم. ولاحظت أن جاريسيجو لم يبد أي اهتمام بهم. كان مشغولا تماما بنفسه. ولا يفكر إلا في راحته الخاصة. ولو كان أبدى لأطفاله ذرة من الحنان، لفل ذلك من عزمها، وصرفها عن الفعل الذي خططت له بعناية طول فترة بعد الظهر. لم ترق هي أيضا إلى مستوى اهتمامه، فعندما جلبت صفحة طعامها وجلست بالقرب منه، لم يوجه نظرة واحدة إلى وجهها. شرب بيرته وهو يرمق الفناء المجاور بين الفينة والأخرى. ولم يظهر رجل الفناء مرة واحدة إلى أن ساد الظلام ولم يعد من الممكن تمييز شيء. فبدا عليه الارتياح التام. وقرر أن يكرر هذا المشهد كل يوم إلى أن يحطم جلد الديك الآخر، ويدفعه إلى الغضب والغلط. كان يحب هذه المناورات.
سألته: «جاريسيجو. هل ستساعدني في مصاريف مدرسة باناثوبي؟»
أجاب في غير مبالاة: «سأفكر في الأمر.»
نهضت واقفة، وحملت جرادل المياه إلى الداخل، وصبتها في حوض استحمام كبير من القصدير، ليأخذ حمامه. وبينما كان يفعل، انهمكت في ترتيب الكوخ، واستكمال آخر الأعمال المنزلية الروتينية. وعندما انتهت، ولجت كوخ الأطفال. كانوا قد لعبوا كثيرا طول اليوم، فوجدتهم غارقين في النوم من التعب. انحنت إلى جوار الحصائر التي استلقوا فوقها، وحدقت إليهم طويلا في حنان بالغ. ثم أطفأت مصباحهم، ومضت إلى كوخها. وجدت جاريسيجو مستلقيا فوق الفراش، وقد بسط يديه وساقيه بطريقة توحي بأنه لم يفكر إلا في نفسه، ولا ينتوي أن يتيح لأحد مشاركته الفراش. كان قد امتلأ بالطعام والشراب، فاستغرق في نوم عميق ثقيل. والظاهر أن محظيته علمته أن الرجل يجب أن يلجأ إلى الفراش عاريا. هكذا رقد، غير محمي، مجردا من وسائل الدفاع، منبطحا فوق ظهره.
أحدث حوض المياه قعقعة عالية عندما أخرجته من الغرفة، لكنه واصل نومه، غائبا عن الوجود. عادت إلى الكوخ، وأغلقت بابه. ثم انحنت وتناولت من أسفل الفراش السكين الذي أخفته في قطعة قماش. وبدقة ومهارة يديها الكادحتين، أمسكت بأعضائه التناسلية، واجتثتها بضربة واحدة. وبفعلتها هذه، قطعت الشريان الرئيسي الذي يمتد إلى الفخذ، فتدفق شلال من الدماء، وزأر جاريسيجو وخار معربا عن ألمه. ثم ساد الصمت. وقفت ترقب احتضاره الأليم بنظرة متفحصة لا تهمل أدق التفاصيل. وانتزعتها طرقة على الباب من استغراقها. كان الصبي، باناثوبي. فتحت له وحدقت إليه صامتة. كان يرتعد في عنف.
قال هامسا في رعب: «أمي. أسمعت أبي يصرخ؟»
قالت وهي تلوح بيدها في الهواء بإيماءة تعني: هذه هي الحكاية وما فيها: «لقد قتلته.» ثم أضافت بحدة: «باناثوبي. استدع الشرطة.»
استدار وهرب إلى الظلام. وتردد في أعقابه وقع زوج من الأقدام فقد جرت كيناليبي عائدة إلى فنائها وقد أوشكت أن تفقد صوابها من الخوف. ومن الظلام برز بول ثيبولو، فتقدم من الكوخ وولجه. التقط كل التفاصيل، ثم استدار إلى ديكيليدي ونظر إليها في ألم أعجزه عن النطق. وأخيرا قال: «لا تشغلي بالك بأمر الأطفال يا أم باناثوبي. سأتولى أمرهم كأطفالي تماما، وسأوفر لهم جميعا الدراسة الثانوية.»
سولا «رقيقة من الذهب تحتها مرمر»
للكاتبة الأمريكية توني موريسون (الحائزة على جائزة نوبل) 1973م
Sula by Toni Morisson 1973
عند عودتها إلى البلدة، ألفت الحديث الاجتماعي مستحيلا عليها؛ لأنها لا تعرف الكذب. لم يكن بوسعها أن تقول لواحدة من معارفها القدامى: «أنت تبدين في أحسن حال.» بينما ترى كيف كست السنون البشرة البرونزية بالرماد، وكيف أن العيون التي كانت مفتوحة لآخرها على القمر قد تقوست من الهم. وكلما ضاقت حياة الواحدة منهن، اعرض حوضها. من منهن لها زوج، طوت نفسها في تابوت منشى، انتفخت جوانبه بأحلام الآخرين اللحمية ولوعاتهم العظيمة. أما اللاتي كن بلا رجال، فكانت الواحدة منهن مثل إبرة نكدة الطرف، تبرز منها عين فارغة دوما. أولئك اللاتي كن مع رجال، امتصت المواقد والقدور الحلاوة من أنفاسهن. وصار أطفالهن مثل جراح نائية لكن مفتوحة، لم يخفف من ألمها انفصالها عن لحمهن. لقد نظرن إلى العالم، ثم إلى أطفالهن، ثم إلى العالم، وإلى أطفالهن مرة ثانية، وأدركت «سولا» أن عينا صافية شابة واحدة، هي كل ما أبقى السكين بعيدة عن استدارة الرقبة.
كانت إذن منبوذة، وكانت تعرف ذلك. تعرف أنهم يزدرونها، وتؤمن بأنهم يصوغون حقدهم في قالب الازدراء للسهولة التي ترقد بها مع الرجال. فقد كانت تذهب إلى الفراش مع الرجال كلما تيسر ذلك. فهو المكان الوحيد الذي يمكنها أن تجد فيه ما تبحث عنه: التعاسة والقدرة على الإحساس بالأسى العميق. لم تكن دائما واعية أن الحزن هو ما تتوق إليه. ففي البداية، بدا لها فعل الحب، خلقا لنوع خاص من الفرح. فكرت أنها تحب سخام الجنس وكوميديته، وكثيرا ما كانت تضحك خلال البدايات الفظة، وترفض العشاق الذين ينظرون إلى الجنس باعتباره ممارسة صحية وجميلة. كانت جماليات الجنس تثير ضجرها. فرغم أنها لم تعتبر الجنس ممارسة قبيحة (لأن القبح مضجر أيضا)، كانت تفضل أن ترى فيه شيئا من الأذى والشر. ومع تكرار تجاربها أدركت خطأ هذه النظرة بل وتبينت أنها ليست في حاجة لاستحضار فكرة الشر كي تتمكن من الاشتراك فيه بكليتها. فقد وجدت خلال فعل الحب، وكانت في حاجة لأن تجد، الحافة القاطعة. وعندما تخلت عن التعاون مع الجسد وبدأت تؤكد نفسها في الفعل، تجمعت فيها ذرات من القوة، مثل شظايا الصلب المنجذبة إلى مركز مغناطيسي شاسع، وشكلت عنقودا متلاحما، لا يمكن تحطيمه. كان ثمة سخرية وإهانة بالغتان، في الرقاد أسفل شخص ما، في وضع الاستسلام، بينما تشعر بقوتها الصامدة، وسلطانها غير المحدود. لكن العنقود تكسر، وتناثرت أجزاؤه، وفي لهفتها على لم أشلائه، قفزت من الحافة إلى السكون، وهوت مولولة، مولولة وقد غمرها إدراك لاذع بنهايات الأشياء: عين من الأسى في مركز إعصار من الفرح. في مركز هذا الصمت، لم تكن هناك الأبدية، وإنما موت الزمن، ووحدة عميقة لدرجة تجعل الكلمة نفسها بلا معنى. لأن الوحدة تفترض غياب الآخرين، بينما العزلة التي صادفتها في حقل اليأس هذا، لم تكن تسمح بوجودهم. عندئذ بكت. دموع موات الأشياء الصغيرة: أحذية الأطفال المستهلكة والملقاة جانبا، السيقان المحطمة لعشب المستنقعات بعد أن سحقها البحر وأغرقها، صور حفلات التخرج لنساء ميتات لا تعرفهن، خواتم زواج في نوافذ دكاكين الرهونات، الأجساد المرتبة للدجاج في عش من الأرز.
وإذ ينفصل عنها جسد رفيقها، تتطلع إليه في عجب، محاولة أن تتذكر اسمه، بينما ينظر إليها من عل، مبتسما في إدراك حنون لحالة العرفان الدامعة التي يعتقد أنه أوصلها إليها. وتنتظر هي في نفاد صبر أن يتحول عنها، ويغرق في رضا لزج وقرف خفيف، فيتركها لخصوصية ما بعد الجماع، حيث تلتقي نفسها، ترحب بنفسها، وتنضم إليها في انسجام فريد.
في التاسعة والعشرين، عرفت أن لن يكون ثمة طريق آخر، لكنها لم تتوقع تلك الخطوات فوق المدخل المسقوف، والوجه الأسود الجميل، الذي حدق إليها من خلال زجاج النافذة الأزرق. أجاكس.
يبدو كما كان منذ سبعة عشر عاما، عندما ناداها ب «لحمة الخنزير». كان وقتها في الحادية والعشرين، بينما كانت هي في الثانية عشرة. كون من الزمان بينهما.
فتحت الباب الثقيل، وأبصرته واقفا خلف الآخر المنخلي، حاملا زجاجتين من الحليب، مدسوستين بين ذراعيه مثل تمثالين من الرخام. ابتسم وقال: «بحثت عنك في كل مكان.»
سألت: «لماذا؟» - «لأعطيك هذه.» وأومأ إلى إحدى الزجاجتين.
قالت: «لا أحب الحليب.»
قال وهو يقدم إليها واحدة: «لكنك تحبين الزجاجات، أليس كذلك؟ أليست جميلة؟»
كانت كذلك فعلا. بدت وقد تدلت من أصابعه، تؤطرها سماء زرقاء، ثمينة، نظيفة، ودائمة. وأيقنت أنه ارتكب أمرا ذا خطر في سبيل الحصول عليها.
جرت بأصابعها فوق المصراع المنخلي مفكرة، ثم فتحت له الباب ضاحكة. دخل واتجه مباشرة إلى المطبخ. وتبعته على مهل. وما إن بلغت الباب حتى ألفته قد أزال الغطاء السلكي المعقد، وترك الحليب البارد يتدفق في فمه.
راقبته، أو بالأحرى راقبت الإيقاع البادي في رقبته، باهتمام متصاعد. وعندما جرع كفايته، صب باقي الزجاجة في الحوض، وشطفها ثم قدمها إليها. تناولت الزجاجة بيد، ورسغه باليد الأخرى، وجذبته إلى حجرة المؤن. لم يكن ثمة حاجة لاستخدام تلك الغرفة، لأن أحدا لم يكن بالمنزل، لكن الإيماءة صدرت عن ابنة أمها بصورة طبيعية. وفي غرفة المؤن الخالية الآن من زكائب الدقيق، المجردة من حبال الحبات الصغيرة للفلفل الأخضر، قابضة بشدة على زجاجة الحليب المبتلة بساعدها، وقفت منفرجة الساقين لصق الحائط، واستخرجت من وركيه كل ما استطاع فخذاها أن يستوعبا من لذة. •••
أصبح يأتي بانتظام، حاملا هدايا: عناقيد من التوت الأسود ما زالت فوق فروعها، أربع سمكات مقلية ملفوفة في صفحة من جريدة «بتسبرج كوريير» بلون سمك سليمان، حفنة من السمك صغير الحجم والسن، صندوقين من شراب الليمون، قطعة ضخمة من ثلج العربات، علبة منظف «أولد داتش» بصورة المرأة ذات القلنسوة التي تطرد الوسخ بعصاها، صفحة من مجلة للقصص المصورة، ومزيدا من زجاجات الحليب البيضاء البراقة.
على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن، عندما يشاهد متسكعا حول حمام السباحة، أو صارخا في مستر «فينلي»؛ لأنه ضرب كلبه (كلب مستر فينلي)، أو موجها كلمات الغزل البذيئة للمارات، كان أجاكس رقيقا للغاية مع النساء. وكانت نساؤه، بالطبع، يعرفن ذلك، الأمر الذي قادهن للاشتباك في معارك ضارية حوله، فكثيرا ما خضبت النسوة - لحيمات الأفخاذ، المتشاجرات بالسكاكين - ليالي الجمع بالدماء، واجتذبن الجموع الهادرة. وفي تلك المناسبات، كان أجاكس يقف بين المتجمهرين، يتفرج على المتقاتلات - بنفس اللامبالاة - من عيونه الذهبية التي يتابع بها الرجال المسنين وهم يلعبون الداما. ففيما عدا أمه، التي تقبع في عشتها مع ستة أبناء صغار، عاكفين على جذور النباتات، لم يلتق أجاكس في حياته امرأة جديرة بالاهتمام.
لم تكن رقته مع النساء في عمومها، طقسا من طقوس الغواية (فلم تكن لديه حاجة لذلك)، وإنما عادة اكتسبها من تعامله مع أمه، التي بثت في أولادها روح الكرم والمراعاة لمشاعر الآخرين.
كانت تمارس السحر، وحظيت بسبعة أطفال محبين، يستمدون البهجة من تزويدها بما تحتاجه من نباتات، وشعر، وملابس داخلية، وقلامات أظافر، ودجاج أبيض، ودماء، وكافور، وصور، وكيروسين، وتراب الأقدام، وبأن يطلبوا لها من مدينة «سينسيناتي» «فان فان»، و«هاي جون» الفاتح، و«ليتل جون» من أجل المضغ، وأربطة حذاء الشيطان، والطمي الصيني، وبذور المستردة، والأعشاب التسعة.
كانت عليمة بأمور الجو، والنذر، والأحياء، والموتى، والأحلام، وكافة الأمراض، وتكسب عيشا متواضعا من هذه المهارات. ولو كانت لها أسنان، أو استقام ظهرها وحسب، لصارت أبهى وأروع ما تحمل البسيطة، جديرة بأن يعبدها أولادها لجمالها وحده، فضلا عما تتيحه لهم من حرية مطلقة (مما يعرف في بعض الدوائر بالإهمال)، وثقل معارفها الجليلة.
أحب أجاكس هذه المرأة ومن بعدها الطائرات. ولم يكن ثمة شيء بينهما. فإذا لم يكن مسحورا بالاستماع إلى كلمات أمه، تراه يفكر في الطائرات والطيارين، والسماء العميقة التي تحمل الاثنين. وظن الناس أن رحلاته الطويلة إلى المدن الكبيرة في الولاية، تهدف إلى قضاء أوقات بالغة المتعة يعجزون عن تخيلها لكنهم يحسدونه عليها وحسب، بينما يكون في الواقع منحنيا فوق الأسلاك الشائكة للمطارات، أو متسللا بين حظائر الطائرات كي يستمع إلى حديث الرجال الذين أسعدهم الحظ بالانتماء إلى هذا العالم. وما تبقى من وقت كان يقضيه في الشواغل العادية لعازب بلا عمل في مدينة صغيرة. وكان قد سمع الحكايات الرائجة عن «سولا»، فثار فضوله، وذكرته مراوغاتها، ولا مبالاتها بعادات السلوك المستقرة، بأمه التي كانت صلبة في إيمانها بالسحر والتنجيم، مثلما كانت نساء طائفة القديس «ماثيو» الأعظم في إيمانهن بفضيلة التخليص من الخطيئة بتضحية لصالح الطرف الآثم. وما إن بلغ فضوله الحد الضروري، حتى التقط زجاجتي حليب من شرفة أسرة بيضاء، ومضى إليها، معتقدا أنها المرأة الوحيدة، عدا أمه، التي تمتلك حياتها، وتتعامل مع الحياة بكفاءة، ولا تبالي بإيقاعه في حبائلها.
كانت «سولا» هي الأخرى تشعر بالفضول. لم تكن تعرف عنه شيئا، سوى الكلمة التي ناداها بها منذ سنوات، وما أثاره لديها وقتئذ من مشاعر. وكانت قد ألفت الكليشيهات التي تمتلئ بها حيوات الآخرين، وضاقت ذرعا ببلدة «ميداليون». ولو كانت فكرت في مكان تذهب إليه، فربما كانت قد رحلت، لكن هذا كله كان قبل أن ينظر إليها عبر الزجاج الأزرق، ويقدم إليها الحليب، عاليا، كنصب تذكاري.
لكن الهدايا لم تكن هي التي دفعتها إلى احتوائه بين ساقيها. كانت الهدايا فاتنة بالطبع (وخاصة برطمان الفراشات التي أطلقها في المخدع)، لكن متعتها الحقيقية نبعت من تحدثه إليها. كانت لهما محاورات حقيقية. لم يتعال عليها، أو يحط من شأنها، ولا اكتفى بأسئلة صبيانية عن حياتها، أو بمنولوجات عن نفسه. فقد اعتقد أنها ربما متقدة الذكاء مثل أمه، ولم تخيب ظنه. وفي كل محاوراتهما، كان يصغي أكثر مما يتكلم. وكان من شأن استمتاعه الواضح بصحبتها، واستعداده الكسول لأن يحدثها عن الأرواح الشريرة وقوى النباتات، وعزوفه عن معاملتها كطفلة أو محاولة حمايتها، وافتراضه أنها صلبة العود، قادرة؛ كل هذا بالإضافة إلى وجدان يتميز بالكرم ونادرا ما ينفث حمم الانتقام، هو ما أبقى على اهتمام سولا وحماسها.
كانت فكرته عن الجنة (على الأرض مقابل جنة السماء) لا تتعدى حماما طويلا في مياه شديدة السخونة، وقد استندت رأسه إلى الحافة البيضاء الفاترة، وأغمض عينيه في حلم يقظة.
وقفت في مدخل الحمام، تتطلع إلى ركبتيه اللامعتين، البارزتين فوق سطح مياه الصابون الرمادية: «النقع في المياه الساخنة يسبب لك آلام الظهر.»
أجابها: «النقع في «سولا» هو الذي يؤلم ظهري.» - «هل هو يستحق؟» - «لا أعرف بعد. اذهبي.» - «طائرات؟» - «طائرات.» - «هل يعرف ليندبرج
1
شيئا عنك؟» - «اذهبي.»
تركته، وانتظرته في فراش إيفا المرتفع، وقد استدارت برأسها إلى النافذة المغطاة بألواح من الكرتون. كانت تبتسم وهي تفكر أنه مثل «جود» يعشق القيام بعمل الرجل الأبيض، عندما جاء التوأمان بأسنانهما الجميلة وقالا: «نحن نشكو المرض.»
أدارت رأسها ببطء وغمغمت: «اشفيا.» - «نحتاج بعض الأدوية.» - «ابحثا في الحمام.» - «أجاكس هناك.» - «إذن انتظرا.» - «نحن مريضان الآن!»
انحنت ومدت يدها أسفل الفراش، والتقطت حذاء، قذفتهما به. صرخا: «ماصة ...» قفزت من الفراش عارية مثل كلب فناء. وأمسكت التوءم ذا الشعر الأحمر من قميصه ورفعته من عقبيه فوق السياج حتى بال على نفسه. وانضم إلى الثاني ثالث، وأخذا يبحثان في جيوبهما عن حجارة، ويقذفانها بها. انحنت لتتفاداها وهي تترنح من الضحك، وحملت الولد المبلل إلى المخدع، وعندما تبعها الآخران، بلا أسلحة عدا أسنانهما، ألقت به فوق الفراش، وبحثت في كيس نقودها. أعطت كلا منهم دولارا، اختطفوه، وهبطوا السلم جريا إلى حانوت «ديك» ليبتاعوا دواء السعال الذي يعشقونه.
دلف أجاكس إلى الغرفة والمياه تتساقط منه، واستلقى فوق الفراش، تاركا للهواء مهمة تجفيفه. ولزم الاثنان السكون مدة طويلة قبل أن يمد يده ويلمس ذراعها.
كان يحب أن تركبه حتى يمكنه أن يراها فوقه، ويوجه إليها، مواجهة، البذاءات الرقيقة. اهتزت وتأرجحت، مثل صنوبرة من «جورجيا» فوق ركبتيها، عالية فوق الابتسامة الغاربة، المتلاشية، عالية فوق العيون الذهبية وقلنسوة الشعر المخملية، مهتزة، متأرجحة، وهي تركز أفكارها لتصد الاعتلال الذي كان ينتشر في فخذيها. تطلعت إلى أسفل، أسفل مما بدا علوا سامقا، إلى رأس الرجل الذي كانت ملابسه الجبردين، ذات اللون الأصفر الليموني، هي أول مشاعر جنسية عرفتها. تاركة أفكارها تدور حول وجهه، من أجل أن تكبح، مدة أطول، اندفاع جسدها نحو صمت الأورجازم العالي. (لو أنا تناولت قطعة من جلد الشامواه، ودعكت بشدة العظمة، بالضبط فوق عظمة خدك، فإن بعض الأسود سيتلاشى. سوف يتقشر ويعلق بالشامواه، كاشفا عن رقيقة من الذهب. يمكنني رؤيتها تلتمع خلال السواد. أعرف أنها هناك).
كم بلغ سموقها فوق جسده، الصولجان النحيل، كم كانت مراوغة ابتسامته الزلقة. (ولو أنا أخذت مبرد أظافر، أو حتى قشارة إيفا القديمة - فهي تصلح - وكشطت الذهب، سيتساقط كاشفا عن مرمر. فالمرمر هو الذي يعطي وجهك تدرجاته واستداراته. هو السبب في أن ابتسام فمك لا يبلغ عينيك. فالمرمر يعطيه وقارا يقاوم الابتسامة الكلية).
أصابها العلو والأرجحة بالدوار، فانحنت، وتركت ثدييها يحكان صدره. (عندئذ ألتقط أزميلا، ومطرقة صغيرة، وأنقر فوق المرمر لأكشطه، سيتصدع عندئذ كما يفعل الثلج أسفل المعول. وخلال الشقوق سألمح الطفلة، خصبة، خالصة من الحصى وأغصان النباتات. لأن الطفلة هي التي تكسبك تلك الرائحة).
انزلقت يداها تحت إبطيه؛ لأنها أدركت عجزها عن الحيلولة دون انتشار الكلل الذي شعرت به أسفل جلدها إلا إذا استندت إلى شيء ما. (سوف أدس يدي عميقا في تربتك، وأرفعها، وأنخلها بأصابعي، متلمسة سطحها الدافئ وقشعريرة الندى تحته).
أراحت رأسها أسفل ذقنه، وقد ضاع كل أمل في صد أي شيء. (لسوف أروي تربتك، وأحفظها غنية مبللة. لكن بأي مقدار؟ كم من المياه تكفي للمحافظة على بلل الطفلة؟ وكم يعوزني من الطفلة لكبح مياهي؟ ومتى تصنع الاثنتان طينا؟)
ابتلع فمها، كما ابتلع فخذاها أعضاءه، وساد المنزل هدوء بالغ. •••
بدأت «سولا» تكتشف معنى الامتلاك. ليس الحب، ربما، وإنما الامتلاك، أو على الأقل، الرغبة فيه. روعها هذا الشعور الجديد عليها والغريب. في البداية، كان الصباح الذي سبقته تلك الليلة، عندما تساءلت عما إذا كان سيمر عليها بالنهار. وبعد ظهر يوم آخر وقفت أمام المرآة، تتلمس بأصابعها خطوط الضحك حول فمها وتحاول أن تقدر مدى جمالها. وانتهت من هذا البحث العميق بتجربة شريط أخضر في شعرها. أحدث الحرير الأخضر عندما مررته في شعرها همسة متموجة، أشبه بضحكة خافتة صادرة عن أمها، هس بطيئة خفيفة من الأنف، اعتادت أن تصدرها عندما يسرها أمر. مثل جلوس النساء ساعتين أسفل مكواة الشعر، ليتساءلن بعد يومين عن قرب احتياجهن لموعد جديد. وأعقب ربط الشريط نشاط آخر. وعندما جاء أجاكس في المساء، جالبا لها مزمارا من القصب نحته لها بنفسه في الصباح، لم تكن بالشريط الأخضر وحسب، وإنما كان الحمام يلمع، والسرير مرتبا، والمائدة معدة لاثنين.
أعطاها مزمار القصب، وفك رباط حذائه ثم جلس في مقعد المطبخ الهزاز.
اقتربت منه وقبلت فمه. وتحسس هو مؤخرة عنقها بأصابعه.
سألها: «أراهن أنك لم تفتقدي ابن القطران، أليس كذلك؟»
قالت: «أفتقده؟ كلا، أين هو؟»
ابتسم للامبالاتها اللذيذة: «في السجن.» - «منذ متى؟» - «السبت الماضي.» - «أمسكوه ثملا؟» - «أكثر من ذلك قليلا.» ومضى يحكي لها اشتباكه في إحدى بلاوي «ابن القطران».
لم يبد عليه أنه منزعج كثيرا لما حدث. الضيق فقط وعدم الارتياح. فقد سبق له الاحتكاك بالشرطة عدة مرات، أغلبها في غارات القمار، ويعتبر ذلك من المخاطر الطبيعية في الحياة الزنجية.
لكن سولا، بالشريط الأخضر اللامع في شعرها، غمرها الشعور بوقع العالم الخارجي عليه. فاستقرت على ذراع الكرسي الهزاز، وتخللت مخمل شعره بأصابعها وهي تغمغم: «استند علي.»
طرف أجاكس بعينيه. ثم ألقى على وجهها نظرة سريعة. كان في كلماتها، وصوتها، نغمة يعرفها جيدا. ولأول مرة رأى الشريط الأخضر. وتطلع فرأى المطبخ يومض، والمائدة معدة لاثنين، والتقط رائحة العش. انتصبت كل شعرة فوق جسده، وعرف أنها سرعان ما ستوجه إليه، ككل شقيقاتها اللاتي سبقنها، السؤال-الإنذار: «أين كنت؟» وغامت عيناه بأسف عابر.
نهض واقفا ، وارتقى الدرجات معها، ولج الحمام الناصع، الذي أزيل الغبار من أسفل حوضه. كان يحاول أن يتذكر تاريخ العرض الجوي في «دايتون». وعندما دخل المخدع، رآها راقدة فوق ملاءات بيضاء جديدة، محفوفة بالرائحة المميتة لكولونيا مستخدمة في التو.
جذبها أسفله، وأحبها بكل العزم والحدة، القمينين برجل على وشك الرحيل إلى «دايتون». •••
بين الحين والآخر، تنظر حولها، تتطلع حولها، بحثا عن دليل ملموس، يؤكد لها أنه كان هنا. أين ذهبت الفراشات؟ التوت البري؟ المزمار القصبي؟ لم تجد شيئا من ذلك، لأنه لم يترك غير غيابه المدوخ المذهل. غياب زخرفي، منمق، يحول بينها وبين أن تفهم، كيف أمكنها أن تتحمل - دون أن تتهاوى ميتة، أو تتلاشى - حضوره الفائق الروعة.
لم تكن المرآة المجاورة للباب مرآة بجوار الباب، وإنما مذبح وقف أمامه لحظة، قبل أن يغادر، ليرتدي قلنسوته. الكرسي الهزاز الأحمر، كان هزازا لفخذيه عندما جلس في المطبخ. ومع ذلك، لم يكن ثمة شيء منه، من ذاته، يمكن العثور عليه. كأنما خشيت أن يكون الأمر مجرد هلوسة، وأرادت برهانا على الحقيقة. كان غيابه في كل مكان، يلسع كل شيء يعطي الفرش ألوانه الأولية، وأركان الغرف خطوطا حادة، والغبار الذي تجمع فوق سطوح الموائد ضوءا ذهبيا. أثناء حضوره كان يجتذب كل شيء نحوه. ليس فقط عينيها، وكل حواسها، وإنما أيضا الأشياء المجردة من كل حياة، بدت وكأنها تدين إليه بوجودها، ستائر خلفية لمسرح حضوره. والآن وقد ذهب، فإن هذه الأشياء التي طغى عليها حضوره طويلا، قد غمرها السحر في أعقابه.
وذات يوم، بينما هي تنقب في أحد الأدراج، عثرت على ما كانت تبحث عنه، البرهان: رخصة قيادة. كانت تحمل كل ما احتاجت إليه تماما من أجل التثبت. المواصفات الأساسية: الميلاد 1901م، الطول 5,11، الوزن 152 رطلا، العيون عسلية، الشعر أسود، اللون أسود. أجل، البشرة سوداء. شديدة السواد. سوداء لدرجة أن الدعك طويلا وبعناية بالصوف الفولاذي، سيزيل اللون، لتتجلى لمعة رقيقة الذهب، وتحتها المرمر البارد، وأسفله، تحت خالص أسفل المرمر البارد، مزيد من السواد، لكنه هذه المرة سواد الطفلة الدافئة.
لكن ما هذا؟ ألبرت جاكس؟ اسمه ألبرت جاكس؟ أ. جاكس. وكانت تظنه أجاكس. كل تلك السنوات. منذ اللحظة التي مشى فيها إلى جوار قاعة السباحة، وأشاحت عنه بعينيها وقد جلس منفرج الساقين فوق مقعد خشبي، أشاحت بعينيها لتتجنب الفضاء الواسع من الترتيب المفرط بين ساقيه، الفضح الذي لا يحمل أية علامة، لا علامة على الإطلاق، للحيوان الرابض في بنطلونه، أشاحت بعيدا عن منخريه المتغطرسين، والابتسامة التي ظلت تنزلق وتهوي، تهوي حتى أرادت أن تمد يدها وتمسك بها قبل أن تبلغ الرصيف، وتتلطخ بأعقاب السجائر وأغطية الزجاجات، والبصاق، أسفل قدميه، وأقدام الرجال الآخرين الذين جلسوا أو وقفوا خارج القاعة، يصيحون ويغنون لها هي و«نيل» والنساء البالغات أيضا، أناشيد مثل «لحم الخنزير»، و«السكر العسلي»، و«يا إلهي، ماذا فعلت لأستحق الغضب» و«خذني أيها المسيح، فقد رأيت الأرض الموعودة»، و«تذكرني يا إلهي»، بأصوات متلعثمة، رققتها عاطفة فقدت الأمل. حتى وقتئذ، عندما كانت هي و«نيل» تحاولان جاهدتين ألا تحلما به، وألا تفكرا به عندما تلمسان النعومة الملساء تحت ملابسهما الداخلية، أو تحلان ضفائر شعرهما بمجرد أن تغادرا المنزل، ليتموج ويتطاير حول آذانهما، أو يلفا الأربطة القطنية حول صدريهما، حتى لا تخترق الحلمات قماش البلوزتين، فتعطيه ذريعة لأن يبتسم ابتسامته المنزلقة الهاوية، التي ترسل الدماء في بشرتيهما. وحتى فيما بعد، عندما رقدت لأول مرة مع رجل، ونطقت اسمه مكرهة، أو قالته وهي تعنيه (هو)، لم يكن الاسم الذي تهتف به وتتلفظه هو اسمه على الإطلاق.
وقفت وبين أصابعها قطعة بالية من الورق وقالت بصوت مرتفع، مخاطبة لا أحد: «لم أعرف حتى اسمه. وبما أني لم أعرف اسمه، فليس هناك ما عرفته، ولم أعرف شيئا على الإطلاق منذ كان الشيء الوحيد الذي أردت أن أعرفه هو اسمه، فكيف إذن لا يتركني وقد كان يمارس الحب مع امرأة لا تعرف حتى اسمه.» - «وأنا طفلة، كانت رءوس عرائسي المصنوعة من الورق تنفصل عن أجسادها، ومضى وقت طويل قبل أن أكتشف أن رأسي أنا لن يقع إذا ما أحنيت عنقي. اعتدت أن أمشي برأس متصلب خوفا من أن تنقصف رقبتي إذا ما هبت عليها ريح قوية أو تعرضت لدفعة شديدة. «نيل» هي التي صححت لي أوهامي. لكنها كانت مخطئة. فلم يكن رأسي متصلبا بالقدر الكافي عندما التقيته، ففقدته مثل العرائس.» - «حسن إنه رحل. فسرعان ما كنت سأمزق اللحم عن وجهه لأتأكد من أمر الذهب، وما كان أحد ليفهم هذا النوع من الفضول. كانوا سيعتقدون أني أردت إيذاءه، كما حدث مع الصبي الصغير الذي سقط فوق السلم وكسرت ساقه، وظن الناس أني دفعته، لمجرد أني انحنيت فوقه أتفحصها.»
زحفت إلى فراشها، ورخصة القيادة بين أصابعها، واستغرقت في نوم مفعم بأحلام زرقاء مخضرة.
وعندما استيقظت، كانت في رأسها نغمة لم تتمكن من تمييزها، ولم تتذكر أنها سمعتها من قبل. فكرت: «لعلني ابتدعتها.» ثم تذكرت؛ اسم الأغنية وكل كلماتها كما سمعتها من قبل مرات عديدة. جلست على حافة الفراش تفكر: «لم تعد هناك أغان جديدة، وقد غنيت كل ما هو موجود منها. غنيتها كلها. كل الأغاني الموجودة.» وعاودت الرقاد، ومضت تترنم بنغمة قصيرة نشاز تتألف من كلمات «غنيت كل الأغاني، كل الأغاني، غنيت كل الأغاني الموجودة.» حتى تأثرت بتهويدتها، فنعست، وفي غور حافة النوم ذاقت طعم الذهب الحريف، وشعرت بقشعريرة المرمر، واشتمت النتانة السوداء الحلوة للطفلة.
القلب النازف
للكاتبة الأمريكية مارلين فرنش (1980م)
The bleeding heart by Marlyn French (1980) («دولوريس» أستاذة جامعية أمريكية في الخامسة والأربعين من عمرها، مطلقة ولها طفلان، طويلة، نحيفة، ينحني كتفاها دائما إلى الأمام «كأنما تحاول حماية ثدييها أو قلبها.»
منذ البلوغ، اعتبرت النشاط الجنسي عبودية للجسد، فنظرت إليه بامتعاض. لكنها تعلمت على مر الأعوام، أن تثق بجسدها: «فهو الشيء الوحيد الذي ينبئك بالصدق. العقل يكذب، لكن الجسد لا يفعل.»
تحصل على منحة دراسية في جامعة «أوكسفورد» الإنجليزية لمدة عام. وفي القطار تلتقي «فيكتور»، نائب مدير شركة أمريكية كبرى للإلكترونيات، في نفس عمرها، متزوج وله أطفال، جاء إنجلترا ليفتح فرعا لشركته.
تنشأ بين الاثنين علاقة. وتحدثه عن ماضيها فتقول إنها التزمت العفة عدة سنوات: «مررت بفترة سيئة مع رجل كنت مجنونة بحبه. أو ظننت أني مجنونة بحبه. ولم تندمل جراحي لبعض الوقت. ثم بدأت أعمل في كتابي الثاني، عن صور المرأة في أدب عصر النهضة .. واستحوذ هذا العمل على كل كياني، وملأني بالغضب .. الغضب مما ارتكب في حق النساء. وبالإضافة إلى ذلك، كان الكتاب يأخذ كل وقتي؛ كل الوقت الذي لا أقضيه في التدريس ورعاية الطفلين، اللذين كانا في دور المراهقة وقتها، والعناية بالمنزل، والتنظيف، والطهي .. لم يكن لدي وقت لأي شيء آخر .. هكذا انتقلت إلى مرحلة العفة».)
سرعان ما اتخذت حياتهما معا نسقا واضحا، روتينيا، وهو ما كانت دولوريس تفزع منه. لكن شهرا انقضى دون أن تتعرض علاقتهما لشيء. كانت لفيكتور شقة في لندن تدفع شركته إيجارها. وكان يقضي بها أغلب ليالي الأسبوع، ثم يأتي إلى «أوكسفورد» ليقضي معها نهاية الأسبوع. وعندما تطلب عملها أن تتردد على المتحف البريطاني يومين، أقامت معه في لندن. وعندما طرأ له عمل في أوكسفورد، أقام في فندق «رادولف» وصار يأتيها في الأمسيات. ولم يحدث أن أخذها معه إلى الفندق. لاحظت ذلك.
أحيانا سيضطر إلى القيام برحلات عمل إلى «مانشستر» أو «بيرمنجهام» «أوليدز». وأحيانا إلى القارة. ذكر لها هذا في سرور. ألن يكون الأمر رائعا لو ذهبنا سويا؟ سيستأجر سيارة، وينطلقان بها. سيكونان معا، ويشاهدان شيئا من إنجلترا.
تراجعت قليلا إلى الوراء: «أجل .. أظن ذلك .. وقتا ما ...» - «ألا تريدين؟» غير مصدق. - «أجل .. سأحب ذلك .. عندما أستطيع.» - «وما الذي يمنعك؟» - «فيكتور. عندي عمل لا بد من القيام به. لدي سنة واحدة فقط هنا، ومادة كثيرة تتطلب الدراسة.» - «ألا يمكنك أن تأخذي عملك معك؟ أنت تعملين هنا.» وأشار إلى مائدة غرفة المعيشة التي تكومت فوقها المذكرات، وبطاقات الأرشفة. - «أحيانا. الأمر يتوقف على النقطة التي أعالجها. أحيانا لا بد من العمل في المكتبة.»
لزم الصمت، عابسا، بينما كانت تعض شفتها من الداخل.
قال أخيرا: «لدينا فسحة ضئيلة من الوقت. وأريد أن أستغل كل دقيقة ، كل دقيقة تتاح لنا.» - «وأنا أيضا. لكني لا أطلب منك أن تنتزع أياما من عملك.» - «الأمر مختلف.» - «لماذا؟» دائما الأمر مختلف عندما يتعلق بالمرأة. فأيا كان ما تفعله، فهو بغير أهمية. «تود» الذي كان يتوسل إليها أن تدق له رسالته على الآلة الكاتبة. وتقول له: «عندي امتحان تخرج.» فيرد: «الأمر مختلف. فليس لديك موعد نهائي.» وكان ذلك هو نهاية تلك العلاقة.
قال: «لا حيلة لي في نظام حياتي. فهو مفروض علي من الخارج. فيجب أن أكون في أماكن معينة في أوقات معينة. أما أنت فتملكين تنظيم وقتك كما تشائين.»
قالت في فتور: «العمل هو الذي ينظم حياتي.»
نهض واقفا ومضى إلى المطبخ. كان بوسعها أن تسمعه وهو يعد القهوة. وانصرفت إلى أوراقها.
عاد بفنجان واحد من القهوة، وجلس في طرف الحجرة، عابسا.
توقفت عن العمل ونظرت إليه. «فيكتور. ما قولك لو طلبت منك أن تتغيب يومين عن عملك لنذهب إلى «الدبرج» حيث نقضي عطلة نهاية أسبوع طويلة؟» - «أين؟» - «الدبرج. أي مكان.» - «سأقول إني سأرى. سأحاول.» - «حسنا. هذا هو ما قلته أنا لك.»
قال عابسا: «أوكي.»
قالت ساخطة: «ماذا تريد مني؟» - «لا شيء. لا شيء.» يحاول أن يبدو شهيدا! - «أنت معتاد على المرأة التي تلقي بما في يدها بمجرد أن تناديها. أليس كذلك؟ هل لديك صفارة؟» شريرة.
حملق فيها مغضبا: «لم أحتج لواحدة أبدا.» شرير مضاد.
لكنها ضحكت، فضحك بدوره، في شيء من المرارة والعناء، مرتبكا.
قال: «أوكي. ستحاولين. ما رأيك في الثلاثاء والأربعاء القادمين؟ علي أن أذهب إلى برمنجهام.» - «سأحاول. سأحاول.»
بشفتين مطبقتين: «متى تعتقدين أنه سيكون بوسعك إخباري؟ لأني سأذهب بالطائرة إن لم تأت؛ فهي أسرع. ثم هناك الترتيبات والحجز واستئجار سيارة.» - «سأعرف يوم الجمعة. سأرى قدر ما أنجزت، والنصوص التي يتعين علي مراجعتها.» - «سيكون هذا متأخرا بعض الشيء.» - «إذن قم بالعمليتين. احجز في الطائرة وفي السيارة. ثم ألغ الحجز الذي لن تحتاجه.» - «لست في حاجة لمساعدات في إيجاد مخرج، شكرا.»
عادت إلى عملها نافدة الصبر. وجلس يحتسي القهوة ، وقد تناثرت أوراقه على الأرض إلى جوار مقعده، بينما استقرت حقيبة أوراقه فوق المقعد الوطيء. وفجأة ركل المقعد.
رفعت بصرها إليه. إنه يتصرف حقا كالأطفال.
قال: «أعرف، أعرف. أفهم، لكني لم أعتد ذلك بعد. سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى آلفه .» - «تألف ماذا؟» - «أنت! دماغك المتصلبة.» - «دماغي المتصلبة!» مجرد الرغبة في إنجاز العمل؟
ابتسم في بذاءة: «عنادك إذن!»
بادلته الابتسامة البذيئة: «كل ما عليك أن تألفه هو قليل من المرونة.» - «أوكي، أوكي.» وركل المقعد حتى قلبه. «لقد سئمت هذه الأوراق. تعالي نخرج ونتريض قليلا.»
تصلب ظهرها. كانت في وسط شيء وتريد أن تنتهي منه.
قالت: «أوكي.»
نهضا واقفين، وتقدم منها فوضع يده على ظهرها. - «للأمانة يا لوري، لم أقصد مضايقتك.» - «ألم أطلب منك ألا تناديني بهذا الاسم؟» - «أنا أحبه. ألا يمكنك أن تكوني مرنة قليلا أنت الأخرى؟» - «بشأن اسمي؟» يظن الرجال أن بوسعهم إطلاق ما يشاءون من أسماء على النساء، لأن هذا ما فعله آدم. وبهذا يعطون المرأة الشكل والوظيفة اللذين يريدونهما لها. «طوال أعوام زواجي، لم يدعني زوجي باسمي مطلقا.» - «كيف كان يدعوك إذن؟» - «حسب الأحوال. عسل، وحلوة، أو فاجرة وعاهرة.»
ضحك: «خطيئة لم أرتكبها.» - «لكنك فعلت. لوري. إنها تحط من شأني.» - «إنها تعبر عن الحب.» - «لوري. جودي. جيل. بانسي. أسماء فتيات صغيرات. نحن نعطي النساء أسماء لا يمكنهن أن ينضجن وينمون معها. هل بوسعك أن تتصور سيدة في التسعين من عمرها تدعى «جودي»؟ أو «جيل» بصلعة وعكاز؟ أو«دونا» تخلع أسنانها الصناعية؟» - «يمكنك أن تناديني بما شئت من أسماء، وسأستجيب لك دائما.» وابتسم متظاهرا بالعهر، ثم مضى إلى الصالة ليجلب سترتيهما.
ابتسمت في خبث: «وماذا عن أنتوني؟» - «ماذا قلت؟» بصوت غير واضح من بين المعاطف. عند باب المسكن. «ماذا؟ أوه، اسم زوجك؟»
ورأى ابتسامتها، فانفجر ضاحكا، وانقض عليها، وصارعها إلى أن أوقعها أرضا، وكانت تلك هي نهاية التمشية المقترحة. •••
في النهاية، مضت معه إلى برمنجهام. انطلقا فوق طرق السيارات، مخترقين الأراضي الإنجليزية الخضراء. كانت الأبقار تستريح فوق سهول من المخمل الأخضر، بينما انتصبت في الأفق مداخن بيضاء .. أجزاء من مولدات كهربائية، وبالقرب أبراج كهرباء تحمل أسلاكا سميكة متأرجحة.
قالت وهي تومئ إلى المشهد: «إنهم يفعلون ذلك أفضل منا .. أقصد الجمع بين الصناعة والأرض الزراعية.» - «في بعض الأماكن. لكن معدل الإنتاج لديهم لا يرقى إلى مثيله عندنا أبدا.» - «من السهل أن تكون فعالا وأكثر كفاءة عندما تريد شيئا واحدا وحسب.»
رمقها بنظرة سريعة: «ماذا تعنين؟» - «إذا كان الربح هو كل ما يعنيك، يمكن أن تحصل عليه بسهولة. أما إذا كنت تهتم أيضا بأمر الأرض التي تلوثها، والناس الذين تسممهم، وبسلامة المنتج الذي تصنعه، لن يكون الأمر سهلا. فأمامك أهداف عديدة، ولا بد أن تكون دائريا لا خطيا.» - «التفكير الدائري لا يؤدي إلى شيء. فهناك الكثير منه. كثير من النقاد ذوي الرءوس الخفيفة الذين لا يعرفون عم يتحدثون.» - «تقصد أنصار حماية البيئة؟» - «هم وغيرهم. الأكاديميون. من لا يملكون السلطة وينتقدون حائزيها.» - «أوه، فيكتور، هل تظن حقا أن هذا هو كل ما في الأمر؟ وأنه لا يوجد أساس حقيقي للاهتمام بالقضايا العامة؟» - «بالتأكيد يوجد لدى البعض. لكن ما أعرفه، هو أن الدوافع الحقيقية للبشر، برغم ما يدعونه، هي حيازة القوة والسطوة. السطوة هي ما يسعى وراءه الجميع في واقع الأمر.»
حاولت أن تكيف ذهنها، وتحول تروسه إلى نقطة تمكنها من مجادلته. وكان ذلك عسيرا. فقد بدا لها حديثه آتيا من أرض غريبة تماما عن تلك التي عاشت فيها، ولم تجد العبارات الواضحة التي تمكنها من اختراق الحدود.
بدأت في تردد: «هناك أنواع كثيرة من السطوة.»
وافقها في سرور: «بالتأكيد. ولدى كل شخص النوع الذي يناسبه. هذا ما يجب أن يدركه فاعلو الخير. الجميع يعرفون ما يريدون، وهم يحصلون عليه.»
انتصب جدار في الحدود القائمة بين بلديهما. - «القوة السياسية لا يريدها كل إنسان. ولا يستطيع الجميع استخدامها. لكن كل واحد يريد بعضا منها. ولدى الجميع بالفعل هذا البعض. وقد تكون مجرد السلطة على الزوجة والأولاد، أو في لعبة كرة أو شطرنج.» - «القوة التي تتحدث عنها تبدو ذكورية تماما .. السلطة على الزوجة والأولاد؟» - «أوه، يا للنساء! يا إلهي، هل راقبتهن عن كثب، هاته الأمهات، التابعات، السلبيات، المجردات من كل حيلة؟ إياك أن تقللي من شأن قوة الضعفاء والعاجزين!»
حدقت فيه صامتة. كان يقود بسرعة . ولم تربكه القيادة على الجانب الأيسر من الطريق. كانت نافذته مفتوحة، يهب منها الهواء على شعره، وذراعه اليمنى مستقرة على حافة النافذة، بينما يسراه توجه المقود في ثقة. بدا لها جميلا، بدا لها كأنه يقود قاربا في مواجهة الرياح. جميل وواثق ومحدد. يعرف ماذا يفعل. ويعرف فيم يفكر. ويملك العبارات التي يعبر بها عن أفكاره.
من السهل أن تكون جميلا، وأن تكون متناسقا مع نفسك، عندما تفكر بنفس الطريقة التي تفكر بها القوى الموجودة في عالمك. سهل جدا أن تكون على صواب، واثقا، واضحا، إذا كنت رجلا، أبيض، مهتما بالربح، وناجحا، بينما هي عاجزة عن صياغة عبارة واحدة تجادله بها.
حاولت من جديد: «هناك القوة (ل) فعل شيء ما، ويجب أن تتوفر للكافة، لكنها ليست موجودة لدى الجميع. القوة لعزف «باخ»، أو للعب التنس. وهناك القوة (فوق) شيء أو إنسان، ولا يجب أن يتمتع بها أحد، لكن الناس يمارسونها.» - «ها، ها! أرأيت أبدا عالما لا يفعلون فيه غير ذلك؟ إنك تحولين الواقع إلى موضوع أكاديمي، إلى علم سياسي أو شيء آخر ملعون. كل شخص يملك شكلي القوة اللذين تصفينهما.» - «بالله عليك يا فيكتور، ما هو نوع القوة التي يملكها طفل أسود في أحياء الزنوج الفقيرة المزدحمة؟ أو عامل زراعي متجول؟ أو امرأة غير متعلمة مع زوج متوحش تعمل في مصنع مع ملاحظ على نفس الدرجة من الوحشية؟» - «ربما القوة على تمزيق شخص ما إربا، أو لجمع كمية من الخس أكثر من غيره، أو لطهي حلة كبيرة من اليخني. لا أعرف. أعرف فقط أن كل إنسان يمتلك شيئا ما.»
انفجرت كالقذيفة: «لم ألتق في حياتي بمثل هذا القدر من الرضا عن النفس! ما أجمل أن تعتقد أننا نحصل على كل ما نرغب فيه، ونمتلك جميعا ما نستحقه! ما أجمل أن تتصور البشر جميعا في حالة حرب - لأن هذا هو ما تقوله في الحقيقة - عندما تكون بين الرابحين! أما الحقيقة فهي أن كثيرا من الناس لم تتح لهم حتى الفرصة ليعرفوا ما يريدونه، فضلا عن التوصل إلى وسائل الحصول على هذا الذي يريدونه!» - «الأمر لا يحتاج إلى فرصة، يحتاج فقط إلى مجرد التفكير.» - «إنه يحتاج إلى فضاء! فضاء للاختيار، فضاء لتقليب الإمكانيات. أية امرأة هندية في بلدة ناعسة بجواتيمالا لا يمكنها أن ترى ما وراء قريتها المغبرة، ولا تستطيع أن ترى لنفسها مستقبلا يختلف عن ذلك الذي تعيشه أمها وخالاتها وأخواتها وصديقاتها.» - «وما هو الخطأ في هذا؟» - «الخطأ في هذا أنها ربما تكون تعسة!» - «هراء. إن تطلعاتها ليست كبيرة، وبالتالي فهي غالبا أقل تعاسة من امرأة من الطبقة المتوسطة ذات طموح. وعندما تصبح بلدة امرأتك الناعسة في جواتيمالا مستعدة للتقدم، ستعثر عليه.»
أطبقت يديها بعنف حتى حفرت أظافرها في راحتيها.
واصل: «أغلب الناس يعيشون في حالة من اللامبالاة وفتور الشعور. وهؤلاء لا يستحقون مني تنهيدة.»
تكلمت بهدوء وحزن: «كأنك تؤمن بأن كل ما يحتاجه الناس هو الطموح والإرادة. لكن هناك الملايين الذين لن يتاح لهم أبدا إمكانية الاختيار لأنهم لا يرون جيدا، ولا يملكون الطاقة لذلك؛ لأنهم لم يتلقوا غذاء كافيا. الناس يوضعون قسرا في الأماكن التي يحتلونها في الحياة.» •••
كيف حدث أنها أصبحت عازفة عن الجنس؟ متى بدأ ذلك، متى بدأت الوجوه تتلاشى، والأفواه تنفرج وتنغلق من تلقاء نفسها، في بلاهة وغباء، مرددة أنا، أنا، أنا، سيارتي، مباراة الكرة، أفضل مطعم في لندن باريس نيويورك ميلواكي، نفس الأشياء مرارا وتكرارا ... متى بدأت أذناي تنغلقان؟ هل حدث ذلك بعد (سول)، الذي أخذ خطوتين إلى الأمام وثلاثا إلى الخلف؟ أم (دوج) الذي كان يمارس الجنس ثم كف مجللا بالعار؟
أو لأنها في كل مرة تتعرض فيها لتجربة سيئة مع رجل تقول: لن أكرر هذا ثانية .. أقل شخصا ما إلى برينستون، وأصغي إلى مشاكل صبي مع أهله، ولا أبدي غضبي عندما أكون جائعة .. وكل «لن أكررها ثانية» تؤدي إلى مسافات أطول وأطول بين العشاق. وأخيرا لا عشاق بالمرة.
وبفطنتها، كانت تقرأ بسهولة، وتفسر السلوك، فتحذر ما إذا كان أحدهم يريد أمومة، تمريضا، تطبيبا، علاجا نفسيا، تثقيفا، استرضاء، إطعاما، ملاطفة، مديحا. عطاء، عطاء، عطاء. دائما.
ولم لا؟ العبودية للجسد، الجنس. وفضلا عن ذلك، ليس الجنس هو ما تريده النساء من الرجال في واقع الأمر. فهن يشبعن أنفسهن بشكل أفضل. إنما هو شيء آخر، الرغبة في جسد من ورائك، يمكنك أن تستند إليه برأسك، وتثق في أنه لن يتحرك من مكانه، لن يجز رقبتك، أو يقطع رأسك، أو يجذب شعرك. إنه رفقة شخص ما موجود. كارول بصوت متبلد: «أجل، 25 سنة. إنها مدة طويلة. ليس زواجا ناجحا. بل هو ميت تماما. فنحن لا نتحدث. إننا مجرد ساكنين لنفس المنزل. كل ما هنالك أننا نعيش في منزل واحد. شيء واحد هو الذي يبقيني هنا، وهو يساوي كل الملل والروتين. إنه الرقاد في الفراش إلى جواره. لست أتحدث عن الجنس. فقط الرقاد إلى جواره. وجسده دافئ ومتين إلى جواري. إنه أمر لطيف. مريح.» •••
لماذا تتكرر القصة القديمة دائما؟ دائما المرأة هي التي تدفع الثمن، رغم كل النوايا الطيبة من الجميع.
Halaman tidak diketahui