Pembaruan Pemikiran Arab
تجديد الفكر العربي
Genre-genre
رب وسيلة أصبحت غاية في ذاتها، ذلك يحدث في حياة الأفراد وفي حياة الأمم وفي حياة الثقافات وفي كل صور الحياة، فقد ضربت الحركات اللاعقلية التي أشرنا إلى أطراف منها، ضربت بجذورها في الأرض ونشرت فروعها في الهواء. ليس ما يهمني الآن هو تفصيلات ما زعمته طوائف الزنادقة من سخافات، ولا ما استهدفت إليه في حقيقة الأمر من غايات سياسية شطرت المسلمين عربا وفرسا، إنما الذي يهمني فيما أنا بصدد الحديث فيه، هو أولا وقبل أي شيء آخر ما نتج عن هذا كله من ميل يشد الناس إلى الغيب الملغز المجهول، يريدون أن يصلوا إليه في خفائه، وأن يهتكوا حجب الظاهر ليشهدوا شهادة مباشرة؛ فقد تكون دعوات الزنادقة مقتصرة في أهدافها النفعية العملية على قلة مغرضة هادفة مستغلة، لكن هذا الذي كانوا يدعون إليه قد تسلل - من حيث صحيحه إن لم يكن من حيث تفصيلاته - تسلل إلى قلوب الجماهير؛ لأن جماهيرنا منذ الأزل - أزل التاريخ المدون - مفتونة بالغيب دون الشهادة، بالباطن دون الظاهر، بالخفاء دون العلن، بالإضمار والرمز دون الإفصاح وصراحة التعبير، فإذا وجدت رياحا تهب علينا من هنا أو هناك، تميل برءوسها نحو المستور المحجوب، مالت معها وهي في حالة من سكر النشوة والوجد.
اجتاحت جماهير الناس موجات من اللاعقلانية الهيمانية، بل ربما كانت هذه اللاعقلانية مفروزة في طبائعها كألوان جلودها، تنفر ممن يحاول إزالتها وتميل مع من يزيدها في أنفسهم رسوخا، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، فإذا عقل بعضهم كان ذلك قبسا دخيلا على طبع أصيل، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات و«الكرامات» والخوارق بأسرع من رؤية البرق إذا لمع.
فكان لا بد من تيار مضاد، كان لا بد من «عقل» ينهض ليلجم الخيال الشاطح في سمادير الوهم، فكان أن ادعى الداعي إلى أن تنقل الفلسفة والعلوم من مصادرها. إن كاتب هذه السطور لتساوره شكوك كثيرة بالنسبة إلى الدوافع الحقيقية التي دفعت الدعاة إلى نقل الفلسفة والعلوم، ظاهر الأمر قد يعمينا عن باطنه - ومن الخير أن يعمينا - فظاهر الأمر أن خلفاء الدولة العباسية أرادوا الحضارة بكل ازدهارها، فأرادوا أن تضاف إلى علوم الغرب من لغة وشعر علوم الأولين من هنود وفرس ويونان، وخصوصا اليونان، لكن الذي يستوقف النظر ولو للحظة قصيرة عابرة أن أصحاب الحركات التي أدت إلى دعوات الزنادقة في لا عقلانيتها هم أنفسهم الذين أخذتهم الرغبة في أن يترجم العلم وأن تترجم الفلسفة بكل ما يحمله العلم والفلسفة من عقلانية تقيس النتائج على المقدمات، لماذا؟ هل أحسوا إذ أطلقوا مارد العصبية الثقافية أنهم ربما أطلقوا جبارا يهدد سلطانهم فأرادوا له الشكيمة؟
لقد كان الفارق فسيحا بين ما ينزع إليه الناس بحكم الطبع الموروث، وبين ما نقلت الثقافة اليونانية لتدعوهم إليه، فالناس في هذه المنطقة من الأرض، وفي ذلك الزمن - على الأقل - إن لم يكن على امتداد الزمن، تهولهم الفجوة الفاصلة بين ظاهر العالم وباطنه، بين المخلوقات وخالقها، ويتشوفون إلى طريق يعبرون عليه تلك الفجوة مستدبرين الظاهر ومقبلين على الخفي الباطن؛ ومن ثم كانت الرغبة الجامحة في أن يروا ذلك الخفي وقد لبس ظاهرا ليشهدوه، على حين صميم الروح اليونانية هو هذا الشخص الإنساني بما يمتاز به من منطق ومن إدراك للقيم الموضوعية التي ينظم بها سلوكه فردا وعضوا في جماعة. صميم الروح اليونانية هو أن تنزل الآلهة من قمة الأولمب لتعيش مع الناس، لا أن يتحول الناس إلى دخان ليلحقوا بالآلهة في مساكنها من السماء.
وبرغم هذا الفارق الفسيح، نقلت ثقافة اليونان، ورحبت بها الصفوة المفكرة كما رحبت بها الدولة الرسمية؛ لتكون أداة فعالة بعقلانيتها في محاربة الحركات اللاعقلانية التي تشد المسلمين إلى ما قبل الإسلام من عقائد زرادشت وماني ومزدك وغيرهم. وكان المتكلمون - والمعتزلة منهم بصفة خاصة - هم أول فئة تستخدم هذه الأداة العقلية اليونانية في دفاعها عن الإسلام وقيمه وعقائده وشرائعه، ولم يكن المتكلمون كلهم من صنف عقلي واحد، بل تفاوتوا في ركونهم إلى العقل درجات، بين متطرف ومعتدل، لكنهم اتفقوا جميعا على الهدف، وهو تخليص الإسلام مما أوشك أن يصيبه من ردة روحية، تستبدل بوحدانيته ثنوية، وبقيمه الأخلاقية إباحة للشهوة والمتاع، وبتجريده وتنزيهه تجسيدا وتشبيها.
أفرغ هذا الموقف بطرفيه من مضمونه ومادته، ليبقى لك هيكله وصورته، تر الصراع عندئذ هو صراعنا الثقافي اليوم، وكل ما في الأمر من خلاف، هو أن موضوعات العقيدة والرأي مختلفة، وأما صورة الموقف فواحدة لم تتغير عبر القرون، فهنالك دروشة تعجب الجماهير العريضة، يقابلها عقل مستعار من ثقافة أخرى، تستخدمه الصفوة القليلة لتقاوم به دروشة الكثرة الغالبة. ليس الأمر مجرد تقابل بين أنصار القديم وأنصار الجديد، أو بين رجعية وتقدمية، كالذي نراه في كل بلد وفي كل عصر، وإلا لما كان فيه طابع خاص يميزنا، وإنما الأمر فيه أكثر من هذا التقابل بين محافظين ومجددين؛ لأنه في حقيقته تعارض بين صوفية الدراويش وعقلية العلماء، مع ملاحظة نضيفها إلى هذا التعارض، وهو أن صوفية الدراويش تلقى الرضا والقول عند عامة الناس، وأن عقلية العلماء تجيء وافدة دائما ولا تنبثق من أهل الإقليم. ولقد عنيت بصوفية الدراويش تلك الرغبة الحادة التي تدفع الإنسان دفعا إلى مجاوزة حدود العالم الظاهر لتلتقي وجها لوجه بحقيقته الإلهية الباطنة، إن لم يكن بالفعل، فبالأمل والرجاء.
وتلك هي محنتنا اليوم في حياتنا الفكرية والثقافية، كما كانت بالأمس، فلو كان إحياء التراث لنحياه، معناه أن نتقمص هذا التعارض الثقافي بعينه؛ إذن فقد أحييناه وعشناه إلى نخاع النخاع.
وإنه لمما يزيد اليأس يأسا - بالنسبة لكاتب هذه الصفحات على الأقل - أن الصفوة العاقلة بثقافتها المستعارة، سواء كان ذلك عند أسلافنا الأقدمين أو في مجتمعنا القائم، سرعان ما تنشق على نفسها، فيخرج منها فريق يحارب فريقا، بأن يستكبر أولهما على ثقافته أن تكون مستعارة، ويعيب على الآخر إقباله المخلص على فكر ليس نبات أرضه، وأما هذا الفريق الآخر فيسقط في يده، لا يدري ماذا يصنع؟ لأنه لا يجد أمامه سبيلا - إذا أراد ثقافة عقلية إلا أن يفتح لها النوافذ لتهب عليه مع رياح الشمال والغرب - وهو ينظر خصمه المستكبر، فيراه في حالة عجيبة من النفاق الفكري، يأخذ الحسنة من المتصدق بها ثم يستعلي عليه ويشمخ بأنفه كأنه هو الذي أعطى وتصدق!
ولننظر إلى ما كان عليه الأسلاف في هذا السبيل، لنرى أنفسنا في مرآتهم:
نقلوا عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وسرعان ما أطلق عليها اسم «علوم الأوائل» أو علوم القدماء؛ ليعارضوا بينها وبين ما هو «علوم العرب». وكان في علوم الأوائل تلك صنوف العلم على اختلافها ، من علوم رياضية وعلوم طبيعية وإلهيات، وما اشتملت عليه هذه الأقسام من طب وفلك وموسيقى وغيرها. ورحب بتلك العلوم جماعة أرادت أن تستخدمها دفاعا عن دين الإسلام عقيدة وشريعة ضد أعدائه من مرتدين ومن يهود ونصارى، لكن هل طال معهم هذا الترحيب؟ كلا، فما لبثوا أن تألب منهم فريق على ثقافة اليونان هذه، داعيا إلى «علوم العرب» وحدها والإعلاء من شأنها، حتى لقد اضطر رجل كالغزالي أن يتخذ لنفسه موقفا وسطا، ينادي منه إلى وجوب التدبر والتريث، فما كل علوم الأوائل حقيقة بالرفض، فمنها علم الرياضة ومنها علم المنطق، وهما علمان صوريان لا دخل لهما بمضمون العقيدة الدينية، كما سوف نذكر بعد قليل.
Halaman tidak diketahui