79

Pengalaman Falsafah

تجارب فلسفية

Genre-genre

أو الزواج السعيد بين الفلسفة والفن

لفيلسوف التجريب الأسكتلندي الأصل ديفيد هيوم (1711-1776م) عبارة مشهورة، يذكرها مؤلف هذه الرواية البديعة في الفصل الذي عقده عنه، وتصلح لأن نبدأ بها هذا العرض النقدي لها: «إذا وقع بين أيدينا أي كتاب فعلينا أن نسأل أنفسنا: هل يحتوي على أي استدلال نظري عن الكم أو العدد؟ - لا. هل يحتوي على أي استدلال تجريبي عن مسائل تتعلق بالواقع والوجود؟ - لا. فليس فيه علم رياضي ولا علم طبيعي، ولا بد أن يكون كتابا في الميتافيزيقا أو في اللاهوت؛ إذن فليلق به في النار! لأنه لا يحتوي إلا على سفسطة وأوهام!»

والواقع أن العدد الأكبر من الكتب التي وضعت في لغتنا أو غيرها من اللغات عن تاريخ الفلسفة، ومعظم ما لدينا أو لدى غيرنا من مدخل إليها، لا ينجح إلا في شيء واحد، هو إخراجنا من عالم الفلسفة، والفرار بنا إلى مشاغلنا اليومية، مع التصميم الأكيد على عدم العودة إليها! ولا يرجع هذا إلى افتقار هذه الكتب للمعلومات الكافية عن قضايا الفلسفة وفروعها ومسائلها الأساسية، وتطوراتها المختلفة بين الاتجاهات والمدارس والمذاهب التي لا حصر لها، ففيها بحار زاخرة من المعلومات التي تغرق أمهر السباحين، ولا يرجع أيضا إلى خلوها أو خلو معظمها من العرض الواضح المبسط الذي قد يبلغ أحيانا حد التشويق المثير، وإنما يرجع إلى فشلها في إقناع القارئ بأن أسئلتها الكبرى عن الوجود والمصير والمعنى والحقيقة ... إلخ، هي أسئلته هو نفسه التي لا يتوقف في العادة عندها، ولا يهتم بالتفكير فيها كما يفعل الفلاسفة، وأن قضاياها ينبغي أن تكون بالنسبة إليه قضايا حياة أو موت، تبدأ من وجوده الخاص، وتمتد إلى لغز الكون الهائل العجيب، الذي هو جزء حي منه، ونبضة واحدة من نبضات قلبه الكبير الذي يدق من مليارات السنين، ثم إن هذه الكتب، التي تستحق أن تلقى في النار، لا تنجح في تعليمه ممارسة التفلسف - أي المشاركة في ملحمة التفكير العقلي - الذي بدأ منذ أكثر من ألفين وخمسمائة عام على أقل تقدير، ولن يتوقف أبدا ما بقي على الأرض إنسان قادر على التساؤل والاندهاش، وهي لا تأخذ بيده لاختيار الطريق الذي يسير عليه في حياته في هذا العالم، ومع الناس الذين يعيشون معه، أو الذين عاشوا قبله، وسألوا أسئلته نفسها وحاولوا الإجابة عليها، وهي في النهاية لا تساعده كثيرا على اتخاذ موقف نقدي مما يدور حوله من أحداث، وما يصادفه من أنماط الفعل والفكر والسلوك؛ ولهذا فهي تتركه يغوص في «فراء الأرنب الأبيض» الذي أخرجه حاو أو ساحر عجيب - كما سيقول المؤلف - من قبعة طويلة سوداء، ولا تعينه على الوقوف فوق شعرات هذا الأرنب ليطل على ما حوله، ويفكر فيه بنفسه تفكيرا مستقلا. وحتى الحالات القليلة التي لجأ فيها بعض الكتاب إلى وضع قصص فلسفية، أو تأليف روايات أو مسرحيات عن بعض الشخصيات المتميزة في تاريخ التفكير الفلسفي - سواء من الشرق مثل «بوذا» أو «كونفوشيوس»، أو من الغرب مثل «سقراط» أو «أفلاطون» وغيرهما حتى «نيتشه» - حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكنا أن نقول إن القارئ - والقارئ الشاب بوجه خاص - قد استطاع أن يشارك في تلك المغامرة العقلية الكبرى التي نسميها تاريخ الفلسفة، ولا يمكننا أن نجزم بأنهم قد ساعدوه على توجيه حياته توجيها حكيما، أو إنارة باطنة بأنوار الحكمة، أو حتى على إيقاظه من نعاسه اليومي المضطرب؛ لكي يندهش من وجوده ووجود العالم، ويفتح عينيه ووعيه المغمض على تلك المغامرة العقلية المتصلة من ثلاثة آلاف سنة من عمر الحضارة والإنسان؛ ولهذا وفق المؤلف توفيقا كبيرا عندما استهل كتابه بسطرين استمدهما من المقطوعة الخيرة للقصيدة الثالثة عشر من كتاب «الضيق»، وهو أحد كتب الديوان الشرقي-الغربي للشاعر «جوته»، يقول فيها بالحرف الواحد ما ترجمته: «إن من لا يتعلم كيف يقدم لنفسه الحساب عن ثلاثة آلاف عام، فسوف يبقى مفتقدا للخبرة، ويتخبط من يوم ليوم في الظلام.»

ولا شك أن اختيار هذه الأبيات قد أعطى إشارة البدء للانطلاق في هذه المغامرة التاريخية الغامضة والمذهلة، التي استمرت كل هذه السنين وما زالت مستمرة، كما دعا القارئ للانخراط بدوره في هذا العالم العجيب الذي سماه عالم الحكمة أو «عالم صوفيا».

وأول سؤال يخطر على البال هو: من هي صوفيا هذه التي يريد المؤلف أن يجعل عالم الفلسفة وتاريخها هو عالمها وتاريخها الخاص؟

الكلمة اليونانية الأصلية تترجم عادة بالحكمة، ومحبة الحكمة (الفيلوسوفيا) هي الكلمة التي نسبت صياغتها إلى فيثاغورس أو هيراقليطس، واكتسبت معناها الإنساني - أي السعي إلى الحكمة لا امتلاكها - منذ سقراط، وترجمها العرب بالفلسفة، وعرفوها بأنها: العلم بحقائق الأشياء بقدر طاقة الإنسان. ولكن صوفيا هي تلك الصبية اللطيفة التي تعيش مع أمها وحيواناتها (القطة شيريكان، والسلحفاة جوفيندا ، والأسماك الحمراء، والعصفورين الملونين) في البيت رقم 3 ممر النرجس بإحدى المدن النرويجية، وكأنها تعيش في جنة عدن مليئة بالطمأنينة والصفاء والسلام. ولا تلبث الصبية - التي ستتم بعد قليل عامها الخامس عشر - أن تتلقى رسائل غامضة تعثر عليها في صندوق البريد، أو يحملها إليها بعد ذلك الكلب هرميس، أو تصادفها في أماكن مختلفة (على رصيف الشارع، أو في ذيل طائرة ورقية، أو على قاعدة نافذتها). وأول رسالتين تتلقاهما الفتاة، ويتكفلان بإخراجها من جنتها الآمنة، وإيقاظ الاندهاش في نفسها الصغيرة (والاندهاش هو أصل الفلسفة، كما قال أفلاطون وأرسطو، وكما تروي الحكاية المؤثرة عن طاليس أول الفلاسفة الإغريق الذي استغرق في تأمل السماء، والاندهاش لجمالها أو حتى لوجودها، فوقع في بركة ماء، ورأته خادمة أو إحدى الفتيات التراقيات، فاندهشت، وأغرقت في الضحك عليه!) وكانت أول رسالتين وصلتا إلى صوفيا تحملان هذين السؤالين الصغيرين: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ وأثار استغرابها أنهما موجهان إلى فتاة اسمها هيلد مولر كناج/طرف صوفيا إموندسن، من الأب الذي يعمل ضابطا في الكتيبة النرويجية التابعة لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان. سؤالان يثيران الدهشة، واسم فتاة لا تعرفها تكتب الرسائل إليها من أبيها، وترسل إليها نسخا متتالية منها على زعم أنها توجد طرفها، وأنها ستوصلها إليها. وتتتابع الأحداث المشوقة، كما تتتابع فصول حكاية شعبية أو خرافية، ببساطة وتلقائية وعذوبة لا حد لها. ويستمر الاندهاش الطفولي، ويتصاعد مع توالي المشاهد والأحداث، وتوافد الشخصيات العبثية التي يعرفها ويحبها كل الأطفال من الحكايات الخرافية، وتزداد حيرة صوفيا حتى بعد أن يعرفها بنفسه معلم الفلسفة المجهول، الذي يبعث إليها فصلا بعد فصل من تاريخ التفكير العقلي - الغربي أساسا - في قضايا الوجود والنفس والعالم والمعرفة والأخلاق وحرية الإرادة والعلاقة بين الروح والجسد وطبيعة الإنسان والعالم الذي نعيش فيه ... إلخ، ولا تقل حيرتها حتى بعد أن تراه في شريط الفيديو الذي أرسله إليها، وظهر فيه بقامته المتوسطة، وذقنه السوداء المدببة، وهو واقف أمام معبد العذراء «البارثينون»، فوق قمة الأكروبوليس المطل على أثينا ، ولا بعد أن تلتقي به في كنيسة عتيقة من القرن الثاني عشر ليشرح لها فلسفة العصور الوسطى المسيحية، ثم في بيته في وسط المدينة، وهو البيت الذي يدلها عليه الكلب هرميس، وفيه تحاورت معه عن الفلسفة في عصر النهضة والباروك وعن ديكارت والعقلانيين ... إلخ. ولا يقل الغموض، ولا يفتر الحماس للكشف عن ألغاز الوجود والعقل والحياة والموت وأصل الكون ومصيره، ولا يرتفع الستار عن حقيقة صوفيا ومعلم الحكمة والشخصيات الخرافية البديعة التي تصطدم بها الفتاة أو تفاجئها من حين لآخر، حتى يتبين لنا - بعد رحلة شاقة، ولكنها شائقة في تاريخ التفلسف الغربي والعلم الغربي أيضا! - أن صوفيا ومعلمها ليسا سوى أفكار أو خيالات دارت في ذهن كاتب الرواية، وهو والد هيلد، الضابط ألبرت كناج، الذي كان يتسلى أو يستمتع بكتابة تاريخ الفلسفة لابنته على شكل رواية، أو مغامرة من مغامرات الأطفال في الحكايات، وأنه كان يهدف منها أن تكون هديته إليها في عيد ميلادها الخامس عشر، وأن تكبر معها شيئا فشيئا، وتساعدها على عبور سنوات التحول والنضوج، وتعلمها أن تختار طريقها في الحياة، وتقف موقفا نقديا من كل شيء؛ أي أن تقف على طرف شعيرات فراء الأرنب الأبيض، ولا تنزلق في أعماقه كما يفعل العاديون من الناس، الذين لا يستيقظون أبدا على الأسئلة الكبرى، ولا على السؤال البسيط: من نحن؟ وما هو دورنا في هذا العالم؟ ولا يثير فيهم شيء مما حولهم ذلك الاندهاش الذي حرك أول إنسان في الشرق أو الغرب، فتفلسف وسأل: ما هذا العالم؟ ولماذا نوجد فيه، ولا بد يوما أن نموت كما مات من قبلنا، كل الذين سألوه أو لم يسألوه؟

من المستحيل، بل من العبث، أن نحاول تلخيص رواية تقع ترجمتها العربية الموفقة (وقد وصفتها بالموفقة لأن لها ترجمة عربية أخرى لا يمكن أن تطلق عليها هذه الصفة!) في أكثر من ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير؛ فالعمل الفني يستحيل تلخيصه. إنه يطلب منك أن تدخل في عالمه، وتتجول في دروبه وغرفه ودهاليزه وأنفاقه، وتعاين بنفسك مناظره وصوره، وتجرب تجاربه ومواقفه، وتحاور شخصياته أو على الأقل تسمعها بنفسك، وتتأمل بناءاته، وتستمتع بإيقاعاته، وتعجب أيضا لحيله وأفانينه. ويكون نجاح العمل بقدر ما ينجح في إشراكك في عالمه؛ أي في قضاياه وإشكالاته وأسراره، بل إشراكك في «خلقه» أو إعادة إبداعه وإنتاجه على طريقتك كما يقول بعض نقاد هذا العصر. وأقصى ما نستطيع أن نفعله مع عمل ضخم ورائع كهذا (يقال إن الرواية ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وبيع منها أكثر من مليون نسخة!) هو أن نسأل بعض الأسئلة، ونحاول الإجابة عنها:

إلى أي حد وفق الكاتب في الحفاظ على التعجب والاندهاش الذي لا يستغني عنه التفلسف، والذي يبدأ به ويسيطر عليه في كل خطواته ومراحله؟

هل وفق في عرض تاريخ الفلسفة وأهم أفكاره وقضاياه على صوفيا الصغيرة؟ وهل ثمة انتقادات يمكن أن توجه إلى هذا العرض، أو إلى بعض الأفكار والهموم التي بثها المؤلف في روايته؟

أما عن السؤال الأول، فقد نجح المؤلف في إثارة ارتباك صوفيا الصغيرة - وارتباكنا أيضا، والارتباك أو الحيرة وراء كل تفلسف كما قال هيجل - بمجرد وصول الرسالتين الأوليين إليها وفي داخلهما السؤالان البسيطان: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ فقد أخذت المسكينة تنظر إلى نفسها في المرآة، وتتأمل جسدها ووجهها وشعرها الأشقر، وتسأل عن طبيعة وجودها، هل لها نفس وعقل أم إن عقلها حاسب آلي كما قالت صديقتها نورا؟ هل هذه النفس خالدة كما تعلمت في دروس الدين؟ وما نوع هذا الخلود؟ ما العلاقة بين النفس أو الروح وبين الجسد الذي تراه في المرآة، وتحس بنبضاته ونموه المفاجئ؟ من أنا؟ ويا لهذا السؤال الذي لم يسبق لها أن طرحته على نفسها! ومن هي أمها التي يبدو أن لا شيء يدهشها أو يخرجها من حياتها المألوفة. ثم من أين جاء هذا العالم؟ هل انبثق في لحظة الخلق من العدم، أو وجد منذ الأزل (وهي مشكلة الحدوث والقدم التي شغلت المتكلمين والفلاسفة في تراثنا)؟ ومن الذي أوجده وكيف وجد؟ هل يشعر الله بها أيضا ويحس بحيرتها، أم له وجود من نوع آخر؟ ألا يمكن أن يكون حاضرا فيها وفي زهور حديقتها وحيواناتها الحبيبة إلى قلبها، أم هو هناك في السماء وبين النجوم، أو يسري مسرى الروح الخفيفة دون أن نستطيع معرفته أو تحديد طبيعته؟

Halaman tidak diketahui