كان كل من اتصل به شيلر وتحاور معه، قد أثر في نفسه على نحو من الأنحاء، ولكن ربما كان لقاؤه مع الرسام أوتو ديكس، الذي رسم له سنة 1926م صورة دقيقة وصادقة، أبرزت على حد قوله الملامح الصلبة التي تميز كيانه، من أعمق اللقاءات التي هزت وترا في نفسه، ولمست جرحا قديما في قلبه. يقول في إحدى رسائله المتأخرة إلى حبيبته وزوجته السابقة مريت فورتفنجلر، التي تزوجها في شهر ديسمبر سنة 1912م، وظل على حبه لها، واتصاله له المستمر بها، حتى انفصاله عنها بسبب عقمها، وزواجه من ماريا شيلر سنة 1924م. يقول في إحدى الرسائل التي كتبها في شهر مارس سنة 1926م، بعد أن يصف لها مسكن ذلك الرسام الفقير، ويشيد بطيبته وإنسانيته، إن له طفلة ساحرة تبلغ من العمر عامين ونصف العام، وتكاد أن تكون قطعة من أبيها. «لقد هزتني الصغيرة بصورة لا توصف، وجعلتني أبكي رغما عني؛ لأنني لم أرزق بمثلها ولن أرزق أبدا.»
كان هذا هو الجرح الذي فتحته هذه الطفلة، وظل يوجعه كلما رأى طفلا أمامه في إحدى زياراته لمعارفه وأصدقائه. لقد كان يعلم بالطبع أن تلميذته وزوجته السابقة وحبيبة قلبه إلى آخر العمر وهي مريت، لا ذنب لها في عدم الإنجاب. وإذا كانت إرادة الله لم تشأ لهما أن يرزقا بطفل، فإنه لا يكتفي بتبرئتها من قدر لا يد لها فيه، بل يتحمل معها المسئولية بشجاعة حين يقول لها في رسالة أخرى سابقة (أبريل سنة 1923م) إنه قد كتب عليه فيما يبدو أن يعيش فردا ومنبتا معزولا، بلا ماض ولا جذور عائلية، ولا مستقبل ولا ذرية، «لكنني لا أشعر بالمرارة حين أفكر في هذا الأمر، إنما هو الحنين الذي يفيض به القلب.» والغريب حقا أن هذه الحسرة على الحرمان من الولد لم تفارقه حتى آخر نفس في صدره، وذلك على الرغم من علمه بأن له ابنا من زوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس، التي احتفظت بهذا الابن، ونهضت برعايته حتى بلغ السادسة عشرة من عمره، فطلبت من الجهات القضائية أن تنقل مسئولية كفالته إلى الأب، بعد أن عجزت تمام العجز عن الاستمرار في تحمل أعباء مرضه. والواضح أن هذا الابن - فولفجانج هينريسن فولف - كان معوقا وغير سوي، ويبدو أن أمه عجزت عن الإنفاق على تعليمه وعلاجه في أكثر من مصحة وإصلاحية، كما أن الابن نفسه قد حاول بكل وسيلة أن يتوصل إلى أبيه أستاذ الفلسفة المرموق لكي ينفق عليه، كما لم تقصر زوجتا أبيه لم يكن أبوه يحس نحوه بأي عاطفة أبوية - مريت ثم ماريا - في مساعدة الابن المسكين الذي، بل بدا له أنه ورث عنه وعن أمه أسوأ ما فيهما من عيوب، وأن القدر قد حرمه من أفضل خصالهما. أخذ من أمه اعتدادها بنفسها، وحبها للظهور، وطبيعتها الهستيرية؛ ولم يأخذ قوة إرادتها، وصلابتها الخلقية، وشدة حرصها وتدبيرها. وورث عن أبيه ضعف إرادته، وشدة اندفاعه، وقوة خياله؛ ولم يرث شيئا من عقله النافذ، ولا من قلبه الدافئ. والمهم في قصة هذا الابن الضعيف العقل والمضطرب الشخصية، أنه ذكر أباه - الذي لم يقصر في النهاية في أداء واجبه نحوه - ذكره بجذوره العائلية المرة، وتمزقه بين أمه وأبيه، وبشعوره منذ طفولته وصباه بأنه وحيد ومنبت ومحروم من الحب والحنان والأمان؛ لذلك لم يكن عجيبا أن يفصل بينهما حاجز ضبابي من القسوة والبرود، وأن يلازم الأب ذلك الشعور اليائس المحبط بالحرمان والعقم، رغم وجود ابنه فولف كالشبح الشريد الهائم على حافة حياته. ومن مفارقات الدهر أن الزمن هو الذي تكفل، بعد فوات الأوان، بحل مشكلة الابن والأب معا. مات الابن، أو على الأصح قتل بين سنتي 1938 و1940م في معتقل أورانينبورج، وهو أحد المعتقلات النازية التي كانت تتخلص من مشكلات المرضى النفسيين وضعاف العقول بالتخلص من حياتهم. أما الأب الذي مات في شهر مايو سنة 1928م، فقد رزق من زوجته الأخيرة، وراعية تراثه ماريا شيلر، بابنه ماكس جورج في شهر ديسمبر من العام نفسه؛ أي بعد رحيل أبيه بسبعة شهور. وهكذا وضع القدر خاتمه الأسود على حياة فاضت كالنهر الصاخب بالحيوية والجدية والإبداع المتجدد، وامتلأت كذلك بالقلق والتمزق والحنين الذي لم تنطفئ ناره، ولم يرتو ظمؤه أبدا للمرفأ الآمن الحنون. وأخيرا ربما يفسر هذا الشوق الدائم إلى المرفأ الحنون سر النغمة الحزينة المكتئبة، التي تكمن في كتاباته المتلاحقة المحمومة، التي لم يكن يجد الوقت الكافي لاستقبال مطرها الفلسفي المنهمر عليه بغزارة. وربما يفسر لنا كذلك الدوافع الخافية وراء نهمه الفظيع للقراءة؛ فهو لا يكتفي بمتابعة الفلاسفة والعلماء الطبيعيين المعاصرين له، وإنما يتجول على الدوام في متاهات أدباء شديدي التنوع؛ من دستوفسكي وتولوستوي وجوركي وطاغور وأونا مونو، إلى أناطول فرانس ويلزاك وتوماس مارتن وتيودور وغيرهم. ويبدو أنه لم يكن أقل حرصا على متابعة شعراء العصر، مثل رلكه وجئورجه وفاليري كما ذكرنا من قبل، بيد أن صلته بالشاعر والقاص الأمريكي الكبير «إدجار ألن بو»، كانت أشد عمقا وخصوصية من صلته بأي شاعر أو كاتب سواه، كما أن حبه لقصيدته «أنا بيل لي»، التي بكى فيها زوجته، قد فاق حبه لأي شعر آخر، وما أكثر ما كان يعاود قراءتها وهو يحاول عبثا أن يمنع عينيه من البكاء وهما يمران على القطعتين الأخيرتين منها:
كم كان حبنا أقوى وأعمق بكثير
من حب الذين يكبروننا في السن أجمعين،
ومن حب الذين علينا في الحكمة يتفوقون!
حتى الملائكة في عليين
لن تقدر على مثله، ولا الشياطين في أعماق الجحيم،
لن يقوى أحد منهم أبدا أبدا
أن يفرق روحي وروح الجميلة أنا بيل لي. •••
ما من قمر يبزغ إلا وتحمل لي أضواؤه
Halaman tidak diketahui