البعيدة عن الواقع بعدها عن الممكن.
ومع ذلك فلا بد من الإشادة بفضل فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد المفهوم الزائف عن العلم، وهو الذي يتصور أصحابه أن العلم متحرر من القيم، ومستقل تمام الاستقلال عن الاهتمامات والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وقد أثر هجومهم الشديد على التصور الذي يضع العلم في «برج عاجي» على عدد كبير من العلماء المختصين، ونبههم إلى أهمية العوامل والدوافع والمصالح التي تؤثر على نشاطهم البحثي، واختيارهم للموضوعات والمشكلات ووجهات النظر، كما تشارك في كثير من الأحيان في تحديدها. وقد ساعد النقد الموجه لمفهوم العلم من ناحية أخرى على إدراك أهمية «الأيديولوجيا التكنوقراطية»، التي تكمن وراء كثير من القرارات السياسية والمواقف الأخلاقية التي تتخذها القوى ذات المصلحة في المجتمعات الصناعية الحديثة، متذرعة بأنها قرارات «موضوعية» تحتمها المعرفة العلمية والخبرة التقنية.
ويرتبط بالنقطة السابقة تأكيد المسئولية الاجتماعية للعلم؛ فمن واجب العالم
وتبرير أسسها المنطقية والموضوعية، بالتفكير في قيمتها ونتائجها التي يمكن أن تؤثر على المجتمع. ولا يجوز أن يقف العلماء جهدهم على إنتاج المعرفة، بل ينبغي عليهم أن يتدبروا نتائجها بوحي من ضمائرهم، على الرغم من القيود والضغوط المادية والمعنوية التي تكبل حريتهم، وتعوقهم على اتخاذ القرارات الأخلاقية وإعلانها على الرأي العام. وإذا كان من المتعذر على العالم أن يقدر جميع النتائج المترتبة على بحوثه وكشوفه، فلا أقل من أن يكون على وعي بتأثيراتها المباشرة والممكنة، وأن ينبه إليها وعي الآخرين، وأن يحميها بكل شجاعة العالم والتزامه الأخلاقي من عواقب سوء الاستخدام والاستغلال، من قبل السلطة، أو من جانب مؤسسات التجارة والربح بأي ثمن، وذلك بقدر جهده وعلى قدر طاقته.
ومن الأفضال التي تحسب لفلاسفة النظرية النقدية، أنهم قد أثروا تأثيرا كبيرا على الجدل الدائر حول الماركسية، ومحاولات تجديدها والخروج من أزمتها.
وإذا كان الماركسيون التقليديون أو الحرفيون قد اشتدوا في الهجوم عليهم، واتهموهم بالمثالية الذاتية «البرجوازية»، والتشاؤم الحضاري، والنظرة التجزيئية لأعمال ماركس؛ فإن الإنصاف يقتضينا القول بأنهم قد وجهوا الأنظار إلى أفكار ماركس الفلسفية والإنسانية (وبخاصة مقولة التشيؤ والاغتراب كما تقدم)، واعتمدوا عليها في تحليلهم ونقدهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي، ولم يكتفوا بالتفسير الاقتصادي والأحادي لأعماله، كما جددوا الماركسية ، وكشفوا عن الطاقات النقدية الكامنة فيها، مهما يكن من فهمهم غير التقليدي لمقولاتها الأساسية. ولا شك في أن القارئ الذي عاصر الزلزلة الأخيرة للمجتمعات والدول الاشتراكية، وللنموذج الماركسي الذي طبق فيها على أبشع صورة، سيتساءل إن كان لفلاسفة النظرية النقدية دور غير مباشر في تصعيد أزمة الماركسية وتخريبها من داخلها، أم كان لهم فضل المشاركة في محاولات تجديدها وبعثها في صورة إنسانية حرة وخلاقة لكي تصمد أمام الغول الرأسمالي.
وينبغي الإشادة بمآثر النظرية النقدية في نقد مجتمع الرفاهية والرخاء والتقدم المزعوم، وتعرية عوراته وأوضاعه اللاإنسانية المزرية. وإذا كان الناس - حتى في العالم الثالث أو النامي - يشكون من تأثير أجهزة الدعاية والإعلام على تشكيل الأذواق والحاجات، وتغذية سعار الاستهلاك بوقود متجدد مع البث والإرسال ليل نهار، وإذا كانوا يتذمرون من التصعيد الأعمى للقدرات الإنتاجية دون اعتبار لآثاره المدمرة والملوثة للبيئة، وإذا كان سوء استخدام المعرفة العلمية في صنع أسلحة الدمار الشامل، ومن ثم في مد السيطرة الشاملة، وتردي الظروف المعيشية لملايين المضطهدين والمسخرين والمستغلين في ظل العلاقات الرأسمالية والصناعية، والمحاولات الجهنمية لتزييف الوعي، وخلق الشعور الوهمي بالحرية والسعادة لدى الملايين من الناس، واختناق الطاقات المبدعة تحت أقدام الأجهزة البيروقراطية والإدارية والمباحثية، ونفاق العالم «المتقدم»، وانعدام مثله الإنسانية وقيمه الحضارية المزعومة في تعامله مع العالم «المتخلف»، إذا كانت هذه كلها وكثير غيرها قد أصبحت حديث كل يوم، فلا بد أن نعترف بفضل النظرية النقدية في إشاعة قدر كبير من هذا الوعي النقدي والثوري في أوساط الرأي العام على المستوى الدولي. وليت هذا يكون حافزا للكثيرين عندنا من دعاة العلمية والموضوعية والعقلانية إلى مراجعة هذه المفاهيم كلها مراجعة نقدية، وأن يدفعهم - كما سبق القول - إلى وضعها في سياقها الحضاري والاجتماعي قبل أن يحاولوا فرضها على سياق تاريخي وحضاري مختلف عنه.
ولا يفوت ناقد النظرية النقدية أن يلاحظ أن فلاسفتها يديرون مناقشاتهم ويقدمون أفكارهم، بطريقة يغلب عليها الإسراف في التعميم والجزم القاطع. وتتجلى هذه النزعة الخطيرة على سبيل المثال في هجومهم على «الوضعية»، التي يدرجون تحت اسمها اتجاهات فلسفية شديدة التباين (كالوضعية الجديدة أو المنطقية، والتحليلية، والعقلانية النقدية، والبراجماتية). وتظهر أيضا في نقدهم المشروع للفكرة الخاطئة عن خلو المعرفة من القيمة، ناسين أن التحرر من النظرة القيمية معيار كامن في التفكير العلمي نفسه، وأنه مطلب أساسي يقتضيه منطق البحث المحايد عن الحقيقة أو الصدق أثناء تحليل الظواهر وتبرير المعارف والقضايا العلمية. ومع أنهم محقون في نقدهم لتلك الفكرة الفاسدة (بالنسبة للنتائج المترتبة على المعرفة العلمية، لا بالنسبة للعملية المعرفية ذاتها) على ضوء التحليل الاجتماعي والسياسي، فإن حديثهم عنها يوحي في كثير من الأحيان بأنهم يضحون بالموضوعية لحساب النظرة الجدلية الاجتماعية والسياسية، وأنهم يخلطون العلمي بالأيديولوجي. ويمكننا أن نلمس تأثير التعميم المتسرع أيضا في نقدهم للمنطق الاستنباطي القديم والحديث، ولمناهج التفكير السائدة في العلوم الطبيعية والتطبيقية، وكأنها تتحمل مسئولية سوء استخدام المعارف العلمية والخبرات التقنية في إحكام قبضة القهر على الإنسان المعاصر، أو كأن القمع والتسلط عنصران كامنان في طبيعتهما. وقد بالغ «ماركوز» بوجه خاص (لا سيما في كتابه المعروف عن الإنسان ذي البعد الواحد، ص25 وبعدها؛ وفي كتابه عن الحضارة والمجتمع، الجزء الثاني، ص92) في أمثال هذه التعميمات على النظام الاجتماعي «المتقدم» بأسره؛ مما جعل بعض ممثلي الجيل الثاني لفلاسفة النظرية النقدية، مثل هابرماس وتلاميذه، يوجهون إليه انتقادات شديدة (في كتابهم المشترك: ردود على ماركوز)،
19
ويحملون حملة قاسية على البدائل التي طرحها للصورة السلبية المطلقة التي رسمها عن المجتمع الصناعي، وهي بدائل تعلق آماله في التحرر والخلاص على الأفراد والجماعات «الهامشية»، من المضطهدين والمنبوذين والفنانين المشردين والمحتجين والرافضين.
Halaman tidak diketahui