وإنه لمما يصيب العقل البشري بالخيبة والخذلان ألا يحقق شيئا من وراء استخدامه المحض (الخالص)، بل أن يحتاج - بالإضافة إلى ذلك - إلى نظام يلجم شطحاته، ويجنبه أسباب الخداع التي تجرها عليه وتعشي بصره.
14
هذا التناقض السلبي أو «الفضيحة» التي يقع فيها العقل بحكم طبيعته هي الدافع والمنطلق لتكوين المنهج النقدي وتطويره. وإذا قبلنا الفرض السابق بأن «الجدال المتعالي» الذي يقوم فيه كانط بتحليل النقائض ونقدها، هو البداية الحقيقة لمذهبه النقدي كله ولكتابه نقد العقل الخالص، فلا بد من القول بأن هذا النقد السلبي أو غير الموضوعي (أي غير المرتبط بموضوع) يذكرنا بدليل الشك عند ديكارت، وتجربته في التأمل الذاتي المنعكس، حيث استطاع كانط أن يخرج من تحليله السلبي للنقائض بمنهج إيجابي وموضوعي في نقد المعرفة وتعيين حدودها؛ أي في نقد العقل البشري لنفسه بنفسه. وها هو ذا يستطرد بعد النص الأخير الذي أكد فيه حاجة العقل لنظام يلجم شطحاته، فيقول: «إلا أن مما يزيد من ثقته (أي العقل) واعتزازه، بأن يكون قادرا على تطبيق هذا النظام بنفسه، وأن يحس بضرورته دون أن يسمح لأي جهة أخرى بممارسة الرقابة عليه، وأن تكون الحدود التي يضطر لوضعها للحد من استعماله التأملي المجرد قادرة كذلك على الحد من المزاعم التي يثيرها أي خصم ويلبسها لباسا عقليا مصطنعا، وأن يؤمن بالإضافة إلى ذلك كل ما تبقى من مطالبه السابقة المبالغ فيها من كل هجوم ممكن.» بهذا يثبت العقل وجوده عندما يطبق نظام النقد، ويبرهن كذلك على أن «هذه المحكمة العليا لكل حقوق تأملنا المجرد وتطلعاته ومطامحه، محال أن تتضمن هي نفسها أي لون من ألوان الغش الفطرية والخداع الذي يعشي البصر.»
15
هكذا يؤدي نقد شطحات العقل الخالص (لإثبات مثله وحقائقه المطلقة المتعالية دون أي سند تجريبي وعلمي كما سبق القول)، أي نقد الأخطاء والتناقضات التي يقع فيها، إلى معرفة العقل لذاته، على نحو ما أدت تجربة الشك عند ديكارت إلى يقينه الذاتي؛ ومن ثم يضع كانط الوحدة المنهجية لتفكير العقل النقدي في مقابل تناقضات التفكير الميتافيزيقي، كما يضع الوحدة الباطنة للعقل نفسه في مواجهة وحدة العالم التي عجز العقل التأملي عن التوصل إليها. وإذا كانت تجربة ديكارت قد أثبتت أن «الأنا» تظل موجودة داخل الشك في كل شيء، وأنها تعطي لنفسها فيه عطاء سلبيا، فإن العقل عند كانط يجرب كذلك يقينه الذاتي من خلال السلب. ويتضح الطابع السلبي للعملية النقدية كلها في هذه العبارة: «يترتب على هذا أن أكبر فائدة تقدمها فلسفة العقل الخالص، وربما تكون الفائدة الوحيدة منه، هي فائدة سلبية فحسب؛ ذلك لأنها (أي فلسفة العقل الخالص) ليست أداة صالحة للتوسع (في المعرفة)، وإنما هي نظام يصلح لتعيين الحدود. وبدلا من أن «تنسب لنفسها فضل» اكتشاف الحقيقة يقتصر فضلها على الحماية في هدوء من الوقوع في الأخطاء.»
16
صحيح أن كانط لم يبسط لنا طريقة ظهور مواقفه المنهجية الإيجابية خطوة خطوة كما فعل ديكارت، ولكنه وصف على كل حال علاقة منهجه بالتناقض وصفا دقيقا في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه نقد العقل الخالص، حيث يقول:
17 «إن المنهج المقتبس من دارسي العلوم الطبيعية، يتكون من البحث عن عناصر العقل الخالص فيما يمكن تأييده أو دحضه عن طريق التجربة، بيد أن قضايا العقل الخالص، وبخاصة عندما تخاطر بتجاوز كل حدود التجربة الممكنة، لا تسمح بإجراء أي تجربة مع موضوعاتها (كما هو الحال في العلم الطبيعي) لاختبار تلك القضايا؛ ولهذا لن يكون في وسعنا إجراء هذا الاختيار إلا على مفاهيم ومبادئ نسلم بها قبليا ونتناولها، بحيث يمكن النظر إلى هذه الموضوعات نفسها من وجهتي نظر مختلفتين، فتكون من ناحية موضوعات للحواس وللفهم المتعلقة بالتجربة، ومن ناحية أخرى موضوعات يكتفى بالتفكير فيها بوصفها موضوعات للعقل الخالص المنعزل الذي يسعى جهده لتخطي حدد التجربة. فإذا وجدنا أن النظر إلى الأشياء من وجهة النظر المزدوجة هذه يؤدي إلى الاتفاق مع مبدأ العقل الخالص، وأن النظر إليها من وجهة نظر واحدة يؤدي حتما إلى تصارع العقل مع نفسه؛ فإن التجربة هي التي ستفصل في صحة تلك التفرقة.»
يصف هذا النص عملية نقد العقل الخالص بأنها تجربة. وهي تجربة مختلفة في طابعها عن التجارب التي تتم في العلوم الطبيعية؛ لأنها لا تجري على موضوعات بالمعنى العيني المتعارف عليه لهذه الكلمة؛ ولهذا كانت في الواقع تجربة ذاتية يقوم بها العقل على نفسه. وللتجربة بهذا المعنى شقان: أحدهما سلبي، ينشأ عنه صراع العقل أو نزاعه مع نفسه؛ والآخر إيجابي، يتم فيه التوافق مع مبدأ العقل الخالص. ومن الواضح أن الشق السلبي للتجربة يحمل في تضاعيفه الشق الإيجابي؛ أي إن حل التناقض يقتضي أن يقوم العقل الخالص بوضع ذلك المبدأ الذي يلزمه (أي العقل) بالتوافق معه. لا بد إذن أن يجد العقل مبدأه، وأن يتوافق معه لكي يتسنى التخلص من فضيحته التي جرها عليه اندفاعه لما فوق حدود التجربة الممكنة، ونزوعه للتساؤل غير المحدود عن أمور غير محدودة (الله، والحرية، والخلود، وتناهي العالم في الزمان أو عدم تناهيه ... إلخ). وهل يكون لهذا كله غير تسمية واحدة هي تحديد العقل لحدوده، أو بمعنى آخر نقد العقل؟ وهل يفضي الطريق الذي يمضي عليه العقل في بحثه لتلك المتناقضات إلا إلى التبصير بمبدئه الخاص؟ صحيح أن الأمر هنا لن يكون شبيها بظهور «يقين الأنا» ظهورا مفاجئا من طوايا الشك الشامل كما حدث مع ديكارت؛ لأن التفكير المتأني الدقيق في كل أخطاء العقل وضلالاته، هو الذي سيسمح بمطالعة وجهه الأصيل وتعرف جوهره الحق؛ ولذلك فلن تنهض أمامنا هذه الصورة التي يصفها كانط في ختام كتابه إلا بعد مراجعة الإمكانات السلبية للعقل مراجعة نقدية متعمقة (لا يجوز تشبيه عقلنا بسطح مستو يتعذر تعيين حدود مساحته الشاسعة، بحيث لا يعرف عنها إلا أنها تند عن التحديد، وإنما يجب أن يشبه بشكل كروي يمكن تعيين نصف قطره عن طريق الخط المنحني على سطحه (أي وفق طبيعة القضايا التأليفية القبلية)، كما يمكن كذلك تعيين محتواه وحدوده بطريقة مؤكدة، أما خارج هذا الشكل الكروي (أي خارج مجال التجربة) فليس ثمة شيء يمكن بالنسبة إليه أن يعد موضوعا، بل إن الأسئلة التي تطرح عن أمثال هذه الموضوعات المزعومة، لن تتناول المبادئ الذاتية للتحديد الدقيق للعلاقات التي يمكن أن توجد داخل هذا الشكل الكروي بين تصورات الفهم (أو الذهن)).
18
Halaman tidak diketahui