3
نعود إلى السؤال: ما العمل لإنقاذ الإنسان من نفسه؟
ما العمل لإيقاف اندفاعه إلى اللاعقل والجنون المدمر؟
وبماذا يمكن أن يساعد الفلاسفة في هذا الإنقاذ؟
إن هذه الأسئلة تقع بالضرورة في التبسيط والتعميم، والمشكلات التي يدعى الفيلسوف لمواجهتها شديدة التشابك والتعقيد، والدور الذي يمكن أن يقوم به مشكوك فيه منذ البداية؛ بسبب الشك أصلا في قدرة الفكر على التأثير والتغيير، بجانب الشك الشائع في ثقافتنا في قيمة الفلسفة وضرورتها ووجودها أصلا.
مع ذلك فإن المتفلسف لا يمكنه - كما سبق القول - أن يقف موقف العاجز المتفرج، في الوقت الذي يدمر فيه العقل، وتهدد فيه «القرية الأرضية» بأسوأ مصير. وأول ما يخطر على البال هو دعوته للقيام مرة أخرى بدوره السقراطي،
4
حتى ولو أن بدا هذا الدور قد أصبح مستحيلا أو باعثا على السخرية. صحيح أن دور «لغز» الفلسفة ونموذجها الحي كان محدودا بحدود دولة «المدينة»، كما كان في صميمه دورا عقليا وجدليا يتوسل بالاستقراء والحوار والتوليد الذهني للوصول إلى الحد والماهية (اللهم إلا إذا صدقنا كيركجارد، وجعلناه - أي سقراط - أول الوجوديين والذاتيين في تاريخ الغرب، أو حملناه من ناحية أخرى مسئولية تحلل الغرب وانهياره، كما زعم نيتشه في هجومه الغاضب عليه عندما حمله مسئولية بداية مسيرة العقلانية والجدلية المسرفة على حساب إرادة الحياة وقواها الأصيلة ...) لكننا لو تذكرنا وصف سقراط لنفسه - منذ أن بدأ تساؤله وحواره مع الناس العاديين في شوارع أثينا ومجالسها حتى خطبته الطويلة في محاكمته الأخيرة - لو تذكرنا وصفه لنفسه بأنه «الذبابة» التي تلسع ظهر الحصان الأثيني كلما أخلد للنعاس وغاب عن الوعي، بحقيقة نفسه ومجتمعه وعالمه؛ لاستطعنا القول بأن دور المتفلسف السقراطي المعاصر سيكون أشمل، ومهمته أصعب وأخطر؛ فهو مطالب بإيقاظ الحصان العالمي المندفع اندفاع المجنون الأعمى على أرض «القرية العالمية الصغيرة»، ومعنى هذا - بعيدا عن لغة المجاز - أن يكون حارس هذه القرية الضئيلة البائسة، كما كان سقراط وكل «الموقظين» العظام في الشرق والغرب حراس مدن العقل والقيم والاستنارة والحرية والوعي.
هذه الكلمة الأخيرة تنبهنا على الفور لدور المتفلسف في الدعوة إلى «الوعي العالمي والإنساني»، الذي كان وما يزال غائبا عن كثير جدا من كبار المفكرين في الغرب بوجه خاص (من أرسطو إلى هيجل وحتى ياسبرز وفلاسفة مدرسة فرانكفورت. دع عنك غيابه عن كثير جدا من أساتذة الفلسفة في نفس البلاد والمناطق، التي تتم فيها في هذه الأيام واللحظات أبشع مذابح الإبادة والتطهير العرقي والتعصب الديني والاضطهاد العنصري، وسجن شعوب بأكملها ومحاصرتها من قبل بعض الدول الإرهابية، بجانب الألوف المؤلفة من الجرائم التي تنفذ في غياهب السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب، فضلا عن المقابر الجماعية التي لا يسمع الناس عنها إلا عن طريق بعض الصحفيين والمتطوعين الشجعان أو مؤسسة العفو الدولية، وإذا سمعوا عنها أصلا فبعد فوات الأوان).
إن الفلسفة - في مجموع تراثها العريق وفي شتى الحضارات - أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي، وتأكيد وحدة البشر على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة. والذين يحملون على أكتافهم أمانة تعليم الفلسفة يمكنهم، إذا استقام فهمهم لرسالتها، وتجردوا من تحيزاتهم وتطلعاتهم وصراعاتهم الصغيرة، يمكنهم أن يلقوا الضوء على المسلمات والافتراضات، والقيم وأساليب الحياة، والاتجاهات والنزعات الخفية، والتحيزات المغرضة العميقة الجذور في عقول الناس في كل مكان، وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم «العلاجية» - على حد تعبير فتجنشتين - أن يشفوا أصحاب السلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلية واللاإنسانية، ويقربوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل الذي يتحد فيه الأنا مع الأنت، بل يصبح هو الأنت، وفي استطاعتهم أخيرا أن يفيدوا من تخصصاتهم المحددة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي ... إلخ، في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضا مزمنة، كالعنف وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، خصوصا في المدن المكدسة بملايين البشر المقضي عليهم بالعذاب اليومي في جحورها وأوكارها ومكاتبها ومصانعها وسجونها وحافلاتها وأماكن لهوها، وكأنهم جيوش فيران شرسة تعسة، ناهيكم عن كثير من المشكلات الطاحنة التي تستحق ألا يشيح المتفلسف «البرجوازي» ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما فتح جريدة الصباح أو أدار مفتاح التلفاز؛ مشكلات الطفولة والشيخوخة وصراع الأجيال، الشذوذ الجنسي وإدمان الشباب، ضياع ملايين اللاجئين المشردين الجائعين من ضحايا صراعات القوة والسيطرة بين النظم والحكام والأفراد، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التعساء في الشرق التعس منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
Halaman tidak diketahui