الصَّنيعة، يقال له: الجرجاني، فخرج إليَّ حاسر الرأس حافيَ القدمين، وقال لي: ما عنى القاضي؟ قلت: مهم، قال: ما هو؟ قال: في جوارك داود بن علي، ومكانه من العلم ما تعلمه، وأنت كثيرُ الصلة والرغبة في الخير تغفل عنه، وحدثته بما رأيت، فقال: داودُ شرسُ الخلق، وجهتُ إليه البارحة بألف درهم ليستعين بها، فردها عليّ، وقال للغلام: قل له: بأي عين رأيتني؟ وما الذي بلغك من حاجتي وخُلَّتي حتى بعثت إليّ بهذا؟ فعجبتُ، وقلتُ له: هات الدراهم، فإني أحملها إليه، فدفعها إليّ، وقال للغلام: ائتني بكيس آخر، فوزن ألفًا أخرى، وقال: تلك لنا، وهذه لعناية القاضي، فأخذت له الألفين وجئت إليه، فقرعت الباب، ودخلتُ، وجلستُ ساعة، ثم أخرجت الدراهم، وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء من ائتمنك على سره، أنا بأمانة العلم، أدخلتك إليّ، ارجع فلا حاجة لي فيما معك، قال المحاملي: فرجعتُ وقد صَغُرَتِ الدنيا في عيني، وأخبرت الجُرجَاني، فقال: إني قد أخرجت هذه الدراهم لله تعالى، فلا ترجع في مالي، فليتولَّ القاضي إخراجَها في أهل البِرِّ والعفاف.
قيل إنه كان يحضر مجلسه كل يوم: أربعُ مئة صاحب طيلسان أخضر.
قال داود: حضر مجلسي يومًا أَبو يعقوب الشريطي، وكان من أهل البصرة، وعليه خرقتان، فتصدَّر لنفسه من غير أن يرفعه أحد، وجلس إلى جانبي، وقال لي: سلْ يا فتى عمَّا بدا لك، فكأني غضبتُ منه، فقلتُ له مستهزئًا: أسألك عن الحجامة؟ فبرك أَبو يعقوب، ثم روى طريق: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ومن أرسلَه ومن أسندَه، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء، وروى اختلاف طريق احتجام رسول الله ﷺ، وإعطاء الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه، ثم روى طرق: "أن النبي ﷺ احتجم بقرن"، وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة، مثل "ما مررت بملأ من الملائكة"، ومثل: "شفاء أمتي في ثلاث"، - وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة، مثل: قوله ﵇: "لا تحتجموا يوم كذا، ولا ساعة كذا"، ثم ذكر ما ذهب إليه أهلُ الطبِّ من الحجامة في كل زمان، وما ذكروه فيها، ثم ختم كلامه - بأن قال: وأول ما خرجتِ الحجامةُ من أصبهان، فقلت له: واللهِ! لا حقرتُ بعدَك أحدًا أبدًا.
1 / 33