ولكن حلمي يظل مع هذا بالنسبة لحفني جزءا من كيانه، ولو كان قلبه يعرف الحب ما أحب إلا أخاه حلمي، ولكنه لا يشعر بهذا الحب، ولا هو يعرف معناه، ولكنه يعرف أنه مستعد أن يبذل كل جهده من أجل أخيه من غير حب. وما دام ما يبذله لا يفسد عليه متعة من متعه. وأحسب أن حفني لو أحس أن قطعة من جسمه ستقف حائلا بينه وبين متعته لاستغنى عنها وكأنه يلقي سيجارة شربها إلى عرض الطريق. وهكذا عاصر حفني كل هذه الأحداث التي مرت بها مصر، لم يشترك يوما في مناقشة يحس أنها ستعكر مزاجه أو تجعله آخر الأمر يفكر بجدية في شيء ما، ولهذا لم يكن عجيبا أن يكثر حوله الأصدقاء، ولماذا لا؟ وأين سيجدون شخصا يوافق كل الآراء المتعارضة دون أي مناقشة لها؟ بل ربما وجد الكلمة المؤيدة للرأيين المتناقضين، فإن يكن أخوه من حزب معارض للوفد فهو لا يعرف الحزبية، وأصدقاؤه من كل الأحزاب، وكلهم واحد عنده تأييدا لرأيه في الحياة.
وهكذا مرة أخرى لم يكن عجيبا أن تتوثق الصلة وتزداد توثقا بين حفني وعبد الفتاح صدقي، وتستمر هذه الصداقة رغم فارق السن بينهما، ولكن صلات حفني لا تعترف بفوارق الأعمار ولا بفوارق الطبقات ، فهو كما يعرف حامد وحسن وهما من سن ابن أخيه عدلي الذي هدهد طفولته وهو وليد، يعرف عبد الفتاح صدقي الذي يكبره بما يقرب من عشرين عاما.
وبعد فهل تراك عرفت حفني؟ هيهات لك أن تعرفه! وكيف لك أن تصل إلى أغواره إذا كنت أنا وأنا مصدر الوحيد عنه لا أستطيع أن أدعي أنني بلغت من حقيقته كل حقيقة؟!
وحسبي وحسبك أن أروي لك ما خاض من أحداث لعلك تقف على شيء يسير من حقيقته، وربما سألت نفسك: وماذا يهمني من أمر حفني؟ فإذا فعلت فإنني أحزن حزنا شديدا، فإنما حفني لون من ألوان الإنسانية، وما نحن إذا لم نعرف أنفسنا، وكل إنسان هو جانب منا ونحن جانب منه، هو يمثل لونا من الفصيلة التي نكونها نحن البشر، فإذا كنت لا تعرف نفسك مصورة في الآخرين فماذا يمكن أن تعرف؟!
لا عليك ولا علي، فإني أقص وشأنك وما أقول، ولك أن ترى فيه ما تشاء من رأي. •••
لم يكن حلمي قد اشترك في الوزارة بعد، حين التفت عبد الفتاح صدقي إلى حفني وهو يقدم له فنجان قهوته: قل لي يا حفني، إلى متى تظل تلعب القمار؟ - كلنا يقامر يا عبد الفتاح بك. - لم نختلف، ولكن قمار عن قمار يختلف. - كله قمار. - تظل تلعب الليل كله وتجهد نفسك وتتعب أعصابك. - اسمع يا عبد الفتاح بك، لعلك أول إنسان أخبره، أنا لا ألعب لأكسب. - فلماذا تلعب؟ - لأني أجد متعة في اللعب، فإذا فقدت المتعة تركت اللعب. - ولا تريد أن تكسب؟ - ليس للفلوس عندي أي معنى إلا أن تكون وسيلة لأنبسط وأعيش كما أحب أن أعيش. - أنت أحسن إنسان يمكن أن يعمل في البورصة. - أتظن هذا؟ - أنا محترف وأعرف ما أقول. - ولماذا أعمل في البورصة؟ - لتكسب. - وماذا أفعل بالمكسب؟ - ستتزوج يوما. - أتظن ذلك؟ - اسمع، أنت تعرف خالتك كريمة عز المعرفة. - طبعا. - أتعتبرها امرأة؟ - كانت. - أنا أتكلم عن الحاضر. - أنا لم أنظر إليها من هذه الناحية. - وهل يستطيع أحد أن ينظر إليها من هذه الناحية ؟ - ماذا تقصد؟ - وأنت تعرف طبعا مغامراتي. - كلها على يدي. - أتعرف لو ارتفعت حرارة خالتك كريمة نصف درجة أصاب بالجنون؟! - هو الحب إذن. - وأكثر، هو الحياة؛ حياتي وحياة بناتي وكل ما لي في الوجود. - وتريدني أن أتزوج؟ - طبعا. - أتريدني أن أجن؟ - لا، وإنما أريدك أن تعيش. - الزواج مسئولية، وأنا يا عبد الفتاح بك أرفض المسئولية. - أنت اليوم شاب، فكر في يوم تصبح فيه في مثل سني، أنا بدون كريمة وسناء لا أساوي شيئا. - أما أنا فقاربت الأربعين، أما أنت فتساوي كثيرا من غير أحد. - أوهام، أنا أعمل لأسرتي. أنت لا تعرف المتعة التي أجدها حين أشغل نفسي بأمورهم، ولا تعرف المتعة التي أحس بها وأنا أتكلم مع كريمة عما سنصنعه لسناء حين تتزوج ولآمال. - ولكن لا أنسى الشقاء الذي ساد البيت يوم مات لطيف خطيب سناء. - أنت رجل مقامر، ولكي تكسب لا بد أن تخسر. - أنا أريد أن أكسب فقط. - المتعة الحقيقية هي المكسب بعد الخسارة، أما المكسب المستمر فيورث الملالة. المتعة العميقة هي الخسارة والمكسب معا. هكذا الحياة. - أظن أن هذه المتعة لا أحب أن أعرفها. - اسمع، أنت ستتزوج يوما. - لا أظن. - سترى. - انتظر حتى نرى. المهم لماذا لا تعمل معي في البورصة؟ - أعمل. - حقا؟ - ولم لا؟
وعمل حفني في البورصة، وعن هذا الطريق استطاع أن يجد وظيفة لعدلي في البورصة بعد أن تخرج في كلية التجارة. وكان اليوم الواحد من العمل في البورصة يقدم لعدلي من الخبرة في المجال الاقتصادي ما تقدمه عشرات السنوات في أي عمل آخر بهذا الميدان.
وعين حلمي وزيرا، وحاول حفني أن يستخدم وظيفة أخيه ليصل إلى معلومات يستفيد بها في البورصة، فكان الفشل نصيبه دائما، فمهما يكن ذكاء حفني فهو لا يستطيع أن يصارع داهية في السياسة مثل حلمي.
والتفت حفني إلى عدلي فوجده ما زال عبيطا عبط الشباب في سنه المؤمنين بالشرف والخلق وأسرار الدولة وواجبات العمل، فانصرف عنهما كليهما واتجه إلى صداقاته، وطالما أسعفته صداقاته، وازدادت ثروة حفني، وكان ينشغل تماما عن مادة القمار وانحصرت متعته في الحفلات الصاخبة التي يخرج منها دائما بامرأة لا يعنيه من أمرها أن تكون متزوجة أو غير متزوجة. •••
كان الحفل رائعا في بيت رشدي المهدي؛ فقد ترك الشقة التي كان يسكن بها وابتنى لنفسه فيلا أنيقة جعلت أعماله تتسع والمال ينهمر عليه انهمارا، وكانت الحفلات التي يقيمها في فيلته تدر عليه أرباحا خيالية، فقد كان يوهم كثرة من الوجهاء أن الحفلة مقامة له خصيصا ليعرفه بالفتاة التي يريد أن يتعرف بها، وهكذا كان يأخذ مصاريف الحفلة مضاعفة خمسة أضعاف أو ستة أو أحيانا سبعة قبل أن تقام الحفلة. وكان من الطبيعي أن يكون حفني الوسيمي وعبد الفتاح صدقي عضوين دائمين في كل حفل يقيمه رشدي المهدي، أما حفني فلسمعته النسائية ولحب الأصدقاء له، وأما عبد الفتاح فلأنه هو أيضا كان يقيم الحفلات في بيت رشدي المهدي لحسابه الخاص، أو أن رشدي يوهمه بهذا على الأقل.
Halaman tidak diketahui