تحركنا بالعربات المدرعة
R + R
شارفنا الوادي، تقدمت دبابتان للاستكشاف تتبعهما مدرعتان للحراسة، دخلنا ممرا ضيقا تقوم على جانبيه هضبتان صخريتان وكنا في المدرعة عشرة. بعد توغل نصف كيلومتر انهمر علينا الرصاص، تصدت دروع السيارة للرصاص، واستمرت عملية الاستكشاف. انحشرت سيارتنا في مطب أو التحمت بشيء مرتفع فتوقفت، عجزت عن التحرك وضاع كل جهد لتخليصها. - على دبابة أن تدفعنا من الخلف. - ليذهب أحدنا إلى إحدى الدبابتين.
وقعت القرعة على زميل فغادر السيارة ليزحف على بطنه في الظلام، انتظرنا في غاية من القلق. وبعد دهر رجع إلينا وهو يقول: دبابة المقدم مشتبكة في قتال على بعد خمسة كيلومترات. أما الأخرى فقد تعطلت.
صعقنا الخبر. وهمس صوت: نحن عشرة والعدو آلاف. - والعمل؟ - مصير سيارة البيضا!
من داخل السيارة رأينا الأشباح تهبط في حذر من الجبل، فتحنا سقف السيارة وأخذنا أهبتنا بالبنادق والقنابل اليدوية. طلبنا النجدة باللاسلكي ولكن الاتصال انقطع، أمرنا أقدمنا في الخدمة بمغادرة السيارة، مرت لحظات رهيبة ممزقة بالخوف، قاومت موجة من الضحك تريد أن تجتاحني. وثب أحدنا؛ تبعناه بلا تردد، نفر من الموت إلى الموت. انهال الضرب، انبطحت على وجهي، استعملت البندقية والقنابل اليدوية. في هنيهة صمت، رفعت رأسي فلم أجد أثرا لأحد من زملائي. دعوت القمر أن يختفي، لم أدر أين أتجه! ولا كيف تفرق الزملاء! خيل إلي أنني محاصر، اتجهت وجهة بلا خطة ولا علم لي بما ينتظرني، دهمتني لحظة مباغتة فوجدتني حيال ثلاثة أشباح من العدو بلا تدبر أو وعي، فتحت الأمان وضغطت على الزناد، فانطلقت مطرة من الرصاص خر على أثرها الثلاثة. انطلقت أعدو على غير هدى تحت ضوء القمر. سمعت صوتا يناديني فاتجهت نحوه بلهفة من يفلت من قبضة الموت. وجدتني مع مجموعة من الزملاء ماضية في حذر نحو شبح الدبابة المعطلة، ولما بلغناها صحنا معا: افتحوا .. نحن مصريون.
لم نتلق من الداخل استجابة من أي نوع كان، كررنا النداء بلا أمل. يئسنا فدفعنا أنفسنا في الحشائش متفرقين وأصوات الرصاص لا تنقطع، وأخذ الضرب يخف حتى سكت، نهضت في حذر مقتربا من الدبابة، وهتفت بتوسل: افتحوا .. إني مصري .. ألا تسمعون؟
ظلت الدبابة غارقة في صمت متحد مرهق رهيب حتى تطايرت اللعنات من فمي، ثم رجعت مغيظا يائسا إلى قبر الحشائش؛ وإذا بالضرب يتركز على الدبابة كالسيل. مست رصاصة خوذتي فتشهدت، ترقبت الرصاصة التالية بيأس وقهر، هاتف قال لي: إنني سأعود إلى مصر. أقسم لي على ذلك.
اشتد الضرب لدرجة غير محتملة، ثم يهدأ ويخف لسبب لا أدريه. لم يبق منه إلا طلقات متباعدة، وأنا مغروز بكل قوتي بين الحشائش. وخيل إلي أن الظلام يخف ويبهت رويدا. أجل، الظلام يخف رغم اختفاء القمر وراء الجبل، سوف تلوح تباشير الضياء، وينقشع الظلام الذي يخفيني عن عين العدو المتربص، سيجدني صيدا سهلا، وسينهال الرصاص الحانق الغاضب علي من جميع الجهات. الصباح يقترب ولا مكان للمعجزات، لعل أمي تصلي في هذه اللحظة، ولكن لا أمل في المعجزات. واشتد الضرب فجأة، اشتد أكثر من أي وقت مضى. أصبح الضوء يسمح بالرؤية، أقدام العدو تتراجع نحو الجبل، والضرب يجيء من الناحية الخلفية. ترامى إلى سمعي صوت دبابة أو دبابتين، جاءت النجدة، إن القذائف تطير فوقي لتنفجر خلف سفح الجبل. لم تدم فرحتي إلا ثانية واحدة، ثم تساءلت كيف أعلن عن حقيقتي المدفونة لبني وطني؟ كيف أتجنب الموت برصاصهم أو شظايا قنابلهم؟ أطلقت النار نحو العدو المتقهقر، وتركز الخوف من الموت فيما ورائي. أثقلني التعب، وثقل علي بصفة خاصة فوق كتفي اليسرى. وغاصت الأرض بلا سبب واضح، إلى أين تغوص الأرض ولماذا؟ إنني أهبط في هوة ثم يرفعني شيء مجهول إلى أعلى. وعاد ضوء الصباح يضعف بسرعة عجيبة حتى غاب كل شيء في الظلام. (6)
الأديب والجندي
Halaman tidak diketahui