فإذا كان هذا اهتمام إنكلترا بجزيرة صغيرة في وسط المحيط الهندي فكيف باهتمامها بمصر؟ يرى المتأمل أنه من المستحيل أن ترضى إنكلترا باحتلال نابوليون وادي النيل؛ لأن مثل هذا الاحتلال كان ينذرها بضياع أملاكها في الهند في أقل من لمح البصر، فكانت واقعة أبي قير هي الكلمة الفاصلة بين إنكلترا ونابوليون، وبانتصار الإنكليز وهزيمة بونابرت عادت الطمأنينة إلى قلب إنكلترا لأنها أمنت على مصر وهي أقرب واسطة بين الغرب والشرق.
ونحن لا نرى في عمل إنكلترا لنجاة طريق الهند ختلا أو خداعا، فإن ما عمدت إليه إنكلترا من الأسباب كانت تعمد إليه كل دولة في أمثال هذه الأحوال.
ولو كانت إنكلترا تضمر لمصر شرا من قديم كما يقول المكابرون لانتهزت فرصة فوزها على نابوليون في أبي قير واستولت على مصر، وربما يرد بعضهم علينا بقوله: إن إنكلترا كانت في ذلك العهد ضعيفة في داخليتها فلم تر في نفسها الكفاءة للتغلب على بلاد كمصر، أو أنها لم تجد من نفسها ميلا لاحتلال هذه البلاد خوفا من عودة نابوليون إليها بقوة وشدة.
وسنقص على القارئ الكريم في الحوادث التي وقعت بعد هذه الحادثة ما يفسر لنا إحجام إنكلترا عن احتلال مصر في ذلك الحين تفسيرا مرضيا، على أن إنكلترا بعد واقعة أبي قير بقيت ساكتة عن مصر أربعين سنة.
وتفسير هذا السكوت هو أنها لا ترى فائدة في الحركة والعمل إذا لم يكن هناك موجب لهما، وما دامت مصر في ضعف وقراها في انحلال، وما دامت ليست في يد قوية، فإنكلترا مطمئنة من جهتها كل الاطمئنان، واستمر هذا السكوت حتى جاء محمد علي، وظهر منه أنه يستطيع تهديد مركز إنكلترا في الشرق ويعيد إلى الحكومة الإنكليزية الآلام التي سببها لها نابوليون، فنهضت إنكلترا حينئذ للعمل وتداخلت في شئون محمد علي وهو في قمة مجده، على أننا لا نرى أن إنكلترا ملومة فيما عملته مع محمد علي، ولا نرى وجها لانتقادها انتقادا شديدا كما يصنع سوانا.
فإن أعمال إنكلترا لم تكن إلا دفاعا عن نفسها وحفظا لمركزها السياسي، ونحن لا نؤيد رأي القائلين بأن إنكلترا رأت من الحكمة أن تقتل «الفرخة قبل أن تخرج من البيضة» بأن تفسد ما أصلحه محمد علي لتوقف مصر عند حدها ولا تسمح لها بالتقدم في طريق المدنية، ولكننا نقول بأن إنكلترا لم يرق في عينها أن ترى محمدا علي سائرا بمملكته وشعبه في طريق التقدم، وتنظر بسكون وهدوء اليوم الذي تعادل فيه قوة محمد علي قوة نابوليون الكبير ويعود التعقيد إلى مسألة الهند وطريقها.
لأنه كان من المستحيل على الحكومة الإنكليزية أن تغير سياستها الاستعمارية التي قضت في تدبيرها السنين الطويلة حبا بالإنسانية وإكراما لخاطر مصر والمصريين. إن إنكلترا لا تطيق أن ترى في مصر يدا قوية غير يدها، وبذلك تستوي عندها يد إمبراطور فرنسا ويد الألباني المجدود (محمد علي)، على أن يد محمد علي كانت أشد خطرا عليها من نابوليون؛ لأنه لم يجتهد في إخفاء عواطفه الحبية نحو فرنسا، وأكبر دليل على ذلك كونه قد غمس مصر في المدنية الفرنسوية، ولا يخفى أن محمدا علي بإظهاره هذا الميل أظهر أيضا أنه إذا قام نزاع بين الدول ونشبت بينها حرب فإنه لا محالة ينضم إلى فرنسا، فهل يعقل إذن أن إنكلترا كانت تقف مغلولة الأيدي وهي ترى بعينيها نفوذ فرنسا وطيد البنيان ثابت الأركان في أهم بلاد تستطيع تهديد أملاكها؛ لأن فرنسا إذا كانت نافذة الكلمة في مصر فإنها بلا ريب تكون أبدا على أهبة الاستعداد لتنقض على أملاك إنكلترا في الهند.
وفي عام 1840 عقدت إنكلترا مؤتمرا دوليا في لندن لتؤيد فيه سياستها المستمرة التي حافظت عليها من يوم وضعت يدها على بلاد الهند وصارت لها بالشرق علاقة.
وعند قولنا: «السياسة المستمرة» فإنا نصيب كبد المسألة؛ لأن استمرار السياسة البريطانية وصبر الساسة الإنكليز هو الذي جعل الناس يرمونها بالمكر والخداع والغدر، ولا ذنب لإنكلترا إلا استطاعتها أن تنتظر حتى يقع أعداؤها في الضيق فإذا سنحت تلك الفرصة فإنها لا تفر من يد إنكلترا مهما كلفها ذلك، فإن إنكلترا إذا رأت عدوها عاجزا عن الدفاع عن نفسه ورأت أمامها مقتله معرضا للضرب فإنها ترمي بسهمها الصائب وهي تعلم أنه ينال من خصمها فوق ما ترغب، فيصرخ العدو الجاهل وأمثاله قائلين: «لله ما أقبح المكر والخداع اللذين تخفيهما إنكلترا تحت طيات سكونها وسكوتها ...»
على أننا لا نلوم في هذا المقام إلا الخصيم الجهول الذي لم يتق الضربة الصائبة قبل وقوعها مع علمه بأن العدو القوي لا يشفق عليه إذا رأى عجزه وضعفه ما دام يرى لنفسه في وقوع هذه الضربة نفعا.
Halaman tidak diketahui