{ يحاربون الله } هو على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله والمحاربة مطلقة ففسرها مالك بأن المحارب هو في حمل السلاح على الناس في مصر أو في برية فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا دخل ولا عداوة، ومذهب أبي حنيفة وجماعة ان المحاربين هم القطاع للطريق خارج المصر وأما في المصر فيلزمه حد ما.
اجترح من قتل أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك. وقوله: في الأرض، ظاهرة العموم فيشمل المصر وغيره، كما قال مالك: والسعي في الأرض فسادا، يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم أي يضيفون فسادا إلى المحاربة، وانتصب فسادا على أنه مفعول أو مصدر في موضع الحال أو مصدر من معنى يسعون على معنى ان يسعون في الأرض معناه يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فسادا أي إفسادا. والظاهر في هذه العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها وبه قال جماعة من الصحابة وهو مذهب مالك وجماعة وقال ملك: استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معرفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله. وقال ابن عباس وجماعة من التابعين: لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب فمن قتل يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ومن أخاف فقط فالنفي ومن جمعها قتل وصلب، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا. فقال أبو حنيفة ومحمد وغيرهما: يصلب حيا ويطعن حتى يموت. وقال الشافعي وجماعة: يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل. واختلفوا في النفي فقال أبو حنيفة: النفي هو أن يسجن وهو إخراجه من الأرض. قال الشاعر وهو مسجون:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
قال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإسلام. وقال مالك: لا يضطر مسلم إلى الدخول في دار الشرك. { ذلك لهم خزي في الدنيا } أي ذلك الجزاء من القتل والصلب والقطع والنفي. والخزي الهوان والذل والافتضاح. { ولهم في الآخرة } ظاهرة الجمع للمحارب بين عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.
{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } الآية ظاهرة أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة. وهذا ظاهر فعل علي رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا. وقالوا: لا نظر للإمام فيه كما ينظر في سائر المسلمين؛ فإن طولب بدم نظر فيه وأقيد منه بطلب الولي، وإن طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي يؤخذ ما وجد عنده من مال وغيره ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وظاهر قوله: غفور رحيم، عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه.
[5.35-40]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين والوسيلة القربة أمر المؤمنين بأوصاف خالف فيها المحارب إذ لم يتق الله تعالى ولا ابتغى قربة إليه، وجعل الحرابة عوض الجهاد في سبيل الله فاستحق بذلك العقاب العظيم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ورتب هنا رجاء الفلاح على الاتصاف بهذه الأوصاف التي في هذه الآية من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد.
{ إن الذين كفروا } الآية لما ذكر حال المؤمن ورجاء الفلاح له ذكر حال الكافر وما يقول إليه. وخبر إن هو لو، وجوابها ومثله معطوف على ما من قوله: ما في الأرض، أي الذي في الأرض، وجواب لو جاء منفيا وهو قوله: ما تقبل منهم، وجاء على الفصيح من ترك اللام إذ يجوز في الكلام لو جاء زيد لما جاء عمرو، فتدخل اللام على ما النافية. وقال به فأفرد الضمير وإن كان تقدمه شيآن ما الموصولة ومثله لتلازمهما، كما قالت العرب: رب يوم وليلة مربي، تريد مر أبي فأفرد الضمير لتلازم اليوم والليلة. (قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله معه بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه، فإن قلت: فيم ينتصب المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه لو من الفعل لأن التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض جميعا. " انتهى ". إنما توحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال وعود الضمير متأخرا حكمه متقدما تقول الماء والخشبة استوا كما تقول الماء استوى والخشبة. وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء والخشبة استويا ومنع ذلك ابن كيسان، وقول الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله بمعنى مع ليس بشيء لأنه يصير التقدير مع مثله معه أي مع مثل ما في الأرض إن جعلت الضمير في معه عائدا على ما فيكون معه حالا من مثله، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة فلا فائدة في ذكر معه لملازمة معية كل منهما للآخر. وإن جعلت الضمير عائدا على مثله أي مع مثله مع ذلك المثل فيكون المعنى مع مثلين فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عن إذا الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثله. وقول الزمخشري: فإن قلت: إلى آخر الجواب هذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أن أن إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاء عليه فيكون التقدير على هذا لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليقتدوا به فيكون الضمير عائدا على ما فقط وهذا الذي ذكره وهو تقريع منه على مذهب المبرد في أن أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية وهو مذهب مرجوح.
ومذهب سيبويه أن إن بعد لو في موضع رفع على الابتداء والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة وعلى التقريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون، ومثله مفعولا معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل وهو ثبت بوساطة الواو فيه. ولما تقدم من وجود لفظه معه وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأن ثبت ليست رافعة ما العائد عليها الضمير وإنما هي رافعة مصدر انسبكا من ان وما بعدها وهو كون إذ التقدير لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه ليقتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحبا للمثل، والمعنى كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحبا للمثل وهذا فيه غموض، وبيانه أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمرا، وجعلت عمرا مفعولا معه، والعامل فيه يعجبني لزم من ذلك أن عمرا لم يقم وأنه أعجبك القيام وعمرو وال جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائما، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحبا القيام عمرو. فإن قلت: هلا كان ومثله معه مفعولا معه والعامل فيه هو العامل في لهم، إذ المعنى عليه؟ قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة. وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أن قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه واما هذا لك وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل. " انتهى ". فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ولو كان أحدهما يجوز أن ينصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لإسم الإشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أنه يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله معه أن يكون ومثله مفعولا على أن العامل هو العامل في لهم.
Halaman tidak diketahui