تفسير الموطأ
تأليف
أبي المطرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي القرطبي الأندلسي
ولد سنة ٣٤١ هـ وتوفي سنة ٤١٣ هـ - رحمه الله تعالى -
حققه وقدم له وخرج نصوصه
الأستاذ الدكتور عامر حسن صبري
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
طبع بتمويل
الهيئة القطرية للأوقاف
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلمة
سَعَادَة وَزِير الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله الْأمين وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.
وَبعد:
فقد اعتنى الْمُسلمُونَ بِحَدِيث نَبِيّهم وحفظوه بوسائله المتاحة، وَأَقَامُوا حوله سياجًا من الْعُلُوم الَّتِي يُمكن أَن نسميها حارسة، فِيمَا عرف بِعلم الحَدِيث، وَمَعَ بداية عصر المصنفات فِي السّنة، كَانَ "موطأ الإِمام مَالك" فِي الطليعة، فلقى الْكثير من الْعِنَايَة، بشروح ماتعة على مداد الْقُرُون المتتابعة، وَكَانَ لعلماء الأندلس الْعِنَايَة الْخَاصَّة بِهِ.
وَالْيَوْم نواصل المسيرة فِي إحْيَاء التراث الإسلامي، تقدم شرحًا أندلسيًا رائعًا، هُوَ فِي الْحَقِيقَة تحفة علمية تضافرت جهود من أَجله:
- الْمُحَقق: الَّذِي عانى تَحْقِيقه.
- ولجنة إحْيَاء التراث الإسلامي بوزارة الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية الَّتِي قَامَت بمراجعته وتدقيقه.
- وإدارة الشئون الإسلامية: الَّتِي تشرف على طباعته وإصداره وتوزيعه.
- الْهَيْئَة القطرية للأوقاف: الَّتِي جددت بتمويله دورًا للْوَقْف فِي الْأمة.
فالشكر لَهُم جَمِيعًا، وَالْحَمْد لله أَولًا وأخيرًا.
فيصل بن عبد الله آل مَحْمُود
وَزِير الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية
رَئِيس مجْلِس إدارة الْهَيْئَة القطرية للأوقاف
دولة قطر
1 / 3
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدنا مُحَمَّدٍ سيد المرسلين، وعلى آلهِ وصَحْبهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
وبعد:
فإنَّ مِمَّا خَصَّ اللهُ تَعَالَى به هذِه الأُمَّةَ أَنَّ الكِتَابَ المُنَزَّلَ لِهَدَايَتِهِم مِنْ عِنْدِ الله تعالَى قدْ نُقِلَ بالتَّوَاتُرِ القَطْعِيِّ حِفْظًا في الصُّدُورِ، وكِتَابةً في السُّطُورِ، فَلَمْ يَتَبدَّلْ، ولَمْ يَتَغَيَّرْ، ولَمْ تَغِبْ منهُ كلمةٌ وَاحِدَةٌ، وأنَّ السُّنَّةَ النبويَّةَ، وسِيرةَ سَلَفِ الأُمَّةِ قدْ رُويتا بالأَسانيدِ، ودُوِّنتا في الكُتبِ بِعِنَايةٍ يَسْهُل معها التَّمْييزُ بينَ المقبولِ والمردُودِ.
ومِمَّا خَصَّ الله تعالى به هذه الأُمَّةَ أيضًا أنه ﷿ يَبْعَثُ فِيهَا مُجَدِّدينَ لأَمْرِ الدِّينِ، يَكُونُ هَمَّهُم إعَادةُ الحياةِ إلى الإسْلاَمِ مِنْ جَدِيد، وإرشادُ النَّاسِ إلى المنهج الصَّحِيحِ المُوَافِقِ لِكِتَابِ اللهِ، وسنَّةِ رَسُولهِ ﷺ، وإزَالةُ مَا عَلِقَ مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ والمَعَاصِي.
وكَانَ مِنْ أَجَلِّهِم في القُرُونِ الأُولَى قَدْرًا، وأَنْبَهَهَم ذِكْرًا، إمامُ دارِ الهِجْرةِ أبو عبدِ الله مَالِكُ بنُ أنسٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
فقدْ وَفَّقهُ اللهُ تعالَى إلى أنْ يَكُونَ أحدَ مَنْ حَفِظَ سُنَّةَ النبيِّ ﷺ دِرَاية وَرِوَايةً، بلْ إنَّهُ لم يكنْ بالمدِينةِ عَالِم مِنْ بَعْدِ التَّابعِينَ يَشْبَههُ في العِلْمِ، والفِقْهِ، والجَلاَلةِ، والحِفْظِ -على حَدِّ قَوْلِ الإمامِ الذَّهبيِّ (١) - وإنَّ كِتَابَهُ (الموطَّأ) يُعَدُّ مِنْ أَهمِّ ذَخَائرِ
_________
(١) سير أعلام النبلاء ٨/ ٥٨.
1 / 5
كُتُبِ الحديثِ المُدَوَّنةِ، ومِنْ أَقَواها مَتْنًا، وأَعْلاَها سَنَدًا، وأَغْزَرهَا فِقْها، ولِذا تَلَقَاهُ عنهُ خَلْقٌ مِنْ تلامذِته، ونشَرُوه في الآفاقِ، وحَرَصَ المُصَنِّفُونَ في السُّنَنِ والآثارِ على رِوَايةِ الكَثِيرِ مِنْ مَرْويَاتهِ مِنْ طُرُقٍ كَثيرَةٍ، وَرِوَاياب مُتَنوِّعةٍ، كَمَا تَنَاولهُ بالخِدْمةِ جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الُمحَدِّثينَ والفُقَهاءِ، تَمَثَّلَ فِي شَرْحهِ، وتَفْسِيرِ أَلْفَاظهِ، واخْتِصَارِه وتَهْذِيبهِ، وبَيَانِ أَطْرَافهِ، وَوَصْلِ مُنْقَطعَاتهِ وبَلاَغَاتهِ، وتَوْضِيحِ رِجَالهِ وأَسَانِيدِه وغيرِ ذلك.
وكانَ لِعُلَماءِ الأَنْدَلُسِ وأَهْلِ المَغْرِبِ النَّصِيبُ الوَافِر في خِدْمَةِ هَذا الكِتَابِ العَظِيمِ، فألّفُوا فيهِ تأَليفَ كَثيرة، اسْتَعْرضَها بعضُ المؤلِّفينَ قَدِيمًا وحَدِيثًا (١).
ومنْ أَهَمِّ مَنْ قامَ بشِرْحهِ: الإمامُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ الزَّاهِدُ أبو المُطَرّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوانَ القُنَازِعيُّ القرْطُبِي.
فقدْ تَوَلَّى شَرْحَ الموطَّأ، مُعْتَمِدًا على رِوَايةِ يَحْيَى بنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، وعَلَى بَعْضِ رِوَاياتِ المُوطَّأ الأُخْرَى، وعَلَى رَأْسِهَا رِوَايةِ يَحْيى بنِ بُكَيْرٍ، واعْتَمدَ فِي شَرْحهِ على أقوالِ عُلَماءِ الأَنْدَلُسِ خَاصَّةً، معَ اعتمادِه أيضًا على أقوالِ عُلَماءِ الأَمْصَارِ الآخَرِينَ مِنْ أئمة المالكيَّة وغَيْرِهم.
ويُعَدُّ هذا الكتابُ مِنْ أَفْضَلِ الكُتُبِ في شَرْحِ أَحَادِيثِ الموطَّأ، وفي بيانِ الأَحْكامِ الفقهيَّةِ، وعَرْضِ أقوالِ العلماءِ المتقدِّمينَ منهم والمتَأخِّرينَ.
وقدْ أشادَ بهِ كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ.
منهُم: القَاضِي عِياض، فقالَ في تَرْجَمَتهِ: (وكَانَ أَقْوَمَ مَنْ بَقِيَ بِحَدِيثِ مُوطَّأ مالكٍ، ولهُ تَفْسِيرٌ، كِتَابٌ مَشْهُورٌ، مُفِيدٌ، مُسْتَعملٌ) (٢).
_________
(١) منهم: الإمام محمد بن خير في فهرسته، والقاضي عياض في كتابه (الغنية) وهو فهرس لشيوخه، وفي كتابه النفيس (ترتيب المدارك)، ومن المعاصرين: الباحث المغربي محمد بن عبد الله التليدي في كتابه القيِّم (تراث المغاربة في الحديث النبوي وعلومه)، والدكتور مشعل الحدادي في كتابه (الإمام مالك وأثره في علم الحديث النبوي).
(٢) ترتيب المدارك ٧/ ٢٩٣.
1 / 6
وقالَ ابنُ بَشْكُوالَ: (وجمعَ فِي تَفْسِيرِ الموطَّأ كِتَابًا حَسَنًا مُفِيدًا، ضَمَّنهُ ما نقلهُ يَحْى بنُ يَحْيَى في مُوطَّأه، ويَحْيَى بنُ بُكَيرٍ أيضًا فِي مُوطَّأه) (١).
والحمدُ للهِ الذي وَفَّقني إلى تَحْقِيقِ هَذا الكِتَابِ النَّفِيسِ الذي تَمَيَّزَ بِكَثيرٍ مِنَ الخَصَائصِ والمَحَاسِنِ عَنِ الكُتبِ المُؤَلَّفةِ في مَوْضُوعهِ، وقَدَّمتُ الكِتَابَ بِمقُدِّمةٍ مُفِيدَةٍ عَنِ المُصَنِّفِ الذِي كَانَ نَادِرَةَ زَمَانهِ، ومِنْ أعيانِ المُحَدِّثينَ والمُقْرِئينَ بالأَنْدَلُسِ، وكتبتُ أيضأ مُقَدّمةً عَنْ كِتَابهِ (تَفْسِيرِ الموطَّأ) وأَهَمَّيتهِ، ومَنْهَجِ المُصَنِّفِ فيه، ثُمَّ خَدَمتُ الكِتَابَ بالفَهَارسِ الكَاشِفةِ.
وقدْ أتعبتُ نَفْسِي، وأَقْصَرْتُ نَهَارِي، وأَسْهَرْتُ لَيْلِي في ضَبْطِ هذا الكِتَابِ الماتعِ، وتَرْتيبِ نُصُوصهِ وفِقْرَاتهِ، والتَّعْلِيقِ عليهِ بِمَا يُوضحُ عَبَارَاتهِ وكَلِمَاتهِ، وإصْلاَحِ أَخْطَاءِ النُّسْخَةِ وسَقَطاتِها، وأَرْجُو مِنَ الله تعالَى أنْ أكُونَ قدْ وُفِّقتُ لذلكَ، ومَا تَوْفِيقِي إلَّا باللهِ، عليه توكلَّتُ وإليه أُنيبُ.
واللهَ تعالَى أسألُ أنْ يَنْفَعَنِي وإخْوَانِي بهذا الكِتَابِ المفيدِ، وأنْ يَجْزِيَ مُؤلّفَهُ الإمامَ أبا المُطَرِّفِ القُنَازِعيَّ بِرِضْوَانهِ العَظِيمِ، ونَعِيمهِ المُقِيمِ، على ما بذَلَهُ مِنْ جُهُودٍ مَشْكُورَةٍ في خِدْمةِ كِتَابِ اللهِ ﷿، وسُنَّةِ نَبِيَّهِ ﷺ.
وصَلَّى الله تعالَى وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلهِ وصَحْبهِ أجمعينَ، والحمدُ لله رَبِّ العالمينَ.
* * *
_________
(١) الصلة ٢/ ٣٢٣.
1 / 7
المقدمة
وفيها خَمْسةُ فُصُولٍ:
الفَصْلُ الأوَّلِ: عَصْرُ أَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ.
الفصل الثاني: ترجمة أبي المُطَرِّفِ.
الفصل الثالث: شُيُوخُ أَبي المُطَرِّفِ وتَلاَمِيذُه.
الفصل الرابع: مَرْويَاتُ أَبي المُطَرِّف ومَسْمُوعَاتهِ.
الفصل الخامس: دِرَاسةُ الكِتَابِ.
1 / 9
الفصل الأول
عصر أبي المطرف القنازعي
وفيه مَبْحَثانِ:
المبحث الأوَّلِ: الحياةُ السيَاسيِّة.
المبحثُ الثاني: الحياةُ العلميَّةِ.
1 / 11
المبحث الأول
الحياة السياسية (١)
مَرَّتِ الأندلسُ خِلالَ حياةِ أبي المُطَرِّفِ بأربعِ مَرَاحِلَ سِيَاسيةٍ، هي:
المَرْحَلةُ الأولى: مَرْحَلةُ الخِلَافةِ:
وتَبْتَدِئُ مِنْ تَارِيخِ إعْلانِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الحَكَمِ بنِ هِشَامِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ المَرْوَانِي، المُلَقَّبِ بالنَّاصرِ لِدِينِ الله تَسْميتَهُ بأميرِ المؤمنينَ سنة (٣١٦)، وتَنْتَهِي بوفَاةِ الحَكَمِ المُسْتَنْصِرِ باللهِ سنة (٣٦٦).
وكانَ لِشَجاعةِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصرِ وصَرَامتهِ سَبَبًا في وِحْدَةِ البَلاَدِ مِنْ أَقْصَاهَا إلى أَقْصَاهَا، وغَدا ثَانِي أَعْظَمِ مُلُوكِ الأَنْدَلُسِ بَعْدَ عبدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ، وهو بانِي مَدِينةَ الزَّهْرَاءِ الشَّهِيرةِ، ودَامتْ دَوْلتهُ خَمْسِينَ عَامًا مِنَ الحُكْمِ، ثُمَّ توفي سنةَ (٣٥٠).
ثُمَّ خَلَفَهُ ابنهُ الحَكَمُ الثَّانِي المُسْتَنْصِرُ باللهِ، وقدْ جَاوزَ السَّابِعَةَ والأربعينَ مِنْ
_________
(١) كل ما ذكرته في هذا المبحث والذي يليه إنما هو استقراء للتاريخ من المصادر التالية: كتاب (الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية) لأمير البيان شكيب أرسلان، وهو مطبوع في ثلاث مجلدات بالقاهرة، وكتاب (قرطبة حاضرة الخلافة بالأندلس) للدكتور عبد العزيز سالم، دار النهضة بمصز، وكتاب (قرطبة في العصر الإسلامي - تاريخ وحضارة) للدكتور أحمد فكري، صدر عن مؤسسة الجامعة بالاسكندرية، و(التاريخ الأندلسي من الفتح إلى سقوط غرناطة) للدكتور عبد الرحمن علي الحجي، وهو مطبوع في دار القلم بدمشق.
1 / 13
عُمُرهِ، وكانَ الحَكَمُ حَلِيمًا رَفِيقًَا، كمَا كانَ صَارِمًا قَاسيًّا على المتلَاعِبينَ مِنَ العُمَّالِ، وظَلَّ مُدَّةَ خِلاَفتهِ مُوَاصِلًا لِغَزْوِ الرُّومِ، ومَنْ خَالَفهُ مِنَ المُحَارِبينَ، ولَمَّا أَحَسنَ بِقُرْبِ نِهَايتهِ عَهِدَ لابنهِ هِشَامِ الثَّاني الذي لُقِّبَ بالمؤيدِ باللهِ، وكانَ صَبِيًّا، وقدْ أُخِذَ عليهِ لِتَقْدِيمِة ابنهِ الصَّبِيِّ على الأَكِفَّاءِ مِنْ أَعْمَامهِ، وتُوفِّي الحَكَمُ سنةَ (٣٦٦)، وبِمَوْتهِ اخْتَفَى آخرُ العُظَماءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الأَنْدَلُسِيْينَ (١).
المرحلةُ الثانية: مَرْحَلةُ الدَّولةِ العَامِريَّةِ:
لما بُويعَ هِشَامُ بالخِلاَفةِ كانَ له مِنَ العُمُرِ أحدَ عشَر سنةً، واستطاعَ مُحَمَّدُ بنُ أَبي عامرٍ المعروفُ بالحَاجِبِ المَنْصُورِ أنْ يَكُونَ وَصِيًّا على الغُلاَمِ الخَلِيفةِ، وما لبثَ حتى اسْتَجْمَعَ أَزِمَّةِ السُّلْطةِ في يَدِه تِبَاعًا، وانتهى الأمرُ بأنْ فَرَضَ ابنُ أبي عَامِرٍ نَفْسَهُ حَاكِمًا مُطْلَقًا للأندلُسِ، وغَدا الخليفَةُ هِشَامٌ ليسَ له مِن الأمرِ شَيء، وكانَ ذلك سنة (٣٧١)، وقامَ المنصورُ بأمورِ الخِلاَفةِ خيرَ قِيامٍ، وكانَ حُكْمهُ مِنَ العُصُورِ الزَّاهيةِ في تاريخِ الأَنْدَلُسِ، ثُمَّ تُوفِّي سنة (٣٩٢) مُتَأثرًا بِجِرَاحهِ إثْرَ قُفُولهِ مِنْ غَزْوَة لأَرَاضِي قُشْتَالةَ.
ثُمَّ تَولَّى عبدُ الملكِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبي عَامِرٍ الحِجَابةِ مَعَ بقاءِ اسمِ الخِلاَفةِ للمُؤيِّدِ باللهِ هِشام الثَّانِي، وقد استمَرَّ عبدُ الملكِ فِي تَجْهِيزِ الجُيُوشِ، وتَوْطِيدِ الأَمْنِ، وحِمَايةِ الثغُورِ، لَكِنَّهُ مَا لَبثَ أَنْ توفي في صَفَر سنة (٣٩٩)، فَخَلَفهُ أخوُه عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ المنصورِ بنِ أَبي عَامِرٍ المُلَقَّبِ بالناصر والمعروفُ بِشَنْجُولَ، ولم يكنْ مثلَ أبيهِ وأخيهِ، فلمْ يَلْبثْ أَنْ طَلَبَ مِنَ الخَلِيفَةِ هِشَام المؤيَّدِ باللهِ بأن يَكْتَبُ إليهِ وِلَايةَ العَهْدِ مِنْ بَعْدِه، وحَصَلَ لَهُ مَأْمُولَهُ، فكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتِيلٍ في الفِتْنَةِ،
_________
(١) وصف الذهبي في السير ١٧/ ١٣٢ - ١٣٣ هشامًا هذا بقوله: كان ضعيف الرأي، قليل العقل، يُصدق بما لا يكون، وأعطى مرة مالا عظيما لمن جاءه بحافر حمار وزعم أنه حافر حمار العزيز، وأتاه آخر بحجر، فقال: هذا من الصخرة، وأتاه آخر بشعر، فقال: هذا من شعر النبي ﷺ، فلهذا كان المنصور يمنع الناس من الإجتماع به.
1 / 14
يُضَافُ إلى ذَلِكَ إلى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْظَى باحْتِرَامِ الجَيْشِ، ولاَ بِحُبِّ النَّاسِ له مِمَّا هيَّا للثورةِ عليه.
وانتهزَ مُحَمَّدُ بنُ هِشَامِ بنِ عبدِ الجبَّارِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الفُرْصَةَ في غِيابِ شَنْجُولَ، بأنْ ثَارَ عليهِ وسَيْطَرَ على قُرْطُبةَ، ثُمَّ اسْتَطاعَ أنْ يَقْبضَ على شَنْجُولَ ويَقْتُلَهُ، وذلكَ في رجَب سنة (٣٩٩)، وهَكَذا انْهَارتْ الدَّولةُ العَامِريَّةِ.
المَرْحَلةُ الثالثة: مَرْحَلةُ الفِتَنِ:
عُرِفتْ هذه المرحلةُ بدايةُ القَلاَقِلِ، وتُحَدَّدُ على النَّحْو التَّالي:
أ - بدايةُ الفِتنةِ (١): بدأتْ بأنْ أجبرَ مُحَمَّدُ بنُ هِشَامِ بنِ عبدِ الجبَّارِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الخَلِيفَةَ هِشَامَ المُؤَيَّدَ بالله بأنْ يَتَنازَلَ عَنِ الخِلاَفةِ، وتَمَّ له ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَمَّى بالمهْدِي (٢)، ثُمَّ عَمَدَ إلى الخَلِيفَةِ هِشَامِ المُؤيَّدِ فأَخْفَاهُ، وأشاعَ بينَ النَّاسِ أَنَّهُ ماتَ، ثُمَّ عَهِدَ إلى هِشَامِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ النَّاصِرِ بالخِلَافةِ مِنْ بَعْدِه، ولكِنَّ سُوءَ خُلُقِ المَهْدِي وإهَانتَهُ لِرُؤَسَاءِ قَبَائلِ البَرْبرِ وَزُعَمَائِهِم جَعَلَ هِشَامٌ يَتَقَرَّبُ للبَرْبَرِ، ويَسْعَى مَعَهُم لِخَلْعِهِ، فَجَمَعُوا جُمُوعَهُم للإنْقِضَاضِ عليه، ولكنَّه بَادَرَهُم بِجَمْعٍ أكبرَ، فَشَتَّتَ شَمْلَ البَرْبرِ وقتَلَ هِشَامَ بنَ سُلَيمانَ، وانْسَحَبَ البَرْبَرُ بعدَ قَتْلِ هِشَامِ بنِ سُلَيْمَانَ إلى ضَوَاحِي قُرْطُبةَ، وفِيهِم ولدُه سُلَيْمَانُ بنُ هِشَامٍ، فَعِنْدَما عَرَفُوه وَلَّوهُ عَلَيْهِم ولَقَّبُوهُ بالرَّشِيدِ، وبَدَءَوُا يَعُدُّونَ العُدَّةَ للإسْتِيلاَءِ عَلى قُرْطُبةَ.
وتَأجَّجتِ الفِتْنةُ في قُرْطُبةَ حَيْثُ نَادَى مُنَادِي المَهْدِي بأن مَنْ أتَى بِرَأْسِ بَرْبَرِيٍّ فَلَهُ كَذَا وكَذَا، فتَسارعَ العَامَّةُ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ في قَتْلِ مَنْ قَدِرُوا عليهِ حتَّى امتدتْ
_________
(١) ينظر: جذوة المقتبس ص ١٨، وبغية الملتمس للضبي ص ٢٤، والسير ١٧/ ١٢٣، بالاضافة إلى المصادر المتقدمة.
(٢) وصف ابن عذارى في البيان المُغْرِب ٣/ ٧٤ المهدي هذا بأنه أشام خليفة على وجه الدنيا، وقال الذهبي في السير ١٧/ ١٢٩: فلما استوثق الأمر للمهدي أظهر من الخلاعة والفساد أكثر مما عمله شنجول.
1 / 15
الأيدِي إلى صَالِحِي المُسْلِمينَ، فَقُتِلُوا صَبْرًا، ونُهِبتْ بِيُوتُهم، وهُتِكَتْ أَعْرَاضُهم، بلْ قُتِلَ الكَثيرُ مِمَّنْ قَدِمَ للرِّبَاطِ في ثُغُورِ الأَنْدَلُسِ مِنْ بلادِ المشرقِ الإسلامِيِّ، فَقُتِلُوا على أَنَّهُم بَرْبر، حتَّى أنَّ كُلَّ مَنْ كان بينَهُ وبينَ أحدٍ عَدَاوةٌ قالَ: هذا بَرْبَرِيٌّ، فَقُتِلَ.
ب - امتدادُ الفتنةِ: وعندما بلغَ البَرْبرُ ما جَرَى لإخْوَانِهِم بِقُرطُبَةَ زَحَفُوا عَليها، وعلَى رَأْسِهِم سُلَيمَانُ بنُ هشَامٍ الرَّشِيدُ، وحَاصَرُوا المَهْدِيَّ في قَصْرِه، وكانَ ذَلِكَ في شَوَّال سنة (٣٩٩)، ولكِنَّ المهدِيَّ فَك حِصَارَهُم، وأَعْمَلَ فِيهم القَتْلَ، وظَفَر المَهْدِيُّ بقَائِدِ البَرْبرِ سُلَيْمَانَ بنِ هِشَامٍ فَقَتلَهُ، فَفَرَّ البَرْبَرُ إلى ضَوَاحِي قُرْطُبةَ، فاخْتَارُوا سُلَيْمَانَ بنَ الحَكَمِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ النَّاصرِ ولَقَّبُوهُ بالمُسْتَعِينِ -وهُو اْبنُ أَخِي الرَّشِيدِ- (١) الذي سُرْعَانَ مَا عَادَ إلى قُرْطُبةَ بِمُسَاعَدِة النَّصَارَى لموَاجَهَةِ المَهْدِي على أَنْ يُعْطيِهم مَا يَخْتَارُونهُ مِنَ الحُصُونِ المتاخِمةِ لهُ، وفي الوقتِ نَفْسهِ كانَ هناكَ وَفْدٌ مِنْ قِبلِ المَهْدِي يُسَاوِمُ النَّصَارَى على ابنِ عَمِّه ومَنْ مَعَهُ مِنَ البَرْبرِ المسلِمينَ، ولَكِنَ النَّصَارَى كَسْبًا للطرَفِ القَوِيِّ مَدُّوا يدَ المُسَاعَدةِ إلى سُلَيْمَانَ المستعينِ والبَرْبَرِ، ثمَّ وَقَعَتْ الحَرْبُ بينَ جَيْشِ المُسْتِعِينِ وبينَ جَيْشٍ لأتْبَاعِ المَهْدِي، وكانتْ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِم، وَلَجَئُوا إلى المَهْدِيِّ في قُرْطُبةَ، واشْتَبكَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ المُسْتِعينِ مَعَ أَهْلِ قُرْطُبةَ الذينَ حَشَدَهُم المهدِي مِنْ غَيْرِ نِظَامٍ، فَوَقَعَتْ فِيهِم مَقْتَلَةٌ عَظِيمَة، ودَخَلَ المُستَعِينُ ومَنْ مَعَهُ منَ البَرْبرِ والنَصَارَى قُرْطُبةَ، وقتلُوا مِنْهم أكثرَ مِن ثَلاَثينَ ألفًا.
وقدْ أُوذِي أَبو المُطَرِّفِ في هذه الفِتنةِ، قالَ ابنُ حيَّانَ: امتُحِنَ بالبربرِ أوَّلَ ظُهُورِهِم مِحْنَةً أَوْدَتْ بِمَالهِ (٢).
ج - مُناورَةُ للمَهْدِي: لما رأَى المَهْدِي مَا حَلَّ بهِ مِنْ هَزِيمَةٍ أَظْهَرَ هِشَامَ
_________
(١) قال الذهبي في السير ١٧/ ١٣٣ في ترجمته: دانت له الأندلس سنة (٤٠٣)، جال بالبربر يفسد وينهب البلاد، ويعمل كل قبيح، ولا يبقي على أحد.
(٢) تاريخ الإسلام ٢٨/ ٣٢٣.
1 / 16
المؤيَّدَ وأَقْعَدَهُ حيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وأَرْسَلَ قاضيهِ لِيفَاوِضَ البَرْبَر ويُبْلِغُهُم أنَّ هِشَامَ المؤيَّدَ هُوَ الخَلِيفَةُ ومَا هُو إلَّا كالحَاجِبِ له، لكنَّ أهلَ قُرْطُبةَ خَذَلُوا المَهْدِيَّ، وخَرَجُوا يُرَحِّبُونَ بِسُلَيمانَ المستعينِ، ثُمَّ نُودِي بالبَيْعَةِ بالعهدِ لِسُليمانَ بنِ الحَكَمِ.
ثُمَّ فَرَّ المهدِيُّ ومَنْ مَعَهُ مِنْ قُرْطُبةَ، واتَّفَقَ مَعِ النَّصَارَى على أنْ يَتَنازَلَ عَنْ بَعْضِ الثُّغُورِ نَظِيرَ - مُسَاعَدَتِهِم ضَدَّ المُسْتَعِينِ، فخَرجَ إليهم المستعينُ باللهِ مَعَ البَرْبرِ إلى مَكَانٍ قُرْبَ قُرْطُبَةَ يُعْرَفُ بدَارِ البَقَرِ، وكَانَت الدَّائِرَةُ فيها على المستعينِ والبَرْبرِ، ودَخَلَ المَهْدِيُّ قُرْطُبةَ مِنْ جَدِيدٍ، فعَاثَ فِيها ومَنْ مَعَهُ فَسَادًا، ثُمَّ أَجْهَزَ عَلَى كُلِّ بَرْبَرِيٍّ حَتَّى الأَطْفَالَ والنِّسَاءَ، فَحَدثتْ مَقْتَلةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ تَنَادَى إلى سَمْعِه بأن المُسْتِعينَ ومَنْ مَعَهُ مِنَ البَرْبرِ يَعُدّونَ العُدَّةَ لِقِتالهِ، فخَرَجَ إليهِم، فكانَت الدَّائرةُ في هذِه المرَّةِ على المَهْدِيِّ الذي عادَ إلى قُرْطُبَةَ لِيَتَحَصّن بِدَاخِلَها، ولكنَّ العَبيدَ قتلُوه وأَعَادُوا هِشَامًا المؤيَّد إلى كُرْسِيِّ الخلافةِ في ذِي الحجَّة سنة (٤٠٠)، فَكانتْ وِلاَيةُ مُحَمَّدِ المهدِيِّ منذُ قامَ إلى أَنْ قُتِلَ سِتَّةَ عَشَر شَهْرًا، منْ جُمْلَتِها الستَّةُ الأَشْهُرِ التي كانَ فيهَا سُلَيمانُ بِقُرْطُبةَ.
ولَمْ يَهْدأ لِسُليمَانَ المُسْتَعِينِ بالٌ طِوَالَ تِلْكَ الفَترةِ، إذ ظَلَّ يَجُولُ بِعَسَاكِرِه البَرْبرِ في بلادِ الأَنْدَلُسِ، إلى أن اسْتَطاعَ دُخُولَ قُرْطُبةَ في أوائلِ شَوَّال سنة (٤٠٣)، وقُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وعَدَدٌ كَبيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ والأَعْيانِ (١)، ثم أعطَى الأمَانَ لأهلِ قُرْطُبَةَ، وقامِ بخَلَعِ هِشَامِ المَؤيَّدِ مِنَ الخِلاَفةِ وقَتْلِهِ، ثُمَّ قامَ بِتَقْسِيمِ الأَنْدَلُسَ بينَ القَبَائلِ التي نصَرتْهُ مِنَ البربرِ وغَيْرِهم.
المرحلة الرابعة: دولة بنى حَمُّود: بَحَثَ العَامِريُّونَ وأَتْبَاعَهُم - وَهُم الذينَ فَرُّوا عَنْ قُرْطُبةَ بعدَ دُخُولِ المسْتَعينِ باللهِ لها - عَنْ خَلِيفَةٍ أُمُويٍّ فَلَمْ يَجِدُوا أَصْلَحَ
_________
(١) منهم الإِمام العلامة أبو الوليد ابن الفرضي الذي وري الثرى من غير غسل ولا كفن ولا صلاة بعد أن بقي في داره ثلاثة أيام مقتولا، ينظر: كتاب (أبو الوليد ابن الفرضي القرطبي) ١/ ٤٢٢.
1 / 17
للأمرِ مِنْ عليِّ بنِ حَمُّودٍ الهَاشِميِّ، وبدأ البربرُ في قُرْطُبَةَ يَسْأَمُونَ حُكْمَ المُسْتَعِينِ، فاجتمعتْ أَهْدَافُ العَامِريَّةِ والبَرْبَرِ فتَمَّ التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، واتَّفَقَ الفَرِيقَانِ على الإتِّصَالِ بِعَليِّ بنِ حَمُّودٍ، فَزَحفَ مِنْ سَبْتةَ إلى مَالَقةَ فَتَملَّكَها، ثم إلى قُرْطُبَةَ فَهَزمَ المُسْتَعِينَ وقَتَلَهُ سنة (٤٠٦)، وبذلكَ انْقَطَعتْ دَوْلةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وتَولَّى الأمرَ عليُّ بنُ حَمُّودٍ، وبَقِي عَامَيْنِ إلى أن قتَلَهُ عَبيدُه، ثُمَّ وَلِيَ أَخُوهُ القَاسِمُ بنُ حَمُّودٍ، وبَقِيَ بِها إلى سنةِ (٤١٢)، إذ قامَ عليهَ ابنُ أَخِيهِ يَحْيَى بنُ عَلِيِّ بنِ حَمُّودٍ بِمَالقةَ، فَهَربَ القَاسِمُ عَنْ قُرْطُبَةَ بلاَ قِتَالٍ، وصَارَ بإشبيلِيّهَ حتَّى اجْتَمعَ أمْرُهُ واسْتَمَالَ البربرَ، وزَحَفَ بِهِم إلى قُرْطُبَةَ فَدَخلَها سنة (٤١٣)، وهَرَب يحيى إلى مَالَقَة، فَبَقِي القَاسِمُ بقُرْطُبةَ شُهُورًَا واضْطَرَبَ أَمْرُهُ، فعاشتْ قُرْطُبةُ فَتْرةً مِنَ الزَّمَنِ في اضْطِرَاباتٍ مُتَقَطعَةً، تَوَالتْ خِلَالهَا العَدِيدُ مِنَ الزَّعَاماتِ دُونَ أَنْ تَسْتَقِرَّ على حَالٍ.
1 / 18
المبحث الثاني
الحياة العلمية (١)
شَهِدتْ الفَتْرةُ التي عَاشَها الإمامُ القُنازِعيُّ في الأَنْدَلُسِ أَبْهَى عُصُورِها العِلْميَّةِ، وخُصُوصًا تلك الفترةِ التي كانتْ في عَهْدِ النَّاصِرِ وولَدِه الحَكَم، مع ما تَمَيَّزتْ أيضًا بالرِّحْلاتِ العِلْميَّةِ التي قامَ بِها عُلَمَاءُ الأَنْدَلُسِ إلى المشرفِ.
هذا بالإضَافةِ إلى ازْدِهَارِ التَّعْلِيمِ والتَدْرِيسِ مِمَّا كانَ لهُ الأثرُ الكَبِيرُ في ازْدِهَارِ الحياةِ العِلْمِيَّةِ في الأندلُسِ، فقدْ عَنَي أَهْلُ الأَنْدَلُسِ بِتَعْلِيمِ أَنْفُسِهم وأَبْنَائِهِم، قالَ المَقَّرِفيُ: (وأَمَّا حَالُ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ في فُنُونِ العُلُومِ فَتَحْقِيقُ الإنْصَافِ في شَأْنِهِم في هذا البابِ أَنَّهُم أَحْرَصُ النَّاسِ على التَّمَيُّزِ ... والعَالِمُ عِنْدَهُم مُعَظَّم مِنَ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، يُشَارُ إليه ويُحَالُ عليهِ ... ولَيْسَ لأَهْلِ الأَنْدَلُسِ مَدَارِسُ تُعِينُهم على طَلَبِ العِلْمِ، بلْ يَقْرَؤُونَ جَمِيعَ العُلُومِ في المَسَاجدِ بأُجْرَة، فَهُم يَقْرَؤَونَ لأَنْ يَعْلَمُوا لاَ لأَنْ يأْخُذُوا جَارِيًا، فالعَالِمُ مِنْهُم بَارِع، لَأَنَّهُ يَطْلُبُ ذَلِكَ العِلْمَ بِبَاعِثٍ مِنْ نَفْسِه يَحْمِلُهُ على أَنْ يَتْرُكَ الشُّغْلَ الذي يَسْتَفِيدُ منه، ويُنْفِقُ مِنْ عِنْدِه حَتَّى يَعْلَمَ) (٢).
_________
(١) يراجع كتاب: (الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس من سنة ٣١٦ - ٤٢٢) للدكتور سعد عبد الله صالح البشري، وهو كتاب قيِّم، طبع بجامعة أم القرى بمكة، وكتاب (دور الفقهاء في الحياة السياسية والإجتماعية بالأندلس في عصر الإمارة والخلافة) للدكتور خليل إبراهيم الكبيسي، وهو مطبوع بدار البشائر الإسلامية في بيروت.
(٢) نفح الطيب ١/ ٢٢٠.
1 / 19
وإلى جَانِبِ ذَلِكَ كَانَ اهْتِمَامُ بَعْضِ الخُلُفَاءِ بإنْشَاءِ المَكْتَباتِ، فقدْ كانَ قَصْرُ الحَكَمِ بِقُرْطُبةَ يَضُمُّ خَزَائنَ مِنَ الكُتُبِ يُقَالُ: إِنَّهَا لَمْ تَجْتَمِعْ لأحَدٍ مِنْ قَبْلَهُ ولا مِنْ بَعْدَهُ، قَدَّرَ بعضُ المؤرَّخِينَ مُحْتَويَاتِهَا بأَربعمائةِ ألفِ مُجَلَّدٍ أو أكثرَ (١)، ولَمَّا أَسْنَدَ المنصُورُ بنُ أَبي عَامِرٍ إلى ابنِ المَكْوِيِّ ومَنْ مَعَهُ إعادَةَ تَرْتِيبِ الخِزَانةِ طَالَتْ مُدَّةُ عَمَلِهِم في ذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا وزِيادةً (٢)، وإلى جَانِبِ خَزَائنِ الحَكَمِ بِقُرْطُبةَ كانتْ في مُخْتَلِفِ كُبْرَياتِ مُدِنِ الأَنْدَلُسِ الأُخْرَى مَكْتَبَاتٍ كَثيرَةٍ، ويُضَافُ إلى هذا مَكْتَباتٌ خَاصَّةٌ لَدَى العُلَماءِ والأَعْيانِ، فقدْ ذُكِرَ أنَّ الإمامَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ فُطَيْسٍ (ت ٤٠٢) كَانَتْ لَهُ مَكْتَبَةً كُبْرَى، وكانَ مَتَى عَلِمَ بِكِتَابٍ حَسَنٍ عندَ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ طَلَبَهُ للإبْتِيَاع منهُ وبالَغَ فِي ثَمَنِهِ، فإنْ قَدَرَ على ابْتيَاعِهِ وإلَّا انتُسَخَهُ منهُ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ، ولَمَّا تُوفي قَرَّر أَحْفَادُه بَيْعَهَا، وبَقُوا في ذَلِكَ مُدَّةَ عَامٍ كَامِل (٣).
ومَنْ تتَبَّعَ كُتُبَ الترَاجِمِ مثل: (تَارِيخِ عُلَماءِ الأَنْدَلُسِ) لإبنِ الفَرَضِي، و(جَذْوةِ المُقْتَبسِ) للحُمَيْدِيِّ، و(تَرْتيبِ المَدَارِكِ وتَقْرِيبِ المَسَالِكِ لمِعَرفةِ أَعْلاَمِ مَذْهَبِ مَالِكٍ) للقَاضِي عِيَاضٍ، و(الصِّلَةِ) لإبنِ بَشْكُوالَ، و(بُغْيةِ المُلْتَمِسِ) للضبِّي وغَيْرِها عَلِمَ مَا وَصَلَتْ إليهِ الأَنْدَلُسُ في عَصْرِ المُؤلِّفِ وما قَبْلَهُ ومَا بَعْدَهُ مِنْ رِفْعَةٍ وتَقَدُّمٍ في المجالِ العِلْمِي، وفِيما يَلِي جَانِبٌ مُوجَزٌ لأَبْرَزِ العُلَمَاءِ في عَهْدِ المُؤَلِّفِ في فُنُونِ العِلْمِ المُخْتَلِفَةِ:
١ - فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وعُلُومهِ وقِرَاءَاتهِ: ظَهَر فِي الأندَلُسِ مُقْرِئينَ كِبَارًا ومُفْسِّرينَ عِظَامًا، مِثْلَ: أَبي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الأَنْطَاكِيِّ (ت ٣٧٧)، وأبي القَاسِمِ أَحْمَدَ بنِ القَاسِمِ اللَّخْمِيِّ (ت ٤١٠)، وأبي عُمَرَ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ
_________
(١) نفح الطيب ١/ ٣٨٥.
(٢) ترتيب المدارك ٧/ ١٢٨.
(٣) الصلة ٢/ ٣١٠.
1 / 20
عبدِ اللهِ الطَّلَمَنْكِيِّ (ت ٤٢٩)، وأَبي العبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ عَمَّارٍ المَهْدَوُيِّ (ت بعد ٤٣٠)، ومَكِّيّ بنِ أَبي طَالبٍ القَيْسِيِّ (ت ٤٣٧)، وأَبي عَمْرو عُثْمَانَ بنِ سَعِيدٍ الدّانِي (ت ٤٤٤)، وغيرهم.
٢ - في الحَدِيثِ وعُلُومهِ: تَأَلَّقَ مُحَدِّثُونَ كِبَارٌ ضَرَبُوا فيهِ بِحَظٍّ وَافِرٍ، مِنْهُم: عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ علي المَعْرُوفُ بابنِ البَاجِي (ت ٣٧٨)، ومُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ مُفَرِّج القُرْطُبيُّ (ت ٣٨٠)، وعَبْدُ اللهِ بنُ إبراهيمَ الأَصِيلِيُّ (ت ٣٩٢)، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ فُطَيْسٍ القاضي (ت ٤٠٢)، وأَبو الوَليدِ عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ ابنِ الفَرَضِيِّ (ت ٤٠٣)، ومُحَمَّدُ بنُ يحيى ابنُ الحَذَّاءِ (ت ٤١٦) وغَيْرُهم.
٣ - الفِقهُ: بَرَزَ فِي الأَنْدَلُسِ في هَذا العَصْرِ وبَعْده كَبَارُ الفُقَهَاءِ والمُفْتين، بلْ ظَهَر فِيهِم مَنْ وَصَلَ إلى دَرَجةِ الإجْتِهَادِ، مِنْ أَمْثَالِ: أبي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ القُرْطُبي (ت ٣٦٤)، وأبي عِيسى يحيى بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ يحيى اللَّيْثِي (ت ٣٦٧)، وأبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ يَبْقَى بنِ زَرْبٍ (ت ٣٨١)، وعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ الثَّغْرِيِّ (ت ٣٨٣)، وعَبْدِ اللهِ بنِ إبراهيمَ الأَصِيلِي (ت ٣٩٢)، وأحمدَ بنِ عبدِ المَلِكِ ابنِ المَكْوِي (ت ٤٠١) وغيرهم.
٤ - اللُّغَةُ والأَدَبُ والشِّعْرُ: ازْدَهَرتْ الدِّرَاساتُ اللُّغَويَّةِ والأَدَبيَّةِ في هذا العَصْرِ ومَا بَعْدَه، وأَنْجَبتِ الأَنْدَلُسُ كِبَارَ العُلَمَاءِ في هَذا الشَّأنِ، مِنْ أَمثالِ: مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ البَرْبَرِيِّ ابنِ القُوطِيَّةِ (ت ٣٦٧)، ومُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ عَبْدِ العَزِيزِ الخَرَّازِ (ت ٣٦٩)، وعَبْدِ اللهِ بنِ حَمُّودٍ الزُّبَيْدِيِّ (ت ٣٧٢)، وأَبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الزُّبَيْدِيِّ (ت ٣٧٩).
وظَهَر فِيهَا أَيْضًا شُعَراءُ بُلَغَاءُ يُزَاحِمُونَ فُحُولَ الشُّعَراءِ الُمجَوِّدِينَ المَطْبُوعِينَ، وأدباءٌ مُجِيدُونَ لَهُم التَّرَسُّلُ البَدِيعُ، والنَّظْمُ الرَّائِقُ، مِثلَ: أَبي عُمَرَ يُوسُفَ بنِ هَارُونَ القُرْطُبيِّ (ت ٤٠٣)، وأَبي عُمَرَ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ دَرَّاجِ القَسْطَليِّ (ت ٤١٢) وآخرينَ.
1 / 21
٥ - التَّارِيخُ: بَرَزَ في هَذِه الفَتْرَةِ مُؤَرِّخُونَ مَشْهُورُونَ، مِنْهُم: مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ البَرْبَرِيّ ابنُ القُوطِيَّةِ اللُّغَوي (ت ٣٦٧)، ومُحَمَّدُ بنُ حَارِثِ بنِ أَسَدٍ الخُشَنِيّ (ت ٣٧١)، وأَبو الوَليدِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ ابنِ الفَرَضِيّ (ت ٤٠٣) وغَيْرُهم.
كَمَا بَرزَ عُلَماءُ كَثِيرُونَ في عُلُومٍ أُخْرَى كالجُغْرَافِيا، والفَلْسَفةِ، والطِّبِّ، والرِّيَاضِيَّاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
1 / 22
الفَصْلُ الثَّاني
ترجمة المؤلف
وفيه ستَّةُ مَبَاحثِ:
المبحثُ الأوَّلِ: المُتَرْجِمُونَ له، والرَّاوِينَ لِحَدِيثهِ ومَرْويَاتهِ
المبحثُ الثاني: اسمه ونسبه وكنُيته، ومولُده، ووفاته.
المبحثُ الثالث: نشأتهُ، وطلبهُ للعلم، ورِحْلاَته.
المبحثُ الرَّابع: مُصَنَّفاتُه.
المبحث الخامس: مذهبهُ، وعقيدُته.
المبحث السادس: مآثِرُهُ وثناءُ العُلَماءِ عليه.
1 / 23
المبحث الأَوَّل
المترجمون له والراوين لحديثه ومروياته
حَرَصَ العَدِيدُ مِنْ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ والتَّرَاجِمِ والفَهَارِسِ عَلَى ذِكْرِ أبي المُطَرِّفِ والإشَادَةِ بهِ، وَرِوَايةِ أَحَادِيثهِ التّي رَوَاها، والكُتُبِ التِّي تَمَلَّكَ حَقَّ رِوَايَتِهَا، بلْ أَفْرَدَهُ بالتَّصْنِيفِ الإمامُ أَبو القَاسِمِ خَلَفُ بنُ عَبْدِ الملكِ بنِ بَشْكُوَالَ (١).
وقَدْ يَمَّمتُ قَصْدِي إلى المَصَادِر المُتَقَدِّمةِ القَرِيبةِ مِنْ عَصْرِ المُصَنِّفِ، أَمَّا المَصَادِرُ المُتَأَخِّرةُ -وهي التي جَاءتْ بعدَ القَرْنِ العَاشِرِ- فلَمْ أُعَرّجْ عَلَيْها، لأَنَّه لَيْسَ فِيها جَدِيدٌ سِوَى النَّقْلِ عَنِ المَصَادِرِ المُتَقدِّمةِ، وقد رَتَّبْتُ المَصَادِرَ حَسَبَ وَفَياتِ مُؤْلِّفيهَا على النَّحْوِ التَّالِي:
١ - حَافِظُ الأَنْدَلُسِ ومُحَدِّثُها وفَقِيهُها أَبو عُمَرَ يُوسُفُ بنُ عَبْدِ البَرِّ النَّمْرِيُّ القُرْطُبي (ت ٤٦٣)، وَهُو تِلْمِيذُ المُصَنّفِ، وقدْ رَوَى عنه رِوَاياتٍ كَثيرةٍ، وفِي بَعْضِها تَحْدِيدُ مَكَانِ الرِّوايةِ وتَارِيِخهَا، يُنظَرُ: (التمْهِيدُ) ١/ ٢١٨ و٢٢٩، و٢٥٠، و٢٥٣، و٢/ ١٧٣، و٢٥٢، و٢٥٧، و٣/ ٢٦٤، و٤/ ٢٠، و٢٤/ ١٤٧، و٢٢١، و٢٦٦، و٦/ ١٠٦، و١٢/ ١٦١، و١٦٢، و١٣/ ٥٤، و١٥/ ٢٩٨، و١٦/ ٢٤٠، و١٧/ ١٩٦، و١٨/ ٢٠٦، و٢٤/ ١٤٧، و٢٢١، و٢٦٦، و٢٨٠، و٣٣١، و٣٨٣، و٣٨٩، وفي كتاب (الإستذكار) ٤/ ١٩٤، و٩/ ٦٢، و٥٥٨، وفي كِتَاب (جَامعِ بيانِ العِلْم وفَضْلِه) ١/ ٢١٥، و٢/ ١١٤٦.
_________
(١) ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي ٤٠/ ٥٩، والوافي بالوفيات للصفدي ١٣/ ٢٣٠، ولم يصلنا هذا الكتاب فيما نعلم.
1 / 25