Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Genre-genre
وأما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا": البقرة - 48، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لأن العقل لا ينال الجزئيات، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.
وأما النعمة والعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الأحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.
وأن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لأن القسر لا يكون دائميا ولا أكثريا، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا وعليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، وهذا كله ظاهر.
وأما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشيء نوعية جديدة كالإنسان البخيل الذي صار البخل صورة لإنسانيته كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالإنسان البخيل أيضا نوع جديد تحت الإنسان، فمن المعلوم أن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، ومثل هذا الإنسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من ابتلي بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألما من حيث انتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث إن العذاب ما يفر منه الإنسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلي به وهذا الحد يصدق على الأمور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الإنسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الإنسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.
وقد استشكل هاهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شيء؟.
ومثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم؟.
ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الآخر فكيف يجازى بعذاب دائم؟.
ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة.
ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد؟.
ومثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب وخاصة العذاب المخلد؟.
فهذه وأمثالها وجوه من الإشكال أوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه.
وأنت بالإحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الإنسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الأحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الأفعال الإنسانية بعد ورود الصورة الإنسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الإنسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الإجمالي عنها.
Halaman 239