211

Tafsir Mizan

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

Genre-genre

Tafsiran

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.

أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكما من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمرا مجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.

والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدأ لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.

Halaman 212