Tafsir Al-Shaarawi
تفسير الشعراوي
Genre-genre
أنا ألقى متى وأين أحب
إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد.. ومنعه العطاء يستوجب الحمد. ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد.. فالله يستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا، ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة.. فيخاف الناس الظلم.. وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الآخرة ليوفيه حسابه.. وهذا يوجب الحمد.. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار.. فلا تصيبه الحسرة، ويخف إحساسه بمرارة الظلم حين يعرف أن الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد. وعندما نقول: { الحمد لله } [الفاتحة: 2] فنحن نعبر عن انفعالات متعددة.. هي في مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان.. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: " الحمد لله " كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه.
. هذه الانفعالات تأتي من النفس وتستقر في القلب.. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.. فالحمد ليس ألفاظا تردد باللسان ولكنها تمر أولا على العقل ليعي معنى النعم.. ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها.. وتنتقل إلى الجوارح فأقوم وأصلي لله شاكرا ويهتز جسدي كله وتفيض الدمعة من عيني.. وينتقل هذا الانفعال كله إلى من حولي. ونفسر ذلك قليلا.. هب أنني في أزمة أو كرب أو شيء سيؤدي إلى فضيحة.. وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالا أو يفتح لي طريقا.. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل فأقول إنه يستحق الشكر.. ثم ينزل هذا المعنى إلى قلبي فيهتز القلب إلى صانع هذا الجميل.. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلى عمل يرضيه على جميل صنعه. ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلى الالتجاء إليه.. فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس.. فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد. والحمد لله تعطينا المزيد من نعم الله مصداقا لقوله تبارك وتعالى:
وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
[إبراهيم: 7]. وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيدا من النعمة.. فنشكر عليها فتعطينا المزيد وهكذا يظل الحمد دائما والنعمة دائمة.. إننا لو استعرضنا حياتنا كلها فكل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
[الزمر: 42]. وهكذا، فإن مجرد استيقاظنا من النوم، وأن الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا، وهذا الرد يستوجب الحمد، فإذا قمنا من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطينا القدرة على الحركة، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم.. وهذا يستوجب الحمد.. فإذا تناولنا إفطارنا فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي أنبته، وهو الذي رزقنا به، وهذا يستوجب الحمد.. فإذا نزلنا إلى الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا الى مقر أعمالنا وسخره لنا، سواء كنا نملك سيارة أو نستخدم وسائل المواصلات، فله الحمد، وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق.. وهذا يستوجب الحمد، فإذا ذهبنا إلى أعمالنا، فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا.. وهذا يستوجب الحمد. وإذا عدنا إلى بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا وهذا يستوجب الحمد.
إذن، فكل حركة حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد.. ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامدا دائما.. بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه لأنه قد يكون الشيء الذي يعتبره شرا هو عينه الخير. فالله تعالى يقول:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
[النساء: 19]. إذن، فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير.. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك.. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم. وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الأمر إلى الله الذي خلقك.. فهو أعلم بما هو خير لك. فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين.. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن { الحمد لله } [الفاتحة: 2] تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق.. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده.. فكأن الحمد أولا لله.. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم.. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس.. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس.. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة.. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل.. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم.. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. إذن فالنعمة الأولى هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين. في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن.. والذين يدخلون في عطاء الألوهية هم المؤمنون.. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع.. ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين.. الكون كله لا يخرج عن حكمه.. فليطمئن الناس في الدنيا أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيته.. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق، ولا النجوم تستطيع أن تصطدم بعضها ببعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع.. ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا.. إذن، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنه رب لكل ما في الكون فلا تستطيع أي قوى تخدم الإنسان أن تمتنع عن خدمته.. لأن الله سبحانه وتعالى مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق.. إنه رب العالمين وهذه توجب الحمد.
Halaman tidak diketahui