61

Tafsir Al-Shaarawi

تفسير الشعراوي

Genre-genre

لماذا؟ لأن المجتمع - حينئذ - يكون مبنيا على النفاق واختلال الأمور، لا على الإتقان والإخلاص. فالذي يجيد النفاق هو الذي يصل إلى الدرجات العلا، والذي يتقن عمله لا يصل إلى شيء، وتكون النتيجة أن مجموعة من المنافقين الجهلة هم الذين يسيرون الأمور بدون علم. والفساد في الأرض هو أن يضيع الحق، وتضيع القيم، ويصبح المجتمع غابة، كل إنسان يريد أن يحقق هواه بصرف النظر عن حقوق الآخرين، ويحس من يعمل ولا يصل إلى حقه أنه لا فائدة من العمل، فيتحول المجتمع كله إلى مجموعة من غير المنتجين. والفساد في الأرض هو أن نجعل عقولنا هي الحاكمة، فلا نتأمل في ميزان الكون الذي خلقه الله، وإنما نمضي بعقولنا نخطط، فنقطع الأشجار ونرمي مخلفات المصانع في الأنهار فنفسدها، ونأتي بالكيماويات السامة نرش بها الزرع أو مجاري المياه والأنهار فنملؤه سما ثم نأكله ثم نجد التلوث قد ملأ الكون. وطبقة الأوزون قد أصابها ضرر واضح يعرض حياة البشر على الأرض لأخطار كبيرة، وتفسد مياه الأنهار. ولا تصبح صالحة للشرب ولا للري.

ويضيع الخير من الدنيا بالتدريج، والفساد في الأرض هو أن ينتشر الظلم، وتصبح الحياة سلسلة لا تنتهي من الشقاء. والفساد في الأرض هو أن تضيع الأمانة. فتفسد المعاملات بين الناس، وتضيع الحقوق. هذه هي بعض أوجه الفساد في الأرض. والله سبحانه وتعالى قد وضع قانونا كليا، هو منهجه ليتعامل به الناس، ولكن الناس تركوه، ومشوا يتخبطون في ظلام الجهل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" من استعمل رجلا من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين "

وهكذا يكون مدى حرص الإسلام على استقامة أمور الناس. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { أولئك هم الخاسرون } [البقرة: 27]. خسروا ماذا؟ خسروا دنياهم وآخرتهم وخسروا أنفسهم لأن الإنسان له حياتان.. حياة قصيرة في الدنيا مليئة بالمتاعب، وحياة طويلة خالدة في الآخرة. والذي يبيع الحياة الأبدية ونعيمها وخلودها بحياة الدنيا التي لا يضمن فيها شيئا، يكون من الخاسرين.. فعمر الإنسان قد يكون يوما أو شهرا أو عاما، والحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما أعطت فهو قليل، فالذي يبيع آخرته بهذه الدنيا، أيكون رابحا أم خاسرا؟ طبعا يكون خاسرا لأنه اشترى مالا يساوي بنعيم الله كله.. وإذا كان الإنسان قد نسي الله سبحانه وتعالى وهو لاقيه حتما، ثم يبعث يوم القيامة ليجده أمامه. فيوفيه حسابه، أيكون قد كسب أم خسر؟!.. طبعا يكون خاسرا لأنه أوجب على نفسه عذاب الله، وأوجب على نفسه عقاب الله. إن قوله تعالى: " الخاسرون " تدل على أن الصفقة انتهت وضاع كل شيء لأن نتيجتها كانت الخسران، وليس الخسران موقوتا، ولا هو خسران يمكن أن يعوض في الصفقة القادمة، بل هو خسران أبدي، والندم عليها سيكون شديدا. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

إنآ أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يليتني كنت ترابا

[النبأ: 40]. لماذا يتمنى الكافر أن يكون ترابا؟ لهول العذاب الذي يراه أمامه، وهول الخسران الذي تعرض له، وهذا دليل على شدة الندم، يوم لا ينفع الندم، على أنه سبحانه وتعالى تحدث في هذه الآية عن الخاسرين، ولكنه جل جلاله، تحدث في آية أخرى عن الأخسرين، فقال تعالى:

قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا

[الكهف: 103-105]. إذن: فهناك خاسر، وهناك من هو أخسر منه، والأخسر هو الذي كفر بالله جل جلاله، وبيوم القيامة، واعتقد أن حياته في الدنيا فقط، ولم يكن الله في باله وهو يعمل أي عمل، بل كانت الدنيا هي التي تشغله، ثم فوجئ بالحق سبحانه وتعالى يوم القيامة، ولم يحتسب له أية حسنة، لأنه كان يقصد بحسناته الحياة الدنيا، فلا يوجد له رصيد في الآخرة.

والعجيب أنك ترى بعض الناس يعدون للحياة الدنيا إعدادا قويا، فيرسلون أولادهم إلى مدارس لغات، ويتحملون في ذلك ما لا يطيقون، ثم يدفعونهم إلى الجامعات، أو إلى الدراسة في الخارج. هم في ذلك يعدونهم لمستقبل مظنون، وليس يقينا لأن الإنسان يمكن أن يموت وهو شاب فيضيع كل ما أنفقوه من أجله، ويمكن أن ينحرف في آخر مراحل دراسته، فلا يحصل على شيء، ويمكن أن يتم هذا الإعداد كله، ثم بعد ذلك يرتكب جريمة يقضي فيها بقية عمره في السجن فيضيع عمره. ولكن اليقين الذي لا شك فيه هو أننا جميعا سنلاقي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وسيحاسبنا على أعمالنا، ومع أن هذا يقين، فإن كثيرا من الناس لا يلتفتون إليه، يسعون للمستقبل المظنون، ولا يحس واحد منهم بيقين الآخرة، فتجد قليلا من الآباء هم الذين يبذلون جهدا لحمل أبنائهم على الصلاة وعبادة الله والأمانة وكل ما يقربهم إلى الله.. إنهم ينسون النعيم الحقيقي، ويجرون وراء الزائل، فتكون النتيجة عليهم وبالا في الآخرة.

[2.28]

Halaman tidak diketahui