Tafsir Al-Shaarawi
تفسير الشعراوي
Genre-genre
وإذا رزق الله الإنسان بالعمل خيرا كثيرا فإياك أيها الإنسان أن تقصر هذا الخير على من يرثك. لماذا؟ لأنك إن قصرت شيئا على من يرثك فقد تصادف في حياتك من لا يرث وله شبهة القربى منك، وهو في حاجة إلى من يساعده على أمر معاشه فإذا لم تساعده يحقد عليك وعلى كل نعمة وهبها الله لك، ولكن حين يعلم هذا القريب أن النعمة التي وهبها الله لك قد يناله منها شيء ولو بالوصية وليس بالتقنين الإرثي هذا القريب يملأه الفرح بالنعمة التي وهبها الله لك. ولذلك قال الحق: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين } [البقرة: 180]. إن الحق يريد أن يلفت العباد إلى الأقرباء غير الوارثين بعد أن أدخل الآباء والأمهات في الميراث. إن الإنسان حين يكون قريبا لميت ترك خيرا، وخص الميت هذا القريب ببعض من الخير في الوصية، هذا القريب تمتلئ بالخير نفسه فيتعلم ألا يحبس الخير عن الضعفاء، وهكذا يستطرق الحب وتقوم وشائج المودة. والحق يفترض - وهو الأعلم بنفوس عباده - أن الموصي قد لا يكون على حق والوارث قد يكون على حق، لذلك احتاط التشريع لهذه الحالة لأن الموصى له حين يأخذ حظه من الوصية سينقص من نصيب الوارث، ولذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعصم الأطراف كلها، إنه يحمي الذي وصى، والموصى له، والوارث ومن هنا يقول الحق: { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه... }.
[2.181]
ونحن نعرف أنه في زمن نزول القرآن كانت الوصية شفاهة، ولم تكن الكتابة منتشرة، ولذلك أتى الحق بالجانب المشترك في الموصي والموصى له والوارث وهو جانب القول فقد كان القول هو الأداة الواضحة في ذلك الزمن القديم، ولم تكن هناك وسائل معاصرة كالشهر العقاري لتوثيق الوصية، لذلك كان تبديل وصية الميت إثما على الذي يبدل فيها. إن الموصي قد برئت ذمته، أما ذمة الموصى له والوارث فهي التي تستحق أن تنتبه إلى أن الله يعلم خفايا الصدور وهو السميع العليم. ويريد الحق أن يصلح العلاقة بين الوارث والموصي له، لذلك يقول الحق: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا... }.
[2.182]
إن الحق يريد العدل للجميع فإذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط المستقيم وكان فيها حرمان للفقير وزيادة في ثراء الغني أو ترك للأقربين، فهذا ضياع للاستطراق الذي أراده الله، فإذا جاء من يسعى في سبيل الخير ليرد الوصية للصواب فلا إثم عليه في التغيير الذي يحدثه في الوصية ليبدلها على الوجه الصحيح لها الذي يرتضيه الله لأن الله غفور رحيم. وقد يخاف الإنسان من صاحب الوصية أن يكون جنفا، والجنف يفسر بأنه الحيف والجور، وقد يخلق الله الإنسان بجنف أي على هيئة يكون جانب منه أوطى من الجانب الآخر، ونحن نعرف من علماء التشريح أن كل نصف في الإنسان مختلف عن النصف الآخر وقد يكون ذلك واضحا في بعض الخلق، وقد لا يكون واضحا إلا للمدقق الفاحص. والإنسان قد لا يكون له خيار في أن يكون أجنف، ولكن الإثم يأتي باختيار الإنسان - أي أن يعلم الإنسان الذنب ومع ذلك يرتكبه - إذن فمن خاف من موص جنفا أي حيفا وظلما من غير تعمد فهذا أمر لا خيار للموصي فيه، فإصلاح ذلك الحيف والظلم فيه خير للموصي. أما إذا كان صاحب الوصية قد تعمد أن يكون آثما فإصلاح ذلك الإثم أمر واجب. وهذه هي دقة التشريع القرآني الذي يشحذ كل ملكات الإنسان لتتلقى العدل الكامل. والحق عالج قضية التشريع للبشر في أمر القصاص باستثماره كل ملكات الخير في الإنسان حين قال:
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف
[البقرة: 178]. إنه ليس تشريعا جافا كتشريع البشر. إنه تشريع من الخالق الرحيم العليم بخبايا البشر. ويستثير الحق في البشر كل نوازع الخير، ويعالج كذلك قضية تبديل الوصية التي وصى بها الميت بنفسه، فمن خالف الوصية التي أقيمت على عدالة فله عقاب. أما الذي يتدخل لإصلاح أمر الوصية بما يحقق النجاة للميت من الجنف أي الحيف غير المقصود ولكنه يسبب ألما، أو يصلح من أمر وصية فيها إثم فهذا أمر يريده الله ولا إثم فيه ويحقق الله به المغفرة والرحمة. وهكذا يعلمنا الحق أن الذي يسمع أو يقرأ وصية فلا بد أن يقيسها على منطق الحق والعدل وتشريع الله، فإن كان فيه مخالفة فلا بد أن يراجع صاحبها. ولنا أن نلحظ أن الحق قد عبر عن إحساس الإنسان بالخوف من وقوع الظلم بغير قصد أو بقصد حين قال: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } [البقرة: 182]. إن كلمة " خاف " عندما تأتي في هذا الموضع تدل على الوحدة الإيمانية في نفوس المسلمين. إن المؤمن الذي يتصدى لإصلاح من هذا النوع قد يكون غير وارث، ولا هو من الموصى لهم، ولا هو الموصي، إنما هو مجرد شاهد، وهذه الشهادة تجعله يسعى إلى التكافل الإيماني فكل قضية تمس المؤمن إنما تمس كل المؤمنين، فإن حدث جنف فهذا يثير الخوف في المؤمن لأن نتيجته قد تصيب غيره من المؤمنين ولو بغير قصد، وهكذا نرى الوحدة الإيمانية.
إن الإيمان يمزج المؤمنين بعضهم ببعض حتى يصيروا كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ولهذا فعندما يتدخل المؤمن الذي لا مصلحة مباشرة له في أمر الإرث أو الوصية ليصلح من هذا الأمر فإن الحق يثيبه بخير الجزاء. والحق سبحانه قال: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } [البقرة: 182]، وهذا القول يلفتنا إلى أن الإنسان إذا ما عزم على اتخاذ أمر في مسألة الوصية فعليه أن يستشير من حوله، وأن يستقبل كل مشورة من أهل العلم والحكمة، وذلك حتى لا تنشأ الضغائن بعد أن يبرم أمر الوصية إبراما نهائيا. أي بعد وفاته، والحق قد وضع الاحتياطات اللازمة لإصلاح أمر الوصية إن جاء بها ما يورث المشاكل لأن الحق يريد أن يتكاتف المؤمنون في وحدة إيمانية، لذلك فلابد من معالجة الانحراف بالوقاية منه وقبل أن يقع. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ".
والحديث الشريف يضرب المثل على ضرورة التآزر والتواصي بين المؤمنين حماية لهم. فهؤلاء قوم اقتسموا سفينة بالقرعة، والاستهام هو قرعة لا هوى لها، وسكن بعضهم أسفل السفينة حسب ما جاء من نتيجة الاستهام، وسكن بعضهم أعلى السفينة. لكن الذين سكنوا أسفل السفينة أرادوا بعضا من الماء، واقترح بعضهم أن يخرقوا السفينة للحصول على الماء، وبرروا ذلك بأن مثل هذا الأمر لن يؤذي من يسكنون في النصف الأعلى من السفينة، ولو أنهم فعلوا ذلك، ولم يمنعهم الذين يسكنون في النصف الأعلى من السفينة لغرقوا جميعا، لكن لو تدخل الذين يسكنون في النصف الأعلى من السفينة لمنعوا الغرق، وكذلك حدود الله، فعلى المؤمنين أن يتكاتفوا بالتواصي في تطبيقها، فلا يقولن أحد: " إن ما يحدث من الآخرين لا شأن لي به " لأن أمر المسلمين يهم كل مسلم، ولذلك جاءت آية قال فيها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: " هناك آية تقرأونها على غير وجهها " أي تفهمونها على غير معناها.
Halaman tidak diketahui