118

Tafsir Al-Shaarawi

تفسير الشعراوي

Genre-genre

[2.61]

هذه الآية الكريمة أيضا من آيات التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على موسى وعلى بني إسرائيل.. وكنا قد تعرضنا لمعنى طعام واحد عند ذكر المن والسلوى.. وقلنا إن تكرار نزول المن والسلوى كل يوم جعل الطعام لونا واحدا.. وكلمة واحد هي أول العدد.. فإذا إنضم إليه مثله يصير اثنين.. وإذا إنضم إليه مثله يصبح ثلاثة.. إذن فأصل العدد هو الواحد.. والواحد يدل على وحدة الفرد ولا يدل على وحدانية.. فإذا قلنا الله واحد فإن ذلك يعني أنه ليس كمثله أحد.. ولكنه لا يعني أنه ليس مكونا من أجزاء.. فأنت لست واحدا ولست أحدا لأنك مكون من أجزاء - كما أن هناك من يشبهونك.. والشمس في مجموعتنا واحدة ولكنها ليست أحدا لأنها مكونة من أجزاء وتتفاعل.. والله سبحانه وتعالى واحد ليس كمثله شيء.. وأحد ليس مكونا من أجزاء.. ولذلك من أسمائه الحسنى الواحد الأحد.. ولا نقول أن الاسم مكرر فهذه تعني الفردية، وهذه تنفي التجزئة. وقوله تعالى: { لن نصبر على طعام واحد } [البقرة: 61].. نلاحظ هنا أن الطعام وصف بأنه واحد رغم أنه مكون من صنفين هما المن والسلوى.. ولكنه واحد لرتابة نزوله.. الطعام كان يأتيهم من السماء، ولكن تعنتهم مع الله جعلهم لا يصبرون عليه فقالوا ما يدرينا لعله لا يأتي.. نريد طعاما نزرعه بأيدينا ويكون طوال الوقت أمام عيوننا.. وكأن هذه المعجزات كلها ليست كافية.. لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله.. إنهم يريدون أن يروا.. ألم يقولوا لموسى:

أرنا الله جهرة

[النساء: 153].. ماذا طلبوا؟.. قالوا: { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض } [البقرة: 61].. { فادع لنا ربك } [البقرة: 61] أي اطلب من الله، ولأن الدعاء لون من الطلب فإنك حين تتوجه إلى الله طالبا أن يعطيك.. فإنك تدعو بذلة الداعي أمام عزة المدعو.. والطلب إن كان من أدنى إلى أعلى قيل دعاء.. ومن مساو إلى مساو قيل طلب.. ومن أعلى إلى أدنى قيل أمر. لقد طلب بنو إسرائيل من موسى أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض، وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة.. وقالوا: { من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها } [البقرة: 61].. ولكنها كلها أصناف تدل على أن من يأكلها هم من صنف العبيد.. والمعروف أن آل فرعون استعبدوا بني إسرائيل، ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها. الحق تبارك وتعالى كان يريد أن يرفع قدرهم فنزل عليهم المن والسلوى، ولكنهم فضلوا طعام العبيد.

. والبقل ليس مقصودا به البقول فحسب، ولكنه كل نبات لا ساق له مثل: الخس والفجل والكرات والجرجير.. والقثاء هو القتة صنف من الخيار.. والفوم هو القمح أو الثوم. والعدس والبصل معروفان.. والله سبحانه وتعالى قبل أن يجيبهم أراد أن يؤنبهم: فقال { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [البقرة: 61]. عندما نسمع كلمة استبدال فاعلم أن الباء تدخل على المتروك.. تقول اشتريت الثوب بدرهم.. يكون معنى ذلك أنك أخذت الثوب وتركت الدرهم. قوله تعالى: { الذي هو أدنى بالذي هو خير } [البقرة: 61].. أي أنهم تركوا الذي هو خير وهو المن والسلوى.. وأخذوا الذي هو أدنى.. والدنو هنا لا يعني الدناءة.. لأن ما تنتجه الأرض من نعم الله لا يمكن أن يوصف بالدناءة، ولكن الله تبارك وتعالى يخلق بالأسباب ويخلق بالأمر المباشر.. ما يخلقه الله بالأمر المباشر منه بكلمة " كن ".. يكون خيرا مما جاء بالأسباب.. لأن الخلق المباشر لا صفة لك فيه.. عطاء خالص من الله.. أما الخالق بالأسباب فقد يكون لك دور فيه.. كأن تحرث الأرض أو تبذر البذور.. ما جاء خالصا من الله بدون أسبابك يقترب من عطاء الآخرة التي يعطي الله فيها بلا أسباب ولكن بكلمة " كن " ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى

[طه: 131]. فالله تبارك وتعالى يصف رزق الدنيا بأنه فتنة.. ويصف رزق الآخرة بأنه خير منه.. مع أن رزق الدنيا والآخرة، وكل رزق في هذا الوجود حتى الرزق الحرام هو من الله جل جلاله.. فلا رازق إلا الله ولكن الذي يجعل الرزق حراما هو استعجال الناس عليه فيأخذونه بطريق حرام.. ولو صبروا لجاءهم حلالا. نقول إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزق.. ولكنه سمى رزقا فتنة وسمى رزقا خيرا.. منه.. ذلك أن الرزق من الله بدون أسباب أعلى وأفضل منزلة من الرزق الذي يتم بالأسباب. إذن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [البقرة: 61].. يكون المعنى أتستبدلون الذي هو رزق مباشر من الله تبارك وتعالى.. وهو المن والسلوى يأتيكم " بكن " قريب من رزق الآخرة بما هو أقل منه درجة وهو رزق الأسباب في الدنيا.. ولم يجب بنو إسرائيل على هذا التأنيب.. وقال لهم الحق سبحانه وتعالى: { اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم } [البقرة: 61].. ولا يقال لهم ذلك إلا لأنهم أصروا على الطلب برغم أن الحق جل جلاله بين لهم أن ما ينزله إليهم خير مما يطلبونه.

نلاحظ هنا أن مصر جاءت منونة.. ولكن كلمة مصر حين ترد في القرآن الكريم لا ترد منونة.. ومن شرف مصر أنها ذكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم.. نلاحظ أن مصر حينما يقصد بها وادي النيل لا تأتي أبدا منونة وإقرأ قوله تعالى:

تبوءا لقومكما بمصر بيوتا..

[يونس: 87]. وقوله جل جلاله:

Halaman tidak diketahui