461

[25.1-3]

{ تبارك } تعاظم وتعالى ذاته سبحانه من أن يحيط بمنافعه وكثرة خيراته وبركاته عقول مظاهره ومصنوعاته، حتى يعدوها بألسنتهم، ويعبروا عنها بأفواههم حالا ومقالا { الذي نزل } بمقتضى جوده الواسع وكرمه الكامل { الفرقان } الجامع لفوائد الكتب السالفة مع زوائد خلت عنها تلك الكتب تفضلا وامتنانا، ومزيد اهتمام { على } شأن { عبده } صلى الله عليه وسلم بعدما هيأه لقبوله، وأعده لنزوله، ورباه أربعين سنة تتميما لأمر المناسبة المعنوية وتحصيلاتها، حتى يستحق ويستعد للإلهام والوحي، وإنما أنزل هذا { ليكون للعالمين } أي: كافة المخلوقين على فطرة التكليف، وعامة المجبولين على استعدد المعرفة { نذيرا } [الفرقان: 1] ينذرهم ويحذرهم عما يضرهم، ويغويهم عن صراط الحق وطريق توحيده عناية منه سبحانه إياهم، ومرشدا لهم إلى مبدئهم.

وكيف لا يرشدهم سبحانه وهو { الذي له ملك السموت } أي: عالم الأسماء والصفات المعبر عنها بالعلويات { والأرض } أي: الطبائع السفلية القابلة للانعكاس من العلويات، فلا يضره كثرة الأسماء والصفات وحدوث العكوس والتعينات حسب الشئون والتجليات الإلهية وحدته الذاتية وانفراده الحقيقي { و } لهذا { لم يتخذ } سبحانه { ولدا } حتى يتكثر { ولم يكن له شريك } في وجوده وملكه حتى ينازع ويتضرر، بل له التصرف بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة العكوس والأظلال الهالكة في صرافة وحدته الذاتة وشمس ذاته { في الملك وخلق كل شيء } ظهر حسب تجاليته على مقتضى أسمائه وصفاته.

وبعدما أظهر ما أظهر { فقدره تقديرا } [الفرقان: 2] بديعا، ودبر أمره تدبيرا محكما عجيبا بأن وفق بعضهم لاختراع أنواع الصنائع والحرفة البديعة والإدراكات الكاملة والتدبيرات الغريبة المتعلقة بتمدنهم لمعاشهم، وجعل بعضهم آلة للبع، وبعضهم مالكا، وبعضهم مملوكا، وأزواجا وأصنافا مؤتلفة وفرقا وأضرابا مختلفة، وأنواعا متفاوتة إلى ما شاء الله

وما يعلم جنود ربك إلا هو

[المدثر: 31] كل ذلك ليتعاونوا ويتظاهروا، واختلطوا وامتزجوا إلى أن اعتدلوا وانتظموا، وصاروا مؤتمنين مؤتلفين مؤانسين، محتاجين كل منهم بمعاونة الآخر.

وإنما فعل سبحانه ما فعل؛ ليظهر كمالاته المندرجة في وحدة ذاته، ويظهر سلطان الوحدة الذاتية بظهور ضده، وبعدما بلغ الكثرة غايتها انتهت إلى الوحدة أيضا كما بدأت منها وانتشأت عنها، فحينئذ اتصل الأول بالآخر والظاهر بالباطن، واتحد الأزل والأبد، وارتفع الكثرة والعدد، ولم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد

لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد

[الإخلاص: 3-4].

{ و } كيف لا يقدر سبحانه أمر عباده بإنزال الكتب، وإرسال الرسل المرشدين لهم إلى توحيده بعدما تاهوا في بيداء الكثرة والضلال، مع أنهم { اتخذوا من دونه } سبحانه { آلهة } يعدونها كعبادته، مع أن آلهتهم الباطلة { لا يخلقون } ولا يوجدون ويظهرون { شيئا } من المخلوقات حتى يستحقوا الألوهية والعبادة، مع أن من شأن الإله الخلق والإيجاد حتى يستحق للتوجه والرجوع إليه، بل { وهم } في أنفسهم { يخلقون } أي: مخلوقون مقدورون لا قادرون خالقون، بل { و } هم مرادون، والمخلوقات التي هي الجمادات؛ إذ { لا يملكون لأنفسهم } أيضا { ضرا } أي: إماتة لأحد { ولا نفعا } اي: جلب نفع إليها { ولا يملكون } أيضا { موتا } أي: إماتة لأحد { ولا حياة } أي: أحياء له { ولا نشورا } [الفرقان: 3] أي: بعثا وحشرا بعد الموت للجزاء، ومن كان وصفه هذا كيف تتأتى منه الألوهية والربوبية المقتضية للعبودية؟!.

Halaman tidak diketahui