Tafsir Al-Jilani
تفسير الجيلاني
Genre-genre
ولما كان لوحدته سبحانه آيات ودلائل واضحات لمن تأمل في عجائب مصنوعاته، وبدائع مبدعاته ومخترعاته، المترتبة إلى أسمائه وصفاته المستندة إلى وحدة ذاته، أشار سبحانه إلى نبذتها إرشادا وتنبيها فقال: { إن في خلق السموت } أي: إظهار العلويات التي هي الأسماء والصفات المؤثرة الفاعلة { والأرض } أي: السفلية التي هي طبيعة العدم القابلة المتأثرة من العلويات { واختلاف الليل } أي: ظلمة العدم والجهل والعمى { والنهار } نور الوجود والعلم والعين { والفلك } أي: الأجساد الحاصلة من تأثير الأسماء وتأثير الطبيعة منها { التي تجري في البحر } أي: بحر الوجود الذلا لا ساحل له ولا قعر { بما ينفع الناس } من جواهر المعارف، ودرر الحقائق المستخرجة منه { ومآ أنزل الله } من كرمه وجوده بلا عوض ولا غرض { من السمآء } المعدة للإفاضة { من مآء } علم وعين وكشف { فأحيا به الأرض } أي: الطبيعة { بعد موتها } بالجهل الجبلي { و } بعدما ما أصابها { بث } بسط ونشر { فيها من كل دآبة } من القوى المدركة والمحركة المتشعبتين بالشعبة الكثيرة على صنعة الحياة المتفرعة على التجلي الحي { وتصريف الرياح } المروحة للنفوس، المتوجهة الناشئة المنشئة من النفس الرحمانية نحو الطبيعة المكدرة بالكدورات الجسمانية { والسحاب } أي: حجاب العبودية وقيود الغيرية الناشئة من مقتضيات الأسماء والصفات { المسخر } الممدود { بين السمآء والأرض } أي: سماء الأسماء الإلهية وأرض الطبيعة الكونية { لآيات } دلائل وبراهين يقينية دالة على أن مظهر الكل واحد { لقوم يعقلون } [البقرة: 164] يعلمون الأشياء بالدلائل العقلية اليقينة المنتجة لعلم اليقين إلى العين والحق لو كوشفوا.
ربنا اكشف علينا ما أودعت فينا بفضلك وتوفيقك، إنك أنت الجواد الكريم.
{ و } مع لوام هذه الآيات والدلائل الشواهد وبروق الواردات الغيبية، وشروق المكاشفات العينية الدالة على وحدة الذات { من الناس } المخلوقين على فطرة التوحيد القابلين لها { من يتخذ } منهم جهلا وعنادا { من دون الله } المعني للكثرة مطلقا { أندادا } أمثالا أحقاء للألوهية والربوبية مستحقين للعابدة إلى حيث { يحبونهم } أي: كلا منه معبودهم { كحب الله } الجامع للكل لحصر كل طائفة منهم مرتبة للألوهية في مظهر مخصوص، ولذلك كفروا { والذين آمنوا } بالله { أشد حبا } منهم { لله } المحيط للكل الحقيق بالحقية؛ لحصرهم الألوهية والربوبية والتحقق والوجود والهوية، والذات والحقيقة والصفات على الله لا على غيره؛ إذ لا غير في الوجود، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم في النشأةالأولى، وإليه الرجوع في النشأة الأخرى.
أذقنا حلاوة اليقين وارزقنا محبة المؤمنين الموقنين.
{ ولو يرى الذين ظلموا } حين خرجوا عن طريق التوحيد، وانصرفوا عن الصراط المستقيم واتخذوا أمثالا يحبونهم كحب الله ما يرون حين { إذ يرون العذاب } النازل عليهم باتخاذهم من { أن القوة } الكاملة والقدرة الشاملة الجامعة { لله جميعا } المنفرد بالمجد وإليها { و } من { أن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { شديد العذاب } [البقرة: 165] صعب الانتقام، سريع الحساب، لتبرءوا من متبوعهم في الدنيا كما تبرءوا منهم في الآخرة.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ تبرأ الذين اتبعوا } من الأنداد والأمثال { من الذين اتبعوا } من المتخذين { و } ذلك حين { رأوا } المتبوعين { العذاب } النازل على تابعيهم باتخاذهم آلهة، كذبوهم وأظهروا البراءة عنهم براءة نفوسهم { و } التابعون أيضا يرونهم ويفهمون براءتهم ويقصدون انتقامهم ولا يستطيعون؛ إذ { تقطعت بهم الأسباب } [البقرة: 166] أي : أسباب الانتقام بانقطاع النشأة الأولى.
[2.167-170]
{ و } بعدما آيسوا من الانتقام { قال الذين اتبعوا } نادمين متحسرين متمنين: { لو أن لنا كرة } مكررة في النشأة الأولى { فنتبرأ منهم } فيها تلافيا وتداركا لما مضى من اتخاذنا إياهم آلهة { كما تبرءوا منا } في هذه النشأة، ولا تنفعهم هذه الندامة ولا التمني، بل ما يزيدهم إلا غراما فوق غرام { كذلك } أي: مثل عذاب اتخاذهم { يريهم الله } أي: يحضرهم { أعمالهم } الفاسدة السابقة كلها، ويعذبهم عليها فردا فردا، وما يقولون فيه وما لهم في تلك الحالة إلا { حسرات } نازلة { عليهم } من تذكر سوء عملهم وقبح صنيعهم، وهذا من أسوأ العذاب وأشد العقاب، أعاذنا الله من ذلك { و } بالجملة: { ما هم } لا تابعون ولا متبوعون { بخارجين } أبدا { من النار } [البقرة: 167] أي: نار البعد والإمكان المورث للحسرة والخذلان.
أجرنا من النار يا مجير.
ثم لما بين سبحانه طريق توحيده على خلص عباده المتوجهين نحو جنابه، تطهيرا لبواطنهم عن خبائث الأهواء العاطلة والآراء الفاسدة، أراد أن يرشدهم إلى تهذيب ظواهرهم أيضا بالخصائل الحميدة الجميلة والأخلاق المرضية؛ ليكون ظاهرهم عنوانا لباطنهم، فقال تعالى مناديا لهم إشفاقا وإرشادا: { يأيها الناس } المجبولون على التوحيد { كلوا } وتناولوا { مما } من جميع ماخلق لكم { في الأرض } لتقويم مزاجكم وتقويته { حلالا } إذ الأصل في الأشياء الحل ما الم يرد الشرع على حرمته { طيبا } مما يحصل من كد يمينكم وعرق جبينكم؛ إذ لا رزق أطيب منه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي: لا تقتدوا ولا تقنفوا في تحصيل الرزق إثر وساوس شياطين الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق، والمفضية إلى سبيل الظلم والعدون، ولا تغتروا بتمويهات الشيطان وتزييناته { إنه لكم عدو مبين } [البقرة: 168] ظاهر العداوة عند أولي البصائر بنور الله، المقتبسين من مشكاة توحيده.
Halaman tidak diketahui