210

وانفتاح أبواب المحبة والولاء إنما يحصل بالإخلاص والتسليم والتفويض والتوكل والتبتل، والتوحيد المقسط للإضافات مطلقا { و } بالجلمة: { أنه } أي: الشأن { إليه } سبحانه لا إلى غيره بد رفع الأظلال الهالكة والتعينات الباطلة { تحشرون } [الأنفال: 24] ترجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.

{ واتقوا } أيها المؤمنون { فتنة } أي: معصية مسقطة للعدالة، مزيحة للمروءة مورثة للمصيبة الشاملة إثرها لعباد الله مثل الطاعون المترتب على الزنا واللواط، والقحط المترتب على التخسير والتطفيف والاحتكار وغيرها من طرق الربا، مع أن أثرها { لا تصيبن الذين ظلموا } أي: أتوا بها { منكم خآصة } بل يعم الظالمين وغيرهم بشؤمهم؛ لأن غيرهم يداهنون معهم كأنهم راضون بفعلهم { واعلموا أن الله } المتعزز برداء العظمة { شديد العقاب } [الأنفال: 25] ضعب الانتقام، سريع الحساب لعى من خرج من مقتضى أمره ونهيه.

{ واذكروا } أيها المؤمنون نعمنا إياكم، وداموا بشكرها وقت { إذ أنتم قليل مستضعفون } يستضعفكم من { في الأرض } يعني: أرض مكة - شرفها الله - ومن غاية ضعفكم وقلتكم { تخافون أن يتخطفكم } ويلتقطكم { الناس } عن وجه الأرض إلى حيث يستأصلكم بالمرة؛ من غاية ضعفكم وقلتكم { فآواكم } الله بحوله وقوته، وأعادكم إليها بعدما أخرجكم العدو منها ظلما وزورا { وأيدكم بنصره } بأن تغلبوا وتظفروا على عدوكم، وتخرجوهم منها مهانين مغلوبين مستضعفين { و } بعدما أيدكم وأظفركم سبحانه { رزقكم من الطيبات } التي غنمتم منها { لعلكم تشكرون } [الأنفال: 26] رجاء أن تواظبوا شكر هذه النعم الجسام.

[8.27-30]

ثم قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليما للمؤمنين، مناديا لهم؛ ليقبلوا بما أمروا ونهوا: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: أن { لا تخونوا الله } في امتثال أوامره واجتناب نواهيه { والرسول } في سنته وأخلاقه وآدابه التي وضعها فيما بينكم؛ لإصلاح حالكم { و } بالجملة: { تخونوا أماناتكم } التي ائتمنتم فيها اعتمادا وثقة { و } الحال أنه { أنتم تعلمون } [الأنفال: 27] قبح الخيانة من أنفسكم بلا احتياج إلى إنذار منذر، وإخبار مخبر، والخيانة في الأمانات إنما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط، وتكثير الميل إلى المال الصالح للعيال.

{ واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } اختيار وابتلاء لكم من ربكم يجربكم هل تضطربون في أمر المال والعيال، وتوقعون لأجلها في المهالك وإباحة المحرمات، وارتكاب الخيانات المسقطة للمروءات مطلقا؟ أم تفوضون الأمور كلها إلى الله وترضون بما قضى عليكم، وقدر لكم في سابق علمه ولوح قضائه؟ { و } اعلموا { أن الله } المطلع لجميع حالاتكم { عنده } وفي كنف حفظه وجواره { أجر عظيم } [الأنفال: 28] للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم، ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها.

{ يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله } وتحذروا عن محارمة ومحضوراته مطلقا، وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والشهادات بلا خيانة فيها، وتفوضوا أموركم كلها إليه مجتنبين { يجعل لكم } وينزل على قلوبكم تفضلا وامتنانا { فرقانا } ينور به قلوبكم إلى حيث تميزون الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتقريره { ويكفر } به ويمحو به { عنكم سيئاتكم } أي: جرائمكم اللاتي مضت عليكم بالمرة { و } بالجملة: { يغفر لكم } ويستر عنكم ذنوبكم مطلقا؛ تفضلا وامتنانا { و } لا تتعجبوا من أفضاله هذا، ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله، إن { الله } المراقب لأحوال عباده { ذو الفضل العظيم } [الأنفال: 29] واللطف الجسيم على من توكل عليه، والتجأ نحوه في جميع حالات على وجه الخضوع والخشوع.

{ و } اذكر يا أكمل الرسل إنجاءنا وخلاصنا إياك وقت { إذ يمكر } ويخدع { بك } إهلاكك ومقتك { الذين كفروا } يعني: قريشا شاوروا لأمرك في دار الندوة { ليثبتوك } ويحبسوك في دار ليس فيها منفذ ولا كوة يلقون منها طعامكم أحيانا { أو يقتلوك } مزدحمين؛ بحيث لم ينسب قتلك إلى معين منهم { أو يخرجوك } من مكة محمولا على عجل؛ ليقتلك القطاع { و } بالجملة: { يمكرون } أولئك الكفرة العصاة الطغاة لمقتك { ويمكر الله } الرقيب عليك؛ لإنجائك وخلاصك من أيديهم قغلب مكره سبحانه على مكره، وأخرجك من بينهم سالما { والله } المطلع لجميع محايلهم { خير الماكرين } [الأنفال: 30] أي: أشدهم وأقواهم تأثيرا وقوة.

وذلك أنهم حين سمعوا إيمان الأنصار تشاوروا على أظهرهم في أمره صلى الله عليه وسلم، وارتفاع شأنه، وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأحضركم؛ لأعلم كيف تدبرون في أمر هذا الشخص الذي لو بقي زمانا على هذا يخاف عليكم من شرءه؟.

فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه غير كوة يلقون إليه طعامه وشرابه حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: بئس هذا الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه يخلصونه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن يحملوه على جمل فيخرجوه من أرضكم، ولا يلحقكم ضرر بني هاشم، فقال الشيخ: يفسد قوما آخر ويقاتلكم بهم أما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه، ووجاهة منظره؟.

Halaman tidak diketahui