Norbert Wiener
الذي كانت أبحاثه هي الأساس الأول لاختراع العقول الإلكترونية.
2
كانت فكرة هذا العالم هي تطبيق ما يحدث في الإنسان - بوصفه جهازا حيا متكاملا - على الآلات من أجل بلوغ مرحلة جديدة في تطورها مختلفة عن كل ما استخدمت فيه الآلات من قبل. وعلى هذا الأساس فقد درس الوظائف التي يقوم بها الجهاز العصبي للإنسان، والتي يتمكن الإنسان بواسطتها من أن يصحح مسار أفعاله ويعيد توجيهها وفقا لما يواجهه من مواقف، وأن يأمر نفسه ويطيعها ويختبر نتائج سلوكه ويعدلها. وحين أمكن تطبيق نتائج هذه الدراسات في صنع جيل جديد من الآلات، كانت تلك آلات من نوع لم يألفه الإنسان من قبل؛ فهي ليست تلك الآلات التي تحتاج إلى إشراف دائم للإنسان، ولا تعمل إلا وفقا لأوامره، ولا تسير إلا في خط واحد يرسمه لها مقدما، بل إنها كانت آلات تصحح مسارها بنفسها، وتتبادل مع نفسها الأوامر وتنفيذ الأوامر، وتقوم بأعمال إنتاجية أعقد وأكمل بكثير مما كانت تقوم به الأجيال السابقة من الآلات، سواء منها البخارية والكهربائية، وهكذا كانت فكرة تلك الآلات تتضمن في داخلها «عقلا» حاسبا يراقب عملها ويعدله ويصححه، ويعيد توجيه سيرها وفقا لما يجريه من حسابات.
وقد نجحت هذه الآلات في إحداث تحول هائل في ميدان الإنتاج المادي؛ إذ إن كفاءتها كانت أعلى بكثير من كل أنواع الآلات السابقة، فضلا عن أنها توفر نسبة كبيرة من الأيدي العاملة؛ أي كانت تحقيقا فعليا لحلم بشري قديم، هو حلم الآلة التي تقوم بكل أعمال الإنسان وتعفيه من مشقة العمل، وهذا بالفعل ما حدث إلى حد بعيد في عصر الآلية الذاتية
Automation .
ولكن الإنجاز الأكبر لهذا المبدأ الهام الذي قامت عليه هذه الآلات الجديدة كان تطبيقها في ميدان العمل العقلي باختراع نوع جديد من الآلات هو «العقول الإلكترونية»، وكان ذلك شيئا جديدا كل الجدة في التاريخ البشري؛ إذ إن كل ما كان يستعين به الإنسان قبل ذلك من وسائل وأدوات - ابتداء من الفأس ودواب الحمل حتى الآلة البخارية والكهربائية - كانت توفر على الإنسان طاقته «الجسمية»، فتقوم بدلا منه بالعمل المرهق، أو تنقله بطريقة أسرع، أو تنتج له سلعة بوفرة. أما الميدان العقلي فقد كان الإنسان وحده هو الذي يتحمل أعباءه، ويؤمن بأن شيئا لن يستطيع أن يمد إليه يد المساعدة في هذا الميدان بالذات. ومن هنا فإن ظهور العقول الإلكترونية يعد مرحلة جديدة في حياة الإنسان العقلية، وخطوة جبارة في طريق التقدم العلمي، فضلا عن أنه فتح آفاقا هائلة أمام المعرفة البشرية في مختلف ميادينها.
والواقع أن هذا الكشف الجديد قد أتى في وقته المناسب تماما؛ ذلك لأن العصر الحاضر هو - باعتراف الكثيرين - عصر «الانفجار المعرفي» أو «انفجار المعلومات»؛ فكمية المعلومات في أي ميدان من ميادين البحث - مهما كان مقدار تخصصه - تتسع إلى حد يستحيل على العقل البشري - مهما كان مدى قوة ذاكرته - أن يستوعبه، وفي البلاد المتقدمة علميا يتعين على الباحث قبل أن يشرع في عمل علمي جديد أن يكون ملما بأحدث ما تم التوصل إليه في ميدانه حتى يفيد من جهود الآخرين، ويبدأ من حيث انتهوا، وحتى لا يكرر عملا سبق لغيره القيام به في مكان ما.
ولكن وسائل الاطلاع العادية - كالبحث عن أحدث الكتب والمجلات العلمية في المكتبات - لا تجدي في هذا العصر الذي تتدفق فيه الأبحاث الجديدة ويتزايد عددها بلا انقطاع، وهنا تأتي العقول الإلكترونية لتقوم بدور «الذاكرة الصناعية»؛ فهي تحفظ المعلومات المتعلقة بالكتب والمقالات الهامة في كل موضوع فرعي، وتزود الباحث على الفور بقائمة كاملة من المراجع التي يتعين عليه قراءتها في الميدان الذي اختاره، أو تقدم إليه المعلومات المطلوبة مباشرة وتعفيه من جهود شاقة تدوم «سنوات» دون أن تصل أبدا إلى المستوى المطلوب.
وبطبيعة الحال فقد تناولنا دور العقول الإلكترونية في مساعدة العقل البشري بوصفه نموذجا لما تؤديه التكنولوجيا الجديدة من خدمات أساسية في ميدان العلم، ومن المعروف أن الدور الذي تقوم به هذه العقول في الميدان العلمي أوسع من ذلك؛ فهي ليست «ذاكرة صناعية» فحسب، بل إنها تؤدي عمليات ذهنية يعجز عنها العقل البشري، أو لا يؤديها إن استطاع إلا في سنوات عديدة، فهي تقوم بأدق العمليات الحسابية وأعقدها بسرعة هائلة، وهي عظيمة الكفاءة في المجالات التي تتحدد فيها العوامل وتتنوع إلى الحد الذي يقف أمامه العقل الإنساني عاجزا؛ فحين تتعدد المتغيرات في موقف معين، كما هي الحال في الحسابات المتعلقة بتوجيه سفينة فضائية إلى كوكب بعيد، يكون في استطاعة العقل الإلكتروني أن يحسب بسهولة اتجاه المسار الصحيح من خلال عمل حساب مجموعة من العوامل الشديدة التعقيد، مثل سرعة السفينة وسرعة دوران الأرض والجاذبية وحركة الكوكب وجاذبيته، إلى آخر ذلك من العوامل التي يستحيل على العقل البشري أن يجمعها كلها في عملية واحدة .
Halaman tidak diketahui