[مقدمة السيوطي]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ أَسْبَابَ مَنِ انْقَطَعَ إِلَيْهِ مَوْصُولَةً، وَرَفَعَ مَقَامَ الْوَاقِفِ بِبَابِهِ، وَآتَاهُ مُنَاهُ وَسُؤْلَهُ، وَأَدْرَجَ فِي زُمْرَةِ أَحْبَابِهِ مَنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُهُ بِزَخَارِفِ الْمُبْطِلِينَ مَعْلُولَةً، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً بِرِدَاءِ الْإِخْلَاصِ مَشْمُولَةً، وَلِلْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى صَاعِدَةً مَقْبُولَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي بَلَغَ بِهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ مَأْمُولَهُ، وَآتَاهُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَنَطَقَ بِجَوَاهِرِ الْحِكَمِ، وَفَاحَتْ مِنْ حَدَائِقِ أَحَادِيثِهِ فِي الْخَافِقَيْنِ شَذَا أَزْهَارِهَا الْمَطْلُولَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْأُصُولِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَمْجَادِ الْمَأْثُولَةِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ عِلْمَ الْحَدِيثِ رَفِيعُ الْقَدْرِ، عَظِيمُ الْفَخْرِ، شَرِيفُ الذِّكْرِ، لَا يَعْتَنِي بِهِ إِلَّا كُلُّ حَبْرٍ، وَلَا يُحْرَمُهُ إِلَّا كُلُّ غَمْرٍ، وَلَا تَفْنَى مَحَاسِنُهُ عَلَى مَمَرِّ الدَّهْرِ، وَكُنْتُ مِمَّنْ عَبَرَ إِلَى لُجَّةِ قَامُوسِهِ، حَيْثُ وَقَفَ غَيْرِي بِشَاطِئِهِ، وَلَمْ أَكْتَفِ بِوُرُودِ مَجَارِيهِ، حَتَّى بَقَرْتُ عَنْ مَنْبَعِهِ وَمَنَاشِئِهِ، وَقُلْتُ لِمَنْ عَلَى الرَّاحَةِ عَوَّلَ، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الْأَوَّلِ:
لَسْنَا وَإِنْ كُنَّا ذَوِي حَسَبٍ ... يَوْمًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
1 / 23
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا
مَعَ مَا أَمَدَّنِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْعُلُومِ، كَالتَّفْسِيرِ الَّذِي بِهِ يُطَّلَعُ عَلَى فَهْمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَعُلُومِهِ الَّتِي دَوَّنْتُهَا وَلَمْ أُسْبَقْ إِلَى تَحْرِيرِهَا الْوَجِيزِ، وَالْفِقْهِ الَّذِي مَنْ جَهِلَهُ فَأَنَّى لَهُ الرِّفْعَةُ وَالتَّمْيِيزُ، وَاللُّغَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ فَهْمِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَالنَّحْوِ الَّذِي يَفْتَضِحُ فَاقِدُهُ بِكَثْرَةِ الزَّلَلِ وَلَا يَصْلُحُ الْحَدِيثُ لِلَحَّانٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، الَّتِي لِبَلَاغَةِ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ تِبْيَانٌ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُؤَلَّفَاتٍ، وَحَرَّرْتُ فِيهَا قَوَاعِدَ وَمُهِمَّاتٍ، وَلَمْ أَكُنْ كَغَيْرِي مِمَّنْ يَدَّعِي الْحَدِيثَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقُصَارَى أَمْرِهِ كَثْرَةُ السَّمَاعِ عَلَى كُلِّ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُ الْمُحَدِّثُ إِلَيْهِ أَنْ يَحُوزَ، وَلَا مُكْتَرِثٍ بِالْبَحْثِ عَمَّا يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ، ثُمَّ ظَنَّ الِانْفِرَادَ بِجَمْعِ الْكُتُبِ وَالضَّنِّ بِهَا عَلَى طُلَّابِهَا، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا عَارِيًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِخِطَابِهَا.
إِنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمُصْطَلَحِ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى جَوَابِهَا، أَوْ عَرَضَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَعْرِفْ خَطَأَهَا مِنْ صَوَابِهَا، أَوْ لَوْ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَزِلَّ فِي إِعْرَابِهَا، فَصَارَ بِذَلِكَ ضُحْكَةً لِلنَّاظِرِينَ، وَهُزْأَةً لِلسَّاخِرِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَسْبِي وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.
هَذَا، وَقَدْ طَالَ مَا قَيَّدْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ فَوَائِدَ وَزَوَائِدَ، وَعَلَّقْتُ فِيهِ نَوَادِرَ وَشَوَارِدَ، وَكَانَ يَخْطُرُ بِبَالِي جَمْعُهَا فِي كِتَابٍ، وَنَظْمُهَا فِي عِقْدٍ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الطُّلَّابُ، فَرَأَيْتُ كِتَابَ " التَّقْرِيبِ وَالتَّيْسِيرِ " لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْحَافِظِ، وَلِيِّ
1 / 24
اللَّهِ تَعَالَى أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَاوِيِّ، كِتَابًا جَلَّ نَفْعُهُ، وَعَلَا قَدْرُهُ، وَكَثُرَتْ فَوَائِدُهُ، وَغَزُرَتْ لِلطَّالِبِينَ مَوَائِدُهُ، وَهُوَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَجَلَالَةِ صَاحِبِهِ وَتَطَاوُلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ حِينِ وَضْعِهِ لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ إِلَى وَضْعِ شَرْحٍ عَلَيْهِ، وَلَا الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ لَعَلَّ ذَلِكَ فَضْلٌ ادَّخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْعَبِيدِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَقَوِيَ الْعَزْمُ عَلَى كِتَابَةِ شَرْحٍ عَلَيْهِ كَافِلٍ بِإِيضَاحِ مَعَانِيهِ، وَتَحْرِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَبَانِيهِ، مَعَ ذِكْرِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ إِيرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ، مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ إِنْ كَانَ مُضِيفًا إِلَيْهِ زَوَائِدَ عَلِيَّةً، وَفَوَائِدَ جَلِيَّةً، لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةً فِي غَيْرِهِ، وَلَا سَارَ أَحَدٌ قَبْلَهُ كَسَيْرِهِ، فَشَرَعْتُ فِي ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، وَحَبَّذَا ذَاكَ اتِّكَالًا، وَسَمَّيْتُهُ: " تَدْرِيبَ الرَّاوِي فِي شَرْحِ تَقْرِيبِ النَّوَاوِي "، وَجَعَلْتُهُ شَرْحًا لِهَذَا الْكِتَابِ خُصُوصًا، ثُمَّ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَلِسَائِرِ كُتُبِ الْفَنِّ عُمُومًا.
وَاللَّهَ تَعَالَى أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، فَهُوَ بِإِجَابَةِ السَّائِلِ أَحْرَى، وَيَنْفَعَ بِهِ مُؤَلِّفَهُ وَقَارِئَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
[فوائد من المقدمة]
[الفائدة الْأُولَى فِي حَدِّ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يَتْبَعُهُ]
وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فِيهَا فَوَائِدُ:
الْأُولَى: فِي حَدِّ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يَتْبَعُهُ: قَالَ ابْنُ الْأَكْفَانِيِّ فِي كِتَابِ إِرْشَادِ الْقَاصِدِ، الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ: عِلْمُ الْحَدِيثِ الْخَاصُّ بِالرِّوَايَةِ: عِلْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى نَقْلِ أَقْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَرِوَايَتِهَا، وَضَبْطِهَا، وَتَحْرِيرِ
1 / 25
أَلْفَاظِهَا.
وَعِلْمُ الْحَدِيثِ الْخَاصُّ بِالدِّرَايَةِ: عِلْمٌ يُعْرَفُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الرِّوَايَةِ؛ وَشُرُوطُهَا، وَأَنْوَاعُهَا، وَأَحْكَامُهَا، وَحَالُ الرُّوَاةِ، وَشُرُوطُهُمْ، وَأَصْنَافُ الْمَرْوِيَّاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا. انْتَهَى.
فَحَقِيقَةُ الرِّوَايَةِ: نَقْلُ السُّنَّةِ وَنَحْوِهَا وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى مَنْ عُزِيَ إِلَيْهِ بِتَحْدِيثٍ أَوْ إِخْبَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَشُرُوطُهَا: تَحَمُّلُ رَاوِيهَا لِمَا يَرْوِيهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ، مِنْ سَمَاعٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ إِجَازَةٍ وَنَحْوِهَا. وَأَنْوَاعُهَا: الِاتِّصَالُ وَالِانْقِطَاعُ وَنَحْوُهُمَا. وَأَحْكَامُهَا: الْقَبُولُ وَالرَّدُّ. وَحَالُ الرُّوَاةِ: الْعَدَالَةُ وَالْجَرْحُ، وَشُرُوطُهُمْ فِي التَّحَمُّلِ وَفِي الْأَدَاءِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَصْنَافُ الْمَرْوِيَّاتِ: الْمُصَنَّفَاتُ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْأَجْزَاءِ وَغَيْرِهَا، أَحَادِيثَ وَآثَارًا وَغَيْرَهُمَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا: هُوَ مَعْرِفَةُ اصْطِلَاحِ أَهْلِهَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ: عِلْمُ الْحَدِيثِ: عِلْمٌ بِقَوَانِينَ يُعْرَفُ بِهَا أَحْوَالُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ.
وَمَوْضُوعُهُ: السَّنَدُ وَالْمَتْنُ.
وَغَايَتُهُ: مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ: أَوْلَى التَّعَارِيفِ لَهُ أَنْ يُقَالَ: مَعْرِفَةُ الْقَوَاعِدِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ حَذَفْتَ لَفْظَ " مَعْرِفَةُ " فَقُلْتَ الْقَوَاعِدُ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ
1 / 26
مَوْضُوعُهُ ذَاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.
وَحَدُّهُ: هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَقْوَالُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَفْعَالُهُ وَأَحْوَالُهُ.
وَغَايَتُهُ: هُوَ الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
وَهَذَا الْحَدُّ مَعَ شُمُولِهِ لِعِلْمِ الِاسْتِنْبَاطِ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، وَلَمْ يَزَلْ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مُحْيِي الدِّينِ الْكَافِيجِيُّ يَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْحَدِيثِ ذَاتُ الرَّسُولِ، وَيَقُولُ: هَذَا مَوْضُوعُ الطِّبِّ لَا مَوْضُوعُ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا السَّنَدُ فَقَالَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ وَالطِّيبِيُّ: هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ.
قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: وَأَخْذُهُ إِمَّا مِنَ السَّنَدِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ وَعَلَا مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْنِدَ يَرْفَعُهُ إِلَى قَائِلِهِ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ سَنَدٌ، أَيْ مُعْتَمَدٌ، فَسَمَّى الْإِخْبَارَ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ سَنَدًا لِاعْتِمَادِ الْحُفَّاظِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَضَعْفِهِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْإِسْنَادُ فَهُوَ رَفْعُ الْحَدِيثِ إِلَى قَائِلِهِ.
1 / 27
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَعْنَى اعْتِمَادِ الْحُفَّاظِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَضَعْفِهِ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: الْمُحَدِّثُونَ يَسْتَعْمِلُونَ السَّنَدَ وَالْإِسْنَادَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْمُسْنَدُ بِفَتْحِ النُّونِ فَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ: أَحَدُهَا: الْحَدِيثُ الْآتِي تَعْرِيفُهُ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
الثَّانِي: الْكِتَابُ الَّذِي جُمِعَ فِيهِ مَا أَسْنَدَهُ الصَّحَابَةُ، أَيْ رَوَوْهُ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ وَيُرَادَ بِهِ الْإِسْنَادُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، كَمُسْنَدِ الشِّهَابِ، وَمُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ: أَيْ أَسَانِيدُ أَحَادِيثِهِمَا.
وَأَمَّا الْمَتْنُ فَهُوَ: أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ الَّتِي تَتَقَوَّمُ بِهَا الْمَعَانِي، قَالَهُ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: هُوَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ غَايَةُ السَّنَدِ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَخْذُهُ إِمَّا مِنَ الْمُمَاتَنَةِ، وَهِيَ: الْمُبَاعَدَةُ فِي الْغَايَةِ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ السَّنَدِ، أَوْ مِنْ مَتَنْتُ الْكَبْشَ: إِذَا شَقَقْتُ جِلْدَةَ بَيْضَتِهِ وَاسْتَخْرَجْتُهَا، فَكَأَنَّ الْمُسْنِدَ اسْتَخْرَجَ الْمَتْنَ بِسَنَدِهِ؛ أَوْ مِنَ الْمَتْنِ وَهُوَ: مَا صَلُبَ وَارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُسْنِدَ يُقَوِّيهِ بِالسَّنَدِ وَيَرْفَعُهُ إِلَى قَائِلِهِ؛ أَوْ مِنْ تَمَتَّنَ الْقَوْسَ أَيْ شَدَّهَا بِالْعَصَبِ؛ لِأَنَّ الْمُسْنِدَ يُقَوِّي الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ.
1 / 28
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَأَصْلُهُ: ضِدُّ الْقَدِيمِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي قَلِيلِ الْخَبَرِ وَكَثِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحَدَّثُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ. وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ وَفِعْلَهُمْ وَتَقْرِيرَهُمْ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: الْخَبَرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَنِّ مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ، فَيُطْلَقَانِ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ وَالْمَقْطُوعِ.
وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِمَنْ يَشْتَغِلُ بِالسُّنَّةِ: مُحَدِّثٌ، وَبِالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا أَخْبَارِيٌّ.
وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ وَلَا عَكْسَ.
وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ الْمَرْفُوعِ إِلَّا بِشَرْطِ التَّقْيِيدِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ: أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْمَرْفُوعَ وَالْمَوْقُوفَ بِالْأَثَرِ، وَأَنَّ فُقَهَاءَ خُرَاسَانَ يُسَمُّونَ الْمَوْقُوفَ بِالْأَثَرِ وَالْمَرْفُوعَ بِالْخَبَرِ. وَيُقَالُ: أَثَرْتُ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى رَوَيْتُهُ، وَيُسَمَّى الْمُحَدِّثُ أَثَرِيًّا نِسْبَةً لِلْأَثَرِ.
[الفائدة الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الْحَافِظِ وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُسْنِدِ]
الثَّانِيَةُ: فِي حَدِّ الْحَافِظِ وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُسْنِدِ.
اعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الثَّلَاثَةِ، الْمُسْنِدُ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ مَنْ يَرْوِي
1 / 29
الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ رِوَايَةٍ، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَهُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا أُوصِيَ لِلْعُلَمَاءِ لَمْ يَدْخُلِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِطُرُقِهِ وَلَا بِأَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَالْمُتُونِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَقَالَ التَّاجُ بْنُ يُونُسَ فِي " شَرْحِ التَّعْجِيزِ ": إِذَا أُوصِيَ لِلْمُحَدِّثِ تَنَاوَلَ مَنْ عَلِمَ طُرُقَ إِثْبَاتِ الْحَدِيثِ وَعَدَالَةَ رِجَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى السَّمَاعِ فَقَطْ لَيْسَ بِعَالِمٍ.
وَكَذَا قَالَ السُّبْكِيُّ فِي " شَرْحِ الْمِنْهَاجِ ".
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ وَيُؤْخَذُ عَمَّنْ سِوَاهُمْ: لَا يُؤْخَذُ عَنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَلَا عَنْ سَفِيهٍ يُعْلِنُ بِالسَّفَهِ، وَلَا عَمَّنْ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ.
قَالَ الْقَاضِي: فَقَوْلُهُ وَلَا عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ، مُرَادُهُ إِذَا لَمْ
1 / 30
يَكُنْ مِمَّنْ يَعْرِفُ الرِّجَالَ مِنَ الرُّوَاةِ، وَلَا يَعْرِفُ هَلْ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ أَوْ نَقَصَ؟
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَاسْمُ الْمُحَدِّثِ عِنْدَهُمْ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَنْ حَفِظَ مَتْنَ الْحَدِيثِ، وَعَلِمَ عَدَالَةَ رِجَالِهِ وَجَرْحَهَا، دُونَ الْمُقْتَصِرِ عَلَى السَّمَاعِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي تَارِيخِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي نَصْرٍ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الشِّيرَازِيِّ قَالَ: الْعَالِمُ الَّذِي يَعْرِفُ الْمَتْنَ وَالْإِسْنَادَ جَمِيعًا، وَالْفَقِيهُ الَّذِي عَرَفَ الْمَتْنَ وَلَا يَعْرِفُ الْإِسْنَادَ، وَالْحَافِظُ الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْنَادَ وَلَا يَعْرِفُ الْمَتْنَ، وَالرَّاوِي الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْمَتْنَ وَلَا يَعْرِفُ الْإِسْنَادَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ: عُلُومُ الْحَدِيثِ الْآنَ ثَلَاثَةٌ:
أَشْرَفُهَا حِفْظُ مُتُونِهِ وَمَعْرِفَةُ غَرِيبِهَا وَفِقْهِهَا.
وَالثَّانِي: حِفْظُ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةُ رِجَالِهَا وَتَمْيِيزُ صَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَهَذَا كَانَ مُهِمًّا وَقَدْ كُفِيَهُ الْمُشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ بِمَا صُنِّفَ فِيهِ وَأُلِّفَ فِيهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَا فَائِدَةَ إِلَى تَحْصِيلِ مَا هُوَ حَاصِلٌ.
وَالثَّالِثُ: جَمْعُهُ وَكِتَابَتُهُ وَسَمَاعُهُ وَتَطْرِيقُهُ وَطَلَبُ الْعُلُوِّ فِيهِ، وَالرِّحْلَةُ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَالْمُشْتَغِلُ بِهَذَا مُشْتَغِلٌ عَمَّا هُوَ الْأَهَمُّ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، فَضْلًا عَنِ الْعَمَلِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَصْلِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَهْلِ
1 / 31
الْبَطَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلَةِ بِأَشْرَفِ الْبَشَرِ.
قَالَ: وَمِمَّا يُزَهِّدُ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ يَتَشَارَكُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالْفَدْمُ وَالْبَاهِمُ، وَالْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ.
وَقَدْ قَالَ الْأَعْمَشُ: حَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءُ خَيْرٌ مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
وَلَامَ إِنْسَانٌ أَحْمَدَ فِي حُضُورِ مَجْلِسِ الشَّافِعِيِّ وَتَرْكِهِ مَجْلِسَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: اسْكُتْ فَإِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ تَجِدْهُ بِنُزُولٍ وَلَا
1 / 32
يَضُرُّكَ، وَإِنْ فَاتَكَ عَقْلُ هَذَا الْفَتَى أَخَافُ أَنْ لَا تَجِدَهُ. انْتَهَى.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَفِي بَعْضِ كَلَامِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهَذَا قَدْ كُفِيَهُ الْمُشْتَغِلُ بِمَا صُنِّفَ فِيهِ قَدْ أَنْكَرَهُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالُ عَلَيْهِ: إِنْ كَانَ التَّصْنِيفُ فِي الْفَنِّ يُوجِبُ الِاتِّكَالَ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمَ الِاشْتِغَالِ بِهِ، فَالْقَوْلُ كَذَلِكَ فِي الْفَنِّ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ فِقْهَ الْحَدِيثِ وَغَرِيبَهُ لَا يُحْصَى كَمْ صُنِّفَ فِيهِ، بَلْ لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ التَّصَانِيفَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ التَّصَانِيفِ فِي تَمْيِيزِ الرِّجَالِ، وَالصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ لَمَا أَبْعَدَ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ. فَإِنْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْأَوَّلِ مُهِمًّا فَالِاشْتِغَالُ بِالثَّانِي أَهَمُّ؛ لِأَنَّهُ الْمِرْقَاةُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِهِ خَلَطَ السَّقِيمَ بِالصَّحِيحِ، وَالْمُعَدَّلَ بِالْمُجَرَّحِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
قَالَ: فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مُهِمٌّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ جَمَعَهُمَا حَازَ الْقِدْحَ الْمُعَلَّى مَعَ قُصُورٍ فِيهِ إِنْ أَخَلَّ بِالثَّالِثِ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهِمَا فَلَا حَظَّ لَهُ فِي اسْمِ الْحُفَّاظِ، وَمَنْ أَحْرَزَ الْأَوَّلَ وَأَخَلَّ بِالثَّانِي كَانَ بَعِيدًا مِنِ اسْمِ الْمُحَدِّثِ عُرْفًا، وَمَنْ أَحْرَزَ الثَّانِيَ وَأَخَلَّ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ اسْمُ الْمُحَدِّثِ، وَلَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْفَنِّ الثَّالِثِ،
1 / 33
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ جَمَعَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ كَانَ أَوْفَرَ سَهْمًا وَأَحَظَّ قَسْمًا، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَانَ أَخَسَّ حَظًّا وَأَبْعَدَ حِفْظًا، فَمَنْ جَمَعَ الثَّلَاثَةَ كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا كَامِلًا، وَمَنِ انْفَرَدَ بِاثْنَيْنِ مِنْهُمَا كَانَ دُونَهُ، إِلَّا أَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُحَدِّثٌ صِرْفٌ، لَا حَظَّ لَهُ فِي اسْمِ الْفَقِيهِ، كَمَا أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ بِالْأَوَّلِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي اسْمِ الْمُحَدِّثِ، وَمَنِ انْفَرَدَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَهَلْ يُسَمَّى مُحَدِّثًا؟ فِيهِ بَحْثٌ. انْتَهَى.
وَفِي غُضُونِ كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِاسْتِوَاءِ الْمُحَدِّثِ وَالْحَافِظِ، حَيْثُ قَالَ: فَلَا حَظَّ لَهُ فِي اسْمِ الْحَافِظِ. وَالْكَلَامُ كُلُّهُ فِي الْمُحَدِّثِ.
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْمُحَدِّثَ وَالْحَافِظَ بِمَعْنًى، كَمَا رَوَى أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ إِمْلَاءً لَمْ يُعَدَّ صَاحِبَ حَدِيثٍ.
وَفِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ جِهَةِ النُّفَيْلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ هُشَيْمًا يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَافِظَ أَخَصُّ، وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِهِ مُعِيدِ النِّعَمِ: مِنَ النَّاسِ فِرْقَةٌ ادَّعَتِ الْحَدِيثَ فَكَانَ قُصَارَى أَمْرِهَا النَّظَرَ فِي مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ لِلصَّاغَانِيِّ. فَإِنْ تَرَفَّعَتِ
[ارْتَقَتْ] إِلَى مَصَابِيحِ الْبَغَوِيِّ، وَظَنَّتْ أَنَّهَا بِهَذَا
1 / 34
الْقَدْرِ تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِجَهْلِهَا بِالْحَدِيثِ، فَلَوْ حَفِظَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَضَمَّ إِلَيْهِمَا مِنَ الْمُتُونِ مِثْلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ مُحَدِّثًا، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَدِّثًا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فَإِنْ رَامَتْ بُلُوغَ الْغَايَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى زَعْمِهَا اشْتَغَلَتْ بِجَامِعِ الْأُصُولِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، فَإِنْ ضَمَّتْ إِلَيْهِ " عُلُومَ الْحَدِيثِ " لِابْنِ الصَّلَاحِ أَوْ مُخْتَصَرَهُ الْمُسَمَّى " بِالتَّقْرِيبِ وَالتَّيْسِيرِ لِلنَّوَوِيِّ " وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يُنَادَى مَنِ انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَقَامِ: بِمُحَدِّثِ الْمُحَدِّثِينَ وَبُخَارِيِّ الْعَصْرِ، وَمَا نَاسَبَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْكَاذِبَةَ، فَإِنَّ مَنْ ذَكَرْنَاهُ لَا يُعَدُّ مُحَدِّثًا بِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا الْمُحَدِّثُ مَنْ عَرَفَ الْأَسَانِيدَ وَالْعِلَلَ، وَأَسْمَاءَ الرِّجَالِ وَالْعَالِيَ وَالنَّازِلَ، وَحَفِظَ مَعَ ذَلِكَ جُمْلَةً مُسْتَكْثَرَةً مِنَ الْمُتُونِ، وَسَمِعَ الْكُتُبَ السِّتَّةَ، وَمُسْنَدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسُنَنَ الْبَيْهَقِيِّ، وَمُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ، وَضَمَّ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ أَلْفَ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْحَدِيثِيَّةِ. هَذَا أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، فَإِذَا سَمِعَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَكَتَبَ الطِّبَاقَ وَدَارَ عَلَى الشُّيُوخِ وَتَكَلَّمَ فِي الْعِلَلِ وَالْوَفَيَاتِ وَالْمَسَانِيدِ كَانَ فِي أَوَّلِ دَرَجَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ يَزِيدُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَائِفَةٌ طَلَبَتِ الْحَدِيثَ
1 / 35
وَجَعَلَتْ دَأْبَهَا السَّمَاعَ عَلَى الْمَشَايِخِ وَمَعْرِفَةَ الْعَالِي مِنَ الْمَسْمُوعِ وَالنَّازِلِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي تَهَجِّي الْأَسْمَاءِ وَالْمُتُونِ وَكَثْرَةِ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَا يَقْرَؤُهُ، وَلَا تَتَعَلَّقُ فِكْرَتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنِّي حَصَّلْتُ جُزْءَ ابْنِ عَرَفَةَ عَنْ سَبْعِينَ شَيْخًا، وَجُزْءَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ كَذَا كَذَا شَيْخًا.
[وَجُزْءَ ابْنِ الْفِيلِ] وَجُزْءَ الْبِطَاقَةِ، وَنُسْخَةَ أَبِي مُسْهِرٍ، وَأَنْحَاءَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ فَيَرْحَلُونَ فَيُفَسِّرُونَ، وَيَحْفَظُونَ فَيَعْمَلُونَ، وَرَأَيْتُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِنَا الذَّهَبِيِّ فِي وَصِيَّةٍ لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: مَا حَظُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ لِيَرْوِيَ فَقَطْ، فَلَيُعَاقَبَنَّ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَلَيُشْهِرَنَّهُ اللَّهُ بَعْدَ سَتْرِهِ مَرَّاتٍ، وَلَيَبْقَيَنَّ مُضْغَةً فِي الْأَلْسُنِ، وَعِبْرَةً بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ ثُمَّ لَيَطْبَعَنَّ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ؛ ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ طَالِبٌ مِنْ طُلَّابِ السُّنَّةِ يَتَهَاوَنُ بِالصَّلَوَاتِ أَوْ يَتَعَانَى تِلْكَ الْعَادَاتِ؟ وَأَنْحَسُ مِنْهُ مُحَدِّثٌ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِهِ وَيَخْتَلِقُ الْفُشَارَ، فَإِنْ تَرَقَّتْ هِمَّتُهُ الْمُفْتَنَةُ إِلَى الْكَذِبِ فِي النَّقْلِ وَالتَّزْوِيرِ فِي الطِّبَاقِ فَقَدِ اسْتَرَاحَ، وَإِنْ تَعَانَى سَرِقَةَ الْأَجْزَاءِ وَكَشْطَ الْأَوْقَافِ فَهَذَا لِصٌّ بِسَمْتِ مُحَدِّثٍ، فَإِنْ كَمَّلَ نَفْسَهُ بِتَلَوُّطٍ أَوْ قِيَادَةٍ، فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ الْإِفَادَةُ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي الْعُلُومِ فَقَدِ ازْدَادَ مَهَانَةً وَخَبْطًا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَهَلْ فِي مِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ خَيْرٌ؟ لَا أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْهُمْ. اهـ.
وَلِبَعْضِهِمْ:
إِنَّ الَّذِي يَرْوِي وَلَكِنَّهُ ... يَجْهَلُ مَا يَرْوِي وَمَا يَكْتُبُ
كَصَخْرَةٍ تَنْبُعُ أَمْوَاهُهَا ... تَسْقِي الْأَرَاضِيَ وَهِيَ لَا تَشْرَبُ
1 / 36
وَقَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ فِي الْوَاحِدِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ:
إِنَّ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَخْبَرَةْ ... يَمْشِي وَمَعَهُ أَوْرَاقٌ وَمَحْبَرَةْ
مَعَهُ أَجْزَاءُ يَدُورُ بِهَا عَلَى شَيْخٍ وَعَجُوزْ ... لَا يَعْرِفُ مَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزْ
وَمُحَدِّثٌ قَدْ صَارَ غَايَةَ عِلْمِهِ ... أَجْزَاءُ يَرْوِيهَا عَنِ الدِّمْيَاطِي
وَفُلَانَةُ تَرْوِي حَدِيثًا عَالِيًا ... وَفُلَانٌ يَرْوِي ذَاكَ عَنْ أَسْبَاطِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ غَرِيبِهِمْ وَعَزِيزِهِمْ ... وَأَفْصَحُ عَنِ الْخَيَّاطِ وَالْحَنَّاطِ
وَابْنُ فُلَانٍ مَا اسْمُهُ وَمَنِ الَّذِي ... بَيْنَ الْأَنَامِ مُلَقَّبٌ بِسُنَاطِ
وَعُلُومُ دِينِ اللَّهِ نَادَتْ جَهْرَةً ... هَذَا زَمَانٌ فِيهِ طَيُّ بِسَاطِي
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: إِنَّهُ سَأَلَ الْحَافِظَ جَمَالَ الدِّينِ الْمِزِّيَّ عَنْ حَدِّ الْحِفْظِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ جَازَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ؟ قَالَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الْعُرْفِ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَهْلُ الْعُرْفِ؟ قَلِيلٌ جِدًّا، قَالَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ تَرَاجِمَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَبُلْدَانَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، فَقُلْتُ لَهُ هَذَا عَزِيزٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَدْرَكْتَ أَنْتَ أَحَدًا كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَانَ لَهُ فِي هَذَا مُشَارَكَةٌ جَيِّدَةٌ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَى، فَقُلْتُ: كَانَ يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا كَانَ يُشَارِكُ مُشَارَكَةً جَيِّدَةً فِي هَذَا، أَعْنِي فِي الْأَسَانِيدِ، وَكَانَ فِي الْمُتُونِ أَكْثَرَ لِأَجْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فِي عَصْرِنَا فَهُوَ:
1 / 37
مَنِ اشْتَغَلَ بِالْحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَجَمَعَ رُوَاةً، وَاطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ وَالرِّوَايَاتِ فِي عَصْرِهِ، (وَتَمَيَّزَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عُرِفَ فِيهِ حِفْظُهُ) وَاشْتُهِرَ فِيهِ ضَبْطُهُ، فَإِنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ شُيُوخَهُ، وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْهَلُهُ مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْحَافِظُ، وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ صَاحِبَ حَدِيثٍ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي الْإِمْلَاءِ، فَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَتِهِمْ. انْتَهَى.
وَسَأَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ شَيْخَهُ أَبَا الْفَضْلِ الْعِرَاقِيَّ فَقَالَ: مَا يَقُولُ سَيِّدِي فِي الْحَدِّ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الطَّالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى حَافِظًا؟ وَهَلْ يُتَسَامَحُ بِنَقْصِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمِزِّيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي ذَلِكَ لِنَقْصِ زَمَانِهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي وَقْتٍ بِبُلُوغِ بَعْضِهِمْ لِلْحِفْظِ وَغَلَبَتِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَبِاخْتِلَافِ مَنْ يَكُونُ كَثِيرَ الْمُخَالَطَةِ لِلَّذِي يَصِفُهُ بِذَلِكَ. وَكَلَامُ الْمِزِّيُّ فِيهِ ضَيِّقٌ، بِحَيْثُ لَمْ يُسَمِّ مِمَّنْ رَآهُ بِهَذَا الْوَصْفِ إِلَّا الدِّمْيَاطِيَّ، وَأَمَّا كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ فَهُوَ أَسْهَلُ، بِأَنْ يَنْشَطَ
1 / 38
بَعْدَ مَعْرِفَةِ شُيُوخِهِ إِلَى شُيُوخِ شُيُوخِهِ، وَمَا فَوْقُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ شُيُوخُهُمُ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعَ التَّابِعِينَ، وَشُيُوخُ شُيُوخِهِمُ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ، فَكَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَسْهَلَ بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الزَّمَانِ، فَإِنِ اكْتَفَى بِكَوْنِ الْحَافِظِ يَعْرِفُ شُيُوخَهُ وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، أَوْ طَبَقَةً أُخْرَى، فَهُوَ سَهْلٌ لِمَنْ جَعَلَ فَنَّهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ حِفْظِ الْمُتُونِ وَالْأَسَانِيدِ، وَمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ، وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى فَرَاغٍ وَطُولِ عُمُرٍ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُولَدُ الْحَافِظُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
فَإِنْ صَحَّ كَانَ الْمُرَادُ رُتْبَةَ الْكَمَالِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ مَنْ يُوصَفُ بِالْحِفْظِ. وَكَمْ مِنْ حَافِظٍ غَيْرُهُ أَحْفَظُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ أَلْفَاظِ النَّاسِ فِي مَعْنَى الْحِفْظِ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ: الْإِتْقَانُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الْإِتْقَانُ أَكْثَرُ مِنْ حِفْظِ السَّرْدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِفْظُ: الْمَعْرِفَةُ.
1 / 39
قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ النَّسَفِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدٍ قُلْتُ: يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ هَلْ يَحْفَظُ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ، قَالَ: قُلْتُ: فَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ كَانَ يَحْفَظُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَعْرِفُ. انْتَهَى.
وَمِمَّا رُوِيَ فِي قَدْرِ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: انْتَقَيْتُ الْمُسْنَدَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، قِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَتَبْتُ بِيَدِي أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: صَنَّفْتُ هَذَا الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ.
1 / 40
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا ضَمَّنْتُهُ كِتَابَ السُّنَنِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ: كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْحُفَّاظِ يَحْفَظُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ وَارَةَ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِنَيْسَابُورَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ وَكَسْرٌ، وَهَذَا الْفَتَى، يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ، قَدْ حَفِظَ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَرَادَ مَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: سُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ أَبَا زُرْعَةَ يَحْفَظُ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ، هَلْ يَحْنَثُ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ كَمَا يَحْفَظُ الْإِنْسَانُ سُورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؛ وَفِي الْمُذَاكَرَةِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ الْحَافِظُ: كَانَ أَبُو زُرْعَةَ يَحْفَظُ سَبْعَمِائَةِ
1 / 41
أَلْفِ حَدِيثٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا فِي التَّفْسِيرِ وَالْقِرَاءَاتِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي دَارِمٍ الْحَافِظَ بِالْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَحْفَظُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: كَتَبْتُ بِأَصَابِعِي عَنْ مُطَيَّنٍ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ.
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ خَشْرَمٍ يَقُولُ: كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يُمْلِي سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ حِفْظًا.
وَأَسْنَدَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَلَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ بِحَدِيثٍ قَطُّ إِلَّا حَفِظْتُهُ، فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ فَقَالَ: تَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ مَا كُنْتُ لِأَسْمَعَ شَيْئًا إِلَّا حَفِظْتُهُ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي كُتُبِي.
وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْخَفَّافِ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ فِي كُتُبِي، وَثَلَاثِينَ أَلْفًا أَسْرُدُهَا.
1 / 42